قصص و روايات - قصص بوليسية :

رواية حي الورد للكاتب علي اليوسفي الفصل الخامس عشر

رواية حي الورد للكاتب علي اليوسفي الفصل الخامس عشر

رواية حي الورد للكاتب علي اليوسفي الفصل الخامس عشر

(((عيناكِ كبحيرةٍ خيالية، فيها أمواج نارية، تستلذّ بتعذيبي وتلتهم فؤادي دونما رحمة. ))).

كانت الجوناء قد ملأت الأرض بضياها عندما اصطفّت سيّارة مياس أمام المنزل، عقب عودتها من منزل اللواء جلال حيث أودعت التحفة الأثرية والمال لديه، زفرت بإرهاق عظيم أثناء إطفائها لمحرك السيارة وفركت جبينها بإصبعيها، تشعر بأوردة الدم في رأسها تستغيث لقلة الراحة والنوم، لكن هناك محققٌ من نوع آخر بانتظارها في المنزل ولامهرب منه إلا إليه...

فتحت باب المنزل الكبير بحذر آملةً في نفسها أن تكون والدتها نائمة، سرعان مااغتالت الأخيرة أملها الضعيف حالما رأتها تقف بانتظارها عند الباب، مالبثت عليا أن اندفعت نحوها متسائلةً بلهفة الأم الرؤوم أثناء تفحصها لها بنظرها ويديها: مياس حبيبتي أنتِ بخير؟ أجيبيني هل أصابك مكروه لاسمح الله؟

شعرت مياس بالخزيّ يعتريها لإقلاقها أمها بهذا الشكل، ازدردت ريقها وهي تجيب أسئلة والدتها بخجلٍ: لا تقلقي أمي أنا بخير.
رفعت عليا أنظارها المشوشة بعبراتها صوب ابنتها قائلة باستغراب: لماذا لم تجيبي اتصالاتي الكثيرة إذا؟
تجهمت ملامحها للحظة قبل أن تعضّ على شفتها السفلى باستيحاء عندما أدركت نسيان أمر الهاتف، تحدثت قائلة بنبرة هادئة: اعتذر أمي، لقد غيرتُ رقم هاتفي ونسيتُ أن أخبرك.

رفرفت عليا بأهدابها لتعقب بهدوء خادع: غيرتِ رقم هاتفك؟
أشارت لها بالإيجاب لتضيف الأخرى بهمس أثناء تمريرها لأنظارها بتفحص على جسد ابنتها: أنتِ بخير إذاً ونسيتي إخباري بأمر الرقم الجديد؟

حركت رأسها بالإيجاب مجدداً لتبهت ملامح عليا وتتحول فجأة إلى الغضب، لتمسك بأذن مياس بحركة فاجأت الأخيرة، همست توبخها من بين أسنانها وهي تجرّها بعيداً عن الباب: مالذي كنتِ بانتظاره لتخبريني مياس؟ تغيرين الرقم وتتأخرين حتى الصباح دون إبلاغي؟ مالذي فعلته في حياتي لتتركيني على نار حتى تطلع الشمس؟ أنا أمك ام زوجة أبيك ها؟ تحدثي؟

حاولت مياس كتم ضحكتها على تصرف أمها الغريب، صاحت بتألمٍ مزيف قائلة: آلمتني أمي اتركي أذني.
زادت عليا من ضغطها على أذن مياس هاتفة بهسيس غاضب: سأخلعها من مكانها ياقلب أمك، وسأكسر رأسك الصوان هذا أيضا...
نطقت آخر كلماتها ضاربةً على رأس مياس بقبضتها المكورة، ضحكت الأخرى بخفوت محاولةً التخلص من قبضة والدتها المحكمة لكن دون جدوى، عمدت إلى الخديعة فمثلت البكاء قائلة بنبرة باكية: أوجعتِ أذني أمي..

صدقت عليا بقلبها الرحيم بكاء ابنتها الكاذب، تركت أذنها لتهتف بلهفة حنون: أسفة حبيبتي آسفة هل أوجعتك؟
انفجرت مياس ضاحكة على تعابير والدتها التي صدقت كذبتها بكل سهولة، رفعت رأسها إليها لتجد مقلتيها وقد ترقرق داخلها الدمع القلق فقطعت قهقهتها و أمسكت يديها تقبلهما قائلة باعتذار: آسفة أمي، صدقيني لم أقصد أن أبكيكِ.

انتشلت عليا كفيها من يديّ ابنتها بحنق غلا في صدرها، والتفتت للخلف سامحةً لعبراتها بالتدفق دون حساب، حتى شعرت مياس بعظم خوف والدتها وماسببه لها غيابها المفاجئ هذا من رعب، التفّت حولها حتى قابلتها فرفعت عليا عينيها الماطرة بعتاب، أمسكتها مياس من عضديها قائلة بصوتٍ آسف: لم أقصد أن أبكيكِ أمي، لاتحزني بسببي أرجوك..

لَوَتْ عليا فمها بحزن كالأطفال الصغار فارتجفت شفتيها قبل أن تتحدث بارتجاف: لقد أكلني القلق عليك مياس، ألف فكرة وألف بال جال في خاطري وأنا لا أعرف أين أراضيكِ، .
تقطعت نبرتها وهي تضيف قائلة بنشيج باكٍ: خشيت أنكِ لن تعودي إليّ...
قطعت جملتها عندما ضمتها مياس إلى صدرها ناهرةً إياها عن متابعة الحديث، لطالما كانت تغيب مثل هذه الغيبات بل وأكثر حتى، فما الذي حدث ليستدعي كل هذا الخوف من والدتها؟

مسحت على رأس أمها حتى شعرت بهدوئها فأبعدتها دون أن تترك ذراعيها متحدثةً بلين مازح: ما كلّ هذا القلق يا أمي؟ تخافين عليّ أنا؟ ألا تعرفين ابنتك كالقطة بسبعة أرواح؟
انخرطت في قهقهة متسلية لكنّ عليا لم تشاركها فأضافت مياس بتسلية: ما الذي سيحصل لي مثلاً؟ هل سيخطفني أحدهم؟ أم تخافين أن يأخذني منك أحد؟

جملتها الأخيرة لمست عليا بشكل غريب، بللت شفتيها ثم تحدثت بنبرة مترددة ونظرات ذات مغزى: ماذا تقصدين بأن يأخذكِ أحد مني؟
أمالت مياس رأسها للجانب محافظة على بسمتها اللطيفة لتجيبها بعتاب: أمي أمي! من سيأخذني منك؟ عريسُ غفلةٍ مثلاً؟
اكتست نبرتها رنة ألم غريب لم تلاحظه هي بل عليا فعلت: أم سيعود والدي العتيد يوماً ويسرقني منك؟

تهدّج صدرها برعب غير عادي حالما أنهت مياس جملتها، وعلى الرغم أنها قالتها ساخرةً لكنها لم ترَ تعابيرها المتوجعة، ابتلعت عليا ريقها ثم سألتها بتوجس: مياس لو، لو عاد والدك يوماً ما وطلب رؤيتك...
قاطعت مياس سؤالها عندما اقتربت لتربت على كتفها بخفة لتعقب على سؤالها الناقص بلا مبالاة: لا ترهقي عقلك باحتمالات لن تحدث يوماً أمي، من سُمّي خطأً والدي لم ولن يعود أبداً، فلا تقلقي.

ألقت جملتها لتهديها ابتسامة صغيرة قابلتها عليا بأخرى باردة لم تصل عينيها، تحركت مياس عقبها صاعدةً إلى غرفتها، لكنها توقفت على الدرجة الأخيرة لتخاطب والدتها بتعب: أريد أن انام أمي، فلا توقظيني لتناول الإفطار.

أكملت طريقها الى الأعلى لتترك عليا وقد استبدّ القلق بها حتى ضاق نفسها، مسحت على صدرها بقوة كأنها على وشك الاختناق، بيدها الأخرى قبضت على شعرها ورنة الألم الغريبة في صوت ابنتها لم تبعث فيها الراحة، بل زادت من خوفها وجزعها، لاحقتها بعينيها حتى أغلقت باب غرفتها لتسمح لعبراتها بالانهمار هامسةً لنفسها: مالذي تخفيه الأيام لك يا مياس؟..

في هذا الوقت خرجت أروى من غرفتها تفرك عينيها الناعسة لتلمح عمتها واقفة في صالة المنزل، قطبت جبينها أثناء هبوطها للدرج عندما لاحظت عليا تكفكف عبراتها الحزينة بيدها حتى وقفت أمامها لتسألها برقة: مالأمر عمتي؟ لماذا تبكين؟
اصطنعت عليا بسمة صغيرة مجيبةً بنبرة متأثرة: لا شيء حبيبتي.

لم تقتنع بإجابتها فوجهت أنظارها للأعلى حيث غرفة مياس وقد انعقد حاجباها باستغراب، عادت بعينيها إلى عليا قائلة باستفسار: ألمْ تعدْ مياس لغاية الآن؟
نفت عليا برأسها وبسمتها المصطنعة مرسومةً على وجهها متحدثة بهمس: لقد عادت منذ قليل.
وقبل أن تلاحقها أروى بأسئلةٍ فضولية تهربت منها قائلة أثناء تحركها هاربة: سأذهب لأحضر الإفطار.

تابعتها أروى بملامح مستغربة من حال عمتها، وقد استشعرت تغيرها منذ وفاة شقيقها ورد كأن وفاته عمّق فيها الخوف الدائم على ابنتها الوحيدة، ولربما هي معذورة!

رفعت أروى كتفيها بلا مبالاة وماكادت تتحرك حتى سمعت صوت باب يُفتح من خلفها، كان مصدره غرفة والديها فالتفت معتقدةً بخروج أمها، لكنها تصنمت مكانها واكتسى وجهها بعلامات الحيرة حين رأت أباها كمال يخرج منها، تبسم الأخير بحنان مقبلاً على أروى الواجمة بذهول، كوّب وجنتيها الناعمة هامساً بلطف: صباح الخير حبيبتي.

ازدادت مقلتيها اتساعاً وقد ترقرق فيهما دمع الاشتياق، فقبل كمال جبينها متمتماً بمواساة صادقة: لا تبكي يا أروى، لا تبكي عزيزتي.
انخرطت أروى ببكاءٍ فعلي وهي ترمق وجه أبيها الذي اشتاقته بشدة، سرعان مارمت نفسها في أحضانه تشكو إليه غدر الزمان بها، وتحتمي بحماه عن كلّ مايؤذيها، بينما هو يمسح على خصيلاتها بحنوّ افتقدته طويلاً، هامساً بكلمات تقويها وتشدّ من أزرها.

مرت عدة لحظات حتى هدأت أروى أخيراً، أبعدها كمال عنه قليلاً ليمسح عبراتها بإبهاميه قائلا بعطف: دموعك غالية عندي ياابنتي، فلا تحرقي قلبي عليكِ.
ثم قرصها من وجنتها مضيفاً بمزاح: طبيبة العائلة يجب أن تكون قوية ولا تبكي كالأطفال!

ابتسمت بخفة من بين عبراتها لتمسح دموعها كما الأطفال حقا وهي تحرك رأسها بالإيجاب، تبسم كمال على حركتها وملامحها الناعمة التي تشبه ملامح أمها، حتى عينيها كأنها نسخة مصغرة عنها، ربت على كتفها متحدثاً: لديكِ أية محاضراتٌ اليوم؟
أشارت له بالإيجاب من جديد فأضاف: اذهبي وتجهزي، سأوصلكِ بنفسي إلى الجامعة.

قابلته بابتسامة عريضة وهي تحرك رأسها بتفهم، قبلته على وجنته بسرعة ثم جرت من فورها لتجهز نفسها كما أمرها أباها تماماً، لاحقها كمال بنظراته فلم يقاوم قهقهة خفيفة على ملامحها الطفولية، بقميصٍ نومٍ قطني يصل إلى مابعد ركبتيها، وخصلات شعرها السوداء تتطاير خلفها بحركة جذابة. أروى لها مكانة خاصة في قلب والدها، فهي أول فرحته، وتجمع في تقاسيمها ملامح أغلى امرأتين على قلبه، فقد دمجت مابين تقاسيم وجه والدتها سعاد وشعر جدتها وهدوئها، فضلاً عن ذلك هي تحمل صفات اسمها كلها، فعلاً أنها أروى!

مسح كمال على رأسه وتنهد بعمق مُرتاحاً فقد أرضى ابنته كما صالح أمها، خفقةٌ قوية ضربت يساره ليدرك سببها على الفور، استدار للخلف فلم يخبْ ظنه عندما رأى سعاد تراقبه من نافذة غرفتهما، وعلى ملامحها الرضى وطيفٌ لطيف من السعادة، نبضات مضطربة ضربت قلبها كأنها مراهقة تتلصص على ابن الجيران الذي أمسكها متلبسة، اتسعت بسمتها ليقابلها أخرى مُحبة، قبلة صغيرة أرسلها إليها مع نسمات الصباح العليلة لتستقبلها سعاد بخافقٍ مُتلجلج وحمرةِ خجلٍ اعتلت وجنتيها، مهما كبر بها العمر لا تزال تعود أمامه تلك الطفلة الصغيرة ذات الضفائر...

بعد أقلّ من ساعة كانت مياس قد خرجت من الحمام بعد أخذها لحمامٍ دافئ أنعش مفاصلها المرهقة، جلست على شرفتها تمشط شعرها المبتلّ، كانت تقاسيمها متجهمةٌ بضيقٍ أحياه فيها حديث والدتها.
مياس كتومة بشكل مفرط حتى يصدق من يراها قوتها الواهية، لكنّ كل تلك الصرامة ماهي إلا قناعٌ متهالك تخبئ مياس خلفه جروحاً صَدِئة وبركَ ذكرياتٍ آسنة، وندوباً جاهدت في مسحها لكن عبثاً.

مررت المشط بين خصلاتها الليّلية عدة مرات بسرعة حتى رمته بعيداً بضيق، وفي مقلتيها تختنق بعض العبرات، رفعت رأسها إلى السماء مُغمضةً عينيها، شاهقةً نفساً عميقاً تبرد به صدرها المشتعل، ارتجفت شفتيها حتى استطاعت تمالك نفسها، سمعت جلبةً خفيفة آتيةً من الأسفل فتدلّت لتتطلع إلى خالها كمال وابنته أروى، وقد وفى الأول بوعده ليوصل أروى إلى جامعتها بعدما تناولا إفطارهما سوياً كعائلة سعيدة.

قضمت مياس شفتها من الداخل أثناء مراقبتها لابنة خالها وهي تصعد بجانب والدها ثم يرحلان، رأت كمّ السعادة المرتسمة على محياها، وتعترف داخلها أنها في بعض الأحيان تحسدها، فمياس رغم حنان عائلة والدتها معها لكنها تفتقد ذلك الشعور، شعور حنان الوالد.

، مشاهد عديدة مرّت أمام ناظريها، عندما كانت صغيرة، من مدرستها، عندما يحدث معها مشكلة ما وتتعارك مع إحدى فتيات المدرسة، كانت المدرسة تستدعي ولاة أمر الفتاتين، فيحضر والد الفتاة بينما مياس تجلب خالها، خالها كمال لم يبخل عليها بحنانه الأبوي لكنه ليس كوالدها، كم افتقدت نطق تلك الكلمة، أبي!
.

عقدة النقص التي عاشتها مياس انعكست على سلوكها في الأيام اللاحقة، وجدتْ نفسها تصبح عدوانيةً، تترك ألعاب الفتيات لتلعب مع الفتيان، تدافع عن نفسها بنفسها حتى أنها لم تكوّن أية صداقات مع الجنس اللطيف، ولا حتى من الجنس الآخر إلا نادراً، هكذا عاشت حياتها وحيدة رغم كثرة المحبين من حولها.

كتفت ذراعيها على السور الحديدي للشرفة، وأسندت ذقنها عليه، فؤادها يتألم، يصرخ بوجع النقص في المشاعر والأحاسيس، مع أن والدتها أو عائلتها لم تقصر معها يوماً، لكنها لم تتخطَ يوماً تلك العقدة، ربما لو أنّ والدها ميتٌ لما شعرت بكل هذا الوجع، إحساس اليتم أرحم على قلبها من شعور أنها منبوذة، مكروهة من أقرب الناس إليها، أسدلت جفنيها بهدوءٍ وتزاحم الأوجاع على قلبها أنهكها فلم تشعر بغرقها في النوم القَلِق مكانها، أحيانا تتمنى لو أنها تدمر مستقبلات الألم لديها، لو أنّ نواقلها العصبي تتلف وخلايا عقلها الحساسة تموت، فلا تشعر بأي وجع ثانية.

كان طارق يقود سيارته في طريقه إلى مبنى المكافحة واضعاً هاتفه على أذنه، فخطيبته الخرقاء لم تقبل بأن تغلق الاتصال معه حتى يصلْ إلى مكان عمله، نفخ بامتعاضٍ كبير وهو يحادثها بلين علّها تتركه لسبيله: حبيبتي لقد قاربتُ الوصول إلى عملي...

قاطعته داليا أثناء جلوسها ممددةً على أريكتها المريحة في غرفتها الواسعة، ممسكة بجهاز التحكم الخاص بالتلفاز وفوق قدميها استقرّ طبقٌ كبير من الفاكهة المتنوعة، تحدثت بملل لتقاطعه: لا تحاول حبيبي، لن أفصل المكالمة حتى تدخل إلى مكتبك.

نفخ بغيظٍ يتصاعد منها كلما تحدثت معه بهذه الطريقة، بدت كأنها طفلة ترفض ترك والدها ليذهب إلى عمله، ضيّق عينيه ليسمعها تسأله بسخافة: أردتَ سؤالك طارق، في تلك المرة التي خرجنا بها مع هويدا لاحظتُ أمراً غريباً.

تركزت حواسه كلها معها وقد انعقد جبينه بجدية، تلقائياً تعلقت نظراته ببنصر يده حيث ارتدى خاتم خطبته، معتقداً أنه نسي ارتداءه يومها، لكنها صدمته حينما تابعت بانسيابية جادة: لاحظتُ شُعيراتٍ بيضاء في شعرك، لماذا؟
رفرفت عيناه بصدمة ممزوجة بذهول ناطقاً خلفها: شعيرات بيضاء؟
رفعت قطعة تفاح مقشرة إلى فمها ومضغتها أثناء ردها عليه: أها، شعيرات بيضاء خلف أذنك اليسرى، ألم تلاحظها؟

توسعت مقلتيه باذبهلال من جديتها في الحديث، حقاً لاحظت شعيرات بيضاء في رأسه في بقعةٍ متوارية كتلك؟
تبسم بسخرية وهو يجيبها ظاناً أنه سيخرسها: تلك الشعيرات البيضاء ياحبيبتي تظهر كلما أغضبتني.
توسعت بسمته حين صمتت للحظات فاعتقد أنه أخرسها، مالبثت أن نطقت مُدعيةً المفاجأة: حقاً؟

أماء مجيباً كأنها تراه وابتسامته الساخرة تزداد اتساعاً، حتى تحدثت بهدوء جاد: إذاً أخبرني، مالذي تفعله لوالدتك حتى انقلب شعرها كله للون الأبيض؟
اختفت بسمته بعد أن قصفت جبهته ولم يستطع الرد، فتعالت أنفاسه وضيق عينيه بغيظ، كان قد أوقف سيارته أمام المبنى وقد ضاق ذرعاً بها، فهتف قائلاً من بين أسنانه: أصلاً أنا المذنب لأني أحادثك ياداليا، لقد وصلتُ إلى عملي فاذهبي.

أغلقت داليا الاتصال ضاحكةً بخفة على تصرفاته الغريبة، في ذات الوقت الذي فتحت به هويدا باب داليا بعد أن طرقته، أطلت برأسها وقد قطبت جبينها بعدم فهم فهتفت باستغراب: مالأمر داليا؟ علامَ تضحكين؟
أشارت لها الأخيرة بأن تقترب أثناء ابتلاعها لثمرة موز فتقدمت هويدا حتى جلست جوارها لتسألها مجدداً بملل وقد انحلت العقدة بين حاجبيها: هل كنتِ تحادثين طارق؟

تعالت قهقهة داليا الساخرة وطفقت تخبر أرملة شقيقها المتوفي بما فعلت مع طارق فدُهشت الأخرى من حديثها، صفعتها هويدا بخفة على يدها لتقول بامتعاض زائف: كان الله بعون شقيقي على حياته معك، هكذا سيمضي أوقاته قصف جبهات؟

اعتدلت داليا في جلستها لتضع يديها على وسطها في حركة نسائية عتيدة، انتصبت بظهرها وقد احتقنت أوداجها لتصيح في وجه هويدا بغيظ: حقاً؟ أعان الله شقيقك؟ بل ادعِ أن يلهمني الله الصبر على حياتي أنا معه، قال أعان الله شقيقها قال.

نطقت أخر جملة وهي تقلد صوت هويدا وحركاتها والتي حاولت كتم ضحكتها، استدارت داليا للجانب الآخر نافخة بضيق، مالبثت أن عادت إليها لتضيف بذات النبرة: بالمناسبة شقيقك هو المذنب، أراد ان يقصف جبهتي فقصفته، والبادئ أظلم.
لم تستطع هويدا السيطرة على نفسها فانفجرت ضاحكة بسخرية على حركات داليا وحديثها، والتي امتعضت فعلا من هويدا، هدأت الأخيرة لتضيف: أتعلمين؟ أنت وطارق تليقان ببعض فعلاً.

التفتت داليا إليها بنصف التفاتة، ورمقتها بجانب عينها مقاومة بسمة صغيرة زحفت على شفتيها، حاولت المحافظة على تعابيرها الممتعضة أثناء سؤالها لهويدا: حقاً؟
هزت هويدا رأسها بالإيجاب مضيفةً: نعم، أنتِ وهو كإناءٍ وجد غطاءه.

غابت الابتسامة عن وجه داليا لتتحول إلى الغضب المندهش، في حين انفجرت هويدا بالضحك ثانية لتسرع بالهرب عن مرمى داليا التي رفعت الوسادة لتضربها بها بكل غيظها منها، نفخت بحنق بعد رحيل هويدا، سرعان ماعادت ملامحها إلى الانشراح ثم الابتسامة وهي تتذكر حديثها مع خطيبها الأخرق، أبلهٌ لكنها تحبه!

حاول أن يغمض عينيه مراراً لكنه لم يفلح، ماإن يسدل أجفانه حتى تزحف صورتها لتنغصّ عليه منامه، حاول الضغط على مقلتيه علّ صورتها تهرب فيسمع صوتها في أذنه، فتح عينيه ليواجه السقف زافراً من أنفه بصوت مسموع مدمدماً ببعض الكلمات بهمسٍ ساخط، اعتدل جالساً فوق فراشه ممرراً كفه على رأسه الحليقة كأنه يطردها من مخيلته لكن لاجدوى، استقام واقفاً ليخرج إلى شرفته، استند على السور الخشبي يتطلع في الأفق البعيدة، السماء ازدحمت بغيوم رمادية داكنة منذرةً بقرب منخفض وداع الخريف واستقبال الشتاء، لم يكترث للنسمات الجليدية فلم يعبئ بأن يستر جسده سوى بقميصٍ قطني خفيف وسروال قصير مماثل.

تطلع إلى البعيد مفكراً، مالذي يجري؟ لماذا يرتبك أمامها لهذه الدرجة؟ ولماذا بات يسمع أوامرها دون أدنى اعتراض؟ لا في مراهقته ولا في شبابه تطلع إلى فتاة ما، ربما لعلمه بتلك الجروح الغائرة في نفسيته المنغلقة والتي لم يستطع شفاءها ولا تجاوزها، لكن لماذا هي مختلفة في كل شيء حتى في هذا؟

ابتسامة شقيةٌ داهمت ملامحه عندما تذكر ذلك اللقب الذي أطلقه عليها، الخفاش الأسود، قهقهه بخفة وهو يتخيل ردة فعلها لو سمعت بلقبها هذا، لا تستبعد أن ترميه من سطح المبنى!

في تلك اللحظة ارتسمت صورتها ضاحكة على الأفق الصافية، طالعها أويس بنظرات تائهة، ربما هو لايعرف حقيقة مايجري معه، لكنه يحب تلك الدغدغة التي تنتابه كلما رآها أو حتى مرّ طيفها في خياله، تطلع إلى ساعته الجلدية، لم ينتهِ الدوام الرسمي بعد، حماس مفاجئ دبّ في أوردته ليراها، احتكت كفيه ببعضهما ليعود إلى غرفته فيبدل ملابسه، ويطير إليها...
يقصد إلى عمله!

كانت مياس قد عادت إلى المكتب قبيل انتهاء فترة الدوام، علها تقف على هوية الجاسوس المدسوس بينهم، لكن وللغرابة لم يبدُ أياً منهم متأثرٌ بتلك الضربة الموجعة التي وجهتها للخفاش، بل وكان هاتفها القديم في ذات المكان الذي تركته فيه، أعلى طاولتها، لم يتحرك قيد أنملة ما أزاد من استغرابها.

رفعت الهاتف لتتفحصه فوجدت شحن بطاريته على وشك النفاذ، بحثت في سجل المكالمات الواردة لتجد عدداً كبيرا من اتصالات والدتها، إلا أن الغريب في الأمر أنها لم تجدْ أي مكالمة من الخفاش، مما جعلالشك يتعاظم داخلها، رغم يقينها من عظم المناورة التي قامت بها، لكن يبدو أن الخفاش لم يتأثر كما توقعت على الأقل.

مرّرت أنظارها على مكاتب الشباب الثلاثة الفارغة خلا طارق بالطبع، فصلاح وإيهاب خرجا لتناول الغداء، حتى وقعت عينيها على مكان أويس الفارغ، صكت على أسنانها بحنق لم يخبو مذ رماها بلقبِ الخفاش الأسود.
في هذه اللحظة تحدث طارق بلهجة عادية موجهاً حديثه إليها: بالمناسبة مياس، رأيت هاتفكِ فوق مكتبكِ صباحاً ويبدو أنكِ نسيته.
رمقته بعيون ضيقة مفكرة، هل هو من السذاجة بمكانٍ ليلمح لها بهويته الحقيقة؟

هل فعلاً من الممكن أن يكون طارق هو الجاسوس؟
لا تدري لكنها لاتعتقد بأنّ جاسوس الخفاش قد يقع في خطأ مماثل.
طال صمتها مما أثار استغراب طارق فأشارت برأسها بلا مبالاة، سكت هو للحظات حتى عاد ليقول: صحيح مياس، لقد استطعنا الحصول على رسمٍ تقريبي للخفاش يوم جاء للمطعم، تريدين رؤيته؟

أشارت له إيجاباً فاستقام حاملاً الصورة التي حصلوا عليها ووقف بجانبها، عكفت تطالع الرسم الذي وضعه طارق فوق مكتبها مع تيقنها من أنهم لم يقتربوا منه حتى، سألت طارق بدورها بحاجبين معقودين: هل راجعتم الكاميرات هناك؟
عقد طارق ذراعيه أمام صدره مجيباً بسخط: الكاميرات في المطعم لاتعمل، لقد وضعها المدير هناك فقط لأجل التمويه والتأمين.

هزت رأسها بتفهم ثم عادت تطالع صورة الخفاش المزعومة، المشكلة أنها لاتصدق بأن تلك هي ملامحه الحقيقية كرجل عادي، فمن كان مثله لن يكون عادياً البتة، بلمحة خاطفة رفعت مقلتيها إلى الأمام فلمحت أويس وقد أتى لتوّه ما أثار حفيظتها، أخفضت أنظارها هامسة بامتعاض واضح كأنها تحادث نفسها: هاقد جاء البلاء الأعظم..

سمعها طارق دون أن تدري حيث كان واقفاً فوق رأسها باستغراب جليّ، ماهي إلا ثوان معدودة حتى سمع التحية الفاترة التي ألقاها أويس، رفع رأسه كالملسوع حينما استوعب أنه لقب الأخير الجديد، فهلل بسعادة غامرة: أهلا، أهلا وسهلا بك ياحبيبي أضاء المكتب والمبنى كله بحضورك.
طالعه أويس باستهزاء واضح، ثم وجه نظره نحوها قائلاً برقة مفاجئة: صباح الخير.

تطلعت صوبه بملل وتجاوزت الردّ عليه، استقامت فجأة لتحادث طارق بلهجة هادئة: أنا ذاهبة لأبحث عن شاحنٍ ما لهاتفي.
تحركت حتى تجاوزته تحت أنظار طارق المدهوشة، ومن بين أنظاره المشتعلة خرجت من المكتب بأسره، التفت يطالع خيالها الفارّ وهو يصرّ على فكه بقسوة، ثم همس من بين أنفاسه الملتهبة وأسنانه المتلاقية، ليضل همسه إلى ذاك الواقف خلفه: لم أظلمك أبداً عندما أسميتكِ الخفاش الأسود...

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة