قصص و روايات - قصص بوليسية :

رواية حي الورد للكاتب علي اليوسفي الفصل الثامن والثلاثون

رواية حي الورد للكاتب علي اليوسفي الفصل الثامن والثلاثون

رواية حي الورد للكاتب علي اليوسفي الفصل الثامن والثلاثون

((أتعلم؟ تلك الساعات التي أقضيها وحيدةً في الليل مرعبة، أظلّ أجول كتائهة وسط الذكريات وأتخبّط حتى يأخذ الإرهاق مأخذه من روحي وقلبي، فيتركني منهكة القوى خالية المشاعر)).

عاد برفقة إيهاب من عند اللواء جلال بعد أن استحصل منه على كافة الموافقات اللازمة للبدء في تحري تاريخ الخفاش وصولاً إلى شخصيته الحقيقية، أيضا استعاد رسالة الخفاش ليبدأ مهامه، رآها تخرج من مكتبها بعجلة فكاد ينادي عليها لكنه تراجع حين رآها تقف قبالة غرفتهم المشتركة للحظة بتردد، ثم تنطلق تالياً لتهبط الدرج بسرعة كأن شبحاً يطاردها، ساوره الشكّ في أفعالها فسلّم الورقة لإيهاب ولحق بها غير عابئٍ بنداءات رفيقه، حين وصل إلى الأسفل شاهد سيارتها تنطلق بسرعة جنونية فأدرك صدق إحساسه، استقلّ عربته بدوره ليلحق بها فوجدها تمشي فوق الطريق الترابي المؤدي إلى الغابة، استغرب أويس من حضورها إلى هنا في هذا الوقت بالذات فأيقن أنها أخفت عنهم اكتشافاً ما، دمدم أويس بشقاء: مالذي تخططين له أيتها المتهورة؟

أوقفت سيارتها في نهاية الطريق الترابي وانطلقت في الغابة، وحين وصل أويس لم يجدها في سيارتها، ولم يجد أي آثارٍ قد تدلّه على المسار الذي اتخذته لكنّ حدسه أخبره بأنها على وشك الوقوع في مصيبة، عاد إلى سيارته ليخرج سلاحه الذي يلازمه فيها معظم الوقت، متخذاً من إحساسه دليلاً ليتحرك في الغابة، تحرك بحذرٍ وانتباهٍ شديدين حتى سمع حفيفاً قريباً منه، ظنها مياس فاتجه ناحية الصوت ليتفاجأ بصلاح يقف خلفها مصوّباً سلاحه إلى رأسها...

شيئان لا تستطيع التحديق بهما: الشمس والموت.
استهلّ صلاح حديثه باعتداد مغرور ثم أضاف:
قرأت تلك الجملة في كتابٍ ما لا أذكر اسمه، ليس المهم اسمه الآن، الأهم أنها عبارةٌ صحيحةٌ تماماً.
ضغط على رأسها مردفاً بتهديد: ارمي سلاحك مياس.
لم تجدْ مفراً من تنفيذ الأمر فارتخت يدها عن مسدسها ليسقط أسفل قدميها، صمت صلاح لثانية ثم أردف بتبجح: لقد وقعتِ في الفخ يا مياس، نقطةٌ لصالحي وصفر لك.

بينما هو يتباهى بذكائه كانت تمسح المكان بعينيها في محاولة منها لايجاد منفذٍ لها لكن عبثاً، إنهما في وسط حلقةٍ من الأشجار ولا ساتر لها قد تختفي خلفه، وبحسبةٍ بسيطة أدركت أنها ستخرج خاسرة لو حاولت مواجهته بسبب الفارق الجسماني بينهما، انتبهت لحديثه فابتسمت بسخرية لتعقب: تتحدث وكأنك أذكى المجرمين على وجه الأرض، بينما أنت لا قيمة لك، كالصفر تماماً.

ابتسم صلاح بغطرسةٍ عظيمة معقباً على حديثها: أنتِ مخطئة مياس، فالصفر هو من يعطي القيمة للأرقام جميعها، حين يأتي في مكانه الصحيح، ويستطيع نفيها أيضاً حين تستعملين معه العملية الحسابية الصحيحة.

رعشة باطنية سرت في عروقها وحديث صلاح أخافها بطريقةٍ لم تتوقعها، وهي أمامه الآن، وحيدةٌ مجردة من سلاحها وسط غابةٍ كبيرة، واحتمالية إنقاذها واحد على ألف، يعني المستحيل بعينه، فأغمضت عينيها باستسلام تامٍ لمصيرها، بينما يسحب صلاح زر الأمان في سلاحه مضيفاً بتعجرف مقيت: كنتُ أودّ أن تكون مقابلتنا أطول مياس، لكن في النهاية دعيني أخبركِ، سررتُ برؤيتك.
وانطلقت الرصاصة...


رفرف فؤاده بين أضلاعه بعنف وهي مستسلمةٌ تماماً أمام مسدس صلاح، سمعه يخبرها بقيمة الصفر فاستغلّ انشغاله معها وتحرك ببطء محاذراً إصدار أقلّ صوت، ببجاحة مثيرةٍ للاشمئزاز نطق صلاح أثناء سحب زر الأمان: سررتُ برؤيتك.
نطق أويس بدوره ورصاصته تستقر في رأس ذلك المخادع: ليت بإمكاني قول الأمر نفسه.

أجفلت مياس بخفة عندما اقتحم صوت الرصاصة متبوعاً بصوت أويس أذنها، فتحت عينيها عن آخرهما شاهقةً بعنف، الغريب أنها مازالت حية ً؟!
تجاوز جثة صلاح ليديرها ناحيته يتفحصها بعينيه هامساً بوجل: أنتِ بخير؟

تهدج صدرها برعب ومقلتيها تترقرق فيها العبرات، بالكاد وجدتْ في نفسها بعض الطاقة لتحرك رأسها بخفة، فضمها إليه بأنفاس ثائرة، أغمض عينيه ليشدد عناقها متأوهاً بصوت مسموع، لا يصدق أنها كانت على شفا الموت لولاه، بادلته العناق ثوان قليلة وهي تسدل جفنيها براحة قبل أن تنتبه لنفسها وموقعها، ابتعدت عنه بغتة لتصيح به بهجوم استغربه: مالذي تفعله هنا؟

قطب جبينه باستغراب ليجيبها باستنكار طفيف: لقد أنقذتُ حياتك للتو، وهذا جزائي؟
رغم يقينها مما قال، لكنها كتفت يديها معقبة بعناد لتغطي على توترها: لم أكن بحاجتك بالمناسبة، لقد كنت مسيطرة على الوضع.
رفع حاجبه وهو يومئ لها بتهكم، وابتسامة صفراء ارتسمت على شفتيه، ارتبكت لسخريته المبطنة فحولت أنظارها إلى جثة صلاح قائلة بانزعاج مصطنع تخفي خلفه ربكتها: لماذا قتلته؟
حسنا، لا شك هو سؤال أحمق منها!

أجابها ببرود، وبسمته الساخرة تحارب للظهور: في الحقيقة خفتُ أن يقتلك، فيحسبكِ الخفاش رجلاً علينا.
رفعت رأسها صوبه وقد زوت ما بين حاجبيها وجحظت عيناها باتساع، يا لوقاحته حقا!
حركت شفتيها لتقول شيئا فترد له إهانته الصاع صاعين، لكنها شعرت فجأة، ولأول مرة، بأن جعبتها قد نفذت، جزت على أسنانها بغيظ لترفع سبابتها في وجهه قائلةً من بين أسنانها: أتعلم؟ الذنب ذنبي أنا لإني ما أزال أقف وأتحدث معك.

وانحنت عقبها لتحمل مسدسها، ثم تحركت من أمامه تضرب الأرض بخطوات غاضبة، بينما استحالت ملامحه إلى السعادة وبسمته المرحة شقت شفتيه، رفع رأسه إلى السماء مغمضا ًعينيه بتلذذ، يبدو أن دروس تلك الذئب معه قد أتت ثمارها و استطاع إسكاتها أخيراً، تحولت بسمته إلى ضحكة خافتة متمتما: يالله، مستقبلي في مشفى المجانين بسببها...
أخفض ناظريه ناحية جثة صلاح فصاح يسألها قبل أن تبتعد أكثر: ماذا سنفعل بجثته؟

هتفت بحنق مجيبةً دون ان تتوقف لثانية: دعه مكانه، فليتعفن أو تأكله الطيور الجارحة.
انقبضت ملامحه باشمئزاز لمجرد تخيل المنظر، ركل كف صلاح الميت بقدمه ثم سار خلفها حتى وصلا إلى سيارتيهما، استقلّت سيارتها لتنطلق بها مسرعةً محدثةً خلفها زوبعة غبارية، طالعها بتعجب وهي تهرب منه هكذا دون أن تكلف نفسها عناء شكره حتى، فصاح بامتعاض فارداً ذراعيه: على الرحب دائماً!

نفخ بغضب دفين ثم ركب سيارته ليتحرك فوق الطريق، دقق النظر على شيءٍ أمامه ثم غرق في وصلةِ ضحكٍ شامتة، وجدها تقف في منتصف الطريق تضرب إطارات السيارة بقدميها بانزعاج جليّ على وجهها، يبدو أن الوقود قد نفذ منها، أوقف عربته بمحاذاتها وأنزل النافذة دون أن يتطلع ناحيتها، أما هي فقد سيطر عليها كبرياؤها لتمنحه نظرة غاضبة ثم تطلعت إلى الناحية الأخرى بتكبر، مرّ بعض الوقت لم يتحدث أويس حتى ملّت مياس وشعور التعب يتصاعد في جسدها، تخلت عن كبريائها أخيرا لتصعد في سيارته كأنها مجبرة فارتسمت ابتسامة انتصار على جانب فمه، خَبَتْ حين أغلقت الباب بعنف فهتف بتذمر: على مهلك!

رمقته بطرف عينها بلا مبالاة فلم يجد أويس ماايعقب به سوى أن تحرك بعربته فوق الطريق، عائدان إلى مركز المكافحة وشعور بالراحة يتغمدهما غير مدركين لحقيقته، ربما بسبب مقتل صلاح؟
أم أنّ هنالك سبباً آخر؟

مجرد كلمات وبضعة جملٍ يتبادلانها في كل حديث كانت كافية ليتعلق خافقها به دون وعي، حواراتهما القصيرة أخذت منحىً غريباً في حياتها حتى بات غريب يشكل جزءاً لايتجزء من يومها، لم تعد أروى تميز بعقلها أي شيء، إنه فقط قلبها من يقودها دون أدنى مقاومة.

رقتها تجبره على رؤية الحياة من منظور مختلف، تدهشه بنظرياتها الغريبة دوماً، لكن يومه لا يكتمل من دون مرآها، فقط حين تطل عليه تبزغ الشمس في سمائه الحالكة، لمجرد التمتع بمرآى تقاسيمها البريئة يتجدد الأمل في أمنياته بشكل باهر، جميل وعجيب، نظرة واحدة من مقلتيها الساحرة كفيلةٌ بإثارة زوابع عاتية في داخله.

هذا النهار كان مختلفاً للغاية، فقد قرر حسام فكّ الأربطة حول وجه غريب و ذراعيه، وبناءً عليه فقد حضر كمال برفقة غريب إلى المستشفى، وفي مكتب حسام المخصص قام بقصّ الأربطة الطبية، أنهى عمله ثم تراجع للخلف عابساً بتكشيرة تلازمه، كل حين يلقي نظرة على هذا الوجه الماثل أمامه وعقله ينازعه الذكرى، يكاد يجزمُ أنه يعرف هذا الشخص لكن المشكلة لا يتذكر أين ومتى؟ أين ياحسام؟ أين أين؟

التفّ حول مكتبه ليجلب مرآةً صغيرة لغريب، وكمال الجالس على مقعدٍ قريب يراقب الوجه الماثل أمامه باهتمام، تساءل حسام أثناء فتحه درج مكتبه: إذاً غريب؟ ألم تتمكن حتى الآن من تذكر أي شيء عن ماضيك؟
أجاب الآخر بتوترٍ بدى على كفيه المتعانقين: لا أيها الطبيب، إنها فقط مشاهد متباعدة وأصوات غير مفهومة ترنّ في أُذني، لكني لا أستطيع أن أتذكر أي شيء بعد.

همهم حسام بتفهم أثناء عودته نحوه وفي يده مرآة صغيرة سلّمها لغريب الذي كان يرتجف حرفياً، شهق نَفساً عميقاً ثبط به مشاعره الثائرة واستلم المرأة منه ليرفعها بحذر أمام وجهه، للوهلة الأولى رآى نفسه مسخاً مع قطعة جلدية مجعدة احتلت جانب وجهه وتحت عينه اليمنى، إضافةً إلى بعض الخطوط الجانبية التي بالكاد تُرى بالعين المجردة.

لاحظ حسام تبدل حال غريب فأدرك السبب فعقب بجمود: لاتقلق، هذه الجراح الطفيفة ستزول مع الوقت، كذلك الحال بالنسبة للبقعة تحت عينك، ستشفى بنسبة كبيرة جدا.
لم يتطلع غريب نحوه بل ظل يطالع انعكاسه بصدر يهدر وجلاً، وفي عقله تدور فكرة وحيدة، هل يمكن أن تُبادله أروى مشاعره وهو بهذه الهيئة؟

سؤال دار مراراً في ذهنه حتى افتعل حرباً مدمرة داخل رأسه، لم يعبأ بحديث حسام وكمال الجانبي حين بدأت تتوارد إليه صور متعددة، عاد الصداع يبطش بخلاياه مجدداً وأصوات غير مفهومة تداخلت مع أخرى مبهمة، صرخ غريب بألم عظيم محاوطاً رأسه بكفيه ملقياً المرآة من يده حتى اصطدمت بالأرض فغدت أشلاءً، انتفض حسام مقترباًو محاولاً التحدث معه لكن غريب لم يستجيب، كزّ على أسنانه وبدأ يئنّ بصوت مكتوم وهو يحرك جسده للإمام والخلف بحركةٍ عصبية، هبّ كمال ليقف بجانب حسام يسأله بقلق: مالأمر حضرة الطبيب؟ مابه غريب؟

كان حسام في هذه الأثناء يحاول فكّ كفيّ غريب عن رأسه فأجاب وسط انشغاله: على مايبدو فإنّ غريب يستعيد ذاكرته، وهذا سبّب له ألماً وصداعاً قوياً.
شعر كمال بالتخبط لعدم فهمه مايحدث مع غريب رغم شرح حسام، مرت لحظات كان غريب يصرّ على أسنانه بقوة حتى هدأ تدريجياً، ابتعد حسام ببطء بينما يرفع غريب عينيه المحمرّة ليقابلهما فعاجله الأول بسؤال حذر: إذاً غريب؟

لم يجب فوراً، استهلك بضع لحظات ليحرك رأسه بالسلب هامساً بخفوت انعكس خيبة على وجه محدّثه: لا أعلم، نفس الخيالات والأصوات لكن، لا أذكر أي شيء..
تقدم كمال ليربت على كتف غريب معقباً برفق: لاتزعج نفسك غريب، ستتذكر عاجلاً أم آجلا.

زفر حسام بانزعاج من هذا الغريب لسبب بسيط جدا، فقد علم أن أروى هي من كامت تبدل الأربطة لغريب وهذا أصابه بالغيرة، خاصة وأنّ الشك يساوره بشأنه، تحدث بعد لحظات بضيق طفيف: يجب أن نقوم ببعض الفحوصات.
تحرك بالفعل ليجلس خلف طاولته أثناء حديثه: سنقوم بعمل أشعةٍ مقطعية للرأس وفحوصات أخرى، يجب أن نتأكد من سلامة رأسه.

لم ينتظر موافقتهما ورفع هاتف مكتبه ليطلب أحد رفاقه من المختصين في عمل الأشعة، لربما وجد المشكلة في رأس غريب ليتذكر أصله وفصله، فهذا الغريب لا يُشعره بالراحة نهائياً، من خلفه مصيبة، بل بلاء عظيم...

منتصف الليل بات وقتها المفضل لزيارة الأزهار، لكنها هذه الليلة لم تطقْ صبراً حتى يحلّ الليل، ماإن سمعت حفيف سيارة أبيها تغادر حتى ترجلت مسرعةً قاصدة الذهاب ناحية غرفة غريب، مرتديةً ثوباً بنفسجياً جميلاً بنقوش مخملية سوداء، التفّ خول خصرها الإسطواني كأنه يحاوط جوهرةً ثمينة يخفيها عن أعين المتلصصين، ووشاحٌ حمل نفس لون الثوب لتظهر رقتها المفرطة وبراءتها الطفولية، جَرت كطفلةٍ وعدها والدها بالعيدية وماإن أطلّت شمس العيد حتى ركضت إليه تطالبه بها، لكن العيدية هنا مختلفة، والفرحة موازية وربما أكبر، وقفت عند البوابة المؤدية إلى الحديقة تتطلع إليه، غير مدركةٍ للسعادة التي تتقافز من عينيها لمّا رأته حراً دون القيود التي تحاوط وجهه وكفيه عادة، ولم تشعر بالابتسامة التي شقت ثغرها ووجهه وكفيه ظاهران للعيان...

أعيته كثرة التحاليل والاختبارات التي أجراها حسام عليه كأنه جرذ اختبارات، فزهد في كل شيء ويريد فقط أن يسقط في النوم، كان يعبث بقفل غرفته يريد فتحها لكن يديه تجمدتا حين نبض فؤاده بعنف، روحه هامت لتحلق لتنبئه بوجودها، التفت ناحية الباب فرآها بطلتها البهية الحلوة فابتسم تلقائياً، كأن الحياة بأسمى معانيها تشكلت في محياها البهيّ، تهدج صدرها بمشاعر لاتعرف لها اسماً ثم عَدَت نحوه بخطىً متسارعة ليتراجع غريب بدوره عن الباب ووقف ينتظر وصولها إليه كصبّ أضناه السهر، وقفت أمامه تماما وتأملته للحظات عن قرب، بينما هو يتأمل عمق مقلتيها الزمردية بأشواق ألف عاشق، فجأة وبدون سابق إنذار قفز الخوف ليحتلّ ملامحه كلما تذكر شكل وجهه، خاف أنها تشفق عليه فقط فيما هو يطمع بأكثر من هذا بكثير.

اتسعت بسمتها حتى كادت حرفيا تصل إلى خلف أذنيها، ثم همست برقة سلبت لبّه: حمداً لله على سلامتك.
رغماً عنه عاد مبتسماً بلطف أثناء إجابته بهمس خافت: شكرا لك.

انتبهت أروى أخيرا إلى مكانهما فحمحمت بحرج، أخفضت نظرها عنه وهي تسير ناحية حجرها المفضل ليتبعها بدوره جالساً في مكانه المعتاد، شعرت بهدير خافقها بشكل لم تختبره من قبل فاستغرقها الأمر لحظات حتى سيطرت على دقاته الصاخبة، ثم رفعت رأسها إليه قائلة بلوم طفيف: تأخرتما؟
غصّ بريقه لثوان مالبث أن أجاب بوهن دون أن يرفع عينيه إليها: طلب الطبيب بعض التحاليل والفحوصات، فتأخرنا بسببها.

سيطر القلق على تقاسيمها و نبرتها حين تساءلت بجزع: يا آلهي! لماذا مالذي حدث؟
ارتفع صدره بتنهيدة ثقيلة مردفاً: عادت لي حالة الصداع، أخبرني الطبيب انها إشارة جيدة غير أني أحتاج الى محفزات.
هللت بسعادة: جميل! هذا معناه أنك ستستعيد ذاكرتك قريبا...
رفع رأسه إليها فاصطدمت نظراتها بالحزن الذي سكن أعماق عينيه البنية فغابت بسمتها لتسأل: مابك غريب؟ ألم تسعد لهذا الخبر؟

ضمّ شفتيه بقوة أثناء تحريكه لرأسه بالنفي فعقبت باستنكار طفيف: ألا تريد استعادة ذاكرتك؟
هز رأسه نافياً من جديد فاستهجنت: لماذا؟
سرط ريقه بصعوبة ثم أردف بنبرة باهتة: لإني خائف.
أمالت رأسها للجانب متسائلة باستغراب: تخاف؟
حرك رأسه موافقاً فأضافت: مماذا تخاف؟
هل هي حقاً لا تجيد قراءة لغة العيون؟ أم أنها تدعي الحماقة رغم إدراكها لحقيقة مشاعره؟

ربما هي فترةٌ قصيرة منذ أن تعارفا لكنه يشعر كأن روحه وروحها متآلفان منذ زمن بعيد، أي يجب أن تفهمه من رمشة عينه فحسب..
طالعها غريب بإحباطٍ لثوان قبل أن يفتح فمه معترفاً بنبرة درامية بعثت رجفة الصدمة في روحها: أخاف من حقيقتي يا أروى، أخشى أن استعيد ذاكرتي فاصطدم بواقع لا أريده، قد أكون مرتبطاً أو متزوجاً، وقتها سأقع بين نارين، نار الواجب ونار القلب...

قطع حديثه ليجترع الغصة التي سدّت حلقه فيما مقلتي أروى تتابع مايقوله باهتمام جاد، أردف غريب بعد وقت قصير بصوت صادق نفذت سهامه إلى قلبها مباشرة: أخاف أن أخسركِ ياأروى، لا أريد خسارتك أو الابتعاد عنك.
صخب هادر صمّ أذنيها عن كل صوت حولها سواه، وكلماته عبثت بمشاعرها بطريقة لم تتخيلها يوماً، بدى عليها الضياع فقرر غريب أن يدفع بآخر أسلحته فتابع مفجراً قنبلته المدوية: لأني أحبكِ أخاف أن أخسرك.

فتحت عينيها على وسعهما وكلماته تقع فوق رأسها كطائرة مستعجلة، صُدمت من اعترافه غير المتوقع فلبثت شاردة فيه كأن على رأسها الطير، هل ماسمعته حقيقة أم أنها تتوهم؟
بشرود سريع بحثت أروى داخل عقلها عن إجابةٍ تليق به ولا تجرحه، فهي لا تشعر نحوه بالحب صحيح؟
ترترت نظراتها بشمل ملحوظ وصراع شبّ بين عقلها وقلبها عن حقيقة ماتشعر به ناحية غريب، إن كانت لا تحبه فلماذا إذاً ارتبكت نبضاتها حين اعترف بحقيقة مشاعره؟

زمجر خافقها بشدة وهو يحسم الصراع كاشفاً لها ماتغافلت عنه عمداً، زحفت حمرةٌ خفيفة على محياها حين انتبهت من شرودها لتجد نفسها مثبتةً مقلتيها على وجه غريب، تذبذبت على استحياء ولأول مرة تخفض ناظريها عنه وهي تستشعر ضربات غريبة تقرع أضلاع قفصها الصدري، وشهقة خجولة منعتها من الاعتراف بحقيقة مشاعرها له عالياً، بلعت ريقها بصعوبة وغريب ينظر بمقلٍ تناجيها بصدق، اغرورقت عيناها بدمعٍ غير مبرر وفي لحظة هبّت واقفةً لتجري ناخية المنزل تشيّعها عينا غريب بدهشة، نفخ بضيق من نفسه وخلّل شعره بيديه، هل تسرّع في الاعتراف لها؟ هل خسرها الآن؟

أروى لم تعترض، ولم تقبل كذلك، لكن عينيها لا تكذبان، ربما هي صُدِمتْ فقط لأنه فاجأها؟
تأوه غريب بصوت مسموع والضجيج داخل عقله لم يرحمه، لم يعد يفكر بشكل سليم وشعر بتهاوي جسده فاستقام متجهاً إلى غرفته بتماسكٍ ظاهريّ، فليسقط في النوم ربما قد يجد فيه إجابة شافية لخافقه المُعتلّ...

انطلقت بسرعة البرق ناحية غرفتها، لم تأبه بنداء عمتها التي خرجت من المطبخ لتوها فاستغربت حالتها، أغلقت أروى بابها واستندت بظهرها عليه تلهث بقوة، مقلتيها محتقنةٌ بدمع لا تدري له سبباً، رفعت يدها تضعها على فؤادها الثائر علّه يهدأ، شعرت كأنه يركل أضلاعها يريد الخروج من صدرها ليضرب وجنتيها المحمرة من أثر الانفعال، ربما تستفيق من الصدمة القاتلة، ظلّت ساهمةً هكذا ناظرةً أمامها بذهول لبضع ثوان، تستعيد حديث غريب وكل مرة يتخضب وجهها بحمرة أكثر قتامة من سابقتها، أسدلت جفنيها محاولة السيطرة على لهاثها وزفرت بقوة، تشكلت صورة غريب وهو يعترف في الظلمة تحت أجفانها، صرخ خافقها فابتسمت بسذاجة طفلة، إنها تحبه!

يا آلهي! أنا أحب! أنا أحب غريب!

قهقهت بحماقة غريبة حتى يظن من يراها أن قد أصابها الجنون، لكن الحقيقة أن مسّ العشق قلبها حتى قاده لحافة الغرام، تلك الطفلة البريئة داخلها شبّت في لحظة فباتت أنثى كاملة المعالم والفتنة، بعين القلب باتت تنظر إلى الحياة الوردية التي صنعها خيالها، ببلاهة راحت تدور حول نفسها والثوب البنفسجي يتطاير من حولها كأنها أميرةٌ لحظة تتويجها، دارت الدنيا من حولها حتى سقطت فوق فراشها لاهثةً بأنفاسٍ حارة وابتسامة جذلى، قابلت سقف غرفتها ثم راحت تردد بيتاً من الشعر تحفظه عن ظهر غيب، وماظنّت أنها ستنطقه يوماً:.

أصابكَ عشقٌ أم رُميتَ بأسهمِ؟
فما هذه إلا سجيةُ مغرمِ
يبدو أنها وطئتْ أرض الحب منذ زمن دون أن تدري، اقتحم هذا الغريب حصون قلبها وخرق أسواره ليتربع ملكاً على عرشه، لكن متى حدث كل هذا؟
ليس مهماً، المهم أنها أُصيبت بالداء الصامت دون أن تدرك...

لقد تحقق وعدها بالفعل، قُتل صلاح وتحقق ثأر رائد قبل أن تبرد دماؤه، وعلى هذا تم تحديد موعد الدفن قبل أن تغيب شمس هذا النهار.
في جنازةٍ عسكرية مهيبة تم تشييع رائد، تهافت بعض معارف عائلته بالإضافة إلى رفقائه لحضور جنازة الشهيد، أصرّت ردينة على الحضور ولم تفلح حتى مياس في إثنائها عن قرارها حرصاً على حياتها، وفي النهاية خضعت لرغبتها وسمحت لها بالحضور برفقة حراسةٍ مشدّدة.

جمعٌ عديدٌ من الناس تجمعوا حول الحفرة المجهزة، وبعض رفاق المغدور يحملون النعش أنزلوه برفق على الأرض من بينهم كان أويس وطارق، تقدم والد رائد وهو يحتضن ردينة التي ترتدي الأسود لتودع خطيبها، فسقطت على ركبتيها فوق النعش باكيةً بحرقة، ولسان حالها يقول:
ليس من ماتَ فاستراحَ بميتٍ..
إِنما الميتُ ميتُ الأحياءِ.

تعالى نشيجها وندبها فوق كفنه، رائد، إنه فارس الأحلام الذي وعدها بالحياة الوردية، أقسم بأنها لن تخاف مادام خافقه ينبض بالحب لها، لكنه رحل الآن ضارباً بكل وعوده عرض الحائط، لم تظنّ يوماً بأنها ستحضر جنازته ودفنه، ياليتها كانت هي الميت، لكان اهون الف مرةٍ عليها مما تعايشه من أوجاع..

والدته المسكينة، لم يكن بها من جلدٌ لتودعه فاختارت البقاء مع النسوة القلائل اللواتي جاؤوا لتعزيتها، بالكاد تستطيع الوقوف راميةً بثقلها على ابنتها التي سندتها، ومياس تقف بعيداً عن الجميع مرتديةً الأسود كحالهم، وغطت عينيها بنظارة شمسية سوداء تحجب خلفها دموعها التي تسللت خلسةً، رغم هذا كله كانت منتبهةً لكل مايدور من حولها تحسباً لأي حركة غادرة، فهي إن تعلمتْ شيئاً من الخفاش فهو عشقه للمفاجآت في زمانٍ ومكانٍ غير متوقعين البتة...

وقف اللواء جلال برفقة حرسه الشخصي على راس صف الرجال، وصوت الشيخ يرتل بعضاً من آيات الذكر الحكيم فوق الكفن، وحالما ختم السورة حاول والد رائد مساعدة ردينة على الوقوف لكنها آبت، تعالى نحيبها وسقط الوشاح الخفيف الأسود عن رأسها حين بدأوا بإنزال الكفن، بصوت مبحوح صارت تتوسلهم: على مهلكم أرجوكم، لا تردموا وجهه بالتراب، مازال يافعاً على الموت..

غطت مياس فمها تخنق شهقة حزينة تكاد تنفلت من بين شفتيها أثناء التفاتها إلى الخلف، حاولت البقاء صامدةً لكنها فشلت في النهاية، تلقائيا عصف الخزن بقلبه ليستدير ناحيتها كأنما روحه تنبؤه، رآها تجلس القرفصاء ويدها على فمها فأدرك الأمر، بخطوتين بات مقرفصاً أمامها يسألها بوجل وكفيه فوق ذراعيها: أنتِ بخير مياس؟

اختنقت حرفياً فلم تستطع التحمل أكثر، أخرجت شهقة عنيفة وهي تحرك رأسها بالنفي ليضمها إلى صدره، انهارت مياس حرفياً بين يديه، وعقله لا يُصدق أنها مياس من تبكي بحرقة هكذا، تلقائياً أخذه عقله إلى ليلة وفاة ورد حين سألها لمَ لم تعد إلى منزل عائلتها، أخبرته يومها أنها تتأثر بهكذا مواقف ولاتستطيع حضورها فسخر منها، الآن يدرك حقاً أنّ قوتها الظاهرة تلك ليست إلا قناعاً مهترئاً تخفي خلفه طفلة صغيرة ضعيفة، كحاله هو تماماً، خلف قناع الجمود والقسوة ينزوي طفلٌ بعمر التسع سنوات، ذاق أبشع ماقد يراه طفل في مثل سنّه...

لا تعرف حقاً كيف انتهت مراسم الدفن أخيراً لتعود إلى البيت، طاقتها أُنهكت حرفياً وأقصى أمنياتها الآن أن تصل إلى فراشها، صادفتها عليا في الرواق وعلى مايبدو فقد كانت في انتظارها، قابلتها ببسمة حنون مالبثت ملامحها أن تحولت إلى الجزع وشحوب مياس لا ينبأها بخير، شهقت وهي تضرب صدرها بيدها: مابكِ مياس؟ وجهك أصفر وذابل؟

بسمة باهتة للتعرف كيف وجدت القوة لتختلقها، تجابه بها قلق أمها المبرر فأجابت بصوت خافت: لاتقلقي أمي، أنا متعبة فقط.
لم تصدقها بالطبع لكنها أشفقت عليها من الضغط الذي ستمارسه لتحكي لها الحقيقة، تنهدت مياس بصعف لتردف: أريد أن أنام فقط أمي، أرجوكِ لا أريد أن يزعجني أحد.

نبرتها كانت متعبة ومقلتيها تنطق بحزن دفين، فلم يكن من عليا إلا أن مسحت على جانب ذراعها صعوداً ونزولاً قائلة بلهجة الأم الرؤوم: كان الله في عونكِ حبيبتي، اصعدي إلى غرفتك.

مجدداً تلمس جملة عليا الداعية فؤادها، لكن عقلها مشوش ومتعب لا وارد له في التفكير، هزت رأسها موافقة لتجرجر قدميها قسراً أثناء صعودها الدرج، بالكاد دلفت إلى غرفتها فألقت نفسها فوق الفراش، خلعت حذاءها ثم ألقت ظهرها فوق السرير، وتنهيدة ثقيلة تشقّ الحو المحيط، ماهي إلا ثوان حتى سقطت مياس في دوامة لا متناهية من الآحلام والكوابيس...

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة