قصص و روايات - قصص بوليسية :

رواية حي الورد للكاتب علي اليوسفي الفصل الخامس

رواية حي الورد للكاتب علي اليوسفي الفصل الخامس

رواية حي الورد للكاتب علي اليوسفي الفصل الخامس

((كبطل حرب أسطوري، تسلقت مشاعرٌ غازية على كتفيّ، خفيفة كالريشة ثقيلة كالجبل، لطيفة كسحابة صيف حارقة كبركان، جزءٌ من النص مفقود، وأنا الشارد الغافل))
//ع/ي//.

طرقاتٌ قوية متتالية على الباب الخشبي العريض، اتبعها فتح الباب ثم دلف الموظف بخطوات واسعة إلى مكتب خطاب النظيف للغاية لكنه وجده فارغاً، وقف للحظة يلتقط أنفاسه وعيناه تجول بحثاً عن رئيسه لينقل إليه آخر الأخبار، فيما هو كذلك سمع صوت فتح باب الحمام فاستدار ليقابل خطاب الذي كان يجفف يديه بمناشف ورقية، عقد الآخير حاجبيه ليسأل موظفه بلهجةٍ باردة: ما الذي تفعله هنا؟

ابتلع الآخر ريقه ثم هلل بسعادة غامرة ونبرة متلعثمة: أعتذر سيدي لكنني طرقتُ الباب صدقني.
حرك خطاب رأسه بتفهم وهو يسير حتى وصل لمكتبه الأسود، رمى المناشف الورقية في سلة المهملات بجانبه، وتناول علبة كحول معقم صغيرة ترافقه في جيبه فوضع على كفيه، أعاد العلبة الى جيبه ثم عبث ببعض الأوراق أمامه وهو يشير لموظفه بأصبعه بأن يتابع الحديث فأردف بنبرة مبتهجة: سيدي لقد اتصل رجلنا يخبرنا بأنه كشف هوية الذئب.

رفع رأسه إليه بغتة وقد تغضن جبينه بدهشة، ليضيف الموظف وقد غامت نبرته: يقول إن الذئب ليس سوى فتاة.
زادت العقدة بين حاجبيه وقد ترك مابيده ليستقيم في وقفته، وملامحه كانت مزيجاً بين المفاجأة والغرابة، رمش مرتين قبل أن يتحدث مُستفسراً كأن لم يصدق ماسمعه: الذئب؟ هو فتاة؟
هز الموظف رأسه إيجاباً مُضيفاً: نعم سيدي، أخبرنا رجلنا بأنه قابلها للتوّ واسمها مياس يونس، وهم الآن في انتظار اجتماعٍ طلبته هي منهم.

ضيّق خطاب عينيه وهو يستدير ليقابل المنظر الخلّاب أمامه وقد شرد مُفكراً، أيعقل؟ الجاسوس السري الذي أهلكه وقبض على الكثير من موظفيه يكون أنثى؟ أي نوعٍ من الفتيات تكون إذاً؟ لا ريب أنها مميزة حقاً، راوده خاطرٌ غريب فتحدث بعد ثوان بغموض مريب: اجلب لي رقم هاتفها إذاً، واعرف كلّ شيءٍ عنها.

ارتبك الرجل للحظة، في العادة عندما ينكشف أمر جاسوس ما يصدر خطاب حكماً بإعدامه على الفور، فكان من الغريب بمكان أن يطلب رئيسه طريقةً للتواصل مع مياس بل ومعلوماتٍ كاملة عنها، فقال بتقطع كأنه يتحقق من صحة ماسمع: سيدي! تريد رقم هاتف مياس تلك.
التفت خطاب نصف التفاتة وما زال على وضعه، ليوبخ موظفه بتعالٍ وهو يناظره من فوق كتفه: هل أصابك الصمم؟ نفذ ماقلته.

ارتجف الرجل بمكانه وازدرد ريقه بهلع، أشار برأسه إيجاباً ثم انحنى باحترام، غادر عقبها من فوره بعجالة تاركاً رئيسه سارحاً في أمر مياس، الغموض الذي حاوطها مريب، منذ سماعه باسم شهرتها وأنها سبب القبض على عدد لا يُستهان به من عامليه، خاصة نديم والذي كان رئيس مجموعة كاملة، هذا كله جعل خطاب يُعجب بشخصيتها وقدراتها، وذكائها أيضاً بلا شك، والآن وقد عرف هويتها يحدوه الفضول نحوها، يريد التعرف عليها أكثر، يريد دراسة أسلوبها الفريد في التخفي حتى مع مستوى ذكائه العالي ونباهة موظفيه لم يكشف أحدهم هويتها، دخولها عالمه كان مُخاطرة كبيرة، ومغامرة غير مأمونة الجوانب، ظلت تلعب في الخفاء مدة ليست بقصيرة، فمن العدل إذاً أن يكون دوره في اللعب، ابتسم بظفر وقد أحبّ أفكاره الجنونية ثم همس بتسلية: الآن فقط سيحلوّ اللعب معك، مياس...

لم يعد يُطيق حتى. ملابسه التي يرتديها فتخلى عن سترته الجلدية ورماها في مكتبه بإهمال، يجيىء ويروح بلا هدى وكأنه على وشك الانفجار، بل هو في الحقيقة كاللغم الآن ماإن يلمسه أحدهم حتى ينفجر.

وقف أويس أمام المرآة في حمام مكتبه وهو يتنفس بعنف وقد تعرق جبينه، ماطلبه رئيسه هو المستحيل بعينه لكنه غدى أمراً واقعاً، لا يصدق ماحدث لغاية اللحظة، أغمض عينيه بقوة عندما سمع قرعاً على بابه، اتبعه صوت طارق يناديه، فتح مقلتيه على وسعهما ثم انطلق من فوره وفي داخل عقله صوتٌ مجرم يزين له قتل طارق.

كان الأخير داخل المكتب يبحث عن رفيقه بتردد عندما فُتِح باب الحمام، تراجع بخوف ناحية الجدار حتى التصق به، وهو يرفع كلتا يديه كعلامة استسلام عندما رآى أويس مُندفعاً ناحيته كالثور، ازدرد ريقه بهلع قائلاً بصوت خفيض: اعقل أويس ولا تتهور.
قبض أويس على مقدمة ثيابه ليرفعه ناحيته هامساً بنبرة مرعبة: أتدرك ما الذي أقحمتنا فيه أيها الأحمق؟

رفرف طارق بعينيه نافياً عن نفسه تلك التهمة فقال ببراءة مُستنكِرة: أنا؟ ما ذنبي أنا؟
شدّه أويس ليقربه إليه أكثر فأحرقت أنفاسه الساخنة وجه طارق الذي أغمض عينيه بقوة، ثم همس بفحيح لاهب: ألم أُشرْ لك بعينيّ أن ترفض؟ ألم أفعل؟

تنفس طارق بعمق وبلع ريقه بثبات، ثم حاول النظر إلى أويس ليبرر موقفه بنبرة هادئة: اسمع أويس، أعلم أن الأمر لا يروق لك، لكن فكّر في الأمر، منذ عامين ونحن نلاحق الخفاش وعصابته ولم نصلْ إليه بعد، والذئب أملنا الوحيد في إنهاء هذه المهمة.

ارتخت قبضتا أويس عن رفيقه ولانت ملامحه بتفكير، استغلّ طارق هدوءه فأردف بحذر: لقد كانت السبب في الإمساك بالكثيرين منهم، وهي أكثر من يعرف طرقهم، دعنا نستغلّ هذا كلّه فننهي القضية بأسرع وقت ثم.
رفع حاجبيه مع كتفيه مُضيفاً بابتسامة مقتضبة: تتخلص منها.

تراجع أويس للخلف وقد راقته أفكار طارق الى حد كبير، وللحق فطارق معه كل الحق، منذ عامين وهو في مكانه راوح، وقد بدأ يتسلل اليأس إليه نوعاً ما، أغمض عينيه أخيراً ثم مسح على وجهه وخصلاته القصيرة نافخاً بسأم، استدار للجانب قائلاً: موافق.
لم تكد تظهر بسمة صغيرة على محيا طارق حتى التفت أويس إليه ليقول رافعاً سبابته بتحذير: لكن إياك وخيانتي من جديد طارق، وإلا أقسم فإنّني سأشوه وجهك هذا.

رغم هلعه من تهديد رفيقه الجاد إلا أنه أشار له بالإيجاب بخفة ثم قال بمهادنة: كما تشاء، والآن دعنا نرحل قبل أن يبدأ الاجتماع.

رمقه بتعالٍ لكنه تناول سترته أخيراً ثم خرج ليرتديها في طريقه الى غرفة الاجتماعات، قبل أن يدلفا للداخل لمح أويس مياس قادمةً من بعيد وقد ارتدت قميصها الرسمي من جديد، حاملةً في يدها بضع ملفات قادمةً نحوهم بخطوات واثقة، لمعت في رأسه فكرة لإهانتها فتوقف بجانب الباب، استغرب طارق من فعلته إلا أنّ دهشته تلك لم تدمْ طويلاً، عندما قطع أويس طريق مياس بجسده هامساً لها باستحقار وابتسامة باردة: أتعلمين؟ لقد رأيتكِ من بعيد فظننتكِ امرأة.

اتسعت عينا طارق بهلع وقد أدرك أن أويس لن يُمرر يومهم على خير، أما مياس فقد نظرت إليه وقد زوت مابين حاجبيها، لم تكنْ لتهتمّ يوماً بآراء الرجال عنها، لكنّ هذا الشاب؟ حقاً هو يحتاج لبعض التربية من جديد، ظنّ أنّ صمتها هذا هزيمةً فاتسعت ابتسامته المنتصرة والتي خَبَتْ عندما أجابته بهمس مماثل وابتسامة تحرق الأعصاب: أوتعلمْ؟ معك حق فالمظاهر خادعة، حتى أنا عندما رأيتكّ من بعيد ظننتكَ رجلاً.

تخطته عقبها تاركةً إياه وقد احتقنت أوداجه بدرجة خطيرة وقد كوّر قبضتيه، وصفيرُ إعجابٍ خافت من طارق وهو يلاحقها بعينيه هامساً لنفسه: يا آلهي! إنها خطيرة.
همس من بين أسنانه بتوبيخ: طاااارق.
فصاح الآخر بدهشة: ماذا؟ إنها ذكية!
التفت صوبه وقد استحالت قسماته لملامح وحشٍ مخيف، هلع طارق فأضاف بتلعثم: أعتقد أنني سأسبقك إلى الداخل.

فرّ من فوره قبل أن يطاله غضب أويس والكان على استعداد لحرق أحدهم حياً، شهق نفساً عميقا زفره نافخاً الهواء من فمه، ثم دلف إلى الغرفة ليبدأ الاجتماع المنتظر، والذي كان خاصاً بأعضاء الفريق الخمسة فقط...

جلس ورد في حديقة المدرسة الخلفية، وقد بدى عليه الإعياء من جديد فاصفرّ وجهه وتعرق جسده، لاحظه رامي منذ خروجه من غرفة الصف لكنه لم يجسر على الاقتراب منه تنفيذاً لرغبة والده، لكنه تبعه حتى رآه وقد جلس محنيّ الرأس فراوده القلق على رفيقه، كاد أن يتقدم منه لكنه تراجع مُرغماً، لم يكن ليحنث بوعده لأبيه، استدار ليعود أدراجه عندما اصطدم بجمال فاعتذر الأخير بلهفة وقد اغرورقت عيناه فسأله: ما الأمر جمال؟ هل تبكي؟

ابتسم جمال بسعادة وهو يحرك رأسه بنفي ثم أجابه: لا لا، حادثني والدي الآن، وقد سمح عُديّ لنا بزيارة بسام في الغد.
ابتسم رامي فرحاً لسعادة صديقه الذي أردف ببهجة: سأخبر ورد علّه يذهب معي غداً، فأنا ممتنٌ له.

أدار رامي رأسه صوب ورد وقد تغضن جبينه بتفكير، رغم خشيته من تصادم جديد مع أبيه لكنه وجد لنفسه عذراً، هو ذاهب مع جمال ليس مع ورد، استحسن فكرته فحادث جمال قبل ان يتحرك: اسمع، هل أستطيع القدوم معكم أنا أيضاً؟

اتسعت ابتسامة جمال أكثر وهو يشير له بالإيجاب، ثم سحبه من يده متجهين إلى ورد، معتقدين أنّ موافقة عدي بسبب فكرة ورد في خروج مظاهرة ضده، ولم يعرفوا أبداً أنه فخ مقصود، ولن يقع فيه إلا الشاطر، لإنّ ضربة الشاطر بألف...

كان اجتماعاً لطيفاً بالنسبة لمياس، بثقل جبل على قلب أويس وهو يراها تلقي أوامرها عليهم، وكان أول ما طلبته إلغاء المكاتب المنفردة وجمع أربعتهم في مكتب واسع وهي معهم، رفض بقطع لكنّ اللواء جلال كالعادة وقف إلى صفها فوافق مرغما، أخذ الحقد في قلبه يزيد ناحيتها وهي تحاور رفقاءه وتدلي بما تعرفه عن عصابة الخفاش، تحدث اللواء جلال قبل أن يقف تالياً: أنتِ قائد هذا الفريق الآن مياس، افعلي ما بدى لك والجميع هنا تحت أمرك.

ختم جملته مصوّباً نظراته ذات المغزى نحو أويس، فأدرك الأخير أن التحذير كان موجهاً إليه فقلب عينيه بغيظ، أشارت مياس باحترام و بعد خروج اللواء جلال تحدثت: فلنوزع الأدوار إذاً.
التفتت ناحية طارق الجالس قرب أويس قائلة بجدية: أريدك أن تعمل مع إيهاب على استخراج كل ماجمعتموه عن المنظمة خلال العامين الماضيين.

أشار لها بالإيجاب فتابعت موجهةً حديثها الجاد إلى أويس: وأنت حضرة النقيب، ستحضر وصلاح معي لمقابلة ردينة.
كانت أنفاسه تتثاقل أكثر كلما تحدثت أو تحركت، وفي داخل عقله أجراس تصرخ به ليحرقها حيةً مكانها، منذ متى وهو يتلقى أوامراً من أحد؟ ومن فتاة؟

ضغط على أسنانه بقسوة مُراقباً إياها وقد تحركت خارجةًمن فورها قبلهم، وقف طارق يرتب هندامه ليخرج بدوره، ماكاد يلتفت حتى قابلته ابتسامة صفراء من أويس ونبرة باردة: هل أنت سعيد الآن؟
ازدرد ريقه بقلق ولم يعقبْ فتابع الآخر ساخراً وقد بدى شبح غضبه قريباً: هل طريقتها هذه من يجب أن نحتملها حتى تنتهي القضية؟

تجهمت ملامحه دفعة واحدة مما دفع طارق إلى الهرب بجلدته قبل أن ينقضّ عليه أويس يتبعه إيهاب بتثاقل، فلم يبقَ سوى صلاح الذي وضع يده على كتف أويس الجالس متحدثاً بتفهم: أعلم أن الأمر صعبٌ عليك أويس، وهو كذلك بالنسبة لنا أيضا صدقني، لكن لا بدّ لنا من ذلك للآسف.
وقف تالياً ليضيف: أرجوكْ، تحلّ ببعض الصبر.

زفر من أنفه بقوة وقد تلاقى حاجبيه بغلّ، الجميع يوصيه بالصبر لكن أين يباع هذا الصبر؟ فليخبره أحدهم بالله!؟

كانت مياس متجهةً إلى عيادة الطبيب حيث أودعت رُدينة بعدما أنقذتها من تلك الغرفة، رنّ هاتفها فسحبته من جيب سروالها الخلفي ونظرت للشاشة فكان رقماً غير مسجلٍ لديها، أجابت الاتصال بنبرة قوية دون أن تتوقف: نعم؟
للثانية الاولى لم تسمع رداً من الطرف الآخر فصاحت من جديد: ألو؟ من معي؟
كانت تهبط الدرج عندما أتاها صوتٌ ذكوري أجشّ: أعترف، حتى نبرة صوتكِ قوية.

توقفت في منتصف الدرج وقد عقدت حاجبيها باستغراب جمّ، فيما تابع خطاب بهمس لئيم: ومميز كذلك.
رفرفت بعينيها وهي رغم جهلها بهوية مُحدّثها بعينه، إلا أن الشك ساورها فتحدثت بترفع ولا مبالاة: ومن أنت؟
تبسم كأنه يراها وهو يقف أمام النافذة الزجاجية العريضة، تحدث بآسفٍ زائف بعد لحظات فيما هو يستدير إلى الجانب: لم أتوقع منكِ سؤالاً كهذا، لقد خيبتي ظني في ذكائك حقاً.

التزمت مياس الصمت رغم قدرتها على الرد عليه، ورغم شعورٍ بالخطر لكشف هويتها، لكنها قررت أن تترك الحبل له فتسحبه نحوها دون إرادة منه، مُحالٌ أن يكون هذا سوى الوطواط، سمعت سؤاله التالي بنبرة مُحققة: أخبريني مياس، أيعقل أنكِ لم تعرفيني؟ لم تخمني حتى؟
تحدثت أخيراٍ بلؤم وقد أدركت الآن بعضاً من شخصيته: بلى لقد شككتُ في هويتك.

تهلّل مُحيّاه ببِشْرٍ منتصر، خبى حالما تابعت مياس وهي تضرب أهدافها بدقة: لكن أتعلم ما المُضحك في الأمر؟، أنكَ تظنّ نفسك مميز جداً، لكنّ الحقيقة أنّ أمثالك كثر، كثر لدرجة أنّ الزنازين امتلأت بهم.
ساد صمتٌ مُطبقٌ لعدة ثوان، بدى المكان من حولها كأنه في سكون تام تنتظر كلماته التالية، حتى نطق أخيراً بنبرة هادئة بخطر: هل تتحدينني؟

ابتسمت بظفر وقد نالت مبتغاها فتابعت بلا مبالاة: أنا لا أتحدى سوى الأذكياء أيها الوطواط.
ضيّق خطاب عينيه وهو يحاول فهم ماتفعله مياس، نبرتها لا تبدو خائفة ولا حتى مُنفعلة بحماس رغم انها عرفته، بل باردة لدرجة تجعله حقاً يرغب بقبول تحديها الذي دسّته له بين السطور، راقه الأمر بشدة لا مانع من بعض التسلية مع الذئب، صحيح؟
قال أخيراً قبل أن يُنهي محادثته معها: أنتِ لستِ ندّاً لي أيتها الذئب، وسترين هذا.

ماإن سمعت الصفير حتى استدارت لتصعد الدرج بخطوات واسعة ليقابلها كلاً من صلاح وأويس في نهايته، استغرب كلاهما هيئتها لكنها لم تمهلهما الوقت، وجهت حديثها إلى صلاح تسأله بجد: أخبرتني أنكَ مسؤول التقنيات في الفريق، صحيح؟
تغضن جبينه بعدم فهم لكنه أشار لها إيجاباً بتردد فأضافت وهي تمدّ بهاتفها نحوه: آخر رقم حادثني، أريد كل المعلومات والبيانات عنه.

أخذ صلاح الجهاز منها رغم عدم فهمه لما تريد، فهتف أويس يسألها بنزق: هلّا أخبرتنا ما الذي حدث؟
التفتت إليه بهدوء بتعابير ظافرة مجيبة بثقة: لقد هاتفني الوطواط.
اتسعت عينا كليهما من صدمة ماتفوهت به مياس والتي تابعت، غير عابئة بصدمة الرجلين أمامها: إنه شخص خطر ولا يُستهان بذكائه، من خلال حديثه ستفهم كم هو مُعتدٌّ بنفسه، لكنّ غروره هذا جذبه إلى مستنقعي.

الغيرة بدأت تنهش داخله حقاً، ما المميز فيها ليحادثها الخفاش نفسه؟
كان صلاح أول من استطاع النطق ليلفت انتباهها إلى أمر: لكن حضرة النقيب، أليس الأمر غريباً؟
أولته اهتمامها ليتابع حديثه قائلاً: أعني، كيف استطاع أن يصلْ إليكِ في هذه المدة القصيرة؟
تجعدت تعابيرها بفهمٍ لما يطرحه صلاح فأجابته: لا أعلم صلاح ولا أريد أن استبق الأمور، فقط افعل ما أخبرتك به.

استجمع أويس شتاته ليشارك في الحديث فقال بتعالٍ موجهاً كلماته لها: إن كان ذكياً كما قلتِ، فلن نصل إلى اسم مالك هذا الرقم أبداً..
تحولت نبرته إلى السخرية مُضيفاً: أعني لن يهاتفك من رقمه الخاص وينتظرك لتأتي وتلقي القبض عليه أليس كذلك؟
أعادت أنظارها إليه مُجيبة بثقة: أعلم ماقلته حضرة النقيب، لكن لكل حصان كبوة صحيح؟

أشارت إلى صلاح ليرحل ففعل من فوره، ثم استدارت هي لتتابع هبوط الدرج وقد بقي أويس مكانه وهو يستشعر أنها تسحب البساط من تحته بالفعل، ضغط على نفسه ليتبعها هو الآخر.

كانت رُدينة ترقد بنصف استلقاء على سرير نظيف، في غرفة طُليت جدرانها باللون الأبيض، قرب فراشها كانت طاولة صغيرة وقد وُضع فوقها كوباً من العصير الطازج، طهّر الطبيب جراحها وضمدها، بانت كدماتها ووضحت أكثر وقد لُفّ على جانبي رأسها شاشٌ طبي، حتى ذراعها اليسرى ضُمدت بجبيرة ويبدو أنها تضررتْ بالفعل، من يراها يحسب أنها وقعت ضحيةً لثور هائج، او ربما وقعت من مبنىٍ شاهق...

كانت تريح رأسها على الوسادة المريحة مغمضة العينين، لكنها انتبهت لحركةٍ ما خارج غرفتها، ثم صوت قرعٍ خفيف اتبعه فتح اللوح الخشبي لتظهر مياس من خلفه، ابتسمت ردينة بداية وهي تراها تتقدم منها وتسألها مبتسمةً ببشاشة: كيف حالك الآن رُدينة؟

لم تكد تنطق بحرف واحد حتى شحب وجهها وهي ترى أويساً يدلف هو الآخر الى الغرفة، وقف بعيداً عنها وقد ثبت مُقلتيه على وجهها تماماً، بان سخطه من الرفاهية التي يتعاملون بها معها على وجهه واضحاً، تحركت مقلتيها بعدم ثبات ولاحظت مياس كذلك امتقاع محياها فأدركت سبب هلعها، أدارت رأسها ناحية أويس ترمقه بنظرة ذات مغزى، إلا أن الأخير لم يأبه بتحذيرها الصامت والغضب الذي بان واضحاً في عينيها، بل خَزَرها بنظرة لا مبالية و كتّف ذراعيه أمام صدره بعدم رضىً، زفرت مياس بصبرٍ نافذ وسحبت كرسياً خشبياً كان موضوعاً قرب السرير، جلست عليه تستند بساعديها على قدميها، ثم تحدثت بجدية لتلفت انتباه الأخرى ناحيتها: اسمعيني رُدينة، بداية أريد إزالة الحواجز فيما بيننا، لذى دعيني أولاً أعرفك إلى نفسي، أنا النقيب مياس يونس.

سكتت لثانية تعاين وقع حديثها على رُدينة فاستشعرت رغبة الأخيرة في سماعها حقاً، فتابعت برفق جاد: دعينا نكنْ واضحين، نحن نعلم طبيعة العمل داخل ذلك المطعم حيث تعملين، وندرك أيضاً أنه مجرد واجهةٍ لإخفاء ماهو أعظم.
كادت رُدينة أن تتحدث لكن قاطعتها مياس بحزم: لن ينفعكِ الإنكار صدقيني، فنحن متأكدين من المعلومات التي نمتلكها، كما أننا متأكدين من معرفة الجميع هناك بذلك أيضا.

تجمعت العبرات داخل مقلتي ردينة عندما شعرت أنها مكشوفة أمامهم بالكامل، ظلّت لثوان تحاول ابتلاع ريقها الجاف فيما أويس يراقبها بعينيّ ثعلب وقد استشعر خضوعها لمياس، وهذا تلقائياً أزاد غيرته منها، جذب انتباهه حديث ردينة بصوتٍ مُختنق نادم: صدقيني، أنا مُجبرةٌ على العمل هناك.

ارتخت ملامح مياس بظفر فتطلعت إلى أويس الذي اشتعل وجهه حرفياً، اشاحت بوجهها للأمام بينما أضافت ردينة بلهفةِ ضائع: والدتي مريضةُ سرطان، ولديّ شقيقٌ صغير أعيله.
أمالت رأسها للجانب تسألها بعينٍ ضيقة: إذاً فأنتِ تعرفين ما الذي يجري خلف أبواب ذلك المكان؟
حركت ردينة رأسها بالإيجاب مُجيبةً بسخط: كما سبق وقلتِ الجميع هناك يعرف حضرة النقيب، لكن لا أحد يجرؤ على فتح فمه، نحن هناك صمٌّ بكمّ، وعميان أيضاً.

أعادت ظهرها للخلف وقد كتفت كلتا يديها أمام صدرها متسائلة بحذر: هل هددوكم؟
سالت عبراتها بقهر وهي تشير إيجاباً قائلة: لو قطعتِ رأس أحدنا لن يتفوه بحرف.
سكتت لثانية ثم تابعت بجزع: صدقيني حضرة النقيب، أنا لن أنفعكم بشيء، أنا لا أعرف أحداً ولا حتى حقيقة وظائفهم.

هو لم يكن غبياً، لكنه شعر بضآلته أمام ذكاء مياس والذي فعل مالم يستطع هو فعله، دفعَ ردينة الى الإعتراف، فتحدث بسخرية واضحة: لماذا إذاً لا يوظفون أشخاصاً بُكمّاً؟ وبهذا يضمنون أن لا أحد سيشي بهم؟
أغمضت مياس عينيها وفي قرارة نفسها تعلم أن أويس يراهن على صبرها، تدخله في هذه اللحظة بالذات غير مُرحبٍ به، فيما أجابته ردينة بجدية: وهل سمعتَ قبلاً عن مطعمٍ يوظف نادلاً أبكماً لا يتحدث؟

قال مُتهكماً: إذاً فلا بدّ من أنكِ تعرفين أمراً ما ولا تريدين البوح به؟؟
همست مياس وهي تزفر من أنفها بصبر: حضرة النقيب؟
لكن ردينة أجابت بإصرار وقد تقهقهر خوفها منه: أخبرتكما قبلاً، أنا لن أنفعكما بشيء.
ضيّق عينيه بعدم تصديق وهو مُصرٌّ على تكذيبها فتحدث ساخطاً بتهديد: لا تمثلي أيتهاالفتاة أفضل لك..
فعادت ردينة بصياح: أنا لا أعرف شيئاً...

عاد ليصيح بغيظ وهو يقترب نحوها مُستعداً للانقضاض عليها من جديد: انتي تختبرين صبري...
هنا وقد نفذ صبر مياس حقا، التفتت صوب أويس صارخةً لتقاطعه بتصميم: اصمت لو سمحت!

رغما عنه استجاب لها وقد تلاقى حاجبيه بدهشة مختلطة باستغراب، تجمد الكلام في حلقه ولم يتفوه بحرف، لم تطل النظر إليه فاستدارت الى ردينة مضيفة بحزم غاضب: وأنت استجمعي ذاكرتك المعطوبة وأخبريني بكل شيءٍ عن مطعمكِ هذا، وأنا أقرر إن كنتِ نافعةً لنا أم لا...

تململ في مكانه فلم يستطع التراجع أو التقدم، راقب ردينة وهي تحرك رأسها موافقةً بارتجافة طفيفة، يبدو أن مياس أرعبتها هي الأخرى، ثم طفقت تحكي لهما بصدق كلّ ما تعرفه عن المطعم، وإن كان في معظمه حديثٌ لا يُسمن ولا يُغني...

كانت سعاد ممسكةً بخرقة نظيفة تمسح الكراسي الخشبية المزخرفة في إيوان منزلها، حيث كانت الحاجة أم كمال جالسةً في صدر الإيوان على كرسيّ مميز، وكعادة جلستها المهيبة كانت تستند بإحدى كفيها على عكّازٍ خشبي مزخرف بنقوش مبهرة، وفي يدها الأخرى تمسك سبحتها السوداء المذهبة تذكر ربها على عدد حباتها، حتى إذا ما انتهت أعادت الكرّة مرة أخرى.

رفعت سعاد ظهرها فجأة فشعرت بدوارٍ فظيعٍ داهمها فاختلّ توازنها، استندت على الكرسي الفضيّ أمامها بيد وبالأخرى حاوطت جبينها تضغط عليه وقد عضت على شفتها السفلى بوجع، انتبهت الحاجة رائدة الى أنينٍ خافت صدر عن كنّتها فقطبت جبينها بتساؤل ثم صاحت عليها: سعاد؟ ما بك؟
في هذا الوقت كانت عليا تهبط الدرج عندما انتبهت لسعاد فسارعت بخطواتها حتى أمسكتها من ساعدها تسألها بلهفة: ما الأمر سعاد؟

أجلستها على الكرسي الذي كانت تستند إليه وأمسكت بكفها تفرك باطنه وفي نبرتها قلق حقيقي، بينما تحركت الحاجة رائدة ناحيتهما بخطوات رشيقة نسبةً إلى عمرها، ربتت على ظهر ابنتها آمرةً: اجلبي لها كأساً من اللبن مع الملح.
غادرت عليا تنفذ الأمر دون تردد، بينما جلست الحاجة رائدة قرب سعاد تسألها بعطف: آلمكِ رأسكِ مجدداً؟
آماءت سعاد بضعف فتحدثت الحاجة بحزم: يجب أنْ نعرضكِ على طبيبٍ إذاً...

أمسكت سعاد بساعد حماتها راجيةً بلهفة: لا يا خالتي أرجوكِ، لا تخبري كمال بالأمر، يكفيه همّ ورد والعائلة...
عقدت أم كمال حاجبيها باستغراب فنهرتها باستنكار: لا أخبره؟ أنتِ مُدركةٌ لما تقولين؟ مازال يراودكِ هذا الوجع منذ شهر وأكثر، وأنت لا تريدين لكمالٍ أن يعلم؟
تجمعت دموعها عند زاوية مقلتيها لتتابع رجاءها لوالدة زوجها: لا أريد أن أوجعه يا خالتي افهميني أرجوك.

تركت ذراعها لتنظر إلى الأرض مضيفةً بجزع: لا أعرف لماذا ولكن، أشعر بأن شجرتي ستقع قريباً.
لم تفهم الحاجة رائدة كلماتها المبهمة فاستوضحت بشك: ما الذي تقصدينه يا سعاد؟ هل تخفين عني أمراً آخر؟

أغمضت سعاد عينيها تاركة العنان لعبرتها لتسقط وهي لا تمتلك إجابة حقاً، هي فقط تخفي عنهم هواجسها التي تتزايد باضطراد، تشعر بأنّ أوراقها ستسقط قريباً والأعجب أنه ليس هناك سبب محدد، فهي لا تعاني من أمراض سوى ألم رأسها الذي يزورها بين الفينة والأخرى، لكن قلبها ينبؤها بما هو أسوء، استرابت الحاجة رائدة من صمتها ولم تكد تسألها مجددا حتى سمعت كلتاهما صوت كمال وقد عاد من مخزنه مبكراً هذه المرة، سرعان ما رسمت سعاد على محياها الشاحب ابتسامة نضرة وقد هبت لاستقبال زوجها، والذي ابتسم لها بحب ثم قبّل أعلى رأسها متسائلا برفق: كيف حالك يا أم ورد؟

يا الله كم تحب تدليله هذا، ابتسمت بخجل عذراء وهي تجيبه: بخير ما دمتَ ياسندي بخير.
لاحظ والدته جالسة فتجاوز سعاد صوب الحاجة رائدة، رفع كفها يقبله وعلى جبينها متسائلا: كيف هو رضاكِ اليوم عني يا نور البيت؟

تبسمت الحاجة ببشاشة وهي تدعو له بطولة العمر والرزق الوفير، قاطع حديثهما عليا وهي تخرج من المطبخ بلهفةٍ حاملةٍ كوباً زجاجياً وقد خلطت فيه بعض اللبن الرائب مع الملح، توجهت نحو سعاد لتصيح بعجالة دون ملاحظتها لكمال: خذي اشربيه كله.
استقام كمال في وقفته وقد تغضن جبينه فسأل سعاد التي بان توترها واضحاً: مالأمر سعاد؟هل تشتكين من شيء؟

اتسعت عيناها بصدمة سرعان ماتجاوزتها لتبتسم بتوتر وهي تتناول الكوب من عليا مجيبةً بكذب متقطع: أنا؟ لا أبدا، أساسا هذا اللبن لخالتي.
سارت حتى وقفت أمام خالتها لتضيف وهي ترجوها بعينيها: صحيح يا خالتي؟
رغم عدم تقبل الحاجة رائدة لكذبة سعاد إلا أنها تماشت معها وأخذت الكوب منها، وسط استغراب عليا وشك كمال، عادت الحاجة رائدة إلى ابنها لتسأله بجدية: كأنك عدتَ باكراً اليوم؟

فطن كمال لسبب عودته مبكراً إلى المنزل فأجابها باحترام: نعم صحيح كدتُ أنسى، الشيخ رمضان مريض، وأتيتُ أسألكِ إذا كنتِ تحبين الذهاب معي لزيارته في الغد؟
شهقت سعاد بجزع فيما تحدثت الحاجة أم كمال دون تردد؛ طبعا سأذهب، فالشيخ رمضان كان صديقاً لأبيك، وهو ذو أفضالٍ كثيرة.
أشار لها موافقاً ليقول بحزم: رغم أنني لاأريد أن أتعبك فالطريق طويل، لكن كما قلتِ الشيخ رمضان أفضاله لا تعدّ.

تحدثت سعاد برجاء: هل يمكنني القدوم أيضا؟
وضع كمال يده على كتفها مبتسماً: كما تريدين يا أم ورد، يجب أن تتجهزا باكراً، فمسيرنا بعد صلاة الفجر.
التفت صوب شقيقته يسألها: وأنتِ يا عليا؟ ألا تودين الذهاب معنا؟
تبسمت عليا وهي تشير نافيةً لتقول: لا يا أخي، اذهبوا أنتم، أنا سأبقى لأجل الأولاد.
آماء كمال بتفهم ثم عاد يخبرها بمزاح: كما تشائين، ألن تحضري لي الغداء يا أم مياس؟ فعصافير معدتي تتقاتل في الداخل!

تهلّل وجهها ببشاشة وهي تشير إلى عينيها قبل أن تركض ناحية المطبخ: من عينيّ الاثنتين يا أخي، خمس دقائق فقط...
قهقه بمرح على توأمه وهي تعدو من أمامهم، ربت على كتف زوجه قبل أن يصعد الى حجرته ليبدل ثيابه ويصلي فرضه، تاركاً سعاد تُشيعه بعينيها الدامعة وفي نفسها ألمٌ لأجله، كانت الحاجة رائدة تراقبها بعينين مُتفحصتين، وفي داخلها هاجسٌ ينبئها بقرب هطول المصائب على هذا البيت الكبير...

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة