قصص و روايات - قصص بوليسية :

رواية حي الورد للكاتب علي اليوسفي الفصل السادس عشر

رواية حي الورد للكاتب علي اليوسفي الفصل السادس عشر

رواية حي الورد للكاتب علي اليوسفي الفصل السادس عشر

(((لم أعد أعرف شيئا عن نفسي، فلا أنا أنا ولا قلبي هو ذاته، حتى ذلك السائل الذي يعبر بداخلي لم يعد دماً، بل أضحى علقماً))).

بعض البشر يمرّون في حياتنا كالطيف لا نشعر بهم، وبعضهم يحدث ثورةً داخلك على كل مااعتقدتَ وآمنت به يوماً، يصبح ليومك الروتينيّ طعمٌ آخر فقط لمجرد مرورهم على خيالك، أحاديثكم القصيرة والمتقطعة تأخذ شكلاً يأسر قلبك وروحك، يحبسهما في قفصٍ ذهبي فلا تخرج منه رغم بوابته المفتوحة.
تلك العيّنة من الناس من النادر أن يرحلوا دون أن يتركوا داخلك بصمةً مميزة، هذا إن ارتضيتَ برحيلهم طبعا.

وقف أويس للحظات يطالع خيال مياس التي غادرت منذ قليل، على الرغم من العنجهية التي تعامله بها لكنه لم يأخذ موقفاً منها، يبدو غاضباً ظاهرياً لكنه في الحقيقة بات يتعلق بهذا التفصيل الصغير بها، الكبرياء العنيد.

تطلع إلى طارق من فوق أكتافه لكنه لم يستدر صوبه، انطلقت قدميه لوحدهما ليتبعا آثرها، تاركاً طارق مدهوشاً من تلك الحرب الباردة التي بات يلاحظها بين ذينك الذئبين، التقى حاجباه في تقويسة مستريبة في حقيقة ذلك النزاع اللطيف، ابتسامة صغيرة اقتحمت قسماته وهو يسترجع في ذهنه ماسمعه من كلاهما، تمتم بهمس كأنه يحادث نفسه: البلاء الأعظم؟ الخفاش الأسود؟

قهقه بخفة أثناء استناده بيدٍ فوق مكتب مياس، واليد الأخرى رفعها إلى خصره متخيلاً أن يكونا معاً، مجرد التوهم في أن تجمعهما علاقة ما جعلت طارق ينخرط في نوبة ضاحكة ثم أضاف أثناء تطلعه إلى الباب الذي غادر منه كلاهما: ادمج البلاء مع الخفاش يخلق لك كورونا!

هبطت الدرجات بتهادٍ حين لحقها أويس صائحاً: انتظري مياس.
لم تتوقف عن الهبوط أثناء إجابتها الباردة: ماذا تريد؟

ماذا يريد؟ حقاً لا يعلم! فقط أراد أن يفتح معها حديثاً أياً كان، لاحق خطواتها حين أوقفت أحد الموظفين لتسأله عن المكان حيث تجد شاحناً لهاتفها، وقد أرشدها إلى غرفة الطبع حيث يوجد في إحدى الخزانات شاحن احتياط، تحركت إلى حيث أشار لها الموظف ليتبعها أويس وهو يبحث في عقله عن أية حجةٍ يحادثها فيها، فتحت الغرفة التي كانت فيها عدة آلات للطبع وفي الخزانة التي أخبرها الموظف عنها وجدت الشاحن، أوصلته في مقبس الكهرباء ثم التفتت للخلف لتجد أويس واقفاً خلفها لايفصله عنها سوى بضع خطوات، عقدت ذراعيها لتسأله بجمود: ما الأمر سيد أويس؟

ابتلع ريقه بوجل ثم وجد نفسه ينطق باندفاع: أين أخذتِ التحفة الأثرية وحقيبة المال؟
ضيقت عينيها مستريبةً في أمره، تململ مكانه بفعل نظراتها المتفحصة وقبل أن ينطق أياً منهما صدح هاتفها بالرنين، استدارت للخلف لتجيب الاتصال من فورها بثبات: نعم؟
أتاها صوت خطاب ببرود أتقنه: أهنئك مياس، أول جولة تكسبينها.
تبسمت بثقة لا تليق بسواها لتجيبه باعتداد موروث: ولن تكون الأخيرة أعدك.

لم يستطع أويس كبح فضوله فتقدم حتى بات قربها، واضعاً أذنه على هاتفها فبدى كطفلٍ يضايق أمه، زجرته بنظرة من عينيها فلم يتزحزح بل كان يريد سماع المحادثة، صكت أسنانها بغيظ لتبعده عنها وفتحت زر مكبر الصوت ليسمع ذلك الفضولي بعد أن أيقنت أنه لن يحررها، ولم ترَ تلك الابتسامة التي تراقصت على ثغره لانصياعها له، سمع كلاهما صوت خطاب يحادثها بعنجهية: لا أعتقد هذا يامياس، أعترف أن ضربتك هذه ليست قليلة، لكنها ليست بتلك الأهمية التي تتخيلين.

أغلق الهاتف في اللحظة التالية فتطلعت مياس إلى الشاشة لتتفحص المدة، فهمست تحادث نفسها: إنه حذرٌ جداً، لم يكمل الدقيقة الواحدة.
قطب أويس جبينه ليسألها: ماذا تقصدين؟
أجابت بانسيابية: أعني أنه يعرف بقصة جهاز التتبع، ويعرف المدة المحددة ليلتقطه الجهاز.
بانت على ملامحه عدم الفهم فرفعت رأسها إليه مضيفة بتلقائية: الخفاش حذرٌ للغاية يا أويس وإيقاعه ليس بالأمر السهل.

أماء موافقاً إياها فلاحظ شرودها في نقطة فارغة فتساءل: على ماذا تنتوين؟
طالعته بنظرة ماكرة وقد ارتسمت على شفتيها ابتسامة خطيرة فهمس بريبة: نظرتك هذه لا تريحني يا مياس، مالذي يدور داخل رأسك؟
لتزيد من حيرته أجابته بغموض وحاجب مرفوع: ستعرف قريباً.

لم يكد ينطق بحرف حتى التفتت إلى الخلف لتفصل هاتفها عن الشاحن، ثم غادرت بخطىً متعجلة تاركةً إياه يطالعها باستنكار تحول الى غيظ دفين، جز على فكه بقوة ثم همس بسخط: نعم اهربي واتركيني كالأصمّ في حفل!
نفخ بقوة ليخفف من مقته عليها، مهما كان ذكياً هو على يقينٍ بأنه لن يصل إلى مستواها أبدا، هي ذكية بشكل متفرد...

جلس مازن في الاستراحة الخاصة بأطباء المشفى حيث يعمل، خلع نظارته الطبية زافراً بإرهاق أثناء فركه لعينيه بأصابعه، ثم انتصب بظهره الذي آلمه من فرط المجهود الجبار الذي يبذله مابين المشفى وعيادته الخاصة.

كتّف ذراعيه أمامه ثم دفس رأسه بينهما ليريحه قليلاً، عقله لم يتوقف عن التفكير منذ آخر لقاءٍ له مع والديه، وحتى من قبله، أخطاء والدته ليست عادية ولن تمرّ مرور الكرام أبداً، هنالك سرّ، سرّ خطير يداريه والداه عنه هو بالذات، يستطيع الشعور بهذا من منطلق اختصاصه كطبيب، وهو على يقينٍ بأنّ هذا السرّ لو انكشف فلن يكون هيّناً أبداً.

جلبةٌ عالية خارج الغرفة جذبت انتباهه، أجفل عندما سمع صوت تحطيم كأن أحدهم يتعارك خارجاً، انتفض واقفاً من فوره ليتجه إلى الممرّ فوجد عدد من الشباب حاملين في أيديهم عصياً غليظة وقد افتعلوا مشكلة كبيرة، وانطلقوا يحطمون كلّ ماتقع عليه عينيهم وهم ينادون باسم الطبيبة هويدا، خرج عددٌ من الأطباء والممرضين مواجهين لهم يحاولون تهدأتهم لكن عبثاً، بنظرة خبيرة أيقن مازن أنّ الأمر لايبشر بالخير ولن ينتهي بهدوء، فاستلّ هاتفه من جيبه ليبعث برسالة سريعة إلى أقرب ضابطٍ يعرفه، إلى شقيقه أويس.

خرجت هويدا أخيراً مرتديةً نظارة طبية، وفي يدها سماعة طبية وضعتها فوق رقبتها، وأخفت كلتا كفيها في جيبي ردائها الطبي الطويل، تجاوزت صف الأطباء لتقف أمام الجمع الهائج بثقة متحدثة بتعالٍ: خيراً ياسادة؟ ماذا تريدون؟
تقدم أحدهم ويبدو أنه قائدهم ويحمل في يده عصاً غليظة، ليقف قبالتها قائلاً بغطرسة مغرورة: أنتِ هويدا؟
طالعته باستحقار مجيبة وهي تضغط على أحرف جملتها: أنا الطبيبة هويدا، من أنت؟

رمقها بنظرة متفحصة حملت معها كراهيةً واضحة تنضح من مقلتيه، طالعها من أعلى إلى أسفل وبالعكس بغطاء رأسها الأسود والذي تلاءم مع بشرتها الفاتحة، أجابها أخيرا بتهكم صارخ: أنا أحمد شقيق الفتاة التي آويتها، أين هي؟
كتفت ذراعيها أمامها مجيبة ببرود: مالذي تريده منها؟
رفع عصاه ليضرب بها على كفه كحركة تخويف مقصودة قائلا بعجرفة رديئة: عريسها ينتظرها في المنزل عزيزتي.

من حركاته المتعالية أيقنت أنه شخص استفزازي والتعامل معه سيكون صعباً، لم تجبه مما دفعه للصياح في وجهها: أين هي شقيقتي؟
رفعت سبابتها في وجهه بتحذير جدي: إياك وأن تصرخ ولا تنسى أنك في مستشفى.

لم يعبأ بتحذيرها، بل اقترب خطوة واحدة للأمام رافعاً عصاه في وجهها الذي احتقن بالدماء الساخنة، جزت على أسنانها بغيظ وهي تسمعه يقول بكل مافيه من عنجهية: لستُ متفرغاً للعب مع النساء، فادخلي الآن بكل هدوء واخرجي بأختي لنرحل من هنا.
لم تتردد هويدا أثناء إجابتها له بثقة: لا، لن أسلمك نسرين لتزوجها لرجلٍ يكبرها بأكثر من عشرين عاما...

ماكادت تلفظ جملتها تلك حتى ضرب أحمد على جهاز الهاتف المسنود على مكتب الاستقبال فيحطمه، صارخاً يقاطعها: أحضريها قبل أن أحطم المشفى فوق رأسك، الآن.
لم تنكر رجفتها وقد تقافزت من عينيه نظرات الشرّ الدفين، في هذه اللحظة تدخل مازن علّه يحلّ النزاع القائم، ويكسب بعض الوقت لحضور شقيقه، تقدم حتى وقف بجوار هويدا فهتف بهم وقد فرد ذراعيه: اهدأوا لوسمحتم اهدأوا، أخبروني ما الأمر؟

وقف أحمد مواجهاً له فسأله بتهكم: ومن أنت يا سيد؟
أجابه مازن بعقلانية: أنا الدكتور مازن الشافي، أعمل هنا.
همهماتٍ خافتة تناقلها الجمع خلف أحمد والذي تعرف عليه، بطريقة غريبة تحولت نبرته إلى الهدوء متحدثاً: حضرة الطبيب، اليوم سنعقد لأختي على صديقٍ للعائلة، لكنها هربت من المنزل وهذه الطبيبة جوارك ساعدتها.

نطق آخر جملة مشيراً إلى هويدا التي انتفضت صارخةً به بتوبيخ: تزوج ابنة خمسة عشر عاماً لرجلٍ عمره أربعون سنة؟ هذا ليس زواجاً بل إعدام..
هتف أحمد يجادلها: وما شأنك أنت؟ هل أنت من العائلة ولا نعرف؟
هتفت به بغلظة: لقد لجأت نسرين إليّ ولن أسلمها لك ولو ضربت رأسك بالحائط.

كاد يتقدم خطوة جديدة قاصداً إيذاءها بدنياً لولا أن تدخل مازن ليلكمه لكمةً أردته طريحاً من فوره، تراجعت هويدا بخوف طبيعي فيما التحم الأطباء والممرضين الباقين مع الشباب الذين كانوا برفقة أحمد، ضربوا وتضاربوا حتى استحال استقبال المشفى إلى ساحة حرب.

لم يكنْ في مزاجٍ رائق حقاً ليعود إلى شقته وحيداً فقرر البقاء في المكتب، كان جالساً على كرسيه رافعاً قدميه فوق طاولته، يلعب بمكعب( آيروبيك) يحاول تنسيق ألوانه، لاحظه طارق الذي آثر أن يبقى برفقته فتحدث باستفسار: انتهى الدوام منذ بعض الوقت يا أويس، ألن تعود إلى منزلك؟
أجابه بلا مبالاة دون أن يكلف نفسه عناء النظر صوب رفيقه: بإمكانك الرحيل إن شئت، أنا سأبقى لبعض الوقت.

رمقه طارق بامتعاض متمتماً مع نفسه: أصلا الذنب ذنبي لإني لم اتركك واذهب إلى خطيبتي.
حدجه أويس بنظرة جانبية سائلاً: هل تحادث نفسك ياطارق؟
انتفض الأخير بخفة قائلا بتذبذب: اا بلى، لا لا.
صمت للحظة ليتمالك زمام نفسه ثم قال أثناء وقوفه ليلملم أغراضه: أتعلم أنا راحل...

صدح صوت إشعار رسالة إلى هاتف أويس الذي رمى المكعب من يده آملاً في أن تكون تلك مياس، لكن خاب ظنه عندما وجدها من شقيقه، تغضن حاجباه وهو يقرأ فحوى الرسالة: تعال إلى المستشفى فوراً، مشكلة كبيرة على وشك الحدوث.
استقام واقفاً في اللحظة التالية ليقاطع ثرثرة طارق الفارغة: ستأتي معي.
ارتخت تعابير الآخر بذهول ولم يستوعب أمر أويس إلا عندما تحرك خطوتين ليجد رفيقه متجمداً مكانه، فصاح به: طارق، تعال.

أجفل الأخير ليلحق بخطوات رفيقه الذي يقتاده إلى المجهول أثناء محادثته لنفسه: تستحق ياطارق ماسيجري لك حقاً، ألا تعرف أن تصاحب إلا الذئاب؟

خلال أقلّ من عشر دقائق كانت إطارات سيارة أويس تحتكّ بالطريق الإسفلتي بقوة، ليوقفها قائدها بطريقةٍ عشوائية أمام المشفى يجاوره طارق، ترجل الاثنان بسرعة وقبل أن يدخلا إلى استقبال المشفى لاحظا المعركة التي بدأت للتوّ، سحب كلاهما سلاحه ودلفا للداخل مطلقين بعض الأعيرة النارية في الهواء بعشوائية، وفي لمح البصر كان أحمد ورفقاؤه مقيدين على يدِ مازن ورفاقه، طلب أويس الشرطة الذين تولوا أمر اعتقال تلك الثلّة العاطلة...

أُصيب مازن في يده بضربة عصاً تسببتْ في تورمها فتولّت هويدا أمر مداواته في استراحة الأطباء، كانت تلفّ حول رسغه رباطاً طبياً ولم تتوقف عن ذرف الدموع، قطب مازن جبينه ليسألها باستغراب: لماذا تبكين؟
مسحت وجنتها أثناء إيمائها له سلباً قائلة بهمس: لا أبكي.
كاد يتحدث قبل ان تقاطعه مضيفة: آسفة لما جرى ليدك.

كانت قد انتهت فسحب يده ليحاول تحريك أصابعه بصعوبة، لكنه قال مع ابتسامة لطيفة: لا داعٍ للأسف، بضعة أيام وتشفى.
أشارت له بتفهم ولملمت الأدوية والأغراض أمامها فسألها مازن بغتةً: من هي نسرين؟

تجمدت يدها للحظات قبل أن تعاود العمل مجيبة ببرود مفتعل: إنها ابنة جيران لنا، يريد والدها أن يخرجها من المدرسة ليزوجها لرجل أكبر منها بخمس وعشرين سنة، لجأت إليّ لحمايتها فجلبتها إلى هنا أداويها من ضربات شقيقها، بالأمس ضربها كما تضرب الدوابّ..
استدارت نحوه وهي تسمع سؤاله مقاطعاً: فعلاً؟ ألم تنقرض هذه العيّنة من البشر بعد؟

تبسمت رغماً عنها لجملته الساخطة ثم تحدثت: للأسف حضرة الطبيب لم ينقرضوا، وقد رأيتَ بعضاً منهم اليوم.
حرك مازن رأسه إلى الجانبين بيأسٍ من هذه العقليات الباليّة والتي ماتزال متواجدة في حيهم هذا بالذات، أنهت هويدا ماكانت تفعل ثم التفتت صوبه حاملةً في يدها ظرف أدوية مضيفةً: هذا دواء التهاب، خذ منه كبسولة واحدة كل ست ساعات.

تناولها مازن منها شاكراً إياها برفق، في هذه اللحظة فتح طارق باب الغرفة داخلاً ليخاطب مازن بامتنان: شكرا لك حضرة الطبيب لوقوفك مع أختي.
قابله مازن واقفاً ليجيب: لا داع للشكر طارق، هذا واجبي.
حرك طارق رأسه بتفهم ثم تطلع إلى يده المربوطة متسائلاً: هل كُسرت؟
انزل مازن نظراته إلى ذراعه ثم عاد إلى طارق معقباً: لا، رضوض بسيطة لا تخف.

ربت على كتفه شاكراً إياه مجدداً ثم خاطب هويدا: إن كنتِ قد انتهيت دعيني أوصلك.
أشارت له بالإيجاب لتتحرك من فورها خارجة يتبعها طارق، تاركين مازن يتأمل رحيل هويدا، تلك المرة الأولى حيث يجمعهما حديث ما، ومن يعلم؟ ربما لن تكون الأخيرة!

مذ ذاك اليوم أصبح تعامل مازن مع عائلته محدوداً للغاية، لم يعدْ يشاركهم طعام الغداء مع بقاء والده الغضوب بعيداً عنهم كذلك، فالأخير لم يغفر لهم بعد إخفاء أمر ماحدث لرامي وصداقته السرية مع ورد عنه.

عاد إلى منزله مساءً وقد أنهكه التعب، فاستقبلته ميادة بحنانها الذي لاينضب، ألقى عليها تحيةً باردة مخفياً عنها يده المصابة، وتجاوزها صاعداً إلى غرفته، لاحقته ميادة بمقلٍ معاتبة لكنها لاتستطيع لومه، ففي آخر اجتماعٍ لهم لم يرفضوا طلبه فحسب، بل لم يعطوه مبرراً واضحاً كذلك فرضوا أمراً يرفضه عليه، تنهدت بقلة حيلة ثم وجهت أنظارها إلى الغرفة التي اعتكف فيها زوجها الحاج عثمان مقاطعا إياهم، وقد لمعت في ذهنها فكرة ليستعيدوا ثقة مازن بهم، يجب أن تصالحه قبل أن يبتعد عنها أكثر ويكشف المستور، وهي على يقينٍ بأنّ مازن ذكي كفاية ليفعلها...

انتصب عثمان واقفاً أمام والده كالملسوع، صائحاً في وجهه متناسياً موقعه: مالذي تقوله يا أبي؟
كان والده جالساً بكل هدوء ورصانة مكانه، مستنداً بقبضته على عكازه ليجيب ولده برصانة: كما سمعتَ ياعثمان.
زمجر الأخير بأنفاسٍ متلاحقة كمن فقد عقله: لم أسمع إلا الجنون...
إلزم حدّك ياعثمان.

طرق والده بعكازه على الأرض صائحاً بهذه الجملة ليردع جنون ولده، ازدرد عثمان ريقه ولم يكفْ عن رمق والده بنظرات قوية كأنه على وشك قتل أحدهم، ضمّ أصابعه معاً حين سمع صوت والدته المُستجدي من مكانها جوار أبيه: اهدئ يا عثمان أرجوك واجلس لنفهم.
أخذ عثمان نفساً عميقاً ليثبط نيراناً اشتعلت داخله، بينما تحدث والده بنبرة هادئة: هذا قرار عمك في النهاية يا عثمان، ولن نستطيع مجادلته.

صكّ على أسنانه حتى آلمته، و نفر عرقٌ من بارزٌ من جانب رقبته ثم قال بهسيس ناقم: لكنها زوجتي يا أبي، أم أنك وعمي نسيتما أنني عاقدٌ عليها؟
طالعه أباه بشفقة مالبث أن أماتها قبل أن يلحظها عثمان فيزيد غضبه، فأجاب بوقار: لا، لم ننسَ يا ولدي، لكن على مايبدو أنكَ من نسيَ المشكلة التي أرغمت عمك على اتخاذ قرار مماثل.
وأنا لستَ موافقاً على قراره.

لفظ عثمان جملته العاصية حين أطلق قدميه خارجاً من منزل عائلته بأكمله، غير عابئٍ بهتافات والده ونداءات أمه المستغيثة متجهاً إلى منزل عمه القريب، لم يعبئ بأنّ عمه كبير عائلة الشافي حينها لن يتراجع عن قراره مهما حدث، وسيرغم عثمان على طلاق زوجته التي لم يمسّها، لم يهتمّ بالدواعي التي جعلت عمه الأكبر يطلب هكذا طلب، كل مافكر فيه وقتها كان حرمانه من حبيبةٍ يراها في صحوه ومنامه، لن يتنازل عنها بهذه السهولة، دون أن يقاتل على الأقل...

طرقاتٌ خفيفة متتالية قطعت مذكرات عثمان التي لاتغيب عن باله، جزّ على فكه بضيق وهو يرى ميادة تدخل بخطوات مترددة، فهتف بها بنبرة متعجرفة: ما الذي تحملينه لي من أخبار سوءٍ هذه المرة؟
ابتلعت إهانته المستترة على مضض ثم تحدثت بصوت متذبذب: أريد أن أحادثك في أمر هام يا حاج؟

طالعها بنظرات مستفسرة مطالعاً إياها من أعلى إلى أسفل، ثم التفت إلى الجانب فأجبرت ميادة قدميها على التحرك حتى جلست بجواره، ضمت كفيها ببعضهما وبللت شفتيها ثم تحدثت بنبرة مترددة بعض الشيء: لقد تغيرت معاملة مازن مع الجميع بعد ذلك اليوم يا حاج؟
لم يجبها عثمان فاسترسلتْ شاكيةً له بتأثر: لم يعدْ يخالطنا كما السابق، ولم يعدْ يجالسنا على الغداء متعذراً بعمله الكثير...

تمتم بفتور انعكس خيبةً على ملامح الأخرى: ربما هو مشغولٌ فعلاً.
رفعت رأسها إليه بمقلٍ دامعة مضيفةً بنشيج: ألا تعرف ابنك ياحاج؟ لم يشغله عن جلستنا العائلية شاغل طول حياته...
تأفف عثمان أثناء استدارته إليها وقد ضاق صدره منها قائلا بنفاذ صبر: مالذي تريدينه الآن ياميادة؟
طالعته بذهولٍ وقد حررت عبراتها لتهتف به بتساؤل باكٍ: مابك ياحاج؟ لماذا أصبحتَ قاسياً هكذا؟

أشفق عليها من البكاء المُستجدي ربنا لعلمه بمكانة مازن لديها وخوفها من خسارته، تنهد بملل ثم حادثها برفق: لا تبكي وأخبريني بمَ أردتِ قوله؟
كفكفت دمعاتها بظاهر يدها لتتمالك نفسها المنهارة خوفاً، أجابت بتأنٍ وقد احمرّ وجهها من فرط الانفعال: دعنا نصالح مازن.
تغضن جبينه بعدم فهم، فعقبت ميادة بحذر مراقبةً تعابيره: فلنريحه ونخبره بسبب رفضنا لزواجه من عائلة الحكيم.

استمع لحديثها الذي اعتبره ضرباً من ضروب الجنون أو الخَرف أيهما أقرب؟ فتبدلت ملامحه إلى الغضب معلقاً على جملتها بسخط: تريدين أن نخبر مازن الحقيقة؟ أجننتِ ياميادة؟
أشارت بالسلب لتضيف برجاحة: لا، لن نخبره الحقيقة كاملة، بل نصفها.

انعقد حاجباه ويعترف أنه لم يستوعب مغزى كلماتها، في حين أضافت برزانة ومكر استغربه فيها: دعنا نخبره بالسبب الأول الذي استدعى العداوة مع تلك العائلة، دون التطرق إلى بقية الحكاية، وهكذا نصالح مازن ونقنعه بصعوبة أن يتصاهر أحد من عائلتنا وعائلة الحكيم.

ضيّق عثمان مقلتيه وقد استحسن مقالها، ربما ماقالته هو الحل الأسلم، فهو ومن باب معرفته لمازن، لايريده أن ينبش حكاية العداوة فينجم عن هذا زوبعةً من الماضي تهبّ عليهم فلا تبقِ ولا تذر!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة