قصص و روايات - قصص بوليسية :

رواية حي الورد للكاتب علي اليوسفي الفصل الرابع

رواية حي الورد للكاتب علي اليوسفي الفصل الرابع

رواية حي الورد للكاتب علي اليوسفي الفصل الرابع

لم يغفل لطارق جفنٌ طوال الليلة الماضية حتى أطلت أولى أشعة الذهب. كان يراقب رُدينة ويتفحص نبضها وحرارة جسدها من حين إلى آخر، وطبعاً لم يجرؤ على إفاقتها أو حتى أن يطهر لها جراحها، لأنها ببساطة أوامر أويس..

جلس على الكرسي مقابلا لردينة النائمة محاولاً أن يغفو لثوان، لتزعجه خطيبته المجذوبة، داليا، رغم روحها المرحة التي تشبهه لكنها غيورة بشكل مفرط، لانت ملامحه المنزعجة عندما أجاب اتصالها بتسلية: صباح الخير يا ابتلائي.
رفرفت بأهدابها بدهشة لم تدمْ سوى لحظات، كان طارق في هذه الأثناء يُحصي الثواني قبل انفجارها المعتاد بصوت خافت: واحد، اثنان، ثلاثة..

وكأنبوب غاز مشتعل، انفجرت لتوبخه على ( غزله الهمجي) بصياح: أنا ابتلاؤك يا طارق؟ أهكذا تحادث خطيبتك يا حضرة النقيب المحترم؟
ابتسم طارق على غضبها الدائم منه، ثم استمع إلى باقي جملتها المُعاتبة التي يحفظها عن ظهر قلب وهو يُحرك شفتيه مُقلداً إياها بحركات كوميدية: أهذا جزائي لأنني أحبّ ان أطمئن على زوجي المستقبلي والذي نسيني كالعادة ولم يهاتفني قبل أن يتمدد على فراشه المُريح وينام؟

أغمض المسكين عينيه بإرهاق، مجذوبة ومخبولة كما وصفها، همس بمسحة تهكم مُجيباً سؤالها غير المُجدي: داليا عزيزتي، أذكرك للمرة المليون بأنني ضابط، وهؤلاء قلّما يتمددون على أسرتهم المُريحة ليناموا ليلاً، هذا أصلاً إذا أُتيحت لهم الفرصة ليناموا.
لم تميز( ابتلاؤه) نبرته المُتعبة بعد فتابعت بحنق: لا تحتاج لتذكيري بأنك دخلتَ الاختصاص الذي رفضتُه وفسختُ خطبتنا مرتين بسببه.

ثم تابعت بتحذير: وهذه المرة أحذرك يا طارق، الثالثة ثابتة.
نفخ طارق بضيق فصرخت الأخرى: وتنفخ في وجهي أيضاً؟ ألهذا الحدّ أُضايقك؟
ابتسم ليجيبها بلؤم ساخر: لا عزيزتي لا تُضايقينني، لكنني أقرأ المعوّذات الثلاث في سري وأنفخها في وجهكِ ليحميكِ الله من عيون الحُسّاد.
- طارق، لا تسخر مني.

قهقه الأخير بصخب على جنونها ويبدو أنها تقوده الى الجنون هو الآخر، فأخبرها بتعبٍ استشعرته هذه المرة: داليا، صدقيني أنا متعب ولم أنم طوال الليل، دعيني فقط أتناول قهوتي لأصحو معك.
بعدما ختم جملته تلك سمع صفيراً خافتاً مصدره هاتفه فتطلع الى الشاشة ليجد تنبيهاً عن قرب نفاذ شحن البطارية، فأعاد الجهاز الى أذنه ليتابع قائلاً بتنهيدة متعبة: وأيضاً جهازي سينفذ شحنه.

أصابها الندم على كلماتها التي انفلتت منها كمدفع رشاش دون أن تراعي شقاءه، لكنها قالت أخيراً ببلاهة مُحذرةً: حسنٌ، لكن لا تتأخر وإلا صارت المشكلة مشكلتين.
أغلقت الهاتف في وجهه فضحك طارق بخفة مُحدثاً نفسه: لا أرجوك، مشكلة واحدة يومياً تكفي.

ألقى نظرة أخيرة على رُدينة التي لم تُحرك ساكناً رغم استفاقتها قبل قليل، فاعتقد أنها لم تزل غافية ويبدو أنها لن تفعل قريباً، فقرر الخروج لتناول كوبٍ من القهوة قبل أن يحضر ابتلاءه الثاني...

خرج من الغرفة ليغلق الباب خلفه دون إقفاله، لا داعٍ لفعل هذا على أية حال، فالطبقة التي تتواجد بها غرف التحقيق تلك تقبع في طبقة سفلية تحت المبنى، ولها بابٌ مموّه لا يدخله سوى الضباط، أما الموظفين الإداريين فغير مسموح لهم بالدخول الى هذه الطبقة أصلاً.

ترجلت مياس من سيارتها الخاصة أمام مبنىً مؤلف من خمسة طوابق، ذو واجهة رخامية من الحجر الأبيض المريح للنفس والعين، وقد وقف أمام بابه الزجاجي الضخم رجلا أمن، سحبت نفساً عميقاً ممزوجاً برائحة السيارات المارة خلفها ثم زفرته مُبتسمةً برضىً، ثم حثّت خطاها لتدلف إلى مبنى مكافحة الجريمة الإقتصادية للمرة الأولى منذ انضمامها إليه قبل عام ونصف، يومها نظمت وزارة الداخلية مسابقة في كلية الحقوق حيث كانت تدرس، وكان هدف المسابقة تدريب بعض الجواسيس مجهولي الهوية لاستخدامهم في مهام سرية، وكانت مياس الفتاة الوحيدة التي انضمت للمتسابقين ونجحت بامتياز، ثم تم فرزها إلى قسم مكافحة الاتجار بالآثار وتهريبها لتتدرب على يديّ اللواء جلال ساجد، والذي أعتبرها كابنته تماماً..

صعدت الدرجات الرخامية اللامعة بخطوات واثقة، وملابسها الرسمية المؤلفة من سروال من قماش الجينز الأسود وقميصٍ رسمي مماثل، وقد طوت كُميّه للأعلى، وشعرها الفحمي الذي عقصته على شكل جديلة طويلة، استوقفت أحد الموظفين لتسأله عن مكتب اللواء جلال فأوصلها إليه، حيث كان جلال في انتظارها وقداستقبلها بالأحضان، وبعد حديث قصير بينهما أخبرها بضرورة اجتماعها مع فرقة أويس حتى يتشاركا معلوماتهما وتقود هي الفريق كونها خبيرةً بتحركات منظمة الخفاش، طلب اللواء بالفعل أويس وأخبره بوجوب قدومه الى مكتبه للاجتماع مع الجاسوس السري الشهير، الذئب.

طلبت مياس من اللواء إرشادها الى صالة الألعاب الرياضية بينما تنتظر اجتماع الفريق، أثناء مرورها في الطابق السفلي لفتَ انتباهها وجود سلمٍ يؤدي الى طبقةٍ أخرى يبدو أنها تحت الأرض، عقدت حاجبيها باستغراب فأخذتها قدميها لتهبط الدرج الى باب خشبي عتيق، ومن خلفه رواق معتم إلا من مصباح أصفر ذو إضاءةٍ باهتة تبعث الرهبة والضيق في النفس، و رطوبةٍ عَفِنة تسلقت على الجدران ونشرت رائحتها المقيتة في الأجواء، توقفت مياس أمام إحدى الغرف وظلت تتفحص المكان بعينيها علّها تتعرف على ماهية هذاالمكان، حتى يئست وقد انتوت العودة من حيث جاءت، لكنّ قدميها تحجرت مكانها عندما تناهى إلى أذنها صوت أنينٍ متوجع خافت، تجعد جبينها وقد أرهفت السمع للصوت الذي كان مصدره الباب حيث توقفت تماماً، اقتربت مياس قليلاً حنى تأكدت من شكوكها، مصدر الأنين فتاة!

أدارت قبضة الباب لينفتح ثم دلفت الى الداخل، كانت الغرفة واسعة لكنها فارغة تقريباً، جدرانها قذرة وقد شوهته بعض الكتابات المختلفة والخدوش الكثيرة، وهناك في الزواية البعيدة لمحته، جسدٌ هزيل لفتاة لم تتجاوز منتصف عقدها الثالث بعد، افترشت الأرض ولم يغطِ جسدها سوى خرقةٍ كانت يوماً ما قميصاً حريرياً لأنثى، بدى منظرها كمن صدمها قطار فقد مكابحه، اتسعت عينا مياس وعَدت من فورها ناحية رُدينة التي صرخت بألم وغطت وجهها عندما شعرت بوجود أحدهم داخل الغرفة، وقد ظنته أويساً.

تقرفصت مياس بجانبها وحاولت أن تحادثها قائلة بلهفة: من أنتي؟ ومن فعل هذا بك؟
ميزت رُدينة صوتاً مُختلفاً عمّن كانت تتوقعه، فأنزلت كفيها عن وجهها لتقابل وجه مياس، اتسعت مقلتيها بسعادة وقد بدت كغريقٍ وجد قشةً فتمسك بها، قبضت بكلتا كفيها على ذراع مياس الممتدّ أمامها هامسةً بنبرة ضعيفة راجية: أرجوك أنقذيني، أخرجيني من هنا، أنا لم أفعل شيئاً..

مررت مياس نظراتها على جسد رُدينة المهشم فرأفت بحالها، ولم يكن منها إلا أن استجابت لها، فمهما كانت تهمة تلك الفتاة لا يجوز ان تُعامل بهذه الهمجية، هزت رأسها إيجاباً وحاولت مساعدتها حتى وقفت، في ذات لحظة عودة طارق الى الغرفة ليلاحظ أن الباب مفتوح، ثنى حاجبيه بريبة فدخل من فوره ليجدْ فتاة غريبة بملابس سوداء تساعد رُدينة على المشي ناحية الباب، رغم غرابة الموقف لكنه وقف ليعترض طريقها مُتحدثاً بخشونة: من أنتِ؟

تجمدت قدما رُدينة عندما أبصرت طارقاً يقف أمامها، فيما حادثتها مياس غير عابئةٍ به: لا تتوقفي، يجب أن تخرجي من هنا.
اقترب طارق منهما وهو يسدّد نظراتٍ مُغتاظة لتلك الغريبة التي تجاهلته تماماً فأضاف بغيظٍ مُتصاعد: أنا أُحادثكِ هنا يا آنسة؟!

شملته مياس بنظرة احتقارية ولم تجبه، بل حثّت رُدينة على المسير وقد استشعرت الأخيرة الأمان معها، حتى وصلتا إلى جانب طارق الذي بلغ حداً مُزرياً من ألم الرأس ولا طاقة لديه للجدال، فقبض على ذراع مياس وهو يحدجها بنظراتٍ مميتة قائلاً بضيق: سأسألكِ للمرة الأخيرة، مالذي تفعلينه هنا؟ وكيف دخلتِ إلى هنا أصلاً؟ ألا تعلمين أنه مكان ممنوع على الموظفين العاديين؟

لم تسمع مياس من حديثه حرفاً، بل ركزت نظراتها على كفه التي قبضت على ذراعها، ما إن أنهى طارق كلماته حتى رفعت رأسها إليه قائلة من بين اأسنانها بنبرة جادة لا تمزح: إن كنتَ لا تريد خسارة ذراعك تلك فأنزلها عني حالاً.

عيناها كانت تقدح شرراً مستطيراً، نظراتها ثابتة حادة، تغضن جبين طارق بعدم فهم لتصرفات وحديث تلك الفتاة ولم يحسب لتهديدها حساباً فتابع حديثه بلا مبالاة: إلى أين تحسبين نفسك ذاهبةً مع هذه المتهمة؟ ومن أنت بحق الله؟

كانت رُدينة بالكاد تستطيع الوقوف على قدميها، راقبت مايحدث بين مياس وطارق بعين مترقبة قَلِقة، لم يحرر طارق بعد ذراع مياس فتطلعت الأخيرة صوب رُدينة لتسندها على الجدار القريب مّحدثةً إياها برفق وابتسامة صغيرة: أرجوك فقط قفي هنا لثانية.
ارتجف جسدها وهي ترى مياس تتخلى عنها لتستدير صوب طارق، ولم تدمْ دهشتها سوى لحظات...

كان طارق مايزال ممسكاً بساعدها فطوت ذراعه بشكل معاكس بلمح البصر فأوجعته، كانت مواجهةً له فضربته بمرفقها على بطنه فانحنى للأمام صارخاً بألم فظيع، بباطن كفها صفعته على أنفه فارتدَّ رأسه الى الخلف ووضعت ساقها خلف قدميه ليقع مُصطدماً ظهره بالأرض بقوة كبيرة، كل هذا تمّ خلال ثوان تكاد لا تُحصى، و أمام عينيّ رّدينة المُتسعة ووسط دهشة طارق، لم تمنحه الوقت ليستوعب ماحصل فجثت بركبتها على صدره ولم تزل مُمسكةً بذراعه، ثبتته بحركة قتالية حتى توهم بأن كفه سيُكسر لا محالة، صرخ طارق بوجع واتّسعت عيناه بصدمة وهي تنحني ناحيته هامسةً بنبرة خطيرة: أخبرتك أن تُنزِلَ ذراعك، في المرة القادمة اسمع الكلام.

وفي اللحظة التالية تركته ووقفت عائدةً إلى رّدينة المصدومة حرفياً مما حدث أمامها، ابتسمت في وجهها لترفع ذراع رُدينة حول عنقها وتساعدها على الخروج من الغرفة، لا تعرف أحداً هنا بعد فكان تفكيرها الوحيد بمهاتفة اللواء، ألقت رُدينة نظرة أخيرة على طارق الذي تأوه ألماً وهو ينقلب على بطنه مُمسكاً بكفه الذي تضرر بلا ريب، وهو يحدج تلك الفتاة بنظرات دمجت بين الألم والمفاجأة، تلك الغريبة ليست هيّنة بالمرة...

أغلق أويس باب سيارته بقوة وحثّ الخطى نحو مبنى المكافحة، مُمسكاً بهاتفه وقد بدى كمن يُحادث أحدهم بشبح عصبية بانت في نبرته: ما الذي تقصده بأنك لم تجد أحداً؟ وأين طارق؟
صمت لبضعة ثوان يستمع لمحدّثه وهو يصعد الدرج بخطوات متعجلة، حتى نطق أخيرا من بين أسنانه بسخط: وهاتفه مغلق أيضا؟ الأحمق!

وقف أمام اللوح الزجاجي العريض نافخاً بسأم ثم تحدث وتعابيره متجهمة بضيق: سأبحث أنا عنه، خذ إيهاب واذهبا إلى مكتب اللواء جلال وسأوافيكما في الحال.

لعنَ تحت أسنانه على غباء طارق الذي لم يستطع أحد الوصول إليه، فلم يجده صلاح في غرفة التحقيق حيث أخبره بأن يبقى مع ردينة، وهاتفه أيضاً مغلق، تابع مسيره إلى الداخل قاصداً مكتب طارق ولم يكدْ يفتح الباب حتى صادف خروج الأخير من الحمام وقد بدى في حالة مُزرية، فثيابه مجعدة وشعره مُشعث وكفه اليمنى قد رُبطت بحزام مطاطي طبي، على مايبدو قد أخذه من حقيبة الإسعافات الأولية في حمام مكتبه، لاحظ كذلك قسمات وجهه المُقتضبة كأنه يتألم من ظهره الذي كان يُمسّده بيده الأخرى، تفاجأ طارق بظهور أويس من العدم أمامه فجفل بخفة وقد تبادر إلى ذهنه معرفته بشأن اختفاء رُدينة، ازدرد ريقه وهمس بتوترٍ طفيف: يا آلهي أويس؟ متى أتيتْ؟

توقع انفجار رفيقه في وجهه كلغمٍ أرضي، الا أن أويس تفحصه بجبينٍ مُغضنٍ باستغراب من حاله العجيب، فسأله بشكٍ مُستريب ساخر: ما بك؟ كأنك اصطدمتَ بحائط؟
ابتسم طارق بتوتر ليُتمتم مُحدثاً نفسه بتهكم: بل الحائط هو من اصطدم بي.

ضيّق أويس عينيه على وجه رفيقه الأحمق والذي كان يبتسم ببلاهة ساخرة، استجمع نفسه فحمحم قائلاً ليغير دفة الحديث فيما هو يتجاوز أويس ناحية الشماعة خلف الباب: لم تخبرني بعد، ما الذي تفعله في مكتبي؟
كان قد وصل الى الشماعة ليرفع سترته ويرتديها بينما كانت عينا أويس تلاحقه باستغراب من تصرفاته، حرك رأسه ليجيبه بشك: أرسلتُ صلاح ليبحث عنك في غرفة التحقيق فأخبرني بأنه لم يجدْ أحداً في الغرفة.

كانت عينا طارق تتسع و أنفاسه تتناقص تدريجياً أثناء حديث الآخر، انقطعت تماماً عندما أمال أويس رأسه ليردف بنبرة استفهامية خطرة: لا أنت، ولا حتى رُدينة؟

خَلَتْ الغرفة من الهواء فجأة حتى خُيّل إلى طارق كأنه يغرق في بركةِ ماء، حتى ريقه الذي جفّ بغتةً لم يسعه ابتلاعه أمام تقاسيم وجه أويس التي اكفهرت بدرجةٍ مُخيفة، اقترب الأخير من طارق خطوتين وقد اشتدّ ظهره، حدجه بنظرة مرعبة أثناء سؤاله من جديد بهمسٍ خطِر: أين رُدينة يا طارق؟
- رُدينة ترقدُ الآن في عيادة الطبيب ياحضرة النقيب.

تنفس طارق بقوة كمن كان يغرق فعلاً بعدما سمع إجابة اللواء جلال من خلال باب مكتبه المفتوح، استدار وهو يعود خطوتين للخلف حتى أصبح بمحاذاة أويس ثم أدى كلاهما التحية العسكرية للواء الذي وقف أمام أويس وهو يرمقه بنظرات غاضبة، ومن خلفه وقف شابين في عمرٍ متقارب، زوى أويس مابين حاجبيه باستغراب فيما تابع اللواء بجدية: حذرتكُ أكثر من مرة يا أويس بألا تتبع أسلوبك الهمجيّ في معاملة المتهمين، ألم أفعل؟

الآن فهم أويس سبب غضب اللواء جلال منه، فيما تابع الأخير بتوبيخٍ حاد: إنها مشتبهٌ بها ولم نتأكد من تورطها بعد، وأنت أخبرتني بأنك ستقوم باستجوابها فقط، لا أن تحاول قتلها.
حرك أويس شفتيه وكاد يتحدث قبل أن يقاطعه اللواء بنبرة جافة: سنتابع حديثنا هذا فيما بعد، أما الآن فلدينا اجتماعٌ مهم.

ألقى بكلماته تلك ثم استدار ليتحرك خارج الغرفة، تنفس طارق براحة طفيفة وهو يرمقُ رفيقه بنظرة جانبية، ارتفع صدر أويس بنفس عميق يثبط به انفعالاته الهائجة قبل أن تطوف على السطح، لم ينتظر أكثر ليتبع خطوات اللواء جلال ويلحق به الثلاثة شبان خلفه وهم يتبادلون نظرات مستفهمة، يبدو أن همجية أويس هذه المرة لن تمر مرور الكرام أبداً...

كذئبةٍ ضارية، كانت مياس تضرب كيس الملاكمة الرملي في زاوية الصالة الرياضية بكل قوتها، وقد تخلت عن القميص الرسمي الأسود لتبقى بقميصٍ قطني ذو أكمام تكاد لا تغطي تحت كتفيها بقليل، وقد تعرّقت بالكامل، ضربت الكيس ضربةً أخيرة قبل أن تشعر بدخول أحدهم الى الصالة، توقفت لتخلع قفازيها وصدرها يعلو ويهبط بتتابع من فرط المجهود المبذول، تناولت منشفةً قطنية وضعتها قبلاً على الطاولة الصغيرة بجانبها ثم تقدمت صوب اللواء جلال الذي ابتسم لها بودّ، بينما وقف الشباب الأربعة ينظرون إلى مياس بفضول وغرابة، حسبما أخبرهم اللواء هم في طريقهم للاجتماع بالذئب، لكنهم الآن في صالة رياضية وأمام فتاة!

جففت مياس قطرات العرق عن وجهها ثم رفعت المنشفة على رقبتها، بضع كلماتٍ مقتضبة من جلال وإشارة بالإيجاب منها ثم تقدم كلاهما من أويس ورفقائه، ازدرد طارق ريقه بصعوبة أثناء تراجعه خلف أويس وقدتعرف على مياس، رمقه الآخير بنظرة مُستفهمة فحمحم طارق ثم همس بخفوت: هذا هو الحائط الذي صدمني...

للوهلة الأولى لم يفهم أويس مقصده إلا أنه لم يُطلْ التفكير عندما توارد الى عقله مغزى كلماته، عقد حاجبيه باستغراب قائلاً بتهكم مُستحقِر: حقاً؟ هذه الفتاة؟
وصلت كلماته تلك إلى مياس التي وقفت أمامهم بملابسها السود، وقوامها المنحوت بعناية مُخاطبةً إياه بنبرة قوية مُتحدية: مارأيك لو تجرب؟ لنرى من الفتاة هنا؟

خَزَرها بنظرة غامضة إلا أنه تجاوز تحديها مُلتفتاً صوب اللواء جلال مُتحدثاً باحترام: سيدي، لقد طلبتَ اجتماعنا هذا لنقابل الذئب، فهلّا فعلنا ذلك أرجوك؟
ابتسم جلال ببشاشة قائلاً: نعم بالتأكيد.
اقترب من مياس حتى حاوطها من كتفيها مُضيفاً بتفاخر وثبات: أيها السادة، أعرفكم الى النقيب مياس يونس، المشهورة بالذئب.

اتسعت عيناه كما فغرت شفتاه من فرط المفاجأة حاله حال البقية، بينما هي كانت تطالع وجوه الرجال المُندهشة بثقة دون غرور، لحظات قصيرة من الصمت قطعتها قهقهته الساخرة بشكلٍ فاجئ الجميع، عقد جلال حاجبيه ناظراً له باستفهام وفي اعتقاده أنه قد جُنّ، أما مياس فقد فهمت، تقريباً، سبب سخريته تلك فلم تهتزّ ملامحها الواثقة حتى قطع ضحكته المُستهزئة بغتةً ليتجهم وجهه قائلاً بجدية: حقاً سيدي إنها دعابة مُضحكةٌ للغاية ولكن أرجوك، هلّا غادرنا لمقابلة الذئب؟

تحدثت هي هذه المرة بنبرة هادئة بجد: لقد قابلته للتوّ حضرة النقيب.
وجه أنظاره لها ليُحادثها بمُقلتين تشتعلان وهو يصرّ على أسنانه: هذه الدعابة السخيفة لم تعد مُضحكة البتة.
قال جلال بصرامة ليقاطعه: ليست دُعابةً أيها النقيب، لذا لو سمحتْ تعامل مع قائدك الجديد باحترام.

تعالت أنفاسه الساخنة وقد تلاقى حاجباه بدهشة ممزوجة باستغراب من لفظ جلال الذي حمل معانٍ كثيرة، أولها أنه قد تمت تنحيته عن قيادة الفريق، وتنصيب هذه الفتاة مكانه، قائده الجديد؟
لا حتماً لن تكون هي، شدّ ظهره ليقول بحسم: إذاً أنا اعتذر حضرة اللواء، سأرفض المهمة لو كانت هذه قائدي.
أشار إليها بإهانة، رغم هذا ظلت محافظةً على أعصابها الباردة ولم يستغرب جلال الأمر فهو أكثر من يعرفها.

استدار أويس ليمشي خطوتين قبل أن تتجمد قدماه عندما سمع حديثها الجاد: حسب ما عرفتُ حضرة النقيب، فأنت في هذه القضية منذ قرابة السنتين، فلا يجبْ أن يضيع جهدك سدىً قبل أن تنهيها، صحيح؟
التفت إليها مُضيقاً عينيه في محاولة منه فهم ماترمي إليه، فتابعت بذات الجدية: دعنا إذاً نسأل أعضاء فريقك عن رأيهم، فإن وافقوا ستكون مُضطراً للموافقة أنت أيضاً.

ابتسامة جانبية رسمها ليقول بنبرة لئيمة: موافق، لكن إن رفضوا سترفضين أنت هذه المهمة بكاملها.
تبسمت مياس ببرود لتجيب بثقة منقطعة النظير: وأنا موافقة.
تحركت عينه اليمنى لجزءٍ من الثانية، لم يعرف لماذا راوده بعض القلق، وربما الخوف من الهزيمة، الهزيمة أمام فتاة شيء لا يريده أويس البتة، فكيف الحال إن كانت فتاةً كمياس؟

تحدث جلال بنبرة عالية مُخاطباً الرجال الذين أخذوا دور المشاهد لغاية اللحظة: أيها الرجال، أنتم أكثر من يعرف قضية الخفاش، هذا الوغد الذي أظهرنا بمظهر المبتدئين أمام بقية الفرق والأقسام، وأملنا الوحيد بوجود الذئب التي تعرف الكثير عن أفراد تلك المنظمة على رأس فريقكم.
تراجع جلال إلى الخلف بضع خطوات ثم تابع وقد فرد ذراعيه في الهواء: الأمر بين أيديكم أيها الرجال، والخيار لكم.

تبادل كلاً من إيهاب وصلاح وطارق نظرات مترددة فيما بينهم، وقد ظنّ أويس بأن الأمر بات في صالحه، حسب اعتقاده فرجاله لن يقبلوا بأن تترأسهم أنثى، لكن كان إيهاب أول من نطق مخيباً آماله: أنا موافق سيدي.
جحظت عيناه دفعة واحدة لينقلها الى صلاح الذي أردف هو الآخر: وأنا معكم.

ارتفعت زاوية ثغرها ببسمةٍ مُغترة وهي تتابع خيبة اويس الجليّة، تلقائياً، انتقلت الأنظار إلى طارق الذي كان رأيه بمثابة الحسام الفاصل في التصويت، ازدرد ريقه بتوتر وهو يرى خمسةَ أزواجٍ من العيون ناظرةً إليه بانتظار رأيه فهمس بتلعثم وهلع: يا آلهي، كم أكره أن أكون محطّ الأنظار!
تحدث إيهاب بما يشبه السخرية: اتحفنا برأيك يا جيمس بوند!

تعلقت حدقتاه بعينيّ وسيم الذي كان يرسل أوامراً صامتة إليه بالرفض، ضغط على فكه بقوة قبل أن يجيب بتردد: وأنا معكم.
ثم خاطب أويس الذي كانت ملامح وجهه كفيلة بإيقاعك صريعاً فوراً: أرجوك تفهم الأمر أويس، يجب أن نقبض على ذلك الوغد.

صرّ أويس على أسنانه حتى نفر من جانب عنقه عِرقٌ غاضب، وقد تعالت أنفاسه حتى باتت مسموعةً لمن حوله، اقتربت مياس حتى وقفت أمامه قائلةً ببسمةٍ واثقة وحاجب مرفوع وقد رفعت كفها إليه: أهلا بك في فريقي، حضرة النقيب.
ربما لو كان لغضبه شعاعاً لأحرق مياس الواقفة أمامه.

باعتداد، حدَجها بنظرةٍ لا تنمّ عن خير وفي عينيه وعيد بإيرادها أنهر المرار لتحديها إياه أكثر من مرة، فيما لم تخبو تعابيرها المنتصرة ولمعة الكبرياء الواضحة في عينيها حتى عندما خيّب أويس توقعاتها ورفع كفه لتعانق كفها، كان الجميع منشغلٌ بقراءة شرارات الحرب الصامتة بين قطبين قويين في الفريق الجديد، فلم يلحظوا زوجاً من العيون الماكرة التي التمعت بخبث، ذاك هو جاسوس الفتنة المتخفي لصالح الخفاش، هاقد انكشفت هوية أخطر جاسوس سري هدّد منظمة الخفاش يوماً، ولن ينتظر كثيراً قبل أن يأتي الأمر بتصفيتها...

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة