قصص و روايات - قصص بوليسية :

رواية حي الورد للكاتب علي اليوسفي الفصل السابع

رواية حي الورد للكاتب علي اليوسفي الفصل السابع

رواية حي الورد للكاتب علي اليوسفي الفصل السابع

(((كاذبٌ من قال أنّ للحب تاريخ صلاحية، تلك المشاعر المقدسة مستعمرٌ يستحيل جلاءه)))
//ع/ي//.

الاعتداد بالعائلة والكبرياء الموروث، شيئان لم يعرفهما مطلقاً، وذلك عائدٌ إلى طفولته المُتعبة في دار للأيتام، وضرب الأطفال الأكبر سناً له، تلك القسوة التي تلقّمها عُدي صغيراً ساهمت في خلق شخصيته القاسية، وأكسبه ذلك أيضا كراهية لكل شخص معتدٍ بعائلته ومحتمٍ بها.

تقدم الرجلان من ورد بناءً على طلب رئيسهم، فيما وقف الأخير يطالع عُدي بنظرات قاتلة ولم يتحرك قيد أنملة، سارع والد بسام ليقف أمام ورد مُتوسلاً عدي بنبرة راجية: أرجوك سيدي أعذر هفوته، إنه مجرد فتى طائش.
لم يزل عدي يضرب العصا على يده بخفة ثم يرفعها وهو يطالع ورد بنظرات دونية قائلا ببرود: أخبره أن يعتذر.

كان عُدي متأكداً من رفض ورد للاعتذار، ولم يخيب الأخير ظنه عندما صدح صوته رافضاً بثبات: لم افتعل ذنباً أحاسب عليه وأعتذر، فليفعل مايشاء.
ابتسامة عدي كانت باردة، قاتلة، دفع أحد الرجلين والد بسام من أمام ورد فاندفع رامي متدخلاً قبل ان يأخذوا رفيقه، قائلا بتوسل: أرجوك سيدي خذني أنا مكانه، لكن لا تأخذ ورد أرجوك..

أصابه التقزز من مشاعر رامي الصادقة تجاه رفيقه فقال وقد بان الاشمئزاز على ملامحه: تفتدي رفيقك بنفسك؟ أتدرك ما الذي رميتَ نفسك فيه يا ولد؟
تحرك رامي حتى غطى ورد مجيبا: افعل بي مابدى لك، المهم لاتأخذه هو أتوسل إليك سيدي.
لم يرضَ ورد بفعلة رامي فحادثه باستهجان: مالذي تفعله يارامي؟ لماذا ترمي بنفسك في التهلكة؟
استدار رامي بخفة صوب رفيقه ليجيبه بنزق: انظر الى حال بسام وأخبرني، هل ستتحمل هذا؟

صاح باستنكار: وهل ستتحمله أنت؟
جزّ رامي على أسنانه بضيق ليصرخ به: أنسيتَ وضعك يا ورد؟ أنت لن تتحمل لطمة من أحدهم.
قالها باستهجان وهو يشير إلى ضخامة جسد عدي كحال الرجلين الذين رافقاه، قهقه عدي بسخرية ليقطع حديثهما ثم تحدث متهكماً: كأنكما تتعازمان على وجبة طعام؟ لكن لا تخافا لكل منكما حصته.
تحولت نبرته الى البرود وهو يأمر أتباعه: احضروا كلاهما.

خرج عقب أمره هذا ليعلو الصراخ داخل الغرفة، كان صوت رامي أعلاهم وهو يتوسله أن يترك ورداً ويأخذوه هو، و صراخ والد بسام يلتمس منه الرحمة للصبيين لكنه كان كمن يحادث جداراً، لم يهتمّ عدي بكل هذا وتابع مسيره حتى خرج من المشفى بأكمله ووقف بجانب شاحنة الشرطة ينتظر قدوم رجاله، لم يطلْ الانتظار حتى ظهر أحدهما وهو يدفع رامي المكبل من ظهره، والذي سارع يقف أمام عدي يرجوه للمرة الأخيرة بلهفة: سيدي أتوسل إليك وأقبل قدمك إن أردت خذني مكان ورد...

قاطعه عدي عندما أشار برأسه للرجل ليقحم جسد رامي عنوةً في صندوق الشاحنة الكبير حيث يوضع أبشع المجرمين وركب بجواره، تبعهما الرجل الثاني يرافقه ورد والذي خاطب عدي بنبرة قوية: لا شأن لرفيقي بما فعلته أنا فاتركه.
تبسم عدي بخبث وربت على كتف ورد ثم اقترب ليهمس قرب أذنه بفحيح كريه ساخر: لا تقلق، لن ينقص جزاءه من نصيبك...

ابتعد في اللحظة التالية متجهاً إلى مقعد الراكب، في حين تولى رجله مهمة إدخال ورد إلى جوار رامي، أغلق باب الصندوق من الخارج ثم اتجه إلى مقعد السائق ليقود الشاحنة إلى مخفر الشرطة، وابتسامة عدي الحقيرة تتسع أكثر فأكثر.

تزامن رحيلهم مع وصول حسام ومازن إلى المشفى حيث يعملان، تجعد جبين مازن باستغراب وهو يترجل من سيارته سائلاً رفيقه: ما الذي تفعله سيارة الشرطة هنا؟
بان الامتعاض واضحاً على محيا حسام أثناء إجابته: هناك شاب متهم بقضية مخدرات جلبوه إلى هنا منذ بضعة أيام.
أغلق باب السيارة مستفهماً: محاولة انتحار؟
أشار حسام بالنفي وقد ترجل بدوره قائلا بازدراء: بل كاد يموت تحت التعذيب.

وقف مازن بجانبه وهما يطالعان الغبار الذي خلّفته شاحنة الشرطة ليتحدث مازن بدهشة: يا رجل! رئيس المخفر هذا مريض نفسي!
اكتفى حسام بالتأفف لذكر ذلك المجرم البشري، في حين ظل مازن ينظر إلى الشاحنة التي كانت تتضاءل شيئاً فشيئاً، فلم ينبهه قلبه بأن تلك الشاحنة تحمل أحد أعزائه، ولن يعرف...

وصلت السيارة التي تحمل أفراد عائلة الحكيم إلى القرية المنشودة، والتي كان الكرم والطيب سمة أهلها الغالبة، خرج الابن البكر للشيخ رمضان لاستقبال كمال، بينما خرجت سيدة بدى عليها الوقار لاستقبال أم كمال وزوجته من بوابة حديدية كبيرة، حيث كانت مضافة الشيخ رمضان مفصولة عن البيت الذي يسكنه أهل بيته، لمنح نسائهم خصوصية وإبعادهنّ عن أعين المتلصصين، كان استقبال أهل القرية لكمال حافلاً حتى أن أولاد الشيخ رمضان نحروا جملاً على شرفه..

جلست النساء في غرفة كبيرة من ضمن منزل الشيخ، رغم عدد النسوة الكبير الذي حضر لكن سعاد كانت مفصولةً عنهن، لم تتشارك معهم إلا قلةً من الاحاديث، تشعر بشيء خفي أشبه بأفعى صغيرة تزحف عبر أوردتها لتصل إلى فؤادها، ثم تلتفّ حوله وتخنقه رويداً رويداً، شاردة معظم الوقت ولم يخفى شرودها هذا على عين الحاجة رائدة، لكنها أسرّتها في نفسها لحين عودتهم، ظلت سعاد على تيهها ذاك حتى حان وقت الغداء، ورغم عدم شهيتها للطعام لكنها حاولت مجاراة إلحاح مضيفتها زوجة الشيخ رمضان، الحاجة منال، بتناول بضع لقيمات من لحم الجمل الشهي، حاولت طرد ذلك القلق المستبدّ بها لتتشارك مع المتواجدات بضع كلمات ترميها هنا وهناك، علّ هذا يطرد عنها الجزع والخوف غير المبرر.

جلست ابنة الشيخ رمضان مها المتزوجة حديثاً معهن فخاطبتها أمها: لا تتناولي من هذا اللحم يا ابنتي.
جذبت سعاد تلك الكلمة فتحدثت باستغراب موجهةً حديثها إلى الحاجة منال: لماذا منعتها عن الطعام ياخالة؟ دعيها تأكل ما تريد!
وضعت منال عظم اللحم من يدها لتجيب سؤالها بتعابير سَمِحة: هي حامل في شهرها الثالث يابنتي.
لم تدرك سعاد بعد مغزى مقالها فهتفت تسأل مجددا بسذاجة وبسمة صغيرة: وما شأن الحمل بطعامها؟

تبادلت منال ورائدة نظرات ذات مغزى وابتسامات صغيرة ثم أجابت الحاجة رائدة قائلة ببساطة: لحم الجمل يؤخر الولادة للحامل، هكذا قال الأقدمون.
ارتسمت على ملامح سعاد الغرابة في حين تابعت نطقت إحداهنّ وقد بان الاستنكار واضحاً في نبرتها: ماتلك الخرافات التي تتبعونها ياخالة؟ ما علاقة لحم الجمل بتأخر الحمل؟

حدجتها منال بنظرة غير راضية لتدخلها السافر في هذا النقاش، في حين لم تأبه دعاء بغضب منال المرتسم على محياها فعقبت ساخرة: لا أفهم، إن تناولتُ من لحم الجمل فهذا يعني أنها ستعطيني صفاتها؟ وحتى مدة حملها؟
قهقهت بتهكم لتضيف وهي تحرك رأسها بيأس من سذاجة الكبار: والله تلك الخرافات هي من جعلتنا في ذيل الحضارات دوماً...

تدخلت الحاجة رائدة في الحديث قائلة بلهجة مؤنبة لتنهي النقاش وتحرج دعاء: من المعيب أن تسمي حكم القدماء بالخرافات يا ابنتي، وعلى أية حال فالحذر لن يضرّ صحة مها وجنينها.
التزمت دعاء الصمت على مضض، بينما تابع البقية تناول طعامهم باعتيادية، فقط تلك اليد الخفية التي تقبض على عنق سعاد فتحرمها الراحة، تنهدت بعمق لكن ظل ذلك القلق يلازمها، وهل تُلام الأم على إحساسها؟

دلف أويس إلى مكتبه ليجده فارغاً تماماً، قطب جبينه بذهول تحول إلى انزعاج جليّ، كأن لم يكفه مااكتشفه ليلة أمس عن مياس ونسبها لآل الحكيم، تلك العائلة التي يعرف مدى كرهها لعائلته، ليأتي الآن وقد تمّ تفريغ مكتبه دون إذنه حتى، نفخ من فمه بقوة وماكاد يلتفت حتى ناداه طارق مبتسماً باتساع: لاتقلق لم يسطو أحدهم على مكتبك.
طالعه أويس بتفحص يسأله بلهجة باردة: أين أغراض مكتبي إذن؟

بدى طارق مستمتعاً وهو يشير له بحاجبيه بنبرة متسلية: لقد تمّ نقلهم إلى مكتبنا الجماعي.
سقط فكه وهو ينظر حيث أشار طارق في آخر الرواق، حيث كانت غرفة كبيرة وقد اتسعت لخمس طاولات ومثلهم مقاعد خشبية، تنهد بضيق ومسح على وجهه وقد بدى على وشك فقدان صبره، عاد ليتطلع الى طارق ويرمقه بنظرة غير راضية مُتحدثاً من بين أسنانه بسخط: مرتاحٌ أنت هكذا صحيح؟

توسعت حدقتا طارق بدهشة لتبدله السريع في حين تابع أويس موبخاً: وضعتنا جميعاً تحت رحمتها والآن ننفذ أوامرها مرغمين، فهل أنت سعيد؟
ضاق طارق ذرعاً باتهامات أويس ولومه الدائم فهتف بامتعاض بائن: ألا تلاحظ بأنك تلومني كما لو أنني وحدي من اختارها؟

رفع أويس سبابته في وجه طارق ليقاطعه فتراجع الأخير تلقائياً بفزع، لم ينبس أويس بحرف فقط زفر بضيق وجزّ على فكيه بقوة حتى سُمِع صرير أسنانه، صدح صوت هاتف طارق لينقذه من غضبة أويس الذي تركه مكانه وغادر الى المكتب الجديد يضرب الأرض بقدميه، بينما زفر طارق بقوة وقد شعر كأنه على وشك الاختناق فعلا، أخرج جهازه ليجد رقم خطيبته الغاضبة دوماً، ابتسم تلقائياً وهو يجيب الاتصال بلهفة: حبيبتي، لن يبدأ يومي دون سماع صوتك...

للحظات الأولى لم يسمع صوتها حتى قطب جبينه بغرابة فهتف: داليا؟ عزيزتي أين أنت؟
أجابته قهقهات خافتة في البداية تحولت الى ضحكات صاخبة فتهدل كتفاه بارتياح لما عرف صاحبتها فتحدث بتهكم: هويدا! هل تحيكان مؤامرة ضدي الآن،؟
شهقت داليا لتجيبه بصراخ وقد بدى كأن شقيقته فتحت مكبر الصوت: نحن من يُحيك المؤامرات ياطارق؟ نحن؟ إننا بُراء مما تتهمنا..

كشر طارق بسخرية واضحة على ادّعاء داليا بينما حادثته شقيقته الكبرى بصوت حمل مزيجاً من التهكم والعتاب: لا نُحيك ضدك شيئاٍ يا شقيقي العزيز، لكننا اشتقنا لسماع صوتك الجميل..

شعر بالخزي يعتريه خاصة وأنّ شقيقته هويدا، الطبيبة الأرملة على حق، فهو نادراً مايسأل عنها أو يهاتفها، مسح على رقبته من الخلف وحاول سريعاٍ تجاوز عتابها فقال بتوتر وحرج: اسمعي هويدا، كنت أنوي دعوة داليا على العشاء، ما رأيك أن تحضري معها؟ صدقيني سأكون سعيدا بقدومك.
تحدثت هويدا بصوت ساخر: لا ياعزيزي، الآن تتحدث هكذا، لكنك عندما تحاول مغازلتها ولن تستطيع بسببي ستندم على دعوتي، وستراني عازلاً بينكما.

استمع الى داليا ترجوها بنبرة ذات مغزى: لا تقولي هكذا هويدا. ، أساساً أنا لا أخرج إلا برفقتك.
صاح طارق باعتراض وقد شعر بأنه المقصود بكلام داليا. : أتقصدين أنني بخيل؟
كركرت داليا لتجيبه من بين ضحكاتها بتهكم: أعوذ بالله يا عزيزي، أنت تعديتَ هذه المرحلة أصلاً.
غزى الذهول محياه لإجابتها بينما تحدثت هويدا من بين ضحكاتها بتشفي: تستحق هذا.

لانت ملامحه حتى تحولت الى ضحكات خافتة وهو يستمع إلى ضحكات الفتاتين ثم تحدث بانزعاج مختلق وهو يحرك رأسه للجانبين بيأس: أساساً الذنب ذنبي لأنني أحببتُ ان أعوضكما.
اختفت ابتسامته عندما لمح مياس قادمة من آخر الرواق فأجلى صوته وقد تحولت نبرته إلى الجدية مخاطباً هويدا: لديّ اجتماع هام الآن، سأحادثكِ عندما أنتهي.

أغلق جهازه تزامناٍ مع وصول مياس لتقف أمامه وقد زوت ما بين حاجبيها لتسأله باهتمام: هل من خطب حضرة النقيب؟
ابتسم طارق ببشاشة مجيباً: لا أبداً سيدتي، كنت أحادث خطيبتي.
تبسمت بخفة وهي تحرك رأسها بتفهم مضيفة بتساؤل حَذِق: هل أنت خاطب؟ لأنني لم أرَ في يدك خاتماً!

سقطت ابتسامة طارق ونظراته تنخفض تلقائياً إلى إصبع يده ليتأكد من مقال مياس، وقد اكتشف الطامة الكبرى، لاحظت مياس شحوب وجهه فأضافت: حتى يوم أمس لم تكن ترتديه.
رفع طارق رأسه إليها وقد ارتسمت على مُحياه ملامح باكية متسائلاً بتلقائية كأنه يعرف مياس منذ زمن: وأمس أيضاً؟ لا تخبريني بأني أضعته!
توسعت بسمتها حتى استحالت لضحكة خافتة وهي تسمع تذمر طارق: داليا ستعلق مشنقتي الليلة بلا ريب..

اقتربت منه خطوة إضافية لتربت على كتفه قائلة بهدوء جاد: ابحث عنه عندما تذهب إلى منزلك حضرة النقيب، على الأغلب فقد نسيته على مرآة الحمام..
أضاء حديث مياس ذاكرته فتوسعت عيناه ناطقاً بدهشة: نعم، أعتقد أنك على حق، لقد نسيته على الرف منذ يومين عندما كنت أحلق ذقني.
هزت رأسها بتفهم قبل أن تضيف ببسمة صغيرة: إذا وجدته فحاول ألا تخلعه من جديد، فهذا الأمر سيضايق خطيبتك.

حرك رأسه متفهماً شاكراً إياها بامتنان ونبرة كوميدية: شكرا لك حقا، لولاك لأعدمتني خطيبتي اليوم.
كان بعض العمال مازالوا يوضبون المكتب المشترك، بينما جلس كلاً من صلاح وإيهاب يراجعون بعض المعلومات عن القضية التي شغلتهم لفترة ليست بقصيرة، تأفف أويس وهو يلقي مغلفاً ما من يده بلا مبالاة وأعاد ظهره للخلف، انتبه صلاح إليه فتحدث بمكر: ما الأمر أويس؟ ألم يعجبك تنسيق المكتب؟

رمقه الأخير بنظرة مُمتعضة قبل أن يستقيم من مكانه ليقف مُستنداً على إطار الباب مراقباً طارق، سرح مُفكراً وهو يرى ضحكات طارق وابتسامته الصادقة، كانت نابعةً من القلب أثناء محادثته لخطيبته، تنهد بملل وهو يشيح بنظره للجانب الآخر قبل أن ينتبه لقدوم مياس من بعيد، قطب جبينه وهو يطالعها بخطواتها القوية التي تهتزّ لها الأرض، وهندامها الأسود الكامل، راقبها وهي تقف أمام طارق وتحادثه ثم تبتسم له، شعور مجهول فسّره على أنه غضب ضرب داخله وتلك الهالة الفريدة تحاوطها، انتبه لضحكاتهما سوياً كأنهما صديقان متذ زمن فهمس لنفسه بتذمر: جيد، هذا ماكان ينقصني حقا، سرقت مكاني والآن ستسرق صديقي الوحيد.

انتبه لقدوم كليهما نحوه فسدّد نحو طارق نظرة مُغتاظة مخيفة، وقد أخافت الآخر فعلا، كانت مياس قد أصبحت تقف بجانبه عندما هتفت بجدية هادئة: صباح الخير.

أجابها الجميع فيما عدا أويس الذي رمقها بضيق دون رد ثم تجاوزها عائداً إلى مكانه، وللحق لم تأبه مياس به فقد تجاوزت فظاظته بسلاسة، جلست خلف مكتبها قرب الباب، و للمصادفة الغريبة كان مكتبها قرب طاولة طارق، اقترب إيهاب ليقدم إليها مغلفاً أسود ليس بصغير قائلا باحترام: سيدتي، هنا تجدين كل المعلومات التي عملنا عليها خلال عام ونصف.

هزت رأسها بتفهم لتشكره ببسمة مقتضبة ثم فتحت المغلف أمامها، ضغط أويس على نفسه عندما ساد الصمت ليعلم أنها ستراجع كل حرف في المغلف فهتف بامتعاض واضح مع مسحة سخرية: هل سنجلس هكذا دون عمل فيما تقرأين كل كلمة كُتبت في هذه الأوراق؟

رفعت ليلها الأسود نحوه لثانية ثم أخفضت عينيها لتخرج بضعة أوراق من المغلف أمامها و رمتها نحوه قائلة بجدية قاطعة: بإمكانك مراجعة هذه الأوراق وتلخيصها في ورقة بينما انتهي حضرة النقيب.

جزّ على أسنانه بضيق وقد بدى أنه كالجالس على صفيحٍ من حديد مشتعل، خاصة عندما لمح قهقهة طارق المكتومة، حدجه بنظرة نارية جعلته يبتلع سخريته الصامتة، شدّ الأوراق أمامه بغيظٍ يتصاعد كبركان على حافة الانفجار، يتطلع إليها وفي نفسه لو يقبض على عنقها فيقتلها، تجعدت الأوراق بين يديه فلم يلحظ نظرات طارق المتشفية وتراقص حواجبيه بتسلية والتي حملت مغزىً، أخيراً جاء من يربيك يا أويس...

في غرفةٍ ذات إضاءةٍ باهتة وجدران متسخة، عُلّق كلاً من رامي وورد من أيديهما على سلاسل حديدية مثبتة في السقف، وقد جُرّدا من ثيابهما المدرسية ليُتركا فقط بملابسهما الداخلية وقد تُركا لوحدهما، سيطر الرعب على قلب رامي الفتيّ والذي كان جُلّ همه مصير صديقه، في حين كان ورد بارداً بشكل غريب، بروده هذا استفزّ رامي ليسأله بضيق: هل أنت سعيد الآن بوضعك؟

تطلع نحوه وعلى محياه البريء ارتسمت ابتسامة نقية شابهت نقاء روحه، فأجابه باطمئنان: علامَ أخاف يا رامي؟ فهذه الروح أمانةٌ بين أضلعنا، ولا ينتزعها سوى من منحها.
زاد خوف رامي من كلمات رفيقه الموحية فصاح به بتوبيخ: يا رجل؟ ألا تخاف مما قد يحصل لك؟
رفع كتفيه بلا مبالاة قائلا باقتضاب بارد: لقد أخبرتك، لن أموت قبل أواني.
صرخ رامي مجددا بذهول مقهور: وعائلتك؟ أبوك وأمك؟ ألا تخاف عليهما إن أصابك مكروه؟

تبدلت ملامح ورد الى الحزن وقد أصابه رامي في مقتل، أخفض رأسه لتتعلق نظراته بالأرضية القذرة، رغم الهدوء الساكن الذي يستشعره بين أضلاعه لكنه يشعر بغصة عظيمة تسدّ مجرى تنفسه، إلا أنه عاد ورفع وجهه ليقابل رامي مجيباً سؤاله بإيمان صادق: لو أراد صاحب الأمانة استرجاع أمانته فما باليد حيلة، ولا شيء سيرد القضاء والقدر، وكلا والديّ مؤمنين بقضاء الله وقدره، لذا جوابي لك هو لا، لا أخاف عليهما من المكتوب.

تهدل كتفا رامي بصدمة جلية وهو يستمع لحديث ورد، تلك الكلمات لا تصدر عن مراهق لم يتجاوز عمر الورد، بل هو حديث عجوز طحنه الزمن وقد بلغ التسعين، وللحق هو أبلغ تشبيه لحالة ورد الآن حقا كان عجوزا...

كاد رامي يتحدث عندما سمع كلاهما صريراً صادراً عن الباب الحديدي الصدأ، ليظهر عدي ومن خلفه رجلٌ من أتباعه وعلى محياه الحقير ابتسامة قذرة أخافت رامي، الذي نقل حدقتاه الى ورد الذي قابل وجه عدي بملامح واثقة معتدة، اتسعت ابتسامة عدي قائلاً باستهزاء واضح وهو يجول بنظره على منظر الولدين: أرجو أن خدمة رجالي قد نالت إعجابكما.

لم يجبه رامي في حين تبسم ورد باستفزاز مجيبا بتهكم: في الحقيقة، أفشل خدمة تلقيناها يوماً.
رمقه عدي بتطليعات غامضة ولم يجبه، امتدت يده إلى الخلف ليناوله رجله سوطاً جلدياً طويلاً، أو مايسمى بالعامية الكرباج، قلّبه بين يديه بتلذذ وهو يقترب من ورد حتى أضحى أمامه، رفع قبضة السوط أمام ناظريه ليسأله بهمس: هل تعرف ماهذا يا ولد؟

ابتسامته المستفزة لم تخبو حينما جاوبه قاصداً إشعال غضبه: لا، لا أعرف، فلا يوجد في عائلتي هَمَجٌ مفتقدين للإنسانية.
وقد أفلح في إضرام جذوة غضب عدي المتقدة أصلاً، فزع جسد رامي عندما هدر عدي بصراخ وقد نفرت عروق رقبته: لا تتحداني، أتهينني وأنت معلق هكذا؟

لم تهتزّ به شعرة ولم تغب بسمته، ولم يطل الصمت فردّ بلا مبالاة: انا ابن عائلة الحكيم و أتحدى الشرفاء فقط يا سيد، أما القذرين فلا تسمح لي عزة نفسي أن أّنزلها لمستواهم.

مذ رحل عدي برفقة الصبيين، اهتاج بسام على والده وجمال لجلبهما معهم، وحمّلهما الذنب بما قد يحصل لهما، تعطلت عقولهم عن التفكير الصحيح فانشلت أجسادهم عن فعل أي شيء، ارتمى والد بسام على الكرسي الخشبي بجانب سرير ابنه، بينما وقف جمال مستنداً على الحائط وقلبه ينبض بعنف، حتى دلف حسام وكان هو الطبيب المعالج لبسام، استغرب من تواجدهم فسألهم بذهول: ما الذي تفعلونه هنا؟

كأنما صوته أعادهم الى الواقع فصاح بسام بلهفة: حضرة الطبيب أرجوك ساعدنا، لقد قبض رئيس المخفر على صبيين كانا قادمين لزيارتي واقتادهما الى المخفر.
بدى الذهول واضحاً على وجه حسام لجملته الأخيرة، فتساءل بدهشة: صبيين؟
صاح جمال هذه المرة: نعم صبيين اثنين وهما صديقاي في المدرسة.

رمشت أهدابه بتلقائية من الجبروت الذي وصل له عدي، ليسا صبيين بل هما في نظر القانون طفلين، انتبه من صدمته سريعاً ليسأل جمال: ما اسميهما أخبرني علّنا نهاتف ذويهم.
ازدرد جمال ريقه مجيبا بلهفة: إنهما ورد الحكيم ورامي الشافي.
للمرة الثانية تصدمه جملة جمال، متناقضين يجتمعان في أمر كهذا؟ ما الذي جمع بين رامي الشافي وورد الحكيم؟

صاعقة مهولة ضربت عقله عندما استوعب الاسم الثاني، ورد، يعرف حالة ورد الصحية فخرج راكضاً من الغرفة باحثاً عن مازن، والذي صادف خروجه من إحدى ألغرف فصاح باسمه، استغرب مازن حالة رفيقه فهتف بتساؤل: ما الأمر حسام؟
لهث حسام وابتلع ريقه وأجابه واضعاً يده على كتف مازن: لا وقت لسؤالك مازن، حادث شقيقك أويس بسرعة وأخبره بأن رئيس المخفر قد اعتقل رامي.

اتسعت مقلتاه بصدمة جليّة سرعان مااستفاق منها حين تابع حسام: كذلك كان معه ورد الحكيم وقد اعتقلهما سوياً.

تأنت في قراءة التقارير أمامها بروية شديدة، كانت تعرف أن لا بدّ لها من خيط تتبعه، خاصة وأن الخفاش منتظم جدا وهذا مالاحظته من خلال فصله للمجموعات التابعة له، بينما كان طارق يجلس يحرك كرسيه بملل وإيهاب وصلاح يعملان على الحاسوب، أما أويس فقد كان يحاول قراءة الأوراق التي اعطته إياها مياس بجدية عندما انتشله صوت هاتفه، رفع الجهاز وكاد يرفض الاتصال لولا أنه لمح رقم شقيقه، تغضن جبينه بذهول فأجاب الاتصال باستغراب: مازن؟ ما الأمر؟

انتبه جميع الحاضرين إلى الاتصال لكن مياس لم ترفع رأسها، في حين أتاه صراخ مازن عبر السماعة: ألحق رامي يا أويس، اعتقله رئيس المخفر للتوّ مع رفيقه ورد.
انتفض واقفاً بغتةً لدرجة أن الكرسي الخشبي اصطدم بالأرض محدثاً صوتاً عالياً في حين صرخ أويس بعنف متتابع: ما الذي تقوله مازن؟ اعتقلوا رامي؟ لماذا؟ ومعه ورد أيضاً؟

رفعت رأسها فجأة عندما لفظ الاسم الأخير، غطت الدهشة قسماتها وهي تقف بهدوء لتقابل أويس الذي أنهى الاتصال مع شقيقه قائلا بحسم هادئ: سأذهب لأتفقد الأمر، لا تقلق.
ماإن أغلق جهازه حتى قابلته مياس متسائلةً بحذر: ما الأمر؟
تغضن جبينه بغرابة من ملامحها الغريبة في حين استئنفت هي بريبة: سمعتُك تنطق اسم ورد، ما الذي جرى؟
وقف طارق بدوره عندما لاحظ مايحدث فسألها أويس وقد ضيق عينيه: ما شأنك بهذا الشاب؟

بللت شفتيها لتجيبه بنزق وقد نفذ صبرها: إنه ابن خالي، ما الذي جرى تحدث.
استدرك أويس الأمر فهو على علم بصداقة رامي وورد السرية، نفخ بضيق فردد بآلية: قبض عليه رئيس المخفر منذ قليل مع شقيقي الصغير.
توسعت عيناها بصدمة لم تدمْ طويلاً، سرعان ما استدركت الأمر فلملمتْ أشياءها وصرخت به: ما الذي تنتظره؟! تعال!

خرجت من فورها بخطوات سريعة تاركة الرجال الأربعة ينظرون في إثرها بدهشة، تبادلوا فيما بينهم نظرات مستغربة ثم تبعها أويس يرافقه طارق، استقلت مياس سيارتها منطلقةً بسرعة جنونية متجهةً إلى المخفر، وفي نفسها فقط أن تلحق ورد، هذا الفارس الصغير النبيل..

كان عدي يأمل أن يرى في مقلتي ورد خوفاً ورعباً، أن يبكي وأن يتوسله الرحمة، لكن كبرياءه المتوارث واعتزازه بعائلته وتلك النظرة المترفعة في حدقتيه أشعرته بوضاعته وقذارته، خاصة وأن ورد شاب صغير وقد لقّنه درساً صعباً بحكمة الكبار، وما زاد من غضبه أن ذلك الصبي لم يخفْ من سلطته ولم يحسب حساباً لسطوته، أعماه غضبه فشدّ على فكيه بقوة مبتعداً عن ورد لخطوات قليلة ثم رفع سوطه ليهبط به على جسد ورد الذي اهتزّ جسده رغما عنه، فيما صرخ رامي يتوسله بأن يترك ورداً وليضربه بدلا عنه، فما كان من عدي إلا أن صرخ بالرجل الآخر ليخرس توسلات رامي فراح الرجل يجلده هو الآخر بقسوة.

صرخ رامي ألماً وقهراً وحتى أنه بكى، لكن صرخاته لم تؤثرعلى عدي، والذي كان يجلد ورد باستمتاع مريض، آهٍ متألمة فلتت من شفتي ورد غصباً عندما صفعه عدي على جانبه الأيسر، في حين جاهد الأول ليبقي على ملامحه اللا مبالية و عدي يزيد ضربه، تأويهة أخرى صرخ بها عندما نزل السوط على جانب عنقه، بينما كان رامي يتألم مرتين، مرة لوجعه هو ومرة لوجع رفيق طفولته.

بعد عدة صفعات بالسوط تعب عدي فتوقف الرجل الآخر تلقائياً تاركين الصبيين يلهثان وقد تدلى رأسيهما بتعب، لم يكتفِ عدي بل أمسك بفك ورد ليرفعه قبالته هامساً بفحيح وحاجب مرفوع بنذالة: هل تخاف مني الآن؟
تبسم ورد بتهكم فلطمه عدي على وجهه بقوة أدمت فمه، حاول رامي استعطافه مجددا من بين لهاثه قائلا بتقطع: س سيدي، أ أ أتوسل إليك، دعه وشأنه.

لم يستمع لتوسلاته بل قبض على فك ورد من جديد ليسأله صارخاً بغلّ: أخبرني هل تخاف الآن؟
كان صدره يعلو ويهبط كمن كان في سباق طويل، ازدرد ريقه بصعوبة لكنه تبسم باطمئنان عندما رآى ضوءاً ساطعاً من خلف عدي، كان نوراً أبيض لامعاً يبعث الراحة في النفس، همس بتقطع ببسمته العريضة: أنا، لا، أخاف، سوى، من، خالقي.

صرخ عدي بقهر من جُبنه وشجاعة ورد، وانحنى ملتقطاً سوطه وهوى به على جسد ورد الغضّ كأنه يُفرغ فيه وحشيته، وغضبه من توبيخ رؤسائه له بسبب المظاهرة الملعونة، لم يشعر بالبرودة الطفيفة التي غزت أوردة ورد كنسمات صيفية لطيفة، ولم يشعر بقلبه وهو يرفرف بين أضلعه كطائرٍ ذبيح، لم يأبه بسكون جسده وقد غادرته الروح...

لم يكن ورد خائفا من الموت، بل كان خوفه الأكبر من مرضه الذي أذلّه وجعله يرى نظرات الشفقة والاستعطاف في أعين كل من يعرف، حتى عائلته.
بكى رامي مستعطفاً ومتوسلاً لكن عدي صمّ أذنيه عن كل صوتٍ حوله، حتى تسللتْ جملة رامي الأخيرة إلى أذنيه والتي استطاع نطقها بصعوبة: ورد مريض قلب لا يحتمل...

تطلع بعيون متسعة إلى رامي والذي كان كطفل صغير يُعاقب على ذنب غيره، كأنه يستوضح منه مدى صدقه، رفع رامي عينيه الباكية إلى عدي فاستشعر الأخير حقيقة مقاله، تطلع كلاهما إلى جسد ورد الساكن دون أدنى حركة، صعد صدره وهبط بسرعة فسارع الرجل الآخر الذي كان معهما ليضرب على وجنة ورد المتورمة بخفة، تفحص نبضه ليجده معدوما فتطلع الى عدي ليشير له بالسلب، تهدجت أنفاسه بقسوة عندما سمع صرخة رامي الرافضة لتلك الحقيقة الواقعة، ارتخى كفه عن السوط ليقع على الأرض محدثاً صوتاً لم يكن أقسى من تلك الفاجعة.

شهقت سعاد بقوة وقد سقط كوب الشاي الذي كانت تحمله على قدميها عندما شعرت بنخزةٍ قاسية في فؤادها، احتقنت مقلتاها بدمعٍ لا مبرر له، سارعت الحاجة منال وابنتها الى مساعدتها لتسألها الأخيرة عمّا إن كانت قد احترقت، لكن ألم الحرق لم يكن بشيء مقارنةً بذلك الوجع القاتل الذي شعرت به يضرب ساكن صدرها.

تباطأت دقات قلبها بشكل مفرط حتى شعرت أنها على شفا الهلاك لا محال، تعالى صدرها وهبط بجزعٍ وبرود عجيب غزا دماءها حتى ارتجف جسدها، وكأنها تجاهد لتأخذ أنفاسها.
كانت الصورة في عينيها مشوشة حتى استفاقت على يد الحاجة رائدة وقد أمسكت كفها الذي بقي معلقاً في الهواء، وهي تسألها بجزع عن حالها، تطلعت سعاد إليها بضياع وقد حررت عبراتها لتهمس بريق جاف: ورد...

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة