قصص و روايات - قصص بوليسية :

رواية حي الورد للكاتب علي اليوسفي الفصل السابع والثلاثون

رواية حي الورد للكاتب علي اليوسفي الفصل السابع والثلاثون

رواية حي الورد للكاتب علي اليوسفي الفصل السابع والثلاثون

(( الليل سلطان ملثم، قاتل صامت، حين يجنّ يجلب معه الحنين والأشواق وحتى الأرق )).

مواقف ومصاعب كثيرة واجهتها لكنها عادت تقف من جديد، بعد مواجهة موجعة كانت تعود قويةً أكثر من ذي قبل، تمرض وتعتلّ لكنها لاتموت أبداً، كشجرة صنوبر عتيقة تتشبث بأرضها إلى أخر الزمن.

هدأت إلى الحدّ المريب، حتى مقلتيها بخلتا بالدموع، جالسةً على مقعد أزرق مهترئ أمام المشرحة في الرواق الطويل، وخلف الباب العريض أُودِعَ رفيق دربها في ثلاجة الموتى، تنظر أمامها في نقطة فارغة و محياها ذي التعابير الجامدة شحب لونه، هدوءها الظاهري أخفت خلفه ناراً لاسعة تحرق أنفاسها، وقهراً يلتفّ حول روحها فيعتصرها، وكمداً رش الملح فوق جراح قلبها الحديثة فألهبها، وآلاف المؤتمرات المنعقدة داخل رأسها ومحورها واحد، الانتقام لروح رائد قبل أن تبرد دماؤه...

على مقربةٍ منها وقف أويس مستنداً بكتفه إلى الجدار الرمادي ذي الدهان المتقشر، يطالعها بحزن عميق وأكثر من مرة يرغمه قلبه على الذهاب ناحيتها ومواساتها، لكنه يتجمد مكانه كلّما تخيل انفجارها فيه لإخفاء معرفته بمكان صلاح، وللصراحة معها كل الحق.

أحنى رأسه زافراً بعمق فسمع صوت خطواتٍ مستعجلة، حانت منه التفاتة للخلف فرآى اللواء جلال قادماً من بعيد ومن خلفه طارق، توتر أويس عندما وقف جلال أمام وجهه يرمقه بنظرات غاضبة فتهربت منها عيناه، بينما تابع جلال مسيره حتى وقف أمامها هامساً: مياس!
استقامت لتعانقه بقوة فأخفت وجهها في كتفه تحاول ابتلاع غصتها وخنق دموعها، لا وقت للانهيار أبداً.
ربت جلال على ظهرها قائلاً بمواساة: لا تحزني مياس، فرائد شهيد.

ابتعدت عنه وهي تحرك رأسها متهربةً بمقلتيها المحتقنة من مدى نظراته، في حين تابع جلال حديثه: لقد أخبرتُ عائلته وهم في طريقهم الآن...
قاطعته بنبرة ثقيلة: لو سمحتَ سيدي، لا يجب دفن النقيب رائد قبل أن نأخذ بثأره ممن غدر به.
تفهم جلال غضبها المتواري فحرك رأسه موافقاً: أتفهم غضبك مياس وسأنقل هذا إلى عائلته ولكن...
بدى عليه التردد واضحاً فانعقدت ملامحها غير مدركةٍ لسبب تردده فتابع: لكن من سيخبر ردينة الآن؟

اغرورقت مقلتيها بالدموع تلقائياً فأخفضت رأسها تحاول تمالك نفسها حتى همست أخيرا بخفوت: حاضر سيدي، سأتولى أمر إخبارها بنفسي.
ربت جلال على كتفها مردفاً بفخر: أنتِ قوية مياس، تجاوزتِ الكثير من المصاعب قبلاً، وستتجاوزين هذا بالتأكيد.

هزت رأسها بخفة فقبلها على جبينها وهو يرمقها بنظرات أبوية حانية، ثم غادر عقبها تاركاً مياس تشتعل بين جنبيها مشاعر حارقة، الوحدة طعمها كالعلقم لا يُحتمل، سرطت ريقها المر بصعوبة جمّة وأسدلت مقلتيها للحظات، أخذت نفساً عميقاً ثم تحركت تالياً ليتأهب أويس في وقفته، وقفت أمامه فظنّها ستوبخه بقسوة لكنها خيبت ظنه عندما همست بصوت أجوف: عدْ إلى منزل صلاح وفتّش عن أي دليل قد يوصلنا إليه، لكل حصان كبوة ولابد من تركه لأي شيء خلفه قد يوصلنا إليه.

لم تنتظر منه حتى إشارة طاعة فتحركت من فورها تحت أنظاره المتعجبة، تخطو فوق الارض برشاقة تناقض الثقل الكامن فوق كتفيها، استقلّت سيارتها وماكادت تستقرّ خلف المقود حتى تناهى إلى سمعها صوت هاتفٍ ليس لها، تطلعت أمامها لتجدْ هاتف رائد مسنوداً على مقدمة السيارة، ويبدو أنه تركه هناك قبيل مداهمتهم منزل صلاح، حملته لتجد اسم الحب، يبدو أنها ردينة، انقطع الاتصال لتجد على الشاشة قرابة الثلاثين اتصالاً فائتاً من الرقم نفسه، المسكينة! إنها تنتظره بشغف!

أسندت رأسها على المقود وبكل ماأوتيت من قوة حاولت وأد عبراتها التي تجاهد للتحرر، لماذا يجب أن يكون الموت بهذه القسوة؟
زفرت بضيق وهي تلقي بالهاتف مكانه ثم أدارت سيارتها تحت جناح الليل، متجهةً إلى البناء الذي تختبئ فيه ردينة مع عائلتها.

وصلت بعد فترةٍ وجيزة لتوقف السيارة تحت المبنى البسيط، لم يكن فخماً لكنه يفي بالغرض، بعيداً عن أعين المتلصصين، رفعت مياس رأسها إلى الأعلى فلمحت ضوءً مضاءً في إحدى الغرف في الشقة التي تسكن فيها ردينة، وقبل أن تترجل صدح صوت هاتفها، رفعت الشاشة مقابل وجهها فوجدتها أمها، لاريب أنها قلقت عليها لتأخرها، وضعت الجهاز على أذنها قائلة بنبرة جاهدت أن تكون عادية: نعم أمي؟

أتاها صوت عليا بصوت مشبعٌ بعاطفتها: حبيبتي مياس أين أنتِ؟ لقد تأخرتِ عزيزتي..
نفخت بصوت مكتوم وكل الضغط الذي تعايشه يخنقها، وهي كالبلهاء ترفض تحرير عبراتها لتخفف من هول الوجع، مرت لحظة من الصمت فخشيت أن تقلق أمها فأجابت بتنهيدة بطيئة: لديّ عمل هام أمي، سأتأخر وربما لن أعود الليلة، فلا تنتظريني.

بغريزة الأمومة داخلها أدركت عليا وجود مايعكر صفو وحيدتها، كادت تسألها لكنها تراجعت فمياس لاتحب التدخل في شؤونها الخاصة حتى من أمها، تصنعت عليا تصديقها وبنبرة حنون أردفت: فقط كوني بخير حبيبتي، خفّف الله من أحمالك وحفظكِ لي.
أغلقت بعدما أمطرتها والدتها بوابل من الدعاء، لكن أكثر مالمس قلبها الذبيح كان جملة أمها الأولى، بحق الله كيف لكلمات متواضعة أن تحيي روحها وتسكب راحةً على فؤادها فتطفئ لهيبه؟

لطالما كان الدعاء لغزاً بالنسبة لها، خاصة حين تسمع دعاء أمها وترى يقينها بأن الله سيستجيب، أنى لها كل هذه الثقة؟
تذكرت الآن مهمتها الصعبة وضرورة إنهائها الآن، بتثاقل جرت قدميها حتى ترجلت من السيارة تحث خطاها جبراً إلى مدخل المبنى...

قيل: لا يزال المتحابان يتشابهان، حتى يظن الناظر لهما أن بينهما صلة رحم، ولا يعلم أن الله ربطهما بميثاق غليظ.
وصدق القائل: من القلب إلى القلب دليل.

مائدة الطعام في منتصف الصالة المتواضعة امتلأت عن آخرها بأشهى الأطعمة، ثوبٌ خمري اللون كان هديةً من رائد يوم خطبتهما يلفّ عودها الطري، رغم نعومة قماشه المخمليّ لكنها تشعر كأنه شوكٌ جارح يخدشها، إحساس فظيع بأن زينتها البسيطة تحرق وجهها ونارٌ لاهبة تشتعل بين جنبيها، شعور غير حميد سيطر على ردينة أثناء انتظارها لخطيبها المفقود، منذ ساعات وهي تحاول الاتصال به لتسأله عن موعد قدومه لكنه لا يجيب، في البداية لم تعطِ الأمر أهمية معتقدةً أنّه مشغول برفقة مياس، لكن التوتر غير المبرر الذي اعتراها جعلها على هذه الحال المشتت، ودعمه عدم ردّه على مكالماتها الكثيرة ولو برسالة.

تزدرع الصالة جيئةً وذهاباً تعبث بكفيها تارةً تنفخ بضجر، وتارةً ترفع إحدى كفيها فوق خصرها وتفرك جبينها بالأخرى بتوتر، حاولت الاتصال به من جديد لكن لارد كالعادة...

أنزلت ردينة الهاتف عن أذنها بالتزامن مع إلقائها لجسدها فوق المقعد الأخضر، تلألأت العبرات في مقلتيها الكحيلة وخيبةٌ تتكتل لتسدّ مجراها التنفسي ساهمةً أمامها، صوت والدتها أنقذها من الخوض في البكاء المرير فأسدلت جفنيها بهدوء، زفرت بعمق طاردةً المشاعر السلبية التي اعترت صدرها لتتحرك باتجاه غرفة والدتها وجهازها بيدها، أطلت عليها بتردد فانعقدت ملامح أمها باستغراب ولم يخفَ عليها لمعة التوتر التي برقت في عيني ابنتها ذات الرموش الكثيفة فتساءلت: مالأمر حبيبتي؟ لمَ كل هذا القلق؟

بصعوبة جمّة سرطت ريقها مستندةً بكفها على إطار الباب تجيبها بصوت مرتعش: لقد تأخر رائد يا أمي ولا يردّ على اتصالاتي.
بسلاسة جاوبت الوالدة في محاولة لتهدئتها: ربما لم يزلْ برفقة النقيب صديقته، ألم يخبركِ بأن لديه عملاً معها؟
تقدمت خطوتين منها لتردف باندفاع طفيف: لكنه تأخر جداً يا أمي، وهو لا يجيب على الهاتف ليطمئنّي حتى!

تجمدت مكانها حين تهادى صوت الجرس إلى مسامعها، خفق قلبها بعنف لاتدري سببه فيما تبتسم أمها باتساع قائلة بمشاكسة: لم يطاوعه قلبه على التأخر أكثر، هيا افتحي له الباب.

تلقائياً تجمعت الدموع في مقلتيها وإحساس رهيف يخبرها بأنّ الطارق ليس رائد، كمن يُساق إلى حبل الإعدام خطَت ردينة ناحية الباب بخطىً ثقيلة، ارتجفت يدها وهي تمدّها ناحية المقبض ثم فتحت بصعوبة بالغة، تقهقرت للخلف حين ظهرت مياس من خلف اللوح الخشبي وعلى وجهها تعابير لا تُفسر، رفرف قلبها كعصفورٍ ذبيح وشعور غير حميد سبّب لها مغصاً يضرب أسفل معدتها، كافحت قلقها بضراوة محاولةً إخراج صوتها لكن عبثاً، بلعت ريقها بوجل ثم قالت بهمس مرتعش: م مياس؟ أين رائد؟

لم تظنّ الأمر بهذه الصعوبة، قابلت مقلتيّ ردينة ونظرات الخوف تتقافز منها مصطنعةً الثبات الزائف، بصوت هامس ونبرة متقلقة أجابت مياس: لقد أُصيب أثناء مداهمةٍ و...
شهقت الأخرى بعنف وهي تغطي فمها بيديها، بالكاد استطاعت مياس تمالك لتردف برجفة وضحت في نبرتها: واستشهد.

تتابعت العبرات المختلطة بكحلها فوق وجنتيها وتيارٌ كهربيّ سرى في جسدها فارتعشت بعنف، حركت رأسها بدايةً بإنكار خفيف لما سمعت أثناء همسها: لا، لا لا، لا لا لا مستحيل..

تحولت حركة رأسها إلى عصبية وقد انفصلت عن الواقع تماماً ثم إطلقت صرخة ثائرة وهي تضرب على وجنتيها كالمجذوبة هاتفةً باسمه بصياح، سقطت على الأرض وثقلٌ يتكاتل فوقها كأنّ السقف هوى فوق رأسها، لم تعبأ بفستانها الذي تمزق ولا بوجهها الذي تلطخ بزينتها ولا وجنتيها التي جعلت منها كيس ملاكمة وهي تلطمها بكل ما أوتيت من قهر، تراجعت مياس كاتمةً شهقة جَزِعة بيدها، استندت بجسدها إلى إطار الباب محاولةً بكل مابقي فيها من عزم عدم الانهيار لكنها فشلت، تهاوت الدموع على وجنتيها أثناء سقوطها بهدوء على الأرض وبكت بعنف، تستمع إلى عويل ردينة الذي أبكى أقسى القلوب وأكثرها تحجراً، أثر حتى في الحرس المرابطين أمام الباب، بكت ردينة فرحةً لم تكتمل، قلباً خفق لروحٍ غادرت، ومشاعر لوجهٍ فانٍ غادر الحياة وترك الهمّ لمن بعده، نعت بحرقة حباً لم يكتب له الاكتمال، ونصيب لم يرأف بقلبها الصغير...

عادت تجرجر أذيال التعب كالعادة، أسبوعٌ كامل مرّ دون أن ترى وحيدها أو تسمع صوته حتى، فكلما حادثت تلك الجدة القاسية فظة القلب لتطلب إليها أن تحادث همام تتذرع بأنه إما نائم أو يلعب في الخارج، حرفياً كانت روحها تشتعل بسبب غيابه لكنها لاتملك حيلة، خشيت أن تؤتي بأية حركة ضدها فتتحامل عليها فتعمد إلى حرمانها من همام إلى الأبد.

هذه الحرب الباردة الدائرة بينهما مخيفة إكثر من سواها، فبعد طلب كاريمان المتكرر بأن تتخلى عن همام ورفض هويدا، يبدو جليّاً انّ كاريمان عمدت الآن إلى اتباع طرقٍ أخرى، وياخوفها من هذه الطرق!

فتحت هويدا باب القصر بإنهاكٍ وماإن ولجت حتى تناهى إلى سمعها صوت ضحكات مشاغبة، تجمد الدم في شرايينها لثانية سرعات ماهدرت ساخنة في عروقها وهي تجري بقوة الى مصدر الصوت، ظنّت أنها تتخيل لكنها رأته حقيقة، كان يلعب مع جدته المصون في الصالة، وقفت هويدا لثانية تتأمل ضحكته الطفولية البريئة وتلقائياً تجمعت دموع الاشتياق في مقلتيها، واندفعت هامسةً باسمه لتجذبه إلى أحضانها تضمه إليها بحجم النار المستعرة في جوفها، سقطت جالسةً على الأرض وهي تشتمّ عبيره بقوة ودموعها تتسابق فوق وجنتيها، أبعدته عن حضنها لتكوّب وجهه بكفيها وتوزع قبلاتها الحنونة على تقاسيم وجهه الصغيرة، تذمر الصبي بانزعاج فضحكت كالمجذوبة من بين أدمعها وهي تتأمل ملامح وجهه الحبيب، ثم عادت لتضمه مطلقةً آهاً حملت تعب السنوات، كل هذا كان تحت أنظار كاريمان التي لم تحرك فيها دموع هويدا أو اشتياقها مقدار شعرة، بل ظلت تطالعها بنظرات ثعلبية ماكرة اختلطت بأرستقراطيتها المفرطة.

بعد لحظات من الشوق والوصال استجمعت هويدا زمام نفسها، وثبت على ركبتيها لتتقابل كاريمان قائلة باندفاع: كيف تسمحين لنفسك بأخذ ابني هكذا دون أذني ياسيدة كاريمان؟
تقوست شفتيها ببسمةٍ ساخرة ورفعت إحدى قدميها فوق الأخرى، أعادت ظهرها إلى الخلف بحركة ترفع واصحو وهي تطالع هويدا بنظراتٍ دونية ثم أجابت باستحقار: انظري إلى مكانك الآن ياهويدا ثم تحدثي بعدها.

كانت إشارةً خبيثة منها الى وضع هويدا الجالسة على الأرض أمام قدميها، كأنها تخبرها أنها ليست من مركزها لتحادثها بهذه الطريقة، انتفضت الأخرى حاملةً ابنها فوق ذراعيها لتقابل تلك المتسلطة، متحدثةً بقوة لاتعرف من أين واتتها: لن اسمح لكِ بأخذه مجدداً ياسيدة كاريمان، فهمام ابني أنا، أفهمتِ؟

اتسعت بسمتها الساخرة من قوة هويدا الواهية فيما التفتت الأخيرة بغية المغادرة، لكنها توقفت رغماً عنها حين سمعت تهديد كاريمان الواضح للسامع: أنتِ لستِ ندّاً لي يا هويدا، مخالبكِ التي تشهرينها في وجهي أستطيع كسرها بلحظة وتوجيه سهامي إلى قلبكِ مباشرة دون أن تطرف عيني حتى..

ارتعش جسدها وتهديد كاريمان فعل معها الواجب وزيادة، لم تلتفت حين تابعت الأخرى بكل مافيها من سموم: لو أنني أريد حرمانكِ من همام لأخذته وأنتِ تضحكين، إلا أني لغاية اللحظة أحفظ كرامةً لابني فريد، لكن أن تظنّي بنفسك القوة لمواجهتي حينها سترينَ وجهي الثاني ياهويدا، الوجه الذي لم تريه حتى الآن، وأنصحكِ بأن تدعي الله ألا تريه أبداً...

نبرتها القاتمة انعكست رعباً على محيا هويدا التي آثرت ألا تقف معها أكثر، انطلقت تأكل الدرج تحت قدميها رفقة ابنها الذي لم يفهم ما حصل، لم يدرك الجزع الذي يتآكل جوف والدته، والرعب الذي تعايشه يومياً، لقد جاءت على كرامتها كثيراً مقابل أن تحتفظ به، كبرياؤها وقد تخلت عنه كرمى لعينيه فقط، لكن الجدة المتجبرة لم ولن تتركها لسبيلها، هي لاتريد همام بل تريد الانتقام منها، مالذنب الذي ارتكبته لتستحق كل هذا العذاب؟

هل كفرت وارتدّت عن الدين فقط لأنها تجرأت وأحبت شاباً ليس من مستواها؟
أم أن الأولين صدقوا حين قالوا: من أخذ من غير ملّته مات بعلّته؟

أودعت ابنها في سريره المخصص للعب ونثرت له بعض الألعاب، فكت وشاحها بكفٍ مرتجف وألقت بنفسها فوق فراشها، اختنقت بمشاعر متضاربة كثيرة، الكره لهذه السيدة والمقت على نفسها وعلى وضعها، تلألأت الدموع في عينيها فحررتها هويدا وهي تدفن وجهها بين كفيها لتبكي بقهر، بحقّ الله أما من أحد ينقذها وابنها من جبروت هذه المتسلطة البرجوازية؟

يبدو أن القدر كتبَ عليها وظيفة نقل موت أحدهم إلى عزيز عليه، وما أشنعها من وظيفة!
لكن يوم وفاة ورد كان الأمر أهون، فكمال قرأ الخبر الحزين من مقلتيها ولم تضطر لحضور عويل سعاد والعائلة، أما مع ردينة فكان الأمر مختلفاً وأكثر إيلاماً لها، ندبُها اخترق حصونها فأجبرها على إخراج كل مشاعرها السلبية حتى أُنهكت، وحتى سقطت ردينة في بؤرةٍ مظلمة أنقذتها من انهيارٍ حتميّ...

عادت مياس إلى مكتبها بعد منتصف الليل، لم يكن بها من جلد للعودة إلى المنزل ومجابهة أحد فاختارت الانزواء وحيدة لعلها تفكر بذهنٍ صافٍ.

أويس بدوره لم يرغب بالعودة إلى شقته والبقاء بين أربعة حدران، فهو موقنٌ سلفاً بعدم مقدرته على النوم فآثر المجيء إلى المكتب علّه يقف على دليل ما يوصله إلى صلاح أو الخفاش، بعد فشله في إيجاد اي شيء في منزل الأول، رآها تعود متجهةً بتعب نحو مكتبها فخفق قلبه بعنف بين أضلعه، زجره عقله آمراً جسده بأن يتبعها فلم يعارض، سحب قدميه جراً حتى وصل أمام بابها.

ماكادت مياس تستقر فوق مقعدها حتى أتاها قرعٌ على الباب، استغربت تواجد أويس الذي أطلّ من خلف الكتلة الخشبية بتردد، عقدت حاجبيها وهي تراه يتقدم ناحيتها متعذراً بتذبذب: لقد رأيتكُ تعودين إلى هنا فأحببتُ أن أطمئنّ عليكِ.

حتى الآن كان خائفاً من ردة فعلها فقد تنفجر فيه، سيقبل بأيّ شيءٍ منها، فلتضربه ولتشتمه لو أرادت المهم ألا تبقى صامتة هكذا، لكنها كالعادة فاجأته حين هزت رأسها بتفهم متسائلةً بهدوء مُنهك: هل وجدتَ أي شيء في منزل صلاح؟

رغم تعب نبرتها لكن الغضب كان يغلي في الخلفية، جلس أويس على المقعد أمام طاولتها مجيباً بتقرير ساخط: للأسف مياس، لم نجد أي شيءٍ في المنزل سوى بعض أغراض الحفر وبقايا طعام، يبدو أنه كان يعيش هناك مؤخراً.
أسدلتْ جفنيها غير راضيةٍ من حديثه فعقب أويس بنزق طفيف: لماذا لم تعودي إلى منزلك مياس؟ لقد تعبتِ كثيراً الليلة؟

استندت بمرفقيها فوق الطاولة لتدفن وجهها بين كفيها مجيبةً بتنهيدة بطيئة: لا جَلد بي لرؤية أحد أويس، أُفضّل البقاء وحيدة حتى أستعيد زمام نفسي.
شعر بثقل تواجده برفقتها في هذا الوقت فاعتزم الرحيل، لكن خافقه لم يطاوعه فبقي مكانه، مرت لحظات عدة حتى أرجعت مياس ظهرها إلى الخلف شاردةً في نقطة فارغة أمامها ناطقةً بصوت خافت: رائد لم يكن صديقي فحسب، كان أقرب إليّ من الجميع حولي، وشقيقي الذي لم تلده أمي.

أصابته خفقة قاتلة بين جنبيه لحديثها هكذا عن شاب ما سواه وإن كان ميتاً، فيما استرسلت مياس بتلقائية: بوفاته أشعر أنني خسرتُ سنداً عظيماً لي، أشعر أنّ ثقل جبلٍ يصعد فوق كتفيّ ولا أدري كيف ستكون حياتي بدونه...

أغمضت عينيها الناعسة من فرط التعب مطلقةً آهاً مثخنة بالألم، ونبرتها المحملة بالأسى نفذت إلى قلب أويس بقسوة فعاثت فيه الفساد، طال صمتها وهي على وضعها فلم يرغب بأن يتطفل عليها أكثر من هذا. غادر أويس ولم يدرك أنها شعرت بإحساسٍ غريب افتقدته طويلاً أثناء تواجده معها، شعور الأمان، ولم يعلم بسبب هذا الشعور انتظمت أنفاسها وسقطت في دوامةٍ مظلمة، غفت مياس وإحساس الامتنان لاويس يرافقها، نامت وهي مدركةٌ أنها لم تكن ستنام لولا تواجده معها...

أعلى سفينةٍ سياحية فاخرة وسط المحيط الرائق، وتحت الشمس التي ترسل جدائلها بتهادٍ فوق صفحة الماء البارد وقفت مياس تستند بمرفقيها فوق الحاجز الحديدي، مرتديةً قبعةً من القش تستجمّ في هذا الجوّ البديع، ونسمات لطيفة من الهواء تداعب وجهها بطلاقة، صراحةً منظر يبعث على السعادة والراحة.

سمعت صوت جلبةٍ وصرخات ضاحكة من الطابق الأسفل، تدلّت مياس فرأت رائد وردينة يتمازحان، مالبث رائد أن ألقاها من فوق السفينة إلى مياه المحيط ليتبعها هو بعد لحظة، أخرجا رأسيهما وصوت قهقهتهما السعيدة معدية فضحكت مياس بخفة على جنون رائد وفرحة ردينة، بينما هي تراقب مرحهما انقلب الطقس فجأةً، ريحٌ عاتية هبّت فحملت معها رائحة كريهة، طارت قبعة مياس فمدّت يدها للأعلى علّها تمسك بها لكنها فوجئت بالشمس تتوارى خلف سحبٍ سوداء ذات شكل مخيف، أخفضت نظرها لتجد رائد وردينة يُصارعان الأمواج العالية، تزاحمت انفاسها في حلقها وكادت تقفز خلفهما إلا أنها أجفلت حين شعرت بشيء حديديّ يلتفّ حول رسغها، التفتت لتجد جنزيراً مثبت بجدار السفينة وفي نهايته حلقة معدنية قبضت عليها فمنعتها من الحركة، حاولت مياس سحب يدها مرات عدة لكنها عجزت فنادت على ردينة ورائد لكنهما لا يسمعانها، بل مازالا يقاومان الدوامة التي نشأت أسفل منهما فقط حتى سحبتهما، صرخت مياس باسم رائد بقهر فاجتذبت كفها بقوة حتى تخلصت من الحلقة المعدنية، تأذت يدها لكنها لم تعبأ بنفسها، قفزت من مكانها إلى البحر لكنها اصطدمت بالماء الذي تجمد فجأة مشكلاً سطحاً جليدياً كأن كل الخوارق اجتمعت فقط لتمنعها من إنقاذهما، شاهدت كليهما يغرقان ومقلتيهما مسلطةٌ عليها، ضربت مياس الجليد بيدها العارية مرات كثيرة ولا تأبه لكفها الذي تمزق ولا لدمائها التي لوّثت الجليد، لكنها انهارت في النهاية بعد فشلها فتمددت فوق الجليد باكيةً بحرقة...

انتفضت مياس جالسةً بعد هذا الحلم المزعج، كان جبينها ينزف عرقاً رغم برودة الطقس ويبدو أنها كانت تهذي، استغرقها الأمر ثوانٍ حتى تمالكت انفاسها وأدركت وضعها، تجعدت ملامحها باستغراب وهي تطالع المكتب من حولها، سرعان ماتذكرت استغراقها في النوم بعد حديثها مع أويس، ويبدو أنها افترشت ذراعيها طوال الليل فتشنجتا، مسّدت رقبتها من الخلف وسيلٌ من ذكريات أمس تتوارد على عقلها حتى وصلت إلى كلامها مع أويس، فتحت عينيها على وسعهما شاهقة بعنف، هل باحت له بكل هذا؟

يا للخزيّ والعار!
الآن سيظنّ أنها ضعيفةٌ!
دفنت وجهها بين كفيها مطلقةً تنهيدةً خَجِلة، تعالى صوت هاتفها فانتبهت مياس إلى الشاشة فوجدته الرقم الخاص، لا ريب أنه الخفاش إذاً!
نفخت بقوة ثم أجلت حلقها لتسيطر على نبرتها فلا تظهر ضعفها، أجابت الاتصال بهدوء واثق مغاير لحقيقة مايعتمل داخلها: نعم؟
بفمٍ ملتوٍ ونبرة مستفزة أتاها صوت الخفاش: حزنتُ على النقيب رائد، إنه لايستحق الموت بهذه الطريقة.

تشعر بداخلها أنها الآن بقوة ألف رجل، ولو أنه أمامها تقسم لمزقته بأسنانها، اجترعت سخريته المبطنة فزمجرت بقوة: رائد مات شهيداً يا خفاش، أما أنت وأمثالك ستموتون ميتةً تخشاها حتى كلاب البراري.

انطلقت ضحكته الهازئة فاشتعل الغضب الساخط في مقلتيها، جزّت مياس على أسنانها المتلاقية بكمد لتعقب بتهديد صريح: لن يرتاح لي بال قبل أقبض عليك ياخفاش، لن أهدأ قبل أن أمسك بك بنفسي، أعدك حينها سأحرص كل الحرص على إلقائك في أبشع السجون وأكثرها تقززاً، سأجعلك تتمنى الموت وتناجيه لكنك لن تطاله..
راقه تهديدها وإن ابتسم ساخراً ليعقب: تهديدكِ هذا لن يؤثر بي ولن يخيفني يا مياس أتعلمين لماذا؟

لم تتأثر ملامحها الغضبى حتى أضاف بحقد خفيّ: لإنّ من جرب سجونكم يدرك مدى سوءها مسبقاً، فلا تهددي الميت بالسلخ.
استشفت من خلال كلماته أمراً جللاً، فحاولت مدّ الحبل له و متابعة استدراجه فأردفت بسخرية مقصودة: ياللسخرية! تتحدث وكأنك جربتها قبلاً!؟

أعماه جنون العظمة في لعبته معها، ودون وعي منه سقط خفاش في فخها مجيباً باعتدادٍ مريض: خمس سنوات في سجن الأحداث كافية لتنسيكِ إنسانيتك حتى لاتتأثرين بأية أحداث من حولك، ولا تحزنين لموت أحد قريباً كان أم بعيد، مسلخٌ بشريّ بهيئة إصلاحية للأحداث، أتريدين وصفاً أعمق من هذا؟

توسعت عيناها حين التقطت منه إشارة خطيرة قد تخبرها عن هويته الحقيقة، لمعت في رأسها فكرة رغم صعوبة تنفيذها لكنها قد توصلها إلى خيط تتبعه حتى تصل إليه، وقبل أن يدرك هفوته أخبرته بجمود: سنرى بشأن هذا قريبا.

أغلقت الهاتف مع كلمتها الاخيرة تاركة خطاب يقهقه باستمتاع عليها غير مدركٍ فعلاً لزلته تلك، تنهيدة عميقة خرجت من جوفه مطالعاً صورتها على جهازه اللوحي المحمول، مع مياس كل المشاعر مختلفة ولها مذاق عجيب، مذاق أشبه بحلوى لذيذة تجربها لأول مرة في حياتك، متفاوعة الألوان ومتعددة النكهات، لكنها مزيجٌ فريد صعب أن تجده في بشريٍّ سواها...

.
ضيقت عينيها بتفكير وهي تقلّب تلك الفكرة في راسها، رغم صعوبتها الكبيرة هذا إن لم نقل استحالتها بالطبع لكنها مستعدةٌ للمخاطرة، بانتفاضة سريعة خرجت من مكتبها متجهة إلى المكتب المشترك لتجدهم الثلاثة متواجدين هناك، انتفضوا واقفين باحترام حين دلفت كالقضاء المستعجل لتقف أمام طارق قائلة بنبرة جادة: كم تحتاج من الوقت لتصل إلى ملفات السجناء في إصلاحية الأحداث؟

بانت عليه الدهشة واضحةً إلا أنه أجاب بتلبك: على حسب العام الذي تطلبين؟
عقدت حاجبيها وقبل أن تنطق تحدث أويس بانزعاج طفيف: لماذا تريدين تلك السجلات مياس؟
التفتت ناحيته لتجيبه بهدوء واثق: عندي شكّ أن الخفاش سجين سابق في الإصلاحية.
تجعد جبينه باستغراب فيما سيطرت المفاجأة على الآخرين، لتتابع مياس بنفس هدوئها: قد نستطيع الوصول إلى هويته الحقيقية، أعلم أنها فكرة جنونية لكنهة كل مالدينا حالياً.

ضيّق عينيه مصدقاً لما تقوله لإنها ببساطة مياس، عاد جالساً على مقعده ليعبث بالحاسوب المحمول أمامه متسائلاً: حين تحدّثين الخفاش، بكم تقدرين عمره؟
انحنت مياس لتستند بكفيها فوق طاولته مجيبةً بتخمين: أعتقد أنه في منتصف العشرين ربما؟
طرق بخفة وسرعة فوق الأزرار ليعقب: إذاً فنحن نبحث عن السجناء المولودين بين عامي ألفٍ وتسعمئة وتسعين (١٩٩٠) وألفين(٢٠٠٠) صحيح؟

همهمت موافقةً حديثه مالبثت أن رأت ابتسامة خبيثة شقت ثغره وهو يُدير الحاسوب نحوها معلقاً: وها هي كل النتائج.
لا تنكر مياس الصدمة الخفية التي ضربتها وهي ترى أمامها أكثر من ألف اسم، ضيّقت عينيها بانتباه لتوجه الشاشة ناحيته مجدداً قائلة: قلّص العدد، اختر من كانت مدة محكوميته خمس سنوات فقط.

عبث أويس مجدداً بلوحة المفاتيح ليتمّ استبقاء قرابة خمسمائة اسم فقط، أعاده أويس ناحيتها فتطلعت إلى الشاشة بانتباه وهي تسأل: إيهاب، مااحتمالية العثور على مقارنةٍ صوتية وتحديد هوية المشتبه به؟
بتذبذب واضح أجابها: الفرصة ضعيفة مياس، فصوت الإنسان يتغير بعد البلوغ.

جزت على فكها بغيظ وهي تستشعر اندثار الأمل قبل بلوغه، في هذه الأثناء كان طارق يفكر في أمر ما فهتف بتذكر: مارأيك أن نقارن الوجوه أيضا بالصورة التي رسمها الرسام من كلام الشهود في المطعم؟
تطلعت نحوه كأنها تفنّد ماقال فأضاف بقلة حيلة: أعلم أن الأمل قليل مياس، لكن هنالك أساسيات لن يستطيع تبديلها، مثل شكل أنفه وحاجبيه وجبينه.
، مالبثت ان سمعت أويس يضيف: ولنقارن الخط أيضاً.

التفتت صوبه بحاجبين منعقدين فعقب موضحاً: في سجن الأحداث هنالك برامج تعليمية لإعادة تأهيل المساجين الأطفال وعدم حرمانهم من التعليم، وهم يحتفظون بنسخٍ مما كتبه الأطفال في النظام.
بدت كأنها لم تفهم فقالت بنزق: إلى أين تريد الوصول أويس؟
ابتسم بمكر قائلا: أتذكرين الرسالة في المتحف؟ كانت مكتوبة بخط اليد ولا أشكّ أبداً بأن الخفاش قد كتبها بيده.

استقامت ومازالت أنظارها متشابكة بعينيه الماكرة وهي تفكر بصوت عالي: ثلاثة عوامل لربما توصلنا أحدها إليه.
بادلته ابتسامته الخبيثة مضيفة: أحسنتم ياشباب، فلنعمل على كل ماذكرناه.
اتسعت بسمته متفاخراً فقد نال إعجابها أخيراً، توجهت إليهم في توزيع المهام: أويس، أنت أحضر رسالة الخفاش وقم بعمل مقارنة للخطوط مع هؤلاء الأطفال.

هزّ رأسه موافقاً فالتفتت صوب طارق مضيفة: وأنت طارق، قم بمقارنة رسم الوجه بوجوه الأطفال.
ثم تابعت موجهة أنظارها ناحية إيهاب وهي تمدّ يدها بالهاتف: وأنت إيهاب، عليك بمقارنة الأصوات، لديّ برنامج تسجيل مكالمات على هاتفي، استخرج آخر مكالمة مع الخفاش وقم بمقارنتها مع أصوات الأطفال أثناءالتحقيق.
.

استلم الجهاز منها ليعقب: تحت أمرك مياس، لكن يجب أنتعلمي سيلزمنا عدة موافقات أمنية للوصول إلى سجلات التحقيق مع المساجين.
هزت رأسها بتفهم ثم عادت تحدق بأويس قائلةً: أخبر اللواء جلال وهو سيعمل على تأمين كل الموافقات، ولن أوصيكم بالسرية التامة، ربما مازال هناك جاسوس للخفاش لم ندركه بعد.
حرك رأسه بالإيجاب ثم سأل بتوجس: وأنت مياس؟ مالذي ستفعلينه؟

عاد الوجوم الحزين يسيطر على وجهها قائلة بخفوت: أنا سأعاود البحث عن معلومات قد تسوقنا إلى صلاح.
اختنقت بآخر كلمة نطقتها وقد عاد مشهد مقتل رائد يتراءى أمام ناظريها، تظاهرت بالقوة وهي تخرج من المكتب عائدةً إلى غرفتها، فشيّعها ثلاثتهم مدركين لما تعانيه مياس بوفاة رائد...

عادت تجلس مكانها محاولةً بطرقٍ شتّى السيطرة على حزنها، فآثرت إلهاء نفسها بالملفات القديمة الخاصة بصلاح والتي كانت تدرسها قبلاً، مرّ بعض الوقت قبل أن يصيبها اليأس، نفخت بإحباطٍ وهي تُسند ظهرها للخلف، وقد عاد حديثها مع أويس يوم أمس يتردد في عقلها، كيف تمكنت من البوح له باعتراف الضعف وهي التي لم تعتد الأمر حتى مع أمها؟

تلقائياً انتقلت عيناها إلى مكان جلوسه بالأمس، طالعت امقعد بنظرات شاردة قبل أن تنعقد ملامحها فجأة حين لاحظت ورقة شجرٍ خضراء مكانه، هذه الورقة تعود إلى أشجارٍ تنمو على حافة الجبل، أعادتها ذاكرتها تلقائياً إلى الغرفة التي غُدِرَ فيها رائد، لاحت أمامها مقتطفاتٌ من الأرضية الملأى بأغصان خضراء من نفس نوع الورقة، ويبدو أنها علقت بثياب أويس أثناء بحثه في منزل صلاح، أجفلت معتدلةً في جلستها وخاطرٌ غريب يدور في رأسها، هذا النوع من الأشجار ليس قريباً على الحيّ الذي كان يقطنُ فيه صلاح، إذاً تواجده هناك ليس من قبيل المصادفة أبداً، أيعقل أن تكون هذه إشارةٌ خفيةٌ من صلاح لمكان تواجده الحاليّ؟

توسعت عيناها بدهشة ماإن اهتدى عقلها إلى هذا التحليل الخطير، قررت عدم تضييع الوقت والذهاب لاستكشاف الأمر بنفسها، خرجت من الغرفة متجهةً إلى المكتب المشترك لكنها تجمدت في منتصف الطريق، الجميع منشغلٌ في البحث عن هوية الخفاش لذا لم تشأ إلهاء أحدهم للتأكد من تحليل ربما يخيب، فتوحهت بخطوات عجولة لتهبط الدرج، استقلت سيارتها وانطلقت بسرعة البرق نحو مكان الأشجار في الغابة، غير ملاحظةٍ لمن يتبعها من خلفها...

بعد فترةٍ قصيرة وصلت مياس إلى الغابة، أوقفت السيارة حيث انتهى الطريق الترابي، ترجلت من العربة وفي يدها سلاحها الملقّم، تقدمتْ بخطىً مُحاذرة حتى صعدت تلةً صغيرة ووجدت هناك نوعية الأشجار التي رأتها في مكتبها وفي منزل صلاح، كانت أشجاراً معمرة ضخمة تشكل أشبه بحوض متفرد لها فقط، وفي منتصف الحلقة تراءى لها كوخٌ خشبيّ صغير، رفعت مسدسها وتقدمت بحذر ناحيته حتى باتت قربه، تفحصت الكوخ بأنظارها فلم تشعر بخيال الخبث يتحرك من خلفها، ولا بخطوات المكر التي خَطت حتى وقفت وراءها، تجمدت مكانها وخفق قلبها بعنف حين شعرت بماسورةٍ حديديةٍ تستقرّ فوق رأسها، وصوت صلاح المقيت يردد من خلفها بسعادةٍ قميئة: لم أشكّ للحظة في ذكائك عزيزتي.

ابتسم بخبث ليردف ساخراً: أم يجب أن أقول أن حماقتكِ هي من جلبتكِ إليّ يا مياس؟
بكل ماأوتيت من قوة حاولت تمالك أعصابها، أسدلت جفنيها ببطء وهي على هذه الحال، على شفا هاوية الموت، ربما ستموت اليوم لكنها على الأقل ستموت بشجاعة وبسالة...

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة