قصص و روايات - قصص بوليسية :

رواية حي الورد للكاتب علي اليوسفي الفصل السادس والثلاثون

رواية حي الورد للكاتب علي اليوسفي الفصل السادس والثلاثون

رواية حي الورد للكاتب علي اليوسفي الفصل السادس والثلاثون

(((في كل ليلة حينما أغفو على وسادتي تعود تلك الذكريات لتهديني كِفلاً من المرار والأوجاع، كأنها أقسمت ألا تمنحني لحظة راحة، وأن تظلّ تقلبني في دفاتر الماضي حتى ينزف قلبي حنيناً وأنينا ))).

حاذر من المرأة التي تُضحي بلا حدود، فهي صابرة محتسبة تتأمل منك الأفضل دائماً، تقسو عليها فتعود لتمسح على ظهرك بحنان، تجرحها فتأتيك معتذرة، لكن حذاري أن تُقفل قلبها من ناحيتك، صدقني حينها كل قوى الأرض لن تنفعك...

تحسنت صحتها كثيراً، لكن معاملتها الحنونة مع الجميع انقلبت خشونة وغلظة خاصة مع عثمان، باتت توصل له الطعام إلى غرفته دون أن تنتظر كلمة شكر واحدة أو امتنان، حتى أنها لم تسأل حين بات ينام في الغرفة السفلية هاجراً فراشها، لم تعد تتوقع شيئاً أو تتأمل معجزة، لم تعد تلك المرأة التي لا همّ لها سوى أن تنال رضى زوجها عليها، ببساطة انقلبت ميادة مئة وثمانين درجة، تلك الليلة حين وجدت نفسها وحيدة وسط فرحتها ثم مرضها جعلتها تخسر جزءاً من روحها المقاومة، تلك القناعة التي تغنت بها دوماً بأن يكفيها أن تكون أم أولاده اندثرت فجأة، ربما تبدلت معاملتها مع الجميع، لكن معه هو شخصياً كان الأمر مختلفاً تماماً...

هبطت ميادة إلى الأسفل وهي تنادي على ابنتها جهينة، مرتديةً جلباباً بني اللون وسترت خصلات شعرها الذي تداخلت ألوانه بين الأسود والأبيض بوشاح أسود، وقفت أسفل الدرج تعبث بحقيبتها وعادت تنادي مجدداً: جهينة، أين أنتِ يابنت؟

نبرتها كانت جافة وافتقرت للحنان الفائض الذي كانت تمنحه دون حساب، خرجت جهينة لتجيب نداءات أمها فعقدت ملامحها فجأة حين رأت والدتها متأهبةً للخروج، استغربت الامر خاصة ان والدتها من ربات المنازل قليلة الخروج، ترجلت أثناء تفحصها لهيئة أمها الجديدة ثم أجفلت بخفة حين التفت ميادة ناحيتها تسألها بجفاء: أناديكِ منذ ساعة، أين كنتِ؟
تلعثمت قليلاً وهي تجيب مستخدمةً يدها في الإشارة: ا كنتُ في...

قاطعتها ميادة وهي تبحث في حقيبة يدها قائلة بلا اكتراث: المهم، بما أن لا مدرسة عندك اليوم فأنا خارجةٌ الآن لزيارة صديقةٍ لي، جهزي الغداء لأخوتكِ ولا تنتظروني.
تزامنت عبارتها الأخيرة مع خروج عثمان من غرفته في الطابق السفلي فسمع مقالها، لم تنتبه له كلتاهما في البداية فكانت جهينة مصوّبةً نظراتها المدهوشة على هيئة أمها ومعاملتها الجديدتين، كأنها إنسانة. جديدة!

عقد حاجبيه بضيق فقال وهو يتحرك ناحيتها بنبرة خشنة بغضب: إلى أين تظنين نفسكَ ذاهبة يا سيدة يامحترمة؟
أجفلت جهينة بارتعاب ماإن سمعت صوت أباها الذي لا ينمّ عن خير البتة، في حين لم تُعره ميادة أي اهتمام، لم ترفع رأسها نحوه حتى بل تطلعت إلى جهينة وهي ترفع الحقيبة فوق كتفها قائلة بهدوء: كما أخبرتكِ، لا تنتظروني على الغداء.

تحركت بالفعل لتتجاوز عثمان كأنه هواء لم تره، وراقبتهما جهينة بصدرٍ متهدّج مالبثت أن شهقت بعنف حين قبض عثمان على ذراع ميادة هاتفاً بغلظة: إلى أين تظنين نفسك ذاهبة؟
بكل برود تطلعت ميادة إلى قبضته فوق ذراعها ثم قالت بهدوء مغاير لحالة عثمان دون أن ترفع أنظارها نحوه: أنزل يدك عني.

جنّ جنون عثمان من معاملة زوجته المغايرة لطبيعتها فاصطكت أسنانه بغضب أرعن، شدّد قبضته فوق ذراعها قائلاً من لين أسنانه المتلاقية بكمد: لا تخرجي أسوأ مافيّ يا ميادة وأجيبي، إلى أين أنتِ ذاهبة الآن؟ ومنذ متى وأنتِ تخرجين دون إذنٍ مني؟
رفعت رأسها إليه مبتسمةً ببرود مصطنع مجيبة بهمسٍ ساخر: أنتَ أخرجتَ أسوا مافيّ أولاً ياعثمان، ومن العدل أن أردّ لك الدين مع حبة مسك.

خشيت جهينة من تحوّل النقاش المحتقن بين والديها إلى الأسوأ فانسحبت من فورها، صعدت الدرج مسرعةً لتنادي مازن علّه يُحجم من المصيبة القادمة في الطريق، لم يأبه بها كلاهما وظلت نظراتهما متشابكة بمشاعر مختلفة، تجهم وجه عثمان باستنكار لما وصلتْ إليه ميادة من جبروت لتعامله بهذا الجفاء غير المألوف، زفر بقوة ثم أردف بنبرة هادئة بخطر: سأتجاوز عن وقاحتك هذه بأرادتي ياميادة وسأسألك للمرة الأخيرة، إلى أين تذهبين دون إخباري؟

اشتدّ فكها لتنفض يده عنها قائلة بغلظة غير معهودة منها: أنت لاسلطان لكَ عليّ ياعثمان، وابتعد عني يجب أن أخرج حالاً.
لم يستطع عثمان تمالك نفسه بعد وقاحتها هذه فعاود الإمساك بها صارخاً بنبرة مخيفة: أجننتِ ياميادة؟ أنا زوجك أم أنك نسيتي؟
قضمت ميادة شفتها من الداخل في محاولةٍ لتمالك أعصابها ثم أجابت بتهكم: لم أنسَ، لكن يبدو أنكَ أنتَ من نسي.
بدى عليه عدم الفهم فقال باستهجان: ماالذي تقصدينه؟

رغم كل محاولاتها لوأد عبراتها لكنها فشلت في النهاية، نفرت دمعة خائبة من عينها أثناء إجابتها بصوت مختنق حمل معه استهزاءً: منذ متى وأنت تفهمني ياعثمان؟ طوال حياتك وأنت بعيد ولاتعرف عني شيئاً، فمالجديد إذاً؟
كانت تناطحه الرأس بالرأس، هذه النسخة المُعدّلة من ميادة لم يعرفها عثمان ولم يُردها، هتف بلوم علّها تعود لوعيها: ما الذي دهاكِ ياميادة؟ منذ متى وأنت تتعاملين معي بهذه الطريقة الوقحة؟

ناظرته بمقلٍ ملتهبة لكنه أضاف بنبرة ذات معنى ألقت بالكراهية في قلبها: بمَ قصرتُ معكِ؟ دائماً أنفذ رغباتك حتى لو كانت ضد رغبتي أنا، أم أنكِ نسيتِ يا، أم مازن؟
نطق آخر عبارةٍ بسخرية ثم أخفض صوته وهو ينحني بوجهه قريباً منها حتى ضربتها أنفاسه القميئة متابعاً باعتداد حقير: أم أقول ياأم أويس؟

ضاقت ذرعاً به، لن يتغير عثمان أبداً سيظلّ يتعمد جرحها والإقلال منها مهما فعلت، تتابعت العبرات فوق خدها أثناء شعورها بغصة الخيبة تتكتل في حلقها حتى تخنقها، ازدردت ريقها المر بصعوبة جمة وهي ترفع ذقنها بكبرياء قائلة بنبرة مختنقة لكنها حملت خذلاناً عجيباً: لا أستطيع لوم حظي أو الزمن، أنا العمياء منذ البداية..

قالتها بضيق وعيناها تنطق بالحزن وخرجت منها تنهيدة عميقة أثناء استدارتها خارجةً من المنزل تاركةً عثمان يطالع خيالها المغادر بغيظ يتنامى داخله من ميادة الجديدة، أدرك بطريقة ما أنها تسربت من بين يديه كالماء لكنه وبكل غرور مازال يكابر، مازال يمني نفسه بأنها مجرد فورة لحظية سرعان ماستخمد لتعود ميادة القديمة مجدداً، لم يقتنع أنها ثورة، ثورة على كل شيء في حياتها وهو أولهم...

زفر بحنق أثناء توجهه عائداً إلى غرفته، لم يلاحظ أثناء سيره مازن الذي وقف في منتصف الدرج، وقد تجمدت خطواته حين كان في طريقه لفضّ العراك الغريب الذي نشب بين والديه، تجعد وجهه بضيقٍ حقيقي محاولاً بكلّ السُبل فهم مغزى ماقاله والده، مالذي قصده حين قال لميادة أنها أم أويس؟
نفض رأسه بخفة محاولاً إقناع نفسه بأنه فقط توّهم ماسمع، لا، محال أن يكن حقيقة!

بِئس الأمر.
هسهس بها صلاح من بين أسنانه حين أدرك أنه أصاب رائد خطأً بدلاً من مياس، رمى سلاحه على الأرض ثم خرج من مخبأه وألقى بنفسه في سرداب في وسط الغرفة، في ذات لحظة حين تدافع كلاً من مياس وأويس متجهان إلى ذات الغرفة، تجمدت لثانية عند الباب وهي تهمس بوجل: رائد!

سرعان ماعاد عقلها إلى العمل فاندفعت الدماء ساخنةً في عروقها تماماً كاندفاعها ناحية رائد الذي تمدّد على الأرضية المتسخة الملأى بأوراق الأشجار والأعصان الخضراء، ألقت بنفسها بقربه رافعةً رأسه على ركبتها، ودماؤه قد أغرقت ثيابه فلم تعرف بدايةً أين أُصيب، لمحت السرداب فصاحت بأويس بصوت مرتجف: لقد هرب الوغد من هنا، اتبعه فوراً.

لم يتأخر لحظة واحدة بل رمى بنفسه في السرداب ليلحق بصلاح، كان الطريق مظلماً وضيقاً مما ساهم في تأخيره، بانت نهاية السرداب بعيداً عن المنزل بمسافة مئة متر تقريبا، أزاح غطاءً حديدياً حجب بوابة السرداب بعد لحظات و خرج صلاح لاهثاً بخفة وفوق رأسه مصباح صغير يحاوطه، صدمته بخطأ حساباته جعلته يجلس علىمدخل النفق يلوم نفسه، ظنّ أنّ حدسها سيقودها إليه، من منظور معرفته بها ستتوقع تواجد صلاح في الطابق السفلي، بالطبع لن يختبأ على السطح حيث لا مجال لهروبه لو داهم أحدهم المنزل فجأة، وحين ترى الأوراق الخضراء المتناثرة في الغرفة حيث كان هو ستدرك تواجده هناك.

هذا ماكان يفكر فيه صلاح لكنه أخطأ والنتيجة أنها نجت، سمع حفيفاً في السرداب فارتبك فنهض سريعاً ليهرب قبيل خروج أويس، ماكاد يخطو بضع خطوات حتى صاح أويس من خلفه: اثبت مكانك وارفع يديك للأعلى.

تجمدت قدماه حين سمع صوت تلقيم المسدس، رفع يديه وهو يلتفت ببطء ناحية أويس الذي كان نصفه السفلي مايزال في الحفرة، حاول إخراج نفسه دون أن يغيب صلاح عن عينه للحظة، لكنه واجه صعوبة جمة سمحت لصلاح بالهرب إلى زقاق جانبي ضيق مبتسماً بمكر، جرى أويس خلفه لكنه أضاعه وسط زحمة السكان والأزقة المتعددة والضيقة، وقف أويس يلهث مدهوشاً من مكر صلاح الذي جعلهم يتلفتون حولهم حرفياً، حسن؟ في النهاية لايجب أن يستغرب فقد تتلمذ على يد الخفاش!

أمام الموت كل القوى تندثر، كل ماتعرفه عن نفسك يتغير حين تكون في حضرة طيفٍ يُرعب الملوك والأمراء، فتجد قوتك واهية وثقتك متزعزعة، كل شريط حياتك يمرّ أمام عينيك بتتابع سريع كأنك لم تلبث إلا عشية وضحاها...

احتضنت مياس رأس رائد بكفيها وعيناها تدور على مصدر الإصابة حتى وجدتها، شهقت رغماً عنها حين وجدت الرصاصة اخترقت الوريد الوداجي في عنق رائد وخرجت من الناحية الأخرى، أصابها الخرس حين نفرت الدماء بغزارة حتى سمعت همس رائد بحشرجة: هل، هل هي سيئة؟
بكل مافيها من بقايا عزم حاولت التماسك فابتسمت بتصنع، في ذات لحظة دخول طارق هامساً باسمها، ارتجفت شفتيها مجيبةً بهمس يكاد لا يُسمع: لا، ليست بهذا السوء.

صُدِم طارق بمنظره سرعان ماأخرج هاتفه طالباً الإسعاف، بللت مياس شفتيها لتخبره باختناق: اصمد رائد، سنتصل بالإسعاف...
شعر رائد بتنميل بسيط في قدميه فأيقن أن منيته قد أزفت، رفع يده الملوثة بالدم ليضمّ كفّ مياس الراقدة فوق صدره هامسااً بيقين: أعلم أنني لن أنجو مياس.
اغرورقت عيناها بالدموع وهي تقاطعه بغلظة: هشش، اصمت أيها الأحمق لا تتعب نفسك، ستنجو رغماً عنك.

سرط ريقه المدمى وفي قرارة نفسه يعلم أنها كاذبة، ارتفع صدره وهبط بسرعة وصوت حشرجته يتعالى رغماً عنه، ابتسم بخفة مضيفاً بنبرة مرتجفة بتقطع: ردينة أمانة في رقبتك مياس، احميها وعائلتها...
تساقطت عبراتها فوق وجهه ماسبب غشاوة على عينيها وهي تنهره مجددا: لاتقل هذا، ستشفى وتعود إليها، سنزوجكما وانتظر أولادك لأخبرهم عن مغامرات أبيهم...

ضحكت بسذاجة لمجرد تخيلها ماقالت، عاضدها هو ببسمة صغيرة ثم بلل شفتيه المتشققتين، ارتجف بدنها وهو يضيف بتشنج: عديني بأن تحميها مياس؟
قشعريرةٌ مخيفة سَرَتْ في جسدها وعبراتها تتسابق فوق وجنتيها بلا حساب، أغمض عينيه لوهلة متأوهاً بألم فأجفلت مياس برعب لتصرخ بمن حواها بقوة: لاتقفوا هكذا أين الإسعاف؟ لمَ لم يأتي حتى الآن؟
ربت على كفها بخفة قائلاً بصوت بدى كالصدى: لافائدة مياس، لقد قُضي الأمر.

كادت تعارضه لكنه كان الأسبق عندما أردف بصعوبة: والدكِ مياس، لا تقسي عليه وسامحيه، صدقيني الحياة قصيرة...
قاطع حديثه من جديد وهو يصيح ألماً فوضعت كفها الملوثة بدمائه فوق شفتيه لتنهره بضعف: اصمت رائد يكفي...

عاد أويس اليهم لاهثاً بقوة، فتطلع طارق إليه ومن عينيه أطلّت نظرات متسائلة فحرك أويس رأسه نافياً بخفة، تطلع تالياً ناحية رائد الذي ابتسم باتساع وقد تسارعت وتيرة أنفاسه بحدة ليضيف آخر جمله بتقطع: أنتِ، فتاةٌ، قوية مياس، أنا سعيدٌ لأن الحياة، منحتني صداقتك...
انخفضت مياس لتسند جبينها فوق رأسه تئن بصمت ثم قالت بهمس باكٍ: اصمت أيها الأحمق، فقط اصمت...

تنهد برفق وأجفانه تتهدل بسلام وعلى محياه بسمةٌ هادئة، خفتت أنفاسه رويداً رويداً حتى خبت نهائياً، شعرت بسكون جسده تماماً فارتدت للخلف بعنف تطالعه بمقلٍ متسعة، علا صدرها وهبط وهي تهتف بجزع: لا لا لا رائد لا، إياك يا رائد إياك...
تراجع طارق للخلف وقد سيطر عليه الجزع حتى خرج من الغرفة كاتماً شهقة حزينة بكفه، ولم يكن أويس بأقل جزعاً منه إلا أنه اقترب ليحاوط مياس من الخلف هاتفاً بخفوت: اهدئي مياس...

كالمجذوبة لم تسمعه، ظلت تنتفض بحرقة باكية وهي تصرخ برائد الذي عانقت روحه السماء قبل هنيهة، ضربته على صدره صارخةً بكل ماأوتيتْ من قوة وجسدها يتمرد على الحقيقة الماثلة أمامها، فشلت محاولات أويس في احتوائها وقد انفصلت عن الواقع وظلّت تبكي وتصرخ حتى جذب رأسها عنوةً ليدفنه بين أحضانه، كتم صدره صرخاتها المقهورة على رفيق دربها، لم تأبه لصوت سيارة الإسعاف الذي تعالى بوقها معلنةً عن حضورها، ومالفائدة وقد فات الآوان؟

كيف للحظة لقاءٍ واحدة وبضع كلمات بأن تحكم على القلب بالإعدام؟

منذ اللقاء الأخير الذي جمعهما تراجعت صحته وتدهورت، لم يعد عمار راغباً في الحياة بعد أن نبذته السبب الوحيد في عيشه لغاية اللحظة، هي لم تكلف نفسها حتى بسماع حكايته كلها، لقد كان شاباً كما كل الشباب في سنّه، طائشٌ ويحب تجربة كل جديد، لكنه يعترف بأنه تمادى قليلاً حتى وقع في مستنقعٍ لافرار منه، والنتيجة رقوده لوحده على سرير المرض، بينما الخلايا الخبيثة تستبيح جسده برعونة فجّة، حتى العلاج الكيميائي لم يعد يأتي بنتيجة فجسده يرفض التجاوب مع العلاج، ونفسيته في الحضيض...

مستلقياً وحده كمصاب بالجرب منبوذ في غرفة خانقة، مقابلاً النافذة الزجاجية مواجهاً لمدينته التي لفظته ورفضت احتضانه بخطيئته، كل ذنبه أنه كان مجرد شابٍ أرعن أُرغم على الزواج من فتاة لم يُردها، لقصر نظره يومها لم يدرِ بأنه خافقه الأهوج سيقع أسير هواها، إرضاءً لرغبة والده التي فرضت عليا عليه فثار رافضاً إياها بكل ما أتيح له من السُبل، لم يُدرك بأنه يمنح نفسه أسوأ أشكال التعذيب إلا بعد فوات الأوان...

قرعٌ خفيف على بابه أخرج عمار من شروده الناقم، لم تكن لديه الرغبة للاستماع إلى نصائح الطبيب الساذجة، فهذا الطبيب لا يعلم شيئاً عن الحرب الغوغاء التي يعايشها القلب، لم يجب لكنه شعر بفتح الباب فأغلق عينيه زافراً بضيق، جهّز نفسه للاستماع إلى وصلة الموعظة من الطبيب المُعالج، لكنه حين التفت تفاجأ بشابٍ غريب، ذو ملامح وجهٍ جعلت محيا عمار يتجعد باستغراب جم، تقدم مازن وعلى تقاسيمه ابتسامة لطيفة حتى وقف أمام سرير عمار، وضع كلتا كفيه في جيبيّ الرداء الطبي قائلاً بلين: كيف حالك سيد عمار؟

تلاقى حاجبيّ الأخير باستغراب وهذا الوجه أمامه أعاد إليه ذكريات لاحصر لها، ظلّ مازن محافظاً على ابتسامته اللطيفة أثناء جلوسه على طرف السرير مضيفاً: أنا الطبيب مازن الشافي، طلب مني صديقي الطبيب ربيع أن أتحدث معك بشأن تراجع صحتك ونفسيتك..
لم يُعر باقي حديثه أهميةً حين سمع الإسم، مازن الشافي؟، تغضن جبينه باستهجان ليسأل بنزق: ابن من من عائلة الشافي؟

أعاد سبب سؤاله لشهرة عائلته فأجاب مفتخراً: ابن عثمان الشافي.
فتح عمار عينيه عن آخرهما بمفاجأة وهو يحرك رأسه للجانبين بعدم اقتناع هامساً: مستحيل، هذا أمرٌ مستحيل.
لم يفهم مازن ماقصد فأردف بابتسامة ساذجة: ماهو لأمر المستحيل ياسيد عمار؟
هذا الوجه وهذا الشبه!يالله!

دمدم مع نفسه بدهشة بائنة فارتفع حاجبا مازن بمفاجأة غير مستوعبٍ لما يقول عمار الذي تناسى كل ماكان يحزنه لحظياً، رفرف بعينيه بغرابة أثناء محاولته الاعتدال مكانه مما ضايق مازن الذي قال بمزاح: ما الأمر ياسيد عمار؟ هل تُشبّهني لأحد؟
حرّك الآخر رأسه إلى الجانبين بخفة وهو يستحضر في عقله مايتذكره من وجه امرأةٍ عرفها منذ القِدم، فهمس محدّثاً نفسه بهمس وصل إلى الجالس أمامه: يالله! أنت نسخةٌ مطابقة لها!

أصاب التخبّط عقل مازن فلم يعدْ يعي مايتحدث به الرجل، دبّ داخله القلق فتساءل بنزق طفيف: هل لك أن تخبرني مالذي يحدث ياسيد؟ أشبه من؟ ولماذا تنظر لي لهذه الطريقة؟
لم يتأخر عمار في الرد مجيباً بصوت بانت فيه دهشته: الحاجة رائدة والدة كمال الحكيم، يا آلهي هذا الشبه الفظيع بينكما لا يُعقل! أكاد أجزم أنني آراها أمامي لكن على نسخة ذكورية!

تقهقر عقل مازن فتعطل للحظات عن العمل؟ مالذي يقوله هذا الرجل؟ ماله ومال سيدة لايعرفها حتى؟
قاطع مازن الصمت المريب بضحكةٍ مرتبكة قائلاً: مالي ومال سيدة غريبة لا صلة قربى تجمعنا حتى ياسيد عمار؟ مؤكد أن الأمر ألتبس عليك..
تغضن جبينه باستغراب حين لفظ بداية عبارته فسارع يقاطعه بدهشة: لا صلة قرابة تجمعكما؟ ألا تدري من هي رائدة بالنسبة لعائلتكم أيها الطبيب؟

لاينكر مازن القلق الذي اعتراه من حديث الرجل الذي يبدو بأنه جُنّ كلياً!، ازدرد ريقه بقلق فقال محاولاً التوضيح بصوت ثابت: لقد أخبرتك أن الأمر التبس عليك ياسيد، فما بين عائلتنا وعائلة الحكيم قطيعةٌ عمرها سنوات...

أدرك عمار عدم معرفة مازن، أو هذا الجيل بأكمله حكاية تلك العداوة وأن الحال بينهما كما تركه منذ سنين طويلة، أعاد ظهره للخلف أثناء مقاطعته مازن بدهشة حقيقية: أما يزال العداء قائماً؟! يااااه!يالفظاظة القلوب حقاً...
رجفةٌ عظيمة سيطرت على مازن وهو يسمع حديث الرجل المريب، قال بعد لحظة برعشة طفيفة بَدَت واضحة في كلماته: هل، هل أنت من حيّنا ياسيد عمار؟

أماء الآخر فوراً فتلعثم لسان مازن وجلاً دون إدراكه السبب، لكن دهشة عمار ساهمت في إقلاقه رغم أنها فرصة لا تعوض، فرجل كعمار يعرف العائلتين لربما ساعده في معرفة أصل العداوة بينهما، لكنه في الوقت ذاته قَلِق خاصة وأن كلمات عمار الأولى تسببت في تشتيته عن التفكير السليم، بلّل شفتيه ليسأل بهمس مبحوح رغم محاولته الثبات: إذاً فأنت تعرف ما أصل العداء بين العائلتين صحيح؟

ابتسامة جانبية تشكلت على ثغر عمار مجيباً بثقة واضحة: كل جيلي يعرفها يا حضرة الطبيب، لكن لم يكن يجرؤ أحد على نقاش الأمر أو الإشارة له حتى من بعيد، ظننتُ أنّ الامر تبدل مع جيلكم..
تنهد بقوة متابعاً ببسمة ساخرة: لكن يبدو أن القلوب قد تجرعت القسوة حتى باتت جزءاً منها...

نزاع والديه صباحاً جعل مازن تائهاً متخبطاً، ليأتي الآن حديث هذا الغريب فيزيد الأمر سوءاً، تمالك مازن نفسه وثبّط انفعالاته، فرصة بحث عنها طويلاً وهاهي تتمثل أمامه دون السعي خلفها ولن يفوتها بالطبع، عقد ذراعيه في أحضانه راسماً على محياه ملامح عادية عندما أردف عمار بلهجة طبيعية: هل تريد أن أحكيها لك أيها الطبيب؟

تردّد بدايةً كأنما أحدهم يخبره بأن الصدمة الحقيقية فيما سيسمع، لكنه قاوم قلقه وهزّ رأسه بالإيجاب فتنهد عمار بقوة وهو يرجع رأسه للخلف متحدثاً: لقد مرّ زمنٌ طويل جداً على تلك الأحداث، ورغم أنّ عمري كان خمس سنوات يومها لكني مازلتُ أذكرها كما لو أنها حصلت بالأمس.
شرد للحظة ثم تطلع إلى مازن ببسمة صغيرة قائلاً: بدأ الأمر عندما أحبّ شاب من عائلتكم فتاة من آل الحكيم...

قاطعه مازن مشيراً بيده: نعم أعرف هذاالجزء، رفضه أهل الفتاة فقام بخطفها فنشبت حرب طاحنة خلفت سيلاً من الدماء، أخبرني أبي عن هذا.
أمال عمار رأسه للجانب مبتسماً بمكر مضيفاً: وهل أخبرك ياترى كيف انتهت تلك الحرب؟
رمش بعينيه قائلاً بتذبذب: قال أنه تدخل عدد من وجهاء الأحياء المجاورة.
اتسعت ابتسامته وهو يشير نافياً: لا، لقد قام عم والدك بحل المشكلة.

لا يدري مازن لما شعر بالضيق فجأة، ربما لأنه على وشك سماع مفاجأةٍ غير محمودة العواقب، وقد صدق حدسه تماماً حين أردف عمار: عم والدك عثمان كان كبير عائلة الشافي، وكانت لديه ابنة واحدة، هي رائدة والدة كمال.

لم تكن تلك الحقيقة بأشد وطأةً من باقي حديث عمار حين استكمل: وعثمان كان عاقدٌ قرانه عليها، لكن حين نشبت المشكلة بين العائلتين قرّر عم أباك أن يطلقها منه ليزوجها من حاتم الحكيم والد كمال، هكذا ضمن بمصاهرته لهم بأن يتوقف سيل الدماء وبالفعل تمت المصالحة.
فتح عينيه بصدمة ودهشة سقطت فوق رأسه، لماذا أخفى والده عنه تلك الحقيقة؟
صاعقة مستعجلة ضربت عقله لتجيب: إلا إن كان هناك أمر خفي آخر؟

انتبه تالياً إلى عبارة عمار وهو يتابع شارداً أمامه: توفيت والدة رائدة فتزوج أباها بفتاة صغيرة في السن، لكنها توفيت أثناء ولادتها مع جنينها، وبعد فترة قصيرة توفي الزوج، ومذها أصدر والدك عثمان قراراً يسري على جميع آل الشافي بمنع دخول رائدة إلى حارتكم، منعها من حضور عزاء والدها وحتى حرمها توديعه، ناهيكَ عن منحها جصتها في ورثة والدها، وهكذا عاد العداء من ناحية عائلتكم فقط...

التفت ناحية مازن مضيفاً ببسمة باردة: ربما بسبب هذا أجد الشبه العظيم بينك وبين رائدة.
طالعه مازن بعيونٍ ضيقة فيما أردف الآخر: أعني ربما بسبب قرابتها بوالدك، وأنها دماء واحدة ماتجري في عروقكم.

سَهَمَ مازن في مغزى حديثه، وبطريقة تلقائية عاد عقله ليقوم بمقارنةٍ بين كلامه الآن وماحدث بين والديه صباحاً، أيقن مازن حينها أنّ هناك أمراً أكثر سواداً مما قاله الرجل، جملة والده رنّت في عقله كضحكة شريرة جعلت دماؤه تسري بعنف موجع حتى شعر برأسه يكاد ينفجر، تفتحت عيناه على حقائق كثيرة تجاهلها من قبل، وأسئلة كثيرة تزاحمت داخل رأسه، لماذا لم يخبره عثمان بما قال هذا الرجل؟ ماسبب ثورانه عندما طلب منه مازن أن يخطب له من بيت الحكيم؟ زلّة والدته وقتها ماقصدها بها؟ ارتباك ميادة عندما مازحها مازن بأن أويس ابنها المدلل أما هو فلا؟ ماقصد عثمان حين قال لميادة بأنها أم أويس وليست أم مازن؟

تأوه بخفة وهو يرمي بثقل رأسه بين كفيه، كل تلك الأسئلة وأكثر يجب أن يجد لها جواباً، ولابدّ له من طريقة ليريح عقله وينهي حربه الطاحنة...
لمعت في ذهنه فكرة ليبدأ بها، الشك تمكن منه حتى زيّن له كل فعل مهما بدى شنيعاً، المهم أن يُنهي هذا الصراع الذي يعايشه وحالاً...

انتفض من فوره خارجاً تحت أنظار عمار المستغربة، وشعور خفي داخله ينبئه بأنّ هذا الشاب ليس ابن عثمان، يستحيل أن يُشابه رائدة إلى هذا الحد اللامعقول فقط بسبب قرابة بعيدة كحالهما...

هذا القلب لاسلطان لنا عليه، عضلة متمردة عن باقي أجزاء الجسم، فلا تحاول السيطرة عليه لأن محاولتك ببساطة آيلةٌ إلى الفشل بكل أسف...

صراع تعايشه عليا منذ آخر نقاشٍ بينها وبين مياس، مذ أن علمت منها بأنّ عمار مريض وهي تتمزق بين اثنين، قلبها الذي مازال بكل أسف معلقاً به، وبين عقلها الذي ينهرها لارتباطها برجل باعها يوماً، لكنها اليوم قررت حسم هذا الصراع، ربما تبدو غبية ولكن باعتقادها يجب أن تقوم بواجبها نحوه كوالد ابنتها، ومن الأصول التي تربت عليها أن عيادة المريض واجبة، خاصة بعدما رأته من ابنتها من تعلق بعمار حتى وإن لم تره في حياته، رغم غرابة الأمر خاصة على فتاة كمياس.

الأغرب من كلّ هذا أن عمار لم يعد يضايقها باتصالاته كل حين منذ أن حادث مياس، تنهدت بقوة أثناء خروجها من المطبخ مندفعةً بقوة ناحية غرفتها، قاصدةً جلب هاتفها لتسأل مياس عن موعد عودتها لتحادثها بأمر هام، صادفت خروج سعاد من الغرفة بجسد نحيل أكثر من قبل، ووجه فقد رونقه كأنها تعايش وفاة ورد مجدداً، قاطعت طريقها مبتسمة بلطف قائلة: هل أُحضّر لكِ شيئاً ياسعاد؟

رمقتها بنظرة خاوية وهي تحرك رأسها بخفة سالباً، تحركت بخطىً متثاقلة ناحية حوض الأزهار القريب لتجلس أمامه، تأملتها عليا بحزن وهي كأنثى تدرك ماتمرّ به سعاد من انتقاص في عين نفسها، جلبةٌ خفيفة لفتت انتباهها لتنظر إلى الأعلى فلاحظت أروى تترجل عن الدرج بهدوء وفي يدها بضعة كتب ثقيلة، تقوّس حاجبيها باستغراب فتساءلت: أروى؟ إلى أين تأخذين هذه الكتب؟

لم ترَ أروى والدتها الجالسة في ركنٍ منزوٍ، تطلعت لعمتها من فوق الكتب مبتسمةً باتساع: سأخذها لغريب ليتسلى بها.
تابعت تحركها خارجةً باتجاه الحديقة فيما تراقبها عليا بنظراتٍ قَلِقة، التفتت ناحية سعاد لتخبرها بنزق: لستُ مرتاحةً لذهاب أروى إلى هذا الغريب يا سعاد، حدسي يخبرني بأنه ليس بريئاً كما نراه، أساساً لم يكن من الصواب أن يحضره كمال ليعيش معنا، لماذا لا تحادثين ابنتك ياسعاد وتوعيها؟

بمقلٍ مات الربيع فيها رمقتها سعاد قائلة بتنهيدة ثقيلة: اتركيها وشأنها ياعليا، أروى ليستْ صغيرة وتعرف حدودها فلا تخافي.

ألقتها بجملتها اللا مبالية لتعود الى وضعها الأول، فتوسعت مقلتا عليا حتى كادتا تخرجان من مكانهما، مابال سعاد تتحدث بهذا الجفاء كأنها ليست أماً؟ لقد كانت تخاف على أروى من نسمة الهواء أن تخدشها، لكنها الآن تبدو وكأنها لا تبالي مهما حدث، نفخت بحزن وهي تضرب على جنبيها بقلة حيلة، حركت رأسها بيأس على تبدل حال ساكني هذا المنزل وانقلاب حالهم رأساً على عقب، الجميع بمن فيهم كمال الذي يقضي نهاره خارجاً ويحضر فقط وقت النوم، كأنّ أحداً قد حسدهم على عيشتهم الهانئة فتبدلت خراباً، صعدت إلى غرفتها وإحساس داخلها يخبرها بأن الابتلاءات لم تنتهي بعد...

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة