قصص و روايات - قصص بوليسية :

رواية حي الورد للكاتب علي اليوسفي الفصل التاسع والثلاثون

رواية حي الورد للكاتب علي اليوسفي الفصل التاسع والثلاثون

رواية حي الورد للكاتب علي اليوسفي الفصل التاسع والثلاثون

((( أتعرفُ ما أنت بالنسبة لي؟
أتعلم أنك من منح قلبي تذكرة العودة؟
أتدرك أنك من وهبني حياةً جديدة؟
أوتدري أنني أختنق في غيابك؟
حتماً لا تعلم، ولا تدري، ولا تدرك من حديثي حرفاً، لذا فها أنا أخبرك وأعترف أمام طيفك البعيد الذي يتلاشى مع كل بزوغ، وأمام فؤادي الذي خُلق من جديد بين يديك: أحبك ياقوتي وياضعفي، يا بدايتي ونهايتي، حباً سرمدياً أزلياً إلى آخر الزمان ))).

أقسمتْ أنها لن تخرج هذه الليلة، لكنّ خافقها تمرّد وأعلن العصيان، ظلّ يزمجر بين ضلوعها بغضب حتى خُيّلَ لها أن ساكني المنزل كلهم سمعوا صوته، وحين لم تفلح محاولاته أنّ كصبيّ صغير يريد الحلوى وترفض أمه منحه إياها، فلم تستطع أروى أمام عناده إلا أن توشحت بشالها وتلفّحت بغطائها ثم هبطت إلى الأسفل بحذر، تأكدت من نوم الجميع فخرجت تتسللُ كطالبةٍ هربت من مدرستها وتخاف أن تمسك بها المديرة...

نام لبضع ساعات لكنها ساعات قَلقة، كيف سيستطيع النوم وعقله يجلده بسوط الذنب؟
مؤكد أنه لن يراها بعد اليوم، فبعد أن اعترف لها سيخسر صداقتها بالتأكيد، وستراه عاشقاً أحمقاً فاقداً لكل مقومات الحبيب السليم، بلا ماضي ولا حاضر ولا حتى مستقبل، على أي أساس ستحبه بحق الله؟

نفخ غريب بضجر أثناء فتحه لنافذته ليناجي ياسمينتها، تلك الزهرة اللطيفة المستريحة على جانب إطار نافذته، غافيةً ورغم هذا مازالت تنشر عبيرها في الأجواء، مع العتمة المحيطة به أجلسته في جوٍّ شاعري لطيف، غير أنّ تلك المغريات كلها لم تُرح قلب غريب، استند برأسه فوق كفه المنقبضة يتأمل المنزل ويبحث بعين القلب عن غرفتها، تراها ساهرةً تفكر فيه؟
أم أنها نامت غير مباليةٍ بقلبٍ أبله ومغرمٍ مجذوب؟

لاح طيفها من بعيد، وهالة الضوء تحاوطها كفراشات النور، ظنّها من صنع خياله الهائم كالعادة لكنه فتح عينيه بصدمة وهو يراها تتحرك فعلياً قادمةً نحوه، بخطىً مترددة سارت أروى في الحديقة الخلفية، ترفع عينيها ناحية غرفته ثم تخفضها مجدداً، تعبث بيديها بالتباك وارتباك، تهدج صدره بوجل وهدرت دماؤه في أوردته بعنف لسبب لا يريد ذكره، ربما جاءت لتعتذر؟

بريقٍ جافٍ وجسدٍ مرتعش وخطىً متعثرة خرج غريب إليها، قابلها وعيونه تنطق بالخوف فطالعته للحظة، ثم غيرت مسارها صوب الحجر الذي اعتادت الجلوس عليه، أسدل جفنيه للحظة يثبّط مشاعره المنفعلة ثم تبعها دون حديث، لأول مرة يشعر ببرودة الطقس خارجاً برفقتها، والقلق يأخذ مأخذه في عروقه وخافقه، حاوط غريب قدميه بذراعيه ثم ضمّهما إلى صدره بقوة، أسند رأسه فوقهما كأنما يستمدّ منهما الصمود أمام تقريع أروى التالي، لاريب بأنها مستاءةٌ منه الآن وهو يعذرها بكل صراحة، مرّت لحظاتٌ أثقل من جبلٍ عليه حتى استجمعت أروى بعضاً من طاقتها لتسأله بهمس: منذ متى؟

رفع رأسه إليها كطلقة رصاص فلم تنظر إليه لكنها أردفت بتوتر طفيف: أقصد منذ متى وأنت، وأنت، تحبني؟
نطقت الكلمة الأخيرة بخفوت كأنها ذنبٌ تستحي أن يسمعها أحد تنطقه، سرط ريقه بصعوبة بالغة ليجد الكلمات المناسبة في إيصال كلماته إليها لتوقن صدقه: منذ أن خُلقتُ من جديد...

رفعت حجريّ الزمرد ناحيته أخيراً فأصابت قلبه بسهم خفيّ، انعقد لسانه لحظة لينطلق كأنه آلة تسجيل: منذ أن فتحتُ عينيّ لتكوني أول ماالتقطه من دنياي، أبهى صورة وأجمل وجهٍ قد أقابله، وأنا على يقين أني لم أقابل مثله في حياتي السابقة، فمثل هذا الوجه لا يُنسى بسهولة...

طفت الحمرة فوق تقاسيمها وهي ترى الصدق يتساقط من عينيه، العيون لاتكذب ولا تخون، وهي مرآةٌ صافية لروح صاحبها، وماتراه أروى الآن مقلتيّ طفلٍ خُلِق حديثاً، دون وعيّ منها ابتسمت بسعادة ترفرف بين جنبيها، تكاد تقسم أنّ خافقها يقيم حفلاً صاخباً صمّ آذانها، وتخشى أن يصل صوته الى غريب الجالس هاهنا، قريباً منها، أخفضت عينيها بحرجٍ عندما أطالت النظر دون أن تشعر، لم تشعر أروى بخافقه الذي نبض فرحاً حين رأى بسمتها، لم يكن بحاجةٍ لسماع أي شيءٍ منها على الأقل الآن فهذه الملاك أمامه شفافة كصفحة الماء، ربما لم توافق على حبه علانيةً لكنها لم ترفض أيضاً، وهذا أعطاه دفعة أمل كبيرة للسعيّ بشراسة والحصول على موافقتها، سيعمل غريب على أن يكون لائقا بها، وفي ثوان وضع عقله الأساسيات التي يجب أن تسير حياته وفقها، وأهمها الحصول على عملٍ والاعتماد على نفسه، متناسياً كل المصاعب التي تحاوط أمنياته البعيدة، ملاكه اللطيف هنا وهذا يكفيه...

وصية رائد تنكرت على هيئة منامٍ أزعجها، استفاقت مياس منذ بعض الوقت بسبب كابوس لاتحب أن تتذكره، هبّت ناحية الحمام لتأخذ حماماً سريعاً يساعدها في التركيز، سرّحت شعرها وجففته على غير العادة ثم خرجت من الحمام مرتديةً بذلتها الرياضية السوداء، شعرت بالغرفة تضيق عليها فقررت الخروج علّ الهواء البارد يساعدها على التفكير السليم، اعتمرت قبعة البذلة فأخفت تحتها خصلاتها المجففة حديثاً حرصاً على صحتها على غير العادة أيضاً ثم هبطت إلى الأسفل، خطر لها الخروج إلى حديقة أروى لربما ساعدها هذا في تنقية أفكارها المتضاربة، ماإن وصلت بقرب الباب الخلفي حتى لمحت شخصين يجلسان هناك، لم تستطع تبيان ملامحهما في البداية بسبب الإضاءة الخافتة، لكنها وحين دققت النظر فتحت عينيها على وسعهما، هذه أروى؟! وتجلس برفقة شابٍ غريب لاتعرفه؟

تجهمت ملامحها بداية لكنه لن تُسئ الظن بأروى على الأقل، حثّت خطاها صوبهما فسمعتهما يتهامسان لكنها لم تفهم حديثهما، كانت أروى تبتسم باتساع حين شعرت بأحدهم خلفها، انتفضت كالمذعور وهي تستدير لتقابل وجه مياس الجاد، شحب وجهها دفعةً واحدة وجفّ ريقها فجأة، هربت الكلمات من بين شفتيها ومياس تضع يديها في جيبي سترتها الرياضية، وتدقق النظر فيها كأنما امسكتها متلبسة، فخرجت أحرف اسمها من فمها بارتعاب بائن: م م مياس!

نقلت مياس نظرها تالياً إلى الغريب الذي استقام بحاجبين منعقدين لمرآى هذه الفتاة الغريبة، وأكثر ما أقلقه كان منظر أروى المرتعبة حرفياً فأدرك معرفتهما لبعض، طالعته بتفحصٍ جليٍ وتغضن جبينها بغرابة وهذا الشاب ليس غريباً عليها، لم تكن تعرف شيئاً عن جلب غريب إلى منزل العائلة، لكنها بطريقةٍ ما استشفّت هويته حين لمحت الحرق تحت عينه اليمنى، حركت أروى شفتيها لتخبرها بتذبذب مرتعش وريق ناشف: م مياس، هذا غريب، الشاب الذي وجده أبي في المخزن.

سكتت لثانية ثم أضافت تخبر غريب وهي بالكاد تتطلع إليه: هذه مياس، ابنة عمتي عليا، وهي نقيب في الشرطة.
من ملامحها الحادة أدرك غريب أنها ليست فتاة عادية، ومن منظر أروى أيقن مركزها في عائلتها، تقدم بضع خطوات ليرفع كفه إليها قائلا ببسمة صغيرة: مرحباً حضرة النقيب، سررتُ بمعرفتك.
تقوّس فمها بابتسامة بلاستيكية ورفعت يدها مقابله معقبةً: سررتً بمعرفتك غريب.

في اللحظة التالية نقلت أنظارها إلى أروى مضيفة بنبرة جادة: هل نذهب أروى؟

حاولت الابتسام لكنها فشلت، هزت رأسها بالإيجاب ثم تحركت من فورها بقدمين تتلاطمين كل حين، وشعور الخزيّ يتلبسها كأنها سارق أمسكته مياس في منتصف العملية، شيّعهما غريب بنظرات مستغربة لحالهما، وبعض القلق اعتراه من إخبار مياس خالها بلقائهما، حينها سيخسر بالفعل، هذا كله لم ينفِ سعادته بمرآى فاتنته الجميلة، تبسم ضاحكاً وهو يتأملها تختفي قبل صاحبة الأسود، كيف لها أن تكون فتاة عادية ككل الفتيات على وجه البسيطة؟ إنها فتنة بقدمين وذراعين ووجه ملاك!

كيف تستطيع جمع البراءة والحنان والثقة في وجه واحد؟ بل أنى لها أن تقلب كيانه كله وتخطف أنفاسه بنظرة طفلة بالغة؟
يالله! بساطتها مفرطة وبراءتها مهلكة، وهو مُتيّمٌ واله بهواها...

دلفت إلى غرفتها وكفيها متعانقتان بتوتر واضح، أنفاسها متسارعة وقدميها ترتعشان كحال جسدها كله، قضمتْ أظافرها بارتباكٍ ثم أجفلت بخفة أثناء دخول مياس الغرفة بتهادٍ تخفي كفيها في سترتها، جفّ حلق أروى وهي ترى مياس تقترب ناحيتها وعلى محياها ملامح حيادية لم تعرف ماتخفيه خلفها، سرطت ريقها بصعوبة حين سألت مياس بصوت هادئ: إذاً أروى؟ ألا تريدين إخباري عمّا رأيته في الأسفل؟

زاد ارتباكها وتهربت من عينيها أثناء إجابتها بهمس خافت: م مياس أنا لم، أقصد أنا...
تأففت بانزعاج من نفسها وهي لاتستطيع تشكيل جملة مفيدة، لكنها رفعت وجهها المحمرّ بخجل شاهقةً بقوة ومياس تقاطعها بنظرات ماكرة: أنتِ تحبين هذا الشاب؟ صحيح؟

هربت الكلمات من فمها مجدداً إلا أن مياس حصرتها في الزاوية، تدرك أنها ذكية لكن ليس لدرجة أن تشعر أمامها بالغباء، وكمن قرأت أفكارها أردفت مياس: أنتِ شفافة للغاية أروى، ومايدور داخلك يظهر على وجهك، أنتِ لا تعرفين الكذب ببساطة.

سقطت على السرير خلفها عندما عجزت قدميها عن جمل ثقل جسدها المهتزّ، نفخت بامتعاض منزعج فتبسمت مياس بخفة على حالها، اقتربت لتجلس بجانبها وهي تربت على كتفها برفق قائلة بهدوء واثق: مابكِ أروى؟ ل
رفعت رأسها قائلة بفمٍ ملتوٍ كالأطفال: هل ستخبرين أبي وأمي؟
أردفت مياس برفق وهي تطوي ذراعيها في حجرها: لماذا لاتريدين مني إخبارهم؟
ضمّت شفتيها بقوة تحرك رأسها بالسلب فأردفت: نحن لا نفعل شيئاً خاطئاً مياس صدقيني.

أشارت الأخيرة بتفهم، ورغم يقينها من الإجابة إلا أنها تساءلت بمكر: إذاً تخميني في محله، صحيح؟
توردت وجنتيها بقوة فأشاحت بوجهها عنها لكن مياس ألحت عليها قائلة بتسلية: هيا أروى اعترفي، وإلا سأخبر خالي.
لم تكن جريئة للحد الذي يخولها الاعتراف هكذا ببساطة فأضافت مياس بتلاعب أثناء إيهامها بنيتها في الرحيل: كما تشائين، أظنّ أنني سأوقظ خالي كمال و...

انطلت الخدعة عليها فسارعت تضع يدها على ذراع مياس فتوقفها مجيبةً بعجالة: أجل مياس أنا أحبه.
انتبهت لزلّتها فأحنت وجهها المحمرّ فيما ابتسمت الاخرى باتساع وهي تعاود الجلوس، ثم عقبت بمزاح مستمتع: كبرت زهرة خالي الصغيرة وصارت تحب!
تذمرت أروى بانزعاح مصطنع: لا تبدأي مياس.
أرفت عقبها بجد: إنه حب عذري صدقيني، نحن لانفعل شيئا خاطئا أؤكد لك.

لوت مياس شفتيها بعدم اقتناع ثم قالت بهدوء جاد: الحب العذري لايكون ليلاً ياأروى، بل يكون تحت الشمس وأمام كل الناس، لا منتصف الليل كالسارقين.
حاولت النطق لتقاطعها مياس بصبر: أعلم أنكما لاتفعلان شيئا خاطئا، ليس لأني أثق به بل لأني أعرفك جيداً، لكن صدقيني ياأروى لقاؤكما في منتصف الليل غير لائقٍ أبداً.

تهدل كتفاها بإحباط جليّ لاحظته مياس بسهولة، مدت يدها لترفع وجه أروى قبالتها لتعقب بلطف لايخلو من الحزم: أروى، أنتِ لاتعرفين من هذا الغريب، اسمه وأصله وفصله لانعرف شيئاً عنهم، وإلى أن ندرك حقيقته عديني بأنك لن تخوني ثقة خالي كمال.
لم توبخها ولم تزعجها، لكن كلمتها الأخيرة مسّتها بطريقة ما فجعلت الدموع تترقرق في مقلتيها الزمردية، حركت رأسها بالإيجاب أثناء همسها: حاضر مياس، أعدك.

تبسمت الأخيرة وهي تمسك بحانبي وجهها قائلة بافتخار: هذه هي فتاتي.
قبلتها فوق جبينها ثم رحلت تالياً لتترك أروى تتلقفها أمواج التفكير، ماقالته مياس لم يكن به حرف خاطئ، لكنها أيضا لم تتعدّ الحدود مع غريب، هي لم ولن تخن ثقة كمال ولا تربيته...

انتهى أويس من سرد أحداث هذا اليوم على مسامع شقيقه بعد منتصف الليل، لكن مازن لم يتفاعل معه إلا قليلا، كان مختلفاً عن العادة وقد لاحظ أويس ذلك فتساءل: هل أنت بخير مازن؟

أجفل الأخير ناظراً إلى شقيقه بعيون متسعة كأنه تفاجأ بوجوده، تدارك نفسه وهو يعتدل جالساً أثناء تدلبكه لرقبته من الخلف، هز رأسه بخفة زافراً بعمق لكن جوابه لم يقنع أويس الذي أردف بعناد: لا مازن، هناك مايضايقك وهذا واضح على وجهك، هيا أخبرني مالأمر؟
طالعه مازن بتمعن للحظات وكأنما يفكر في أمر ما، قاطع تفكيره بغتة حين سأله: أويس، مارؤيتك لمستقبل علاقتك بمياس؟
لم يفهم مقصده فعقب: مالذي تقصده مازن لم أفهمك؟

بنفاذ صبر أضاف الثاني: أقصد هل ترى أن علاقتكما قد تتكلل بالزواج؟
لوهلة ارتفع حاجباه باستغراب لتوقيت السؤال، لكن والحق يقال فقد فاجأه فأجاب بصدق: تعلم؟ بحياتي لم أسأل نفسي هكذا سؤال، ولم أفكر فيما سيحدث بيننا مستقبلاً.
صمت لثانية ليرتفع صدره بتنهيدة مطولة ثم تابع: لكن لا أظنّ الأمر سيكون بهذه السهولة، لا تنسى أمر العداوة بين عائلتينا، لا أعتقد أن والدينا قد يتقبلان الامر ببساطة.

تلاقى حاجباه باستغراب مضيفا بلهجة استنكارية: لكن أخبرني أنت؟ كيف خطر ببالك هكذا سؤال؟
لم يجب مازن فوراً بل شرد لبضع لحظات جعلت الشك يتمكن من أويس، خاصة وأنّ هيئة مازن لم تبشر بالخير أبداً، انتبه لتحديق شقيقه فيه فأجاب بغموض مُقلق: ستعرف عمّا قريب.
لم يمهله الوقت لإضافة تعقيب عندما هبّ مازن واقفاً أثناء إلقائه الجملة الأخيرة: لقد تأخر الوقت للغاية، دعنا نرحل.

عدا خارجاً من العيادة بأكملها دون انتظار أويس حتى، فيما الأخير يتابعه بقلق مستريب حتى غاب عن ناظريه، مازن هذه الليلة لا يشبه شقيقه الذي يعرف، متأكد أنّ هناك مايشغله لكنه لايعرف ماهو، انتبه إلى صوت حفيف في الخارج فأسرع في الخروج بدوره، قبل أن يقوم أخاه الغريب بإغلاق العيادة عليه دون وعيّ منه...
..

بعد منتصف الليل، وقت مثالي لتصفية الذهن والتفكير، لاتخاذ قرارات مصيرية، في شرفتها حلست مياس تتلاقفها الأفكار كأنها كرة مطاطية تتقاذغها الاقدام، في داخل رأسها حفل صاخب لا تستطيع فهم شيءٍ منه، منذ فترة وهي تعايش ضغوطاً أهلكتها، من قضية الخفاش إلى وفاة وىد، إلى القلب الذي دقّ ولا تريد الاعتراف، إلى خيانة صلاح وحماقة أويس، إلى اكتشافها عودة والدها وإخفاء أقرب الناس إليها حكايته عنها، وأخيراً وفاة رائد، أحداث كثيرة ومتلاحقة صعب على أي عقل بشري تحملها.

حضورها لجنازة رائد صديقها الصدوق وشقيقها الذي لم تنجبه أمها، كانت بمثابة القشة التي قصمت عقلها الججري، لأول مرة في حياتها تسمح لقلبها الندخل في التفكير، لأول مرة تسأله وتريد منه جواباً صادقاً: هل تسامحه؟

مازالت تذكر أول وآخر لقاءٍ بينهما، استجداؤه لمسامحتها كان لها أبلغ الأثر في نفسها المشتاقة لحنان الوالد، لكن الأمر ليس بهذه السهولة، صدأ الجراح داخلها مازال يلحّ عليها، ليس سهلاً أن تأتي على كرامتها وتذهب إليه، في هذه اللحظة قفزت وصية رائد لتتردد في ذهنها كخلفية مؤثرة: والدكِ مياس، لاتقسي عليه وسامحيه، فالحياة قصيرة.

تأففت بانزعاجٍ عندما ضربت أشعة الشمس الذهبية مقلتيها السود، لم تنتبه فعلاً إلى الشروق إلا اللحظة، اعتدلت جالسةً وهي تدلك رقبتها من الخلف، المسكينة ستصاب بالديسك إن ظلت تنام على هذه الحال!
تعالى رنين هاتفها فاستغربت الأمر، من ذا الذي يتذكرها في هذا الوقت المبكر للغاية؟

استقامت متجهةً الى الداخل لتستلّ هاتفها فوجدته رقماً غريباً، توارد إلى ذهنها بدايةً أن يكون الخفاش، لكنه يتصل عادة من رقم خاص ولاتعتقد أن يكون هو، أجابت الاتصال بصوت واثق: نعم؟
من الناحية الأخرى أتاها صوت ذكوري أجشّ: صباح الخير، هل أنجدث الى النقيب مياس يونس؟
بحاجبين منعقدين بتفكير قالت مياس بريبة: نعم انا هي، من معي؟

تنهد الآخر براحة مجيباً بعد هنيهة: أنا الطبيب ربيع سالم، المسؤول عن علاج السيد عمار يونس.

دون إرادة منها ارتجفت يدها فوق الهاتف، انقطع نَفسها لثانية وهي تلقي بجسدخا على السرير، خوفٌ عظيم علق في حلقها تشكل على هيىة غصة خانقة وهي تستشعر أمراً غير حميد من خلفه، في حين تابع الطييب حديثه دون علمه بما حصل معها: أعتذر على اتصالي في هذا الوقت المبكر، لكني أحادث النقيب رائد منذ يومين ولا يجيب على اتصالاتي، وكان هو من أعطاني رقم هاتفك لأتصل بك في حال تعذر عليّ الوصول إليه.

طال صمتها دون إجابة فصاح الطبيب: حضرة النقيب؟ هل تسمعينني؟
أسدلت جفنيها لتجترع الغصة التي سدّت تنفسها قائلة بهمس خافت: أسمعك حضرة الطبيب، تفضل كيف أستطيع خدمتك؟

لم يتأخر الآخر في الجواب المستاء: السيد عمار يرفض متابعة العلاج، حاولتُ معه مراراً لكنه لم يستمع لي، وهو بهذه الطريقة يضرُّ نفسه ويساهم في نشر الخلايا الخبيثة في جسده بطريقة أسرع، وقد عجزتُ عن التصرف معه تماماً، فلو سمحتِ حضرة النقيب يجب أن تتصرفوا في أسرع وقت.

دارت الدنيا من حولها وهي تضغط على شفتيها تحاول حبس الدموع، وشعور بالاختناق كأنّ قبضة خفية امتدت إلى صدرها فتسحب روحها جبراً، ارتخت يدها عن الهاتف فسقط فوق الفراش، لم تشعر بالدموع التي نازعت مقلتيها لتتحرر بسهولة، جرت فوق خديها دون وعيّ منها، صوت ضميرها يلطمها على وجهها بقسوة يزمجر بقوة: أنتِ السبب، أنتِ السبب...

نفخت بحنق من نفسها وهي تمسح دموعها بعنف ثو تغلق عينيها بيديها لثوان، انتفضت في ثانية لتتجه إلى الحمام وتبدل ملابسها، وقد انتوت الذهاب إليه وتوبيخه، هل يجب ان يسير كل شيء كما يريد هو؟ يظهر في حياتها عندما يرغب ويغادر حين يشاء؟ هل الدنيا سائبة بلا قوانين؟

بالكاد انتظرت عليا حتى أشرقت الشمس لتصعد إلى غرفة مياس، وقد قررت الحديث معها في الأمر الذي شغل تفكيرها، طرقت الباب فلم تأتها الإجابة بداية فظنت أنّ ابنتها مازالت نائمة، دلفت ببسمة حنون لكنها وجدت الفراش فارغاً، فجالت بعينيها لتمسح الغرفة حين أطلت مياس خارجةً من الحمام مرتديةً ملابس الخروج، استغربت تواجد والدتها في هذا الوقت المبكر فسألتها: مالأمر أمي؟ أأنتِ بخير؟

تقدمت عليا نحوها مجيبة برفق مستهجن: أنا بخير حبيبتي لاتقلقي، لكن هل ستذهبين الآن؟
استدارت مياس صوب المرآة لتهندم ملابسها بعجالة أثناء إجابتها: أجل أمي، لديّ بعض الأعمال الهامة.

سيطرت الخيبة على عليا وعلى مايبدو فإن عليها إرجاء الحديث ليوم آخر، حركت رأسها بتفهم غير راضٍ أثناء شرودها، فلم تنتبه إلى مقلتي مياس التي تعلقت بانعكاس صورتها على المرآة، بدى شبح حديث طويل في مقلتيها واضحاً ولم تعجز مياس عن قراءته فسألتها بشكل مباغت: مالأمر أمي؟
أجفلت عليا وانتبهت لتوّها إلى وجه مياس التي تابعت بنبرة تحقيق: أهناك مايشغلك وجئتِ لإخباري به؟

لم تحبذ الكذب عليها، كذلك لم ترد محادثتها دون تمهيد فعقبت ببسمة شاحبة: لاتهتمي مياس، سنتحدث فيما بعد.
حاولت التحرك بغية الخروج لتوقفها مياس بندائها، التفتت ناحيتها فرأت مياس تخطو إليها أثناء حديثها المتردد: أمي، هناك ماأودّ إخبارك به.
ناظرتها باهتمام منتظرةً لحديثها التالي، وإن لم تدرك كنهه لكنها استغربت التردد البادي على وجه مياس، والتي تابعت بغموض مُقتضب: إنه يرفض العلاج.

تغضن جبينها بعدم فهم فأضافت الأخرى بهمس متردد كأنّها تقول كلمة بذيئة: أقصد، أبي!
فتحت عليا عينيها على وسعهما ماإن استوعبت مغزى حديث ابنتها، طالعتها بدهشة دامت للحظات جعلت مياس تتململ مكانها كما لو أنها تنتظر العقاب، لكنها أردفت بنزق مع عقدةٍ بين حاجبيها: حادثني الطبيب المسؤول عنه قبل قليل، قال إنه يرفض متابعة الجلسات وهذا سيؤذيه أكثر.

أنهت جملتها بزفير طويل كمن ألقى عن كتفيه حملاً ثقيلاً، في حين كانت عليا تناظرها بذهول لم تُطله أكثر فابتسمت باتساع هامسةً بنبرة متفاجئة: تريدين أن تزوري والدك مياس؟
هزت رأسها بالإيجاب قائلة بتوضيح: لو رغبتِ أنتِ بإمكانك المجيء أيضاً!
اغرورقت عيناها بالعبرات عندماةسألتها: هل سامحتهِ؟

شهقت نفساً عميقاً لتتهرب من عينيها لحظات، ثم عادت تتطلع إليها وهي تجيبها بصدق: قبل شهر واحد لم أكن أطيق سماع اسمه، لكن في المرة الفائتة عندما قابلته، أرادني أن أسامحه حتى أنه توسل لهذا وحين رفضت، أصابته أزمة قلبية مفاجئة جعلتني أشعر بالذنب تجاهه.
ابتسمت ببساطة ورفعت كتفيها اثناء ترديدها لكلمات رائد: دعينا نسامحه أمي، فالحياة قصيرة.

وهي تحاوط وجنتيها بكفيها أثناء قولها: كم أنا فخورة بكِ مياس، بارك الله بك ياابنتي.
قبلتها على جبينها بينما دموعها تعبر عن دهشتها و سعادتها بقرار مياس الحكيم، القسوة لاتجلب إلا القسوة، كمن يضرب رأسه بالجدار فلن يتأذى سوى رأسه هو، ربتت على كتفيها هامسةً وهي تكفكف عبراتها بيدها: سأبدل ملابسي حالاً.

جرت من أمامها فوراً فسقطت بسمة مياس المُدعية، نفخت بثقل وهمٌ كالجبل حطّ فوق رأسها، اتخاذ القرار ليس بأصعب من التنفيذ، كيف ستقابله الآن؟ بمَ ستخبره؟ وكيف ستنقل إليه خبر وفاة رائد؟
كلها أسئلة لم تجد مياس لها إجابة ولن تفعل الآن، قررت ترك الأمور تجري كما يجب دون ضغط الظروف، فلا تدري لعله خير!

لم يتغير حاله كثيراً، مايزال على وضعه رافضاً للعلاج الذي لا ينفع سوى بحرق خلايا جسده، يتطلع من نافذته الزجاجية يتأمل مدينته الساحرة،
حقاًغريب أمر البشر!
كيف له أن يتعلق ببضع جدران ومبان وشوارع مرصوفة؟ كيف له ألا يشعر بالانتماء إلا بينها؟ وحين يبتعد عنها تغدو كأنها الهواء الذي يهبه الحياة؟

سمع قرع الباب لكنه لن يجيب، لا أحد قد يدخل من هذا الباب قد يسعده سواهما، وهما بالطبع حلم بعيد المنال كشهابٍ يمرّ كل ألف سنة مرة.

سمع صرير الباب لكنه لم يستدر بدايةً، ريحٌ جميلة هبّت منه جعلت خافقه يشهق اشتياقاً، بعنف أدار وجهه ليجدها هناك، ماثلةً أمام الباب بقامتها وعنفوانها، بطلتها القوية التي تضاهي الرجال هيبةً وكبرياء، وملامحها الحادة التي شابهت والدتها إلى حدٍّ كبير، همس باسمها وهو يصوّب مقلتيه الدامعة عليها فتقابله بوجهٍ واجم، جامد الملامح لا يظهر حقيقة مايحدث داخلها من صراع، تقدمت بخطى ثابتة لها صدىً وقد أخفت كفيها المرتجفة في جيوب سترتها، وفي رأسها يدور سؤال وحيد، كيف عادت إلى هنا بقدميها؟

حقاً لاتعلم!

بحياتها لم تخطُ خلف قلبها، دائماً ماكان عقلها هو المقياس لكل الأمور، حتى المشاعر تقدمها بحساب، هذا النابض يسار صدرها لا دور له في حياتها سوى أنه يضخ الدم لأعضاء جسدها، لكنّ وصية رائد قضّت مضجعها ليلة أمس، لم تستطع أن تغفو ولو للحظة واحدة بعد استيقاظها، تأخذها موجة لتعيدها الأخرى ثم تصدمها بصخرة الواقع، ثم أتى اتصال ذلك الطبيب كخطّ الفصل، عندما أدركت، بطريقة أو بأخرى، أنها سبب عزوفه عن العلاج لم تقبل، آلمها قلبها لمجرد التفكير أنه قد يموت، لأسبوعٍ مضى كانت تكرهه، لكنها الآن فعلاً لا تعرف حقيقة شعورها نحوه، إنه إحساس لم تجربه من قبل...

قضمت شفتها السفلى حين توقفت أمامه مباشرة ومقلتي عمار الغائرة باتت كريمة بالدموع، تسابقت عبراته فوق وجنتيه المحدّبتين، محياه انقلب للون الأصفر الشاحب، حاول الجلوس بصعوبة فيما هي تقف أمامه باعتداد لاتستطيع التخلي عنه، دام الصمت هذا لفترة قصيرة استجمعت خلالها شجاعتها الهاربة، زفرت بقوة قائلة بنزق طفيف: لماذا ترفض العلاج؟

ابتسم رغماً عنه وهو يرى روح المحقق تتلبس ابنته الماثلة أمامه، لا يصدق لغاية اللحظة أنها هنا، لقد عادت إليه ولايهتمّ للسبب حقيقةً المهم أنها تقف معه وتتحدث، تابعت مياس حديثها بانزعاج مصطنع: أخبرني الطبيب ربيع أنك لاتريد استكمال جلسات العلاج، ألا تعرف أنك تؤذي نفسك هكذا؟

اتسعت بسمته فتضاعف حنقها منه لتردف بتوبيخٍ: أتظن أنك هكذا ستجعلنا نسامحك؟ إذاً فأنت لا تعرفنا جيداً، نحن لا نتبع عواطفنا ياسيد عمار.
هز رأسه أخيراً مستجيباً لها وفرحته لاتوصف لقد قالت اسمه حتى وإن كان تقريعاً، ليجيبها بنبرة هادئة أخبرتها عن كمّ سعادته: بلى أعلم، لكني لا أهتمّ، مادمتُ رأيتك يامياس لا أمانع أي شيء حتى الموت.
إياكَ أن تقول هذا.

نهرته بسرعة قاطعةً المسافة بينهما لتمثل أمامه مباشرة، مجرد نطق الكلمة توجعها وهي التي لم تتوجع من قبل، أدركت زلّتها لكنها لم تعبأ بل تابعت بصوت مختنق: الموت غادر أخذ مني أحباءً لم أتخيل فقدهم ذات يوم، ولن أحتمل هذا الألم مجدداً.

دموعها الصادقة تقاطرت من مقلتيها معلنةً عن الصراع الدائر داخلها، أخفضت أنظارها عنه حتى تمالكت نفسها ثم رفعت رأسها من جديد عندما تابع همسه بنشيج: سامحيني يامياس أرجوكِ، أعلم أنني أخطأتُ وخطأي يصعب غفرانه، لكنني أحبك، ولا أطمع سوى بأن تسامحيني صدقيني.
كبرياؤها أعتى من أن تخبره بأنها فعلت، وأعند من أن تعترف حتى أمام نفسها، ابتعدت لبضع خطوات لتقول بجمود، متغاضيةً عن كل ماقاله: هناك من أتى معي لزيارتك.

قطب جبينه بعدم فهم فرآها تصوّب نظراتها ناحية الباب ففعل المثل، تجمدت مقلتيه على وجه عليا التي دلفت بتردد، وابتسامتها التي جاهدت لرسمها كانت فاقدة لرونقها، ملامح عمار المتغيرة جذرياً بعثت داخلها إعصاراً مدمراً، بدى عليه التعب جليّاً وواضحاً، تقدمت عليا حتى وصلت بجانب مياس التي كانت تنظر لوالدها المتفاجئ فقرأت في نظراته ندماً واضحاً، تطلعت ناحية والدتها فرأت الحنين يلتمع في مقلتيها، تضاربت مشاعرها فلم تعد تسيطر على دموعها، خنقها هذا الجوّ المشحون فأسرعت لتخرج بخطىً متلاحقة حتى باتت في الرواق، أوقفت ممرضةً لتسألها عن مكان المقهى التابع للمستشفى، ثم تابعت خطاها إلى الأسفل لتجلس على أقرب طاولة صادفتها، احتضنت وجهها بين كفيها زافرةً بعمق في محاولةٍ منها لتتخلص من الغصة التي تشكلت في حلقها ولاتدرك سببها، لاتعرف كم ظلّت تائهة هكذا حتى انتشلها رنين هاتفها الماثل فوق الطاولة، طالعت الشاشة فوجدته رقم أويس، قطبت جبينها باستغراب ثم أجابت الاتصال ليأتيها صوت أويس صارخاً بحماس: مياس، لقد وجدناه، عرفنا هوية الخفاش...

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة