قصص و روايات - قصص بوليسية :

رواية حي الورد للكاتب علي اليوسفي الفصل الخامس والعشرون

رواية حي الورد للكاتب علي اليوسفي الفصل الخامس والعشرون

رواية حي الورد للكاتب علي اليوسفي الفصل الخامس والعشرون

(((الكلام الذي لم يقال يحرق الروح، والآه المكتومة تخنق الشريان، وأعظم جهادٍ يخوضه الإنسان مع الغول الكامن في أظلم بقعةٍ من ذكرياته ))).

لم يغبْ عن المنزل أكثر من ساعة أو ربما ساعة ونصف، عندما غادر كانت بخير، ودعته ببسمةٍ صافية مصاحبةً لأدعيتها المتتالية، ليتفاجأ باتصال ابنته تنبأه بأنّ والدتها قد سقطتْ مُغمىً عليها.

مابين طرفة عين عين والتفاتتها كان كمال قد وصل إلى منزله لينقل زوجته إلى المستشفى، بعد أن فشلت جميع محاولاتهنّ في إفاقتها، رافقته أروى وعليا وهما الآن تجلسان على مقاعد الانتظار امام الغرفة التي حجزوا سعاد داخلها، في حين كان كمال يتحرك في الرواق والقلق قد تمكن منه، لم يستطع كبح مشاعر الخوف التي أطلّت من مقلتيه، خوف من أن يفقدها كما فقد ابنه مسبقاً، مجرد التفكير بهذا الخاطر جعل الدماء تغلي داخل عروقه فتجمدت قدمه قبالة الباب وقد علّق انظاره على الكتلة الخشبية الخضراء، انتبهت عليا إلى وجه توأمها فقرأت القلق واضحاً عليه، استقامت من مكانها لتقف بجانبه وتقبض على ذراعه لتسأله بقلق: كمال؟ هل أنت بخير؟

بالكاد استطاع التطلع إلى شقيقته فازدرد ريقه ليجيبها بهمس مبحوح: أنا بخير.
لم تصدقه بالطبع فنبرته أوحت لها بما يدور داخله وإن لم ينطق فقالت بنبرة ذات معنى لتطمئنه: لاتخفْ عليها، ستكون بخير.
أطلّ الجزع من عينيه ليهتف بقلق: لم تشتكِ من شيء، عندما غادرت كانت بخير، مالذي حدث؟
لم تعرف بمَ تجيبه فتبسمت في محاولة لتطمئنّ نظراته الخائفة: ربما نزل ضغطها فقط، لاتقلق ستكون بخير إن شاء الله.

رفع رأسه إلى الباب الذي اختفت خلفه سعاد منذ مدة ليتمتم خلفها: إن شاء الله.
تطلعت إلى أروى الواجمة على الكرسي خلفها، وقد ضمت قدميها إلى صدرها وأسندت ذراعيها فوقها، ودفنت رأسها بين رسغيها فقالت عليا بعتاب: عليكَ أن تكون أقوى من هذا ياكمال، انظر إلى أروى كم هي خائفة.

تلفت كمال بدوره إلى ابنته ليجدها تنتفض بخفة بين الفينة والأخرى فأدرك أنها تبكي بخوف، استطردت عليا قائلة: اذهب إليها، وأنا سأحضر لها الماء.

أماء لها بالإيجاب فاتجه حتى جلس بجانب أروى التي رفعت مقلتيها الدامعة إليه، سرعان ما انتفضت لتلقي بنفسها في أحضانه ليربت كمال على حجابها الأبيض، احتبست عبراتٌ حزينة في مقلتيّ عليا وهي ترى تقارب الابنة والوالد، وفي قلبها شيءٌ من الخوف على مستقبل هذه العائلة الصغيرة، لم تطلْ الوقوف فتحركت محاولةً الهروب قبل أن يلمح كمال خوفها هي الأخرى، سارت في الرواق الطويل بمعطفها الأخضر بلون العشب ووشاح رأسها الأسود، كانت عليا من مدمنيّ هذا اللون ربما لأنه يشابه حياتها الفارغة، استوقفت إحدى الممرضات لتسألها عن مقهى المشفى لتشتري قارورة ماء فدلّتها الأخيرة، لتتابع عليا مسيرها غافلةً عمّن ينتظرها في الأسفل...

كان مازن هو الآخر في طريقه إلى الخارج قبل أن يُصادف رفيقه الطبيب حسام خارجاً من المصعد، استوقفه الأخير مُنادياً باسمه فهتف مازن بتساؤل: حسام! أين أيامك يارجل؟ لم نتقابل منذ أيام!
تبسم حسام بإرهاق بينما يضع يديه في جيبي معطفه الطبي الأبيض مجيباً بتعب: حقك عليّ يامازن، لقد انشغلتُ في متابعة عمليات التجميل للرجل الذي وجده السيد كمال في مخزنه مع طبيب التجميل.

تلاقى حاجبيّ مازن باستغراب قائلاً: نعم لقد سمعتُ عن هذا الشاب، وهل استطاعوا أن يرمموا حروقه؟
رفع حسام كتفيه بلا مبالاة قائلا: لقد فعلنا كل مانستطيع، إلا أنّ الرجل مازال في غيبوبة الآن، بانتظار أن يستفيق لنرى النتائج.
أشار مازن بتفهم ليتحرك كلاهما في الرواق فسأل: وهل تمكنتم من التعرف على هويته؟

نفى حسام برأسه ليستطرد مجيباً بتفكر: للأسف لم نعرف عنه شيئاً بعد، كانت هناك ضابطٌ تكون ابنة شقيقة السيد كمال، أظنّ أنّ اسمها مياس، قالت أنها ستتولى مهمة التعرف عليه، ومنذ يومين أتى أحد الضباط من طرفها وأخذ عيّنةً من دم الرجل، لكنهم لم يخبرونا بشيء حتى الآن.
كانا قد وصلا إلى الرواق الواسع المؤدي إلى خارج المشفى فتساءل: بالمناسبة، حادثني ربيع وطلب رقم هاتفك؟

ابتسم مازن بخفة مجيياً: نعم لقد تحدث معي، وطلب أن أزور مشفى الأورام السرطانية حيث يعمل، لأقدّم بعض الدعم النفسي للمرضى هناك.

ودّع مازن رفيقه بعد وعدٍ منه باللقاء حينما يتفرغ وسار خارجاً من المشفى، إلا أن قدماه تصلّبتا تماما كما جسده حينما وقعت عيناه على شقيقه أويس، والذي أوقف سيارته بتهوّر حتى أصدرت مكابحها صريراً عالياً، ترجل بسرعة والتفّ إلى الناحية الأخرى ليخرج مياس الفاقدة لوعيها من الكرسي الخلفي، ويجري بسرعة ناحية مازن الذي استفاق من شروده المستغرب ليندفع واقفاً في وجه شقيقه ليتساءل بتعجب وعيناه تجول على كليهما: أويس! مالذي حدث؟

توقف أمامه يلهث بشدة هاتفاً بلهفة وتقطع: لا وقت مازن، أرجوك، فقط أنقذها..
لا ريب أنها المرة الأولى حيث يرى أخاه بهذه الحال، نقل مازن أنظاره تالياً إلى مياس النائمة لاتدري عن شيءٍ حولها ودون أن يستفهم عن شيءٍ آخر تحرك من أمامه ليجري قائلاً: تعال معي.

في هذه اللحظة توقفت سيارة أخرى مخلفةً خلفها زوبعةً من الغبار، بالكاد انتظر رائد حتى استقرت السيارة على الطريق ليهبط منها لاحقاً أويس ومن خلفه كان طارق، تبع أويس خطوات شقيقه والذي كان في طريقه إلى قسم الطوارئ حين مرّ بجوار عليا، لم تعبئ الأخيرة بالرجال الذين يتراكضون خلف بعضهم، لكنّ المشهد عندها تباطأ وهي ترى مياس جثةً شاحبة بلا روح تتدلى ذراعيها من بين أحضان شابٍ غريب لا تعرفه، استوقفته عنوةً وهي تصرخ بلوعة: مياس ابنتي!

تجمد أويس مكانه في حين حاوطت عليا وجنتيّ ابنتها محاولةً إفاقتها لكن دون جدوى، تطلعت إليه صارخةً في وجهه: ابنتي! مالذي جرى لها؟
شحب وجهه ولم يستطع النطق لثوان، فيما تبادل الثلاثة الباقون نظرات مستغربة فيما بينهم حين أدركوا أنّ هذه السيدة الغريبة هي والدة مياس، كان رائد أول من اندفع ليقف جوارها قائلا بكذب: لا تقلقي سيدتي مياس بخير، لقد تعرضت لحادث سيارة بسيط.

طالعته بمقلٍ دامعة هاتفةً في. وجهه بصياح وهي تلطم على صدرها: ياويلي، حادث سيارة!
تقدم مازن ليجاري رائد في كذبته قائلا بعجلة: سيدتي أرجوك دعينا فقط ننقلها إلى الداخل لنطمئنّ عليها.

ابتعدت عليا ليتابع أويس طريقه لاحقاً خطوات شقيقه حتى تمّ إيداعها في غرفة الطوارئ تحت أشراف حسام الذي أمر الجميع بالخروج، رغم إصرار عليا في البداية لأن تبقى معها لكنه أخرجها غصباً، وحسناً فعل فما اكتشفوه تالياً وضع الجميع في موقفٍ حرج.

هذه المرة سيقتله الخفاش لامحالة، هكذا فكر سهيل وهو يدلف خلف رئيسه إلى صالة الطعام الفاخرة، كان يقلب في عقله محاولاً البحث عن جملٍ مناسبة لإخبار خطاب بآخر التطورات، كالعادة سحب الكرسيّ ليجلس خطاب واضعاً الفوطة على قدميه، تفحّص الطاولة كعادته ليتأكد من مدى نظافتها وترتيبها، لكنه لم يبدأ الطعام بل وضع كفيه مغلقين بحركة ارستقراطية فوق الطاولة، تطلع نحو المنظر الساحر محادثاً سهيل الذي وقف خلفه ضاماً كلتا يديه خلف ظهره: ألم يخبركَ صلاح بآخر التطورات لديه؟

كانت نبرته هادئة تماماً إلا أنها كادت توقف قلب سهيل عن النبض من فرط خوفه، ابتلع ريقه محاولاٍ الإجابة بنبرة عادية: بلى سيدي، لقد حادثني منذ لحظات.
رفع خطاب حاجبيه باستغراب لتأخر سهيل في نقل الأخبار إليه على غير العادة، فالتفت بنصف استدارة ليرمقه من خلف أكتافه هاتفاً باستغراب: حادثك؟ ولم تخبرني بعد؟

ابتلع ريقه الناشف أصلاً وقد غدى وجهه كليمونة معصورة، فأدرك خطاب وجود خطب ما فتساءل بهدوء يخفي خلفه زلزالاً: ماذا أخبرك صلاح؟
لم يتمكن من تأليف أي كذبة حتى الآن لأن الخفاش سيكتشف الحقيقة عاجلاً أو آجلاً، سرط ريقه بخوف ليردف بشجاعة مستعجلة: سمع الضابط أويس التسجيل الذي لفّقه صلاح، فقام باستدراج مياس إلى منزله و...
انخفضت نبرته حين نطق آخر كلماته: قام بتعذيبها.

اتسعت عينا خطاب تدريجياً حتى لفظ سهيل آخر جملة لينتفض واقفاً في لحظة، التفت ناحية سهيل الذي شحب وجهه دفعة واحدة وكأن أوردته قد خلت من الدماء، رفرفت مقلتيه بعدم ثبات وهو يسمع سؤال خطاب: ماذا تعني بأنه عذّبها؟
تلجلج سهيل في الإجابة قائلاً بتقطع خائف: لقد..
لقد جلدها حتى، أُغمي عليها...
قبض خطاب على مقدمة ثياب سهيل الرسمية ليصرخ به بنبرة غاضبة: أيها الأحمق، كيف سمحتم له بأن يمسّها بسوء، أخبرني؟

بالكاد استطاع سهيل انتزاع بضع كلمات من جوفه فقال بهمس مرتعد: سيدي هذا، الوغد صلاح من أخلّ بالأوامر..
قاطعه الآخر وهو ينفضه بعيداً عنه صارخاً بقوة: أوباش، جميعكم أوباش.
ابتعد سهيل بضع خطوات فاستطاع تمالك نفسه قبل أن يسقط أرضاً، كاد قلبه يتوقف حرفياً من منظر خطاب المخيف والذي عاد ليصرخ به: لم تكن هذه الخطة، كيف قام بتغييرها ذلك الغبي؟

حاول تركيب بضع كلماتٍ مفيدة ليجيب سيده: لقد باغته أويس سيدي، لم يكن صلاح قد انتهى من تنسيق التسجيل حين رآه الأخير، فاضطر أن يخبره بخيانة مياس.

جزّ خطاب على فكه بقوة حتى كادت تصرخ أسنانه توسلاً وهو يتنفس بقوة وعدم انتظام، لم تكن هذه الخطة، كلف صلاح بأن يزوّر تسجيلاً بصوتها لتبدو كأنها الجاسوس، وأن يقدم التسجيل إلى العميد المسؤول عن عمل اللواء جلال فيأمر الأول بسجن مياس على ذمة التحقيق، وهناك سيحرص على توريطها بكل مايُتاح له من وسائل وكم سيتسلى في رؤيتها وهي تحارب لوحدها حين يتخلى عنها الجميع، لكن تهور وغباء صلاح أطاحا بكل خططه. كان سهيل واجماً يراقب تنفس رئيسه المسموع بوجل منتظراً أوامره التالية، فتطلع خطاب صوبه ليسأله بنبرة خطيرة: وأين هي الآن؟

سارع سهيل بالإجابة قائلاً بتذبذب: أخبرني أحد عيوني أنّ أويس نقلها إلى المشفى منذ لحظات.
مازالت نظراته حادة حين عاود السؤال: وصلاح النذل، أين هو؟
بآلية خائفة أجاب الآخر: بعد أن كشفوا كذب التسجيل هرب.
زفر خطاب بضيق ليأمره أخيرا وهو يتطلع نحوه باشمئزاز: أرسل أحداً إلى المستشفى ليعرف لي آخر التطورات.

كاد يتحرك قبل أن يعود ليرفع إصبعه مهدداً: اما بالنسبة لذلك الوغد، قم باستدراجه واقتله، ثم احتفظ برأسه هدية لمياس حتى آمرك.

حرك سهيل رأسه بطاعة ليخرج خطاب مصطحباً معه موجة الغضب العاتية التي حاوطته حتى دلف إلى مكتبه، رغم هدوء المكان من حوله إلا أنه شعر بصخبٍ مزعج داخل رأسه، كلّ ما أراده هو اختبار قوة تحملها ليعلم إلى أي مدى يمكنه الاستمرار في لعبته معها، لكنّ التطورات الأخيرة ستوقف اللعبة، بل ستغير مسارها نهائياً، جزّ على فكيه بقسوة وهو يتخيل كم عانت مياس تحت يديّ ذلك الهمجي، نار هائلة اشتعلت بين جنبيه تزين له قتل صلاح وأويس ومعهم سهيل بيديه ليرسل لها رؤوسهم كهدية، ربما هذا فقط ماقد يخمد النار التي لم يعي سببها حتى الآن...

لم يهدأ منذ أن أخرجوه من غرفتها، بقي يدور في الرواق كوحشٍ مقيد، ترافقه نظرات رائد المغلولة والتي تزين له قتله في التوّ، لولا تواجد عليا التي جلست على الكرسي تنوح وتندب على ابنتها، تضرب على قدميها تارة وعلى رأسها حيناً أخرى، بينما ابتعد مازن الذي استفرد بطارق محاولاً الاستفهام منه عن هوية هذه الفتاة ومن هي بالنسبة لشقيقه، أخبره طارق بعضاً مما يعرفه لكن كلاهما لم يقفا على حقيقة ماحدث بين مياس وأويس، كلها كانت مجرد تخمينات.

أطلّ حسام أخيراً وعلى وجهه علامات الضيق البائنة لينتبه إليه الجميع، كانت عليا اول من انتفض في وجهه هاتفةً بلوعة: ابنتي حضرة الطبيب، أرجوك أخبرني كيف حالها؟
أجبر نفسه على الابتسام بخفة مدّعياً ليجيبها بلطف: لاتقلقي سيدة عليا مياس بخير، إنها نائمة الآن.
تهدّج صدرها بخوف طبيعي لتعاود السؤال بارتجافة: هل، هل يمكنني الدخول إليها؟

مازال محافظاً على راحة كاذبة على وجهه قائلا بعملية: بالتأكيد، سيقوم طاقم التمريض بإخراجها الى غرفة عادية خلال لحظات.

لم يكدْ ينهي جملته حتى فُتِح الباب من خلفه على مصراعيه، ليظهرمن خلفه شاباً وفتاتين يرتدون معاطفاً طبية تُدلل على هيئتهم كممرضين، يسحبون سريراً طبياً وفوقه قد استلقت مياس النائمة كأميرة، لطمت عليا مجدداً على صدرها وهي تجري لتوقف السرير، وتتفحص وجه ابنتها قائلة بندب: ويلي عليكِ يا ابنتي، مالذي جرى لك ياحبيبتي؟

اقترب رائد حتى رآها وقد بان قلقه واضحاً في مقلتيه، بينما أمسك حسام بذراعي عليا من الخلف مترجياً: لو سمحتِ سيدة عليا، دعيهم ينقلوها إلى غرفتها لترتاح.

تطلعت نحوه بعبرات باكية ثم أشارت له بتفهم لتبتعد قليلاً سامحة للممرضين بمتابعة سيرهم إلى غرفة عادية في ذات الطابق، وقد تعلقت بحافة السرير ونظراتها لم تفارق وحيدتها، شيّعهم أويس الذي تجمد منذ أن خرج حسام من غرفة الطوارئ، وحتى حين رآها مستلقية هكذا بلا حراك لم يحرك ساكناً، انتبه إلى شقيقه مازن الذي لكزه بذراعه، ثم سأل رفيقه: أخبرني حسام، كيف حالها؟
هذه جريمة واضحة المعالم.

هدر حسام بهذه الجملة المقتضبة بكل مااعتراه من ضيقٍ واشمئزاز وهو يطالع الوجوه الأربعة أمامه، تبادل طارق مع مازن نظرات متعجبة فيما كان رائد يطالع أويس الواجم كذئبٍ يراقب فريسةً، انتبه أربعتهم إلى هتاف حسام المنزعج: الفتاة تعرضت للتعذيب بأبشع صوره، في حياتي كلها لم أرَ مثل هذا، حتى عدي رئيس المخفر لم يفقد إنسانيّته مع بسام وورد كما حدث مع مياس.

نكّس أويس رأسه بعد هذا التوبيخ مُدركاً انه المقصود بكل حرف منه، فيما تقدم مازن خطوة واحدة من حسام متسائلاً باستغراب: مالذي تقصده حسام؟ مانوع التعذيب الذي تعرضت له مياس؟

تلاقى حاجبي الاخير بضيق وهو يخبرهم بإسهاب عمّا رآه من آثار على جسد مياس، وصفه جعل مازن يفتح عينيه عن آخرهما وهو لا يكاد يصدّق بأن أخاه قد يفعل أمراً مماثلاً، وبحنكته الطبية أدرك مرض أويس والذي لم يرفع رأسه إليهم ولم ينبس بحرف لغاية اللحظة.
انتبه مازن إلى حديث حسام الذي أردف: للأسف مازن، مهمن كان فاعل هذه الجريمة يجب أن نخبر عائلتها.

كان رائد أول من اندفع ليقف في وجه حسام هاتفاً بأمر: لا، لن تخبر أحداً حضرة الطبيب، مياس لن تقبل بهذا.
طالعه الأخير بعدم فهم ليردف بنبرة ذات معنى: ولا أعتقد أنّ في إخبار عائلتها أي نفع لها ولهم، لذا دعنا نترك الأمر على أنه حادث سيارة بسيط.
استهجن حسام مقاله حتى تدخل مازن مؤيداً: وأنا أوافق النقيب على ماقال حسام، لقد رأيتَ حال والدتها أمامك، ولا أظنّ أنك إن أخبرتها الحقيقة فسيخفف هذا من قلقها وخوفها.

تجعد جبين حسام بعدم رضا فصاح باستنكار: تريد مني أن أكذب يا مازن؟ أهذه الأخلاقيات التي أقسمتَ عليها؟
وقف مازن بمواجهته ليردف بتفهم محاولاً إقناعه: أنت لن تكذب يا حسام، أنت ستخفف من هول الحقيقة على عائلة المريضة، وخاصة والدتها.
بدت على حسام بوادر الاقتناع مما شجع مازن على مواصلة حديثه: وإن أردتَ رأيي دعنا ندعُ الأمر بين يديّ مياس، ربما هي أيضاً لاتحبذ أن يعلم ذووها بالحقيقة.

ارتخت ملامح حسام جزئياً بعد اقتناعه بحديث مازن، خاصة وأنه رأى حال عليا ومع علمه المسبق بوضعها فقد خمّن انهيارها إن علمتْ بحقيقة ماحصل مع ابنتها، لذا قرر، ولأول مرة، عدم إخبار عليا عن حقيقة وضع مياس تاركاً الأمر كله للأخيرة، هزّ رأسه بتفهم ليغادر عقبها فاستدار مازن نحو شقيقه الذي مازال على وضعه الأول، ولم يكدْ ينبس بحرف حتى انقضّ رائد ليقبض على تلابيب أويس صارخاً من بين أسنانه المتلاقية: أيها الوغد الحقير، كيف طاوعتكَ نفسك على فعل هذا بمياس؟

في وضع آخر لحصلت مذبحة أخرى بينه وبين رائد نظراً لقوة الاثنين الجسمانية، لكنّ أويس اكتفى بأن رفع أنظاره الخاوية إلى رائد الذي كانت عينيه تنطقان شرراً، تدخل طارق ومازن محاولان تهدئة رائد الذي أردف بهسيس: أتعلمُ ما الذي يمنعني من قتلك في الحال؟ فقط معرفتي بأنّ مياس لن ترضى بأن يأخذ أحدٌ حقها سواها.

أبعده عنه وهو يرمقه باشمئزاز ثم نفض يدَ طارق الذي أمسكه لئلا يتهور على أويس وابتعد متجهاً إلى غرفة مياس يتبعه طارق، بينما كان مازن قابضاً على ذراع شقيقه وقد تلبّس الحزن والخزيّ الأخير، سحبه مازن معه إلى غرفة مكتبه الخاصة علّه يستفهم منه عن حقيقة ماحصل، وإن كان مازن قد أدرك كنهَ مرض شقيقه.

لم يكن ليمرّر وجودها في المشفى دون أن يكتحل برؤياها، لذا اتخذ حسام من وجود مياس في المشفى حجةً لإخبار أروى ومحادثتها.
حثّ خطاه ناحية الطابق الذي تواجدت فيه مع والدها، إلا أنه توقف عند الزاوية عندما لاحظ خروج هويدا من الغرفة التي اُحتجزت داخلها سعاد، انتفض كمال حين رآها متسائلا في جزع: حضرة الطبيبة أخبريني، كيف حال سعاد؟

لم يكن مااكتشفته هويدا هيّناً على مسامع كمال و لا بدّ لها من إخباره، إلا أنها آثرت أن تُرجئ الأمر حين شاهدت أروى فأدركت أنها يجب أن تستفرد بكمال فأجابت بعملية: السيدة سعاد بخير وهي مستيقظة الآن، بإمكانكما الدخول إليها لبضع لحظات فقط.
تحركت أروى بخطوات مهرولة قبل والدها لتدلف إلى غرفة والدتها، كاد كمال يتبعها حين استوقفته هويدا: سيد كمال، أرجو أن تحضر إلى مكتبي بعد أن تطمئن على السيدة.

لم يطمئنّ كمال لنبرتها الباعثة على الشك فأردف بسؤال مستريب: خيراً حضرة الطبيبة؟ هل سعاد بخير؟
أماءت له إيجاباً وشبح ابتسامة صغيرة على شفتيها: هي بخير الآن، لكن يجب أن أحادثك بأمر هام.
لم يفهم مقصدها رغم هذا أشار موافقاً ثم دخل ليتبع ابنته، وقد شيعته هويدا بحزن وهي تفكر بطريقة تخبره بشكوكها والتي لن تسره أبداً...

كان وجه سعاد شاحباً فاقداً لرونقه، وهذا لم يشجع هويدا على إخبارها بوضعها، فلم يتمكن كمال من فهم أي شيءمنها.
خرج بعد وقتٍ قليل متعللاً بضرورة البحث عن عليا بعد أن طال غيابها، إلا أنه استحثّ خطواته نحو مكتب هويدا بعد أن استدلّ عليه من إحدى الممرضات، طرق على الباب حتى سمع الإذن من الداخل ليدلف بهيبةٍ طاغية، تحدثت هويدا بحبور مشيرةً إلى الكرسي أمام طاولتها: تفضل سيد كمال واسترحْ.

جلس كمال قبالتها وبوجهٍ جامد الملامح ونبرة جادة سألها مباشرة: أخبريني بصراحة عن حال سعاد حضرة الطبيبة، فوجهها لم يكن مبشراً بالمرة.
أغلقت هويدا كتاباً ما كان أمامها ضامةً كلتا كفيها فوقه، اقتربت بجسدها من الطاولة محاولةً تنسيق جملها لتخفف من هول القادم على مسامع كمال، فأردفت بعملية: في الحقيقة سيد كمال، عندي شكوك غيرحميدة حول وضع السيدة سعاد.

سكتت لثانية تُعاين ملامحه التي تبدلت وسمعت سؤاله المتردد: مالذي تشككين به بالضبط حضرة الطبيبة؟
ضغطت على شفتيها قبل أن تخبره بكل صراحة: أشكّ بوجود ورمٍ في منطقة الصدر لدى السيدة.
تهدل كتفاه بصدمة وتهدج صدره جزعاً، أطلّ الخوف مجدداً من مقلتيه ليهمس بصوت اختفى تقريباً: ورم؟ تقصدين سرطان؟

لم تستطع إلا أن تصدقه بكل ما تشكك به فأردفت بإيجاز: سيد كمال، الفحص الأوليّ أنبأني بوجود الورم، لكني لا أعرف بعد نوعه، ربما يكن حميداً أو خبيثاً، ولن أستطيع التأكد حتى نقوم بفحصها بالرنين المغناطيسي أو أشعة إكس، ولكن...
سكتت بطريقةٍ موحية ليضيف كمال بتلهف الخائف: ولكن ماذا حضرة الطبيبة؟ أرجوك أصدقيني القول هل ستكون سعاد بخير؟

تفهمت تعجله فتابعت هويدا بعملية: بإذن الله ستكون بخير، وكما أخبرتك لا أستطيع الجزم بنوع الورم الموجود حتى نقوم باختبارات الأشعة.
قال بعجالة: فلتقومي بكل مايلزم حضرة الطبيبة، المهم أن تكون سعاد بخير.
أعادت ظهرها للخلف لتعقد ذراعيها أمامها قائلةً بلهجة قاطعة: للأسف لا نستطيع، فالسيدة سعاد حامل.

كخزان ماء بارد انسكب على رأس كمال في ليلةٍ ثلجية وقع هذا الخبر عليه، فارتجف جسده تماماً كما أعضاؤه كلها، بانت الصدمة واضحةً عليه.
يا الله!
أبعد هذه السنوات تحمل زوجته ليضعه الله أمام اختبارٍ جديد بعد وفاة وحيده؟!

خرجت أروى بعد أن نامت سعاد باحثةً عن والدها وعمتها، لغاية الآن لم يعد أياً منهما، اعترض حسام طريقها بغير قصد حين خرج من إحدى الغرف فلم يمنع تعابيراً سعيدة اقتحمت محياه غصباً، على الرغم من ملاحظته لوهن محياها وآثار الدموع مازالت على وجنتيها، فتساءل بحبور: آنسة أروى؟ مالذي تفعلينه هنا؟

تحرجت لثانية من وقوفها مع رجلٍ غريب وإن كان أستاذها في الجامعة، إلا أنها أجابت بجدية: حضرة الطبيب، كنتُ في طريقي للبحث عن والدي وعمتي عليا.
هزّ رأسه بتفهم وقد اكتسبت ملامحه تجهماً مفاجئاً فأردف بنبرة جادة: لقد رأيتُ السيد كمال متجهاً إلى مكتب الطبيبة هويدا، أما السيدة عليا...
قطع حديثه فلاحظت أروى عبوسه لتقول بقلق: هل عمتي عليا بخير؟
سارع بتطمينها فتابع: السيدة عليا بخير صدقيني، لكنها في غرفة مياس.

توسعت عيناها بتوجس حين ذكر الأخيرة ليضيف حسام بلهجة هادئة محاولاً عدم تبيان توتره من كذبته: لقد تعرضت لحادث سيارة بسيط، لكن لاتقلقي إنها بصحة جيدة الآن.
لم تقتنع بحديثه فسألته بجزع: وأين غرفتها الآن؟ هلّا أرشدتني إليها لو سمحت؟

تنحى عن الطريق وهو يشير لها بيده فسارت أروى بجانبه محافظةً على مسافة معقولة بينهما، كانت خطواتها أقرب للهرولة لكن مامنعها أنها لم تكن تعرف الغرفة حتى أرشدها إليها حسام، انتظر لمدة قصيرة قبل أن يدّعي المغادرة، لكنه عاد وطرق على الباب ليدلف إليهنّ متذرعاً بالاطمئنان على حال مياس رغم أنها لم تستفق بعد، ولم تكن تلك إلا حجةً اتخذها حسام ليروي اشتياقه الخجول إلى مهجة القلب المتيّم...

خرج بعد مدةٍقصيرة عندما أنهى الفحص المزعوم على مياس، لكنّ قلبه لم يُطاوعه على الابتعاد فظلّ يدور في الرواق، لم يعدْ يُطيق صبراً ويريد محادثة كمال في أسرع وقت، ففط لتنتهي مشاكلهم الكثيرة، انتبه بعد وقتٍ قليل لحركةٍ خلف الباب فأسرع بالابتعاد لئلا يُفهم وجوده خطأً، تخفى في زاوية قريبة مع حرصه على عدم وجود أحدٍ يراه، انتفض قلبه بين أضلعه بعنف وهو يراها تخرج من الغرفة تتهادى في مشيتها كغزالةٍ شريدة، لمعت عيناه بصبابةٍ متلهفة حينما شاهدها تجلس على كرسيّ الانتظار وقد تهدل كتفاها بجزع عميق بان في مقلتيها الحزينة، لم يصبر أكثر فحثّ خطاه إليها فرفعت رأسها إليه وقد أطلّت من عينيها نظرة متسائلة، توتر لثانية فأجلى حلقه وقال بادّعاء: كنتُ أريد أن أسأل عن وضع السيدة سعاد، كيف حالها الآن؟

هزت أروى برأسها مجيبةً بنبرة مرهقة: إنها بخير، شكراً لسؤالك حضرة الطبيب..

أشار بدوره ولم يعِ تقريباً حرفاً مما قالت، لكنه انتبه لشروده بها فخاف الشبهة ليجبر قدميه على التحرك مُبتعداً، إلا أنّ نداءها الهامس باسمه أوقفه فرفرف فؤاده في صدره طرباً، التفت صوبها وقد اقتحمت السعادة محياه، استقامت بدورها لتسأله برقة: حضرة الطبيب، كنتُ أودّ سؤالك عن الرجل الذي وجده والدي في مخزنه بعد الحريق، كيف أضحى حاله الآن؟

حماسةٌ مفرطة سيطرت عليه لتهدر دماؤه في أوردته بقوة وهو يجيبها ببشاشة: إنه بخير، لقد أجرى له الاطباء عمليات التجميل، إلا أنه مازال في الغيبوبة لغاية اللحظة.
ثم تابع بحذر: أنا الآن في طريقي لرؤيته، لو أحببتِ أن تزوريه.

تفكرت لثانية قبل أن تشير برأسها موافقةً، استقامت حينها لتمشي معه في الرواق الطويل للمرة الثانية وصوت نبضاته يتعالى حتى خشيَ أن تسمعها أروى من فرط صخبها، صعدت معه في المصعد وماتزال محافظةً على تلك المسافة بينهما، لم ينزعج حسام من فعلتها بل على العكس زادت قيمتها وحبها في فؤاده الصبِّ.

بضع لحظات ودلفا إلى غرفة المريض، تأثرت أروى بمرآه حالما وقعت أنظارها عليه، فقد كان وجهه مغطىً بالشاش بأكمله فلم تظهر منه إلا عيناه وشفتيه المتشققة المختفية تحت كمامة جهاز التنفس، كذلك كفيه تمّ لفهما بالشاش الأبيض كحال معظم أجزاء جسده، هالها منظره وتلقائياً فكرت كم عانى هذا الرجل حين احترق جسده وهو مايزال على قيدالحياة، انتبهت إلى صوت الجهاز الذي يصدر صفيراً منتظماً، جالت أروى بعينيها على الرجل المسجى أمامها بتقييم محاولةً تذكر مادرسته في الجامعة لتفهم حالته، فلم تلاحظ نظرات حسام التائقة للحظة وصال، إلا أنه تنبه لفعلته فزجر نفسه موبخاً فثبت أنظاره على الرجل بدوره مستطرداً بعملية: مجرد رضوض في ذراعيه وساقيه وقد استنشق كمية كبيرة من الدخان أضرت برئتيه، كذلك توجد كدمات في رأسه أظنّ أنها السبب الأساس في دخوله في الغيبوبة.

منحته أروى نظرة عادية وهي تسأل بهدوء: وهل من مدة معينة لاستفاقته من الغيبوبة؟
حاول ألا يظهر ما يعتمل داخله، لكن الفرح يغزو ملامحه تلقائياً إن شعر فقط بتواجدها حوله، ناهيكَ عن كونها تحادثه الآن، أجابها بعد هنيهة بمشاكسة بريئة: يبدو أنكِ لم تذاكري جيداً آنسة أروى، ليس للغيبوبة مدة محددة، ربما تكون أياماً قليلة وربما أسابيع.

وضع كفيه في معطفه الأبيض مضيفاً وهو يلتفت نحوها كل لحظة: على كل حال نتوقع من حالته كل شيء، قد يستيقظ الآن وربما يأخذ الأمر شهوراً.

ما إن أنهى جملته حتى صدح صوت موظفة الاستقبال في مكبر الصوت تطلبه بالاسم لأمرٍ هام، اعتذر من أروى ليخرج بعدها تاركاً إياها برفقة المريض النائم، التفّت أروى إلى الناحية الأخرى لتتفحص الأجهزة التي تعمل بنظام ودقة، لم تلمس أي شيء لكنّ الفضول تمكن منها كونها تدرس الطب أساساً، فوجدت في تواجدها هنا وحدها فرصة لا تتكرر كثيراً للتعرف على الاجهزة والمعدات الطبية، لم تلحظ أثناء انشغالها أجفان الشاب خلفها وقد اضطربت مُعلنةً عن قرب عودته للحياة، وأصابعه الملفوفة بالشاش الأبيض وهي تتحرك بخفة، استدارت أروى ناحيته لتلاحظ أنّ نقط كيس المغذي بطيئة بعض الشيء فحاولت إصلاح الأمر، انحنت لتمسك بكفه محاولةّ ضبط الجهاز حين قبض على رسغها ا فجأة بقوة واهنة، ولم يمنعه هذا من إمساك كفها بمتانة غريبة على من هو في وضعه، أجفلت أروى بداية لفعلته إلا أنها سرعان مارفعت عينيها إلى وجهه لتلاحظ للتوّ عينيه البنية التي تجاهد لتقاوم الضوء، وخطوط حمراء ارتسمت على بياض عينيه من أثر الدخان الأسود، تبسمت أروى بنعومة حين رأته وقد عاد إلى وعيه فهمست بصوتّ مرهف النبرة: حمداً لله على سلامتك.

تعالى صوت تنفسه فأضحى متوتراً وغير منتظم وبان هذا على الكمامة الطبية التي تغطي فمه وأنفه، بيدها الأخرى قامت أروى برفع الكمامة عن فمه حتى يتحدث، فنطق بصوتٍ متقطع وقد بدى مبحوحاً واهناً: من أنتِ؟ وأين أنا؟

مع توالي أحداث هذا اليوم وتواجد أويس في غرفة مكتبه، لم يتمكن مازن من الذهاب إلى مشفى الأورام السرطانية فأخلّ بوعده لرفيقه، أخرج هاتفه ليطلب رقم ربيع محاولاً الاعتذار له لينتبه لتوّه إلى اتصالات كثيرة كان مصدرها رقم والدته ميادة وجهينة، ليدرك أنه تأخر عن موعد عودته دون أن يخطرهم بغيابه هذه الليلة، لذا غيّر رأيه ليحادث والدته ويتعذّر لها بعدم قدرته على الحضور متحججاً باضطراره للمناوبة نيابة عن أحد رفاقه.

أقفلت ميادة الهاتف مع مازن الذي نسيَ اليوم، وعلى غير العادة عيد ميلاده، تلقائياً اغرورقت عيناها بالدمع حين تطلعت حولها فلم تجدْ أحداً، فابنتها جهينة تثرثر مع خطيبها منذ أكثر من ساعة، والصغرى منى قد نامت بعدما ملّت كلتاهما من انتظار مازن والذي لم يجبْ على اتصالاتهنّ الكثيرة، تطلعت حولها فلم تجد سوى الفراغ المعتم، طاولة ملآى بأشهى الأطايب والمأكولات وقالب حلوى كبير مزين بشموع مُضاءة قد صنعته بنفسها، إلا أنها لم تجدْ سوى صوت الصرصار مؤنساً لها في ليلةٍ كان المفترض أن تكون من أبهى الليالي وأسعدها بتجمع العائلة كلها، لكنها الآن وحيدة، كوحدتها ذاتها منذ سنوات خلتْ.

رفعت رأسها إلى الطابق الأعلى حيث تتواجد غرفتها المشتركة مع عثمان، رغم أن سريراً واحداً يجمعهما كل ليلة، لكنّ عثمان بعيدٌ عنها بُعدَ النجوم عن متناولها، متى يسوقك الحنين إليّ ياعثمان؟ متى؟!

مازال الشرود هو مايسيطر على حواسّ أويس كافة، منذ أن سحبه مازن ليمشي معه كالمجذوب لا يعي ولا يبصر، جالساً على كرسي جلديّ، عاقداً كفيه ببعضهما ويسند رسغيه فوق ركبتيه، متطلعاً أمامه دون أن يرمش حتى، بدى ساكناً هادئاً لكن لم يدرِ أحدٌ عمّا يحدث داخل رأسه الآن، آلاف الصور والأصوات والأحداث تتدافع بفوضى عارمة في عقله، طنين ودبيب متلاحق قطعه صوت كوب الماء الذي جلبه مازن حين ارتطم بالطاولة الخشبية القريبة لترمش عيناه مع إيقاعه، جلس الأخير على كرسي مجاور متأملاً شقيقه وفي نفسه الكثير من الأسئلة، لكن ماجعله متردداً هو حال أويس الذي لم يفتح فمه لغاية اللحظة، لذا آثر مازن أن يترك المجال لأخيه حتى يقررالحديث من تلقاء نفسه.

كمْ جلد نفسه خلال الساعة الماضية، حين أدرك أن شقيقه مريض ولم يلاحظ هو، كم كان أعمى عن حقيقة كانت واضحة كعين الشمس، لكنه لم يرها كأنها ليلة كسوف!
مرت لحظات من الصمت المشحون بصرخات مكتومة حتى نطق أويس بشرود: الضجيج داخلي كأنين ذبابة مسجونة تحت كأس زجاجي، تدور في حلقات مغلقة وتضرب رأسها بهذا الطرف وذاك، بينما يراها من بالخارج فيضحك عاليا معتقدا بأنها تلعب.

رفع مازن رأسه الى أخيه وقد تلاحم حاجباه بذهول، صدقاً لم يعتقد بأن أويس سيتكلم قريبا، أجفل بخفة حين رفع الآخر رأسه إليه وقد التمعت عيناه، مضيفاً بنبرة خاوية: لن أتعب نفسي في شرح مايحصل داخلي، فلن يفهم الوجع إلا صاحب الجرح.
بعينٍ خبيرة أدرك مازن أن أويس لا يثق فيه بعد لإخباره بكل ماحدث فأردف: لم أسألك عمّا يحدث داخلك أويس ولم تكن لي النية في ذلك.

أخفض الآخر رأسه ليتابع الأول: ولن اسألك عمّا حدث مع مياس وكيف وصلتَ معها إلى هذه النقطة، أنا أردتَ أن أعرف أمراً واحداً فقط.
صمت للحظة قبل أن يضيف بنبرة ذات مغزى: ماسرّ الخوف الذي رأيته في عينيك عليها؟
لم تهتزّ تعابير أويس ليتابع مازن سؤاله بحذر: من مياس بالنسبة لأويس؟

رفرفت أجفانه مرات عدة مرات قبل أن ينطق بنبرة بان التأثر واضحاً فيها: وما الفائدة من إجابتي؟ لقد خسرتها قبل أن تعرف مكانتها بالنسبة لي.
لم يكن مازن بحاجةٍ لأكثر من هذا ليدرك صدق إحساسه، أخيراً شقيقه الأهوج ذو رأس الصوان قد لانَ لامرأة، مسح أويس على وجهه زافراً باختناق عظيم معترفاً بوهن: لقد أخطأتُ خطأً عظيماً لا يُغتفر مازن، لن تسامحني مياس أبداً..

افترّ فمه عن بسمة صغيرة لسماعه اعتراف أويس المتواري، فأيقن أن مياس لن تمرّ مرور الكرام في حياة شقيقه، ربت على ركبته بمواساة مخفية: المثالية في هذه الحياة أسطورة لا وجود لها أويس، لا أحد كامل ولا أحد بلا زلّات، بل الحري بك أن تصدق أن لا بشر في الدنيا بلا خطايا، فلولاها لما كنا بشراً، المهم هو أن تعرف كيف تصلح خطأك.

استقام عقبها مغادراً المكتب بأكمله، تاركاً لأويس فرصة الاختلاء بنفسه مع اقتراب الليل من انتصافه،
دفن وجهه بين يديه نافخاً بقوة القهر الذي ينهش داخله، ربما ظلمها وآذاها، لكنه آذى نفسه قبلها...

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة