قصص و روايات - قصص بوليسية :

رواية حي الورد للكاتب علي اليوسفي الفصل السادس والعشرون

رواية حي الورد للكاتب علي اليوسفي الفصل السادس والعشرون

رواية حي الورد للكاتب علي اليوسفي الفصل السادس والعشرون

(((مئات السيوف ضربت جسدي ولم أبالِ، آلاف الطعنات التي تلقيتها بصدرٍ رحب وبسمة ثقة، كلها لم توجعني كما صفعتك، تلك التي سددتها إلى قلبي فأدميته فاندثر عند قدميك قتيلا. ))).

ليلةٌ حافلةٌ بكل ما تحمله الكلمة من معانٍ، أحاسيس كثيرة احتوتها مشفى الحيّ بين جدرانها، فوضى عارمة في المشاعر والذكريات والأحداث، تشاركتها مع ذويها لكنها لم تخفف من آلامهم وأوجاعهم شيئاً، قطرات المطر الخفيفة تطرق القلوب الجريحة، والتي أنهكتها الحياة حتى تباطأت دقاتها، ولم تغفل لأحدهم عينٌ بعد...

ضربتان على الرأس تؤلمان.
لم يكدْ كمال يستفق من الضربة الاولى حتى باغته قدره بالثانية دونما رحمة، مازال جالساً مكانه في مكتب الطبيبة هويدا يفكر في المصيبتين اللّتين هبطتا فوق رأسه كطائرة مستعجلة، أسدل جفنيه بهدوء وأمام ناظريه مرّت سنوات زواجه بتتابعٍ قاتل، كأن تلك السنوات لم تكن إلا دقائق أو ساعات.
يا للفجيعة!

يدرك ردة فعل سعاد قبل أن يحادثها حتى، لكنْ لا مناص من المحاولة معها علّها ترقّ له، لن يحتمل ان تتركه هي الأخرى، فتحت هويدا الباب بعد أن قرعته لتحادثه بنبرة هادئة: هلّا ذهبنا سيد كمال؟

تفرقت أجفانه ببطءٍ شديد ليتبين دمع القهر داخلهما، زفر بثقلٍ بالغ ليستقيم تالياً بتلكؤ كأنما يحمل فوق كتفيه جبلاً، طالعته هويدا بشفقة بالغة ثم تحركت قبله يتبعها هو بتهادٍ حتى وصلا إلى غرفة سعاد، نظرت هويدا إلى كمال لثانية كأنها تستأذنه لتطرق الباب بعدها ثم تدخل أولاً، دخل كمال بعدها بملامح جامدة كلياً لاتُقرأ، كانت سعاد تحاول أن تعتدل في جلستها حينما ولج زوجها فقرأت في تعابيره اخباراً غير سارة بالمرة، لكنها على الأقل قد توقعت هذا.

تقدم كمال ببطء حتى أضحى أمامها فقرأ في مقلتيها توقعاً مسبقاً لما سيقال، تبسمت بوهن كأنها تواسيه فمدّت يدها حتى قبض على يدها الباردة كقطعة جليد، وجهها الشاحب زاد اصفراره وهو يحاول ترتيب الشال الملقى على رأسها بإهمال ليخفي خصلات تمردت من تحته، لم تكن سعاد أجمل النساء لكنها كانت حبيبته، وهي في عينه أجمل من أجمل النساء، هذا الحب قرأته هويدا واستشعرته حقاً، فزاد داخلها إحساس الشفقة عليهما من القرارات التي سيضطرون لاتخاذها قريباً.

كانت قد وقفت عند قدميّ سعاد، بابتسامةٍ صغيرة وطريقة عملية تحدثت وهي تضع كلا كفيها في جيبي معطفها الأبيض: سيدة سعاد، أحملُ لكِ خبرين، والحقيقة لا أعرف بأيهما أبدأ؟
تلقائياً ضغطت على كف كمال الذي احتواها بحنوّ وتهدج صدرها بعدم راحة، إلا أنها أردفت بشجاعة واهنة: ابدأي بالأسوء حضرة الطبيبة.

نظرة سريعة ألقتها هويدا صوب كمال الذي لم تفارق عينيه وجه سعاد، عادت بأنظارها إلى الأخيرة قائلة: الخبر السيء أنّ الفحص الأولي أنبأني عن وجود ورمٍ ما في صدرك، تحديداً تحت الثدي الأيسر.
رفرفت عيناها بذهول لتقاطع هويدا قائلة بهدوء ظاهري: تقصدين، سرطان؟
رفعت هويدا كتفيها بعدم معرفة معقبةً: لستُ متأكدة بعد، لذا يجب أن نجري فحوصاتٍ أكثر لمعرفة نوعه.

بلعت سعاد غصة غليظة في بلعومها وهي تجاهد ألا تذرف دموع الضعف أمام كمال، هزت رأسها بوهن قائلة بنبرة ضعيفة: افعلي ما يلزم...
لم تستطع إكمال جملتها حين اختنقت بحزنها، لكن هويدا لم ترحمها وهي تصفعها بالخبر الثاني: سأفعل بالتأكيد، لكن أولاً يجب عليكِ أن تعلمي بأنكِ حاملٌ في الشهر الثاني.

انفرجت شفتاها ومن من فرط المفاجأة كادت عينيها تخرجان من مكانيهما، ولم تعِ كلمات الطبيبة بعد، تلقائياً نقلت أنظارها إلى كمال الذي أنبأها بصحة الخبر عبر دموعه المحتجزة داخل مقلتيه، تعالت أنفاسها وحركت فمها محاولةً الحديث لكن عبثاً فصوتها قد اختفى، جرت عبراتها على خديها وهي تفكر فيما سمعت، لا ريب أنه امتحان جديد...

لم يكن الأمر منطقياً البتة، فالفحص الذي أجراه قبل سويعات لم يعطهِ أية إشارة لقرب استفاقة هذا الغريب، لكنه الآن مستيقظٌ بالفعل، بل وظائف جسده الحيوية كلها تعمل بشكل نظامي كأنه لم يكن مغيباً أصلاً، إن استثنينا ضعف جسده وبعض الضرر غير المخيف في رئتيه.

مازالت علامات المفاجأة هي المسيطر على وجه حسام منذ أن بحثت عنه أروى لتخبره بأنّ المريض قد استفاق، كان الأمر مستبعداً لديه رغم أنه بنفسه أخبرها أنه يتوقع استيقاظه بين لحظة وأخرى، أنزل السماعة الطبية عن أذنيه ليستقيم واقفاً ملقياً بنظرة سريعة على أروى الجالسة على مقعدٍ قريب، تنظر إلى الشاب الغريب ببسمة رقيقة أشعلت الغيرة بين جنبات حسام لسبب غير مفهوم، وجه أنظاره إلى الشاب الذي اعتدل بنصف جلسة وقد أخفى الضماد كل وجهه فلم يظهر سوى عينيه وشفتيه.

كان الشاب يطالعهم بنظرات مستغربة حتى اقترب حسام منه حاملاً في يده كشافاً صغيراً ليتفحص مقلتيه، جلس أمامه فيما يحدثه بنبرة جادة: هل تشعر بأي صداع في رأسك أو تشوش في النظر؟
نفى برأسه بخفة فابتعد حسام ليسأله بغتةً: بالمناسبة، ماهو اسمك؟

تلاقى حاجبيه بعدم فهم كأنما سؤال حسام طلسمٌ غير مفهوم، ظلّ يطالعه باستغراب حتى أعاد حسام السؤال مجدداً، فنظر الشاب إلى أروى التي كانت ترمقه باهتمام ثم عاد إلى حسام مجيباً بصوته المبحوح: لا أعلم!

الصدمة هذه المرة أكبر من أن تحتملها سعاد بسهولة، مع هذا قاومت حتى تستدرك وتفهم مافاتها فعلا، همست بسؤال: أنا حامل؟
هزت هويدا رأسها فضربت صاعقة كهربية جسد سعاد حتى كاد يُغمى عليها، فأسندها كمال من كتفيها هامساً باسمها بوجل، فرفعت رأسها إليه قائلة بنبرة باكية: سمعت ياكمال؟
جرت عبراتها بلا مانع من هول ماتسمع، لا يمكن أن يكون الأمر حقيقة، بعد سنوات عجاف من عمرها تحمل في هذا الظرف العصيب؟

الأمر ليس صعباً ربما، لكنها قطعت الأمل حتى ساقها اليأس لاتخاذ قرارات غبية ومجحفة بحقها هي قبل الجميع، لكن الآن يعود الأمل ليبزغ من جديد، لكن على حافة الخطر المسننة.
تحدثت هويدا متابعة لحديثها: أدعو أن تكون شكوكي خاطئة، لكن للتأكد علينا أن نجري المزيد من الفحوصات، ومع وجود الجنين يجب أن نتوخى الحذر.
رفع كمال رأسه نحوها متسائلا بجزع: ما الإجراءات القادمة حضرة الطبيبة؟ هل يجب أن نجهض الجنين؟

كلدغة عقرب سقطت جملته عليها فانتفضت في وجهه صائحة: أجننتَ ياكمال؟ لن أجهض ابني.
رمقها ذاهلاً من تبدلها السريع فهتف باستنكار: إن كان هذا الحل الوحيد لإنقاذ حياتك فمالذي ستفعلينه؟
قَسَتْ نظراتها إليه وقد تجهمت ملامحها مجيبة بعناد: إن كان فيها موتي فلن أقبل، لن أقتل ابني بيديّ.
طغى كبرياؤه عليه ليصيح بخشونة: وأنا لن أقبل أن تضحي بحياتك لأجل جنينٍ لم يكتمل بعد.

تلك القسوة اللحظية التي سيطرت عليها غابت وهي تسمع تقريعه الجارح، ظلت للحظات تناظر وجهه المتجهم بصدمة فعلية، حتى قالت هويدا لتحلّ المناوشات القائمة: أرجوكما لا داعي لهذا النزاع غير المجدي، انا لم أطلب إجهاض الجنين بعد.
نظر كليهما نحوها بتعابير مختلفة فقال كمال بنبرة صلبة: ماهي الإجراءات التي يجب اتخاذها حضرة الطبيبة؟ سننفذ كل ماتقولين.

عادت سعاد لتناظره بمفاجأة من تصرفاته، هاهو يتخذ القرار دون أن يأخذ برأيها أو يراعي مشاعرها كأم حتى، لم يعرها اهتماما وهو يستمع إلى إجابة هويدا: من المبكر تحديد مدى الضرر الذي قد يلحق بالسيدة سعاد أو الجنين، لذا سأطلب أولاً إجراء تصوير بالموجات فوق الصوتية، وقد يستلزم الأمر
أخذ خزعة من صدر السيدة.
هزّ رأسه بتفهم قائلا: افعلي مايلزم حضرة الطبيبة، نحن معك.

أشارت بدورها ثم استأذنت للخروج بعد أن طلبت منهما البيات في المشفى هذه الليلة، على أن تعود في الغد لاستكمال الفحوصات المطلوبة، ظلّ كمال على حاله شارداً في خيال الطبيبة المغادر، ساد الصمت للحظات حتى قطعته سعاد بجملة باردة: مهما كانت نتيجة تلك التحاليل يا كمال، لن أقتل ابني بيديّ.

تصلّب جسده كاملاً وزادت حدة أنفاسه وحرارتها، صرّ على أسنانه المتلاقية بكمد محاولاً إمساك أعصابه التي تكاد تنفلت في وجهها، تطلع إليها مجيباً بهدوءمُفتعل يخفي خلفه غضباً: كل ما تطلبه الطبيبة سيكون ياسعاد، ولا نقاش في هذا.
كاد يتحرك حين قبضت على كفه لتوقفه هاتفة بعبرات متتالية وغصة تخنقها: لا ياكمال يجب أن نتحدث ونتناقش، لا يحقّ لك اتخاذ مثل هذه القرارات وحدك.

ضاق ذرعاً بعنادها فنفض يدها عنه بقسوة ليصيح بها بشراسة أخافتها: بل يحق لي، عندما لا تتفهمين خطورة ما ترمي نفسك فيه فيحق لي ألا استمع لك، لأنكِ لستِ بوعيك.
ثبتت عينيها عليه دون أن ترمش لثانية، فصدمتها بفظاظة كمال الجديدة لاحدود لها، تابع كمال حديثه اللاذع كأنما يفرغ فيها سخطه: غريزة الأمومة عندك أعمتكِ عن رؤية ماتقحمين نفسك فيه، ولا تدركين أنكِ تخاطرين بحياتك...

قاطعته صارخة في وجهه لأول مرة في حياتها: لماذا تضع احتمال موتي في المقام الأول؟ لماذا تضعني في اختيار بين حياتي وحياة هذا الجنين؟ حتى الطبيبة لم تطلب إجهاضه بعد، فلماذا تفترض أنت الأسوء؟
حاول الحفاظ على تعابير صارمة قائلاً بجمود: على الأغلب سيكون هذا اختيار الطبيبة الأول ياسعاد، ولن أجازف بحياتك لأجل لحظة جنون منك.

تهدل كتفيها بعجز وهي تميل برأسها للجانب، حاولت استمالته علّه يستجيب لها فقالت بنشيج مكبوت: ربما، وربما لن تطلب إنزاله، سأقبل بأي حلّ تطلبه إلا هذا ياكمال، أرجوك...

اختنقت بآخر كلماتها فلانت تعابير كمال جبراً ليضمّ رأسها إلى صدره لتبكي بقهر يقطع أوصالها، أغمض عينيه بقوة وهو يحاول كبت غضبه، مايحدث معهما يستلزم أن يبقى أحدهما قوياً، ويشاء القدر أن يكون هو السند للجميع، ازدرد ريقه المرّ بصعوبة وهو يحاول تهدأتها، هامساً لها بعبارات مواسية.

بعد بعض الوقت هدأت سعاد فكفكفت دموعها وعدّلت من جلستها، في حين ألقى كمال بجسده على الكرسي القريب، دقت أروى على الباب قبل أن تفتحه لتدلف إلى داخل الغرفة بهدوء رقيق يشبهها حتى جلست على سرير والدتها لتقبل كفها فابتسمت سعاد بتعب، ثم وجهت أنظارها إلى والدها قائلة بحماس طفيف: أتعلم يا أبي؟ لقد استيقظ الشاب الذي وجدته في مخزنك قبل قليل.

استرعى حديثها انتباه كمال وقد بدى كمن نسي أمره في خضمّ كل مايعانيه، اعتدل في جلسته ليسألها باهتمام: حقاً؟ وهل قال شيئا عن اسمه او عائلته؟
سيطر الحزن على ملامح وجهها وهي تجيبه بصوت هامس: لا، لقد استفاق فاقداً للذاكرة.
صدمته بهذا الخبر حقا، وكأنّ المشاكل التي يعاني منها لم تكفه ليحمل همّ هذا الغريب أيضاً!؟

شبحٌ أسود بعيد يلاحقها، وهي تجري منه في الغابة وحيدة، تعثرت أكثر من مرة بالأغصان الضخمة التي اعترضت طريقها، وكادت تقع غير مرة في مستنقع ضحل إلا أنها تابعت الجري، ثيابها كانت ممزقة ومن يديها وقدميها كانت تسيل خيوطاً من الدم، لم تأبه مياس لكل هذا فقط أملت بأن تواصل هروبها من الشبح القادم، لم تتعرف بعد على هويته إلا أنها كانت خائفة، متوترة وترتعد وجلاً، كلها مشاعر لم تجربها بالمعنى الفعلي على أرض الواقع داهمتها هذه المرة.

جذع شجرة كبيرة للغاية أعاق طريقها لتنكفئ مياس على وجهها في منحدرٍ سحيق، التفت عدة مرات حول نفسها حتى سقطت في نهاية ذلك المنحدر وقد ارتطم رأسها بصخرةٍ ما، رفعت جسدها قليلاً وهي تتأوه ألماً لتتفحص مضارّ السقطة فانتبهت لسكون الجو المحيط بها بشكل غريب فراودها الشك، تطلعت حولها حتى تنبهت الى صوت زمجرةٍ مكتوم فتنبهت إلى وجود ذئبٍ رمادي اللون من خلفها، يسيل لعابه من طرفي فمه ويرمق مياس بنظرات جائعة، حاولت هي الوقوف ببطءٍ شديد حتى نجحت أخيراً وبقيت تطالع الذئب بحذر، بنظرة سريعة تفحصت مياس المكان فلم تجد ماقد تدافع به عن نفسها، حتى الأغصان التي كانت تعيق طريقها اختفت فجأة ولن تجد حولها ماقد. ينفعها، في هذه اللحظة وقعت جذوةٌ من نار من السماء بدت وكأنها وسيلة خلاصها الوحيدة، لم تهتمّ لمصدرها فقبضت على نهاية المشعل لترفعه في وجه ذلك الذئب لكنها لم تخيفه، بقيت عينيه اللامعة مثبتةً عليها، ومع انعكاس النار في مقلتيه لاحظت أمراً غريباً، كان صدرها يتعالى بوهن لكن حاجبيها انعقدا حين لاحظت صورة أويس، مالذي يجري؟

ربما هي تتوهم فقط!

نفضت رأسها بخفة ثم أغمضت عينيها وعادت لتفتحهما مجدداً، إلا أن الصورة عاودت الظهور وبشكل أوضح، حينها اقترب الذئب من مياس فتهدج صدرها بهلع، تراجعت للخلف حتى اصطدمت بشجرة ضخمة جداً فتجمدت مكانها بينما الذئب يواصل تقدمه حتى بات أمامها مباشرة، ارتعبت منه حرفياً لكن مافعله تالياً جعل الدهشة تتربع على محياها، بدأ يتمسح بها كأنه قطة وديعة مما جعلها تفتح عينيها بصدمة ذاهلة، اختفت الشعلة من يدها فمدت كفها الثاني بتردد لتتحسس على رأسه فلم يمانع، جثت مياس على ركبتيها وهي تراقبه شذراً حتى أضحى وجهيهما متقابلان، فمدت يدها بخوف إلى وجهه فأراح وجنته عليها، في هذه اللحظة تطلع الذئب إليها لينقلب وجهه في ثانية ليتخذ شكل وجه أويس...

كانت تتعرق وتحرك رأسها إلى الجانبين وتهمهم بكلمات غير مفهومة كأنها تعاين حلماً مخيفاً، حاولت عليا إيقاظها وهي تجفف حبات العرق الغزير من على وجهها لكن مياس لم تستجب، هدأت حركتها فجأة للحظات حتى انتفضت جالسة وهي تلهث بسرعة كأنها في مطاردة، جلست عليا قبالتها لتضمها اليها وقد احتلت السعادة تقاسيمها، بينما استغرقت مياس بضع لحظات حتى هدأت أنفاسها وعاينت المكان من حولها باستغراب، لم تكن تتذكر شيئا بعد فتراجعت عن عليا قليلا متسائلة ببحة مستغربة: أمي؟ مالذي حدث؟ وأين أنا؟

مسّدت عليا على وجنتها مجيبة ببسمة شاحبة: حبيبتي استفقتِ أخيراً؟ حمداً لله على سلامتك، أنتِ في المستشفى الآن.
بدت كأنها لم تعِ ماقالته والدتها فأضافت الأخيرة: أحضركِ رفاقك من القسم، وأخبروني أنكِ تعرضتِ لحادث سير بسيط.

تجهمت ملامحها حين طرقت بالها مشاهد من أحداث أمس، منذ أن استفاقت لتجد نفسها معلقةً في غرفةٍ مجهولة لا تعلم مكانها، مروراً باتهام أويس لها بأنها الجاسوس، وانتهاءً بصدمتها حين جلدها حتى غابت عن الوعي ولا شيء بعدها سوى الظلام.

انتبهت إلى نظرات عليا المستريبة فأيقنت أنّ أمها لم تصدق كذبة الحادث، وبذات الوقت لم تقف على حقيقة ماحدث، فحركت رأسها بتفهم لتعود بظهرها إلى الخلف فساعدتها عليا لتوضب لها الوسادة، جالسةً نصف جلسة عليها وتشعر للتوّ بآلام تغزو جسدها كله، تحاملت على نفسها لئلا تُشعر والدتها بوجعها فتجعد جبينها بعدم راحة، وتلاقى حاجبيها بضيق واضح، بينما تراجعت عليا حتى جلست على كرسيها. طرقاتٌ خفيفة على بابها جذبت انتباهها لتهتف مياس بصوت مازال ضعيفاً: ادخلْ.

فُتِح الباب ليظهر من خلفه طارق مبتسماً باتساع، تقدم نحوهما قائلاً بمشاكسة: ماشاء الله استيقظت الأميرة النائمة أخيراً.
نظراتها إليه لم تكن مريحة بل حافظت مياس على تجهمها حتى بات يقف أمامها، فرفع باقة أزهار غير مرتبة ليهديها إياها هاتفاً بمزاح: هذه الأزهار لك، أعتذر عن شكلها غير المرتب لكني بالكاد أفلتّ من حارس الحديقة قبل أن يمسك بي.

رفعت ذقنها بإباء دقيق وماتزال واجمة، لاحظت عليا هذا فاستغربت ردة فعلها، لكن يد طارق الممدودة جعلتها تشعر بالحرج فاستقامت لتتناول الباقة من يده الممدودة مبتسمة بمودة: شكراً لك، لم يكن هناك من داعٍ لتكلف نفسك يابني.
رغم حرجه من عدم ردها إلا أن طارق حاول أن يتجاوز الأمر ببساطة، فتبسم للأم قائلاً بمرح: لم أكلف نفسي لا تقلقي، سرقتها من حديقة المستشفى.

حافظت على بسمتها المُجاملة وهي تشير بتفهم ثم وضعت الأزهار بجوارها على الطاولة الصغيرة، بينما أجلى طارق حلقه ومسح على رقبته من الخلف بحرج ثم قال: سأتركك لترتاحي مياس، لكني سأعود لرؤيتك مجدداُ.
هذه المرة حركت رأسها بخفة فزال بعضاً من حرج طارق الذي تحرك خطوة واحدة قبل أن يعود متحدثاً بعجلة إلى مياس التي لم تتحرك أصلا: لا والله لن تتحركي من مكانك، أنا أعرف الطريق وحدي.

مرحه ولطفه هذا أضحكا عليا رغماً عنها، فتطلع إليها مشاكساً بغمزة ظريفة: وأخيراً سمعتُ ضحكة الملكة، حماكِ الله من عيني.
ضحكت مجددا لطريقته الكوميدية في حين أن مياس لم تبتسم حتى، خرج طارق ليغلق الباب من خلفه زافراً بقوة، هذا الاستقبال الجافّ من ناحية مياس غير مبشّرٍ المرة، حرك رأسه بيأس ليحثّ خطاه ناحية مكتب مازن، وداخله يلقي ألف سبة ودعوة على تهوّر أويس غير المحسوب...

رائحة القهوة مع رائحة الأرض النديّة تنعش الذاكرة بحنين خفيّ، ليعود القلب مقيداً بخُفيّ حنين.
مايزال أويس على حاله الشارد حتى بعد دخول مازن حاملاً في يده كوبين كبيرين من القهوة المُهيّلة ذات الرائحة النفاذة، ماتغيّر فقط هو السيجارة التي أمسكها أويس بين اصبعيه، لم يعرف مازن عدد السجائر التي شربها شقيقه لكنّ غرفة مكتبه أضحت ضبابية بشكل لايوصف.

تجعد جبين مازن بعدم رضا لتهوره دون أن يحسب حساباً لصحته، فوضع الكوبين على طاولةٍ صغيرة بجوار أويس فلاحظ أعقاب السجائر الكثيرة التي أطفأها أويس على الطاولة بعدم اكتراث، حرك رأسه بيأس ثم اتجه ليفتح ا لشباك جواره، وعاد ليجلس بدوره يراقب حركات الأخير الساكنة، ولا ينكر بعضاً من القلق الذي اعتراه لحالة الهدوء تلك الأشبه بالسكون ماقبل الإعصار، نفخ بخفة وكاد أن يتحدث لولا صوت قرعٍ خفيف على الباب أتبعه دخول طارق بوجهٍ ثقيل، زفر الأخير بحنق حين شاهد جلسة أويس فهتف بتذمر: يا سلام، هناك مياس عاقدة الحاجبين وهنا السيد أويس ووجهه الذي لايضحك لرغيف الخبز الساخن.

أجفل رافعاً رأسه بحدة ناحية طارق، سرط ريقه بتوتر جليّ عمّ جسده ثم همس بصوت مبحوح: هل استفاقت؟

حافظ طارق على جمود ملامحه حين أشار له بالإيجاب، لم يعرف مايفعل حينها فقط رفع السيجارة المشتعله بيده التي ارتجفت إلى فمه فسحب منها نفساً عميقاً زفره على مهل، كان طارق قد وقف جواره في هذه اللحظة فتحدث قائلا بطرافة موجهاً حديثه إلى مازن: بالمناسبة مازن، أليس التدخين ممنوعاً في المشفى؟ أم أنك أعطيته استثناء بصفته أخاك؟

أدرك مازن محاولة طارق في تلطيف الأجواء المحيطة، فرفع كتفيه بقلة حيلة مجيبا بمزاح: إنه لايسمع مني، حادثه أنت ألستَ صديقه؟
تطلع طارق تالياً ناحية أويس الذي رفع السيجارة مجددا إلى فمه فسارع طارق لينتزعها منه جبراً فهتف أويس بعضب مكتوم: هاتها طارق.
التفّ الأخير حوله حتى رماها من النافذة قائلا: التدخين يضرّ بالصحة.
جزّ أويس على أسنانه ليردف بهسيس ناقم: وماشأنك أنت؟ هل تخاف على صحتي أكثر مني؟

أجابه طارق بيسمة صغير ساخراً: لا أخاف على صحتك أنت، بل لأجل المرضى المتواجدين هنا.

زفر أويس بقوة وهو يطالع طارق بنظرات قوية مخيفة، كأنه سيتخذ منه كيس ملاكمة فيفرغ فيه غضبه ونقمته من نفسه، إلا أنه تراجع في اللحظة الأخيرة ليعقد كفيه فوق ركبتيه ثم بدأ بتحريك قدمه بسرعة وعدم انتظام، ثبت عينيه على نقطة ما وبدأت أجفانه تتحرك لا إرادياً كأنه حقاً يحاول السيطرة على مشاعر غاضبة طفت على ملامح وجهه التي ازدادت قتامة، وزفيره الذي بدأ يتعالى، تبادل مازن مع طارق نظراتٍ ذات مغزى فقال الأخيربلا مبالاة مصطنعة: أتعلم مازن؟ أظنّ أن مياس قد تخرج بعد ساعات قليلة.

التفّ حتى جلس على مقعدٍ قريب منهما مخرجاً من جيبه جهازي هاتف، أحدهما لأويس والآخر لمياس، مع عدة مفاتيح خاصة بمنزل أويس الذي نسي أن يقفله حين أسعفها، تقصد وضع هاتفها بالذات أمام ناظريه ثم تراجع للخلف شابكاً كفيه خلف رأسه، واضعاً إحدى قدميه فوق الأخرى مضيفاً بنبرة ذات معنى: سأنتظر حتى يعطيها الطبيب إذناً بالخروج لأسلمها هاتفها.

ثبت نظره على جهاز هاتفها أمامه، وفؤاده الملهوف يزين له الذهاب إليها ومحادثتها، لكن عقله تدخل ليزجره ويخوّفه من ردة فعلها وقتها، في النهاية فاز قلبه النادم فهبّ واقفاً بطرفة عين ليستلّ الجهاز من أعلى الطاولة، ويخرج دون نطق حرف تحت أنظار طارق ومازن الخبيثة.

طرق الحديد وهو ساخن يؤتي نتائجه أفضل من انتظار أن يبرد، هكذا برّر أويس عجلته لرؤيتها ولم يمرّ على آخر مرة كانت معه سويعات قليلة، مؤكد سيكون استقبالها بارداً ومجحفاً، لكن ربما تعذره لو سمعت مبرراته؟ من يعلم؟
كان هذا مايجول في خاطر أويس وهو يستحثّ خطاه صوب الغرفة التي أودعوها فيها، وقف أمام الباب ليأخذ نفساً عميقاً، ويحضر نفسه لأيّ تصرف او كلام جارح قد يصدر عنها...

لم تتبادلا من الحديث إلا القليل، حتى بعدما عادت عليا من عند سعاد وكمال، وقد أخبرها بما قالت هويدا، فطلبت عليا رقم والدتها الحاجة رائدة رغم الوقت المتأخر، لتخبرها باضطرارهم النوم في المشفى هذه الليلة، أيضا ببياتها هي الأخرى في المستشفى بجانب مياس، بعد أن أبلغتها بشأن قصة الحادث المزعوم.

جلست عليا على مقعدٍ قريب لتسند هاتفها قرب أزهار طارق المسروقة على طاولة مجاورة لمياس، تطلعت إلى ابنتها وجمودها الغريب، حيث استلقت الأخيرة على ظهرها لتثبت عينيها المظلمة على نقطة ما في السقف، فقط صوت تنفسها هو الدليل على أنها مازالت حية، لم تكن عليا ساذجة لتصدق أمر حادث السير، فلم يخبرها الطبيب عن أي رضوض أو كسور، ولا يبدو عليها أي كدمات، فما نوع هذا الحادث الغريب؟

لم تحبذأن تخفي عنها مياس الحقيقة، وهي على يقين أنها حقيقة لن تعجبها أبداً لكنها لن تسألها، الآن على الأقل.
طرقةٌ واحدة خجولة جذبت انتباه عليا ومعها مياس التي تنبأت بصاحبها، رفعت جسدها قليلاً لتستند إلى الخلف ثم صاحت ببرود: ادخلْ.

انشقّ الباب ببطء ليظهر من خلفه شاب حسنُ الخِلقة، لم تكن وسامته قاتلة أو اسطورية لكن الحزن الأصيل في عينيه البنية أعطاه مظهراً جذاباً، وشعراته القصيرة منحته هيبة مخيفة، كان الشاب غريباً على عليا فلم تتعرف إليه بادئ الأمر، بينما لم تتطلع مياس إليه ولا حتى نظرة عابرة، في حين أنه علّق نظراته المترددة عليها، تقدم بهوادة حتى بات يقف بجانب السرير، كان يجب أن يلقي التحية حتى لكنه لم يفعل ولم تفهم عليا لماذا، بقيت تطالعه باستغراب حتى جذبها حديث ابنتها الغريب حينما تطلعت إليها: أمي، هلّا وضعتِ الأزهار في الماء قبل أن تذبل؟

قطعاً لم تكن مياس مهتمة بأمر الورد فأدركتْ أنها فقط تريد صرفها، مع ذلك هزت رأسها بتفهم ونهضت لتأخذ الأزهار تاركةً هاتفها مكانه، مرّت بجانب أويس فرسمت على محياها بسمةً شاحبة قابلها أويس بأخرى باهتة، بينما كانت مياس تتطلع إلى الأمام حتى سمعت صوت إغلاق الباب، فتحدثت بجمود صارم دون أن تمنحه نظرة واحدة: لديك خمس ثوانٍ لتقول ما جئتَ لأجله.

لا يدري لما لم يستغرب ازدراءها هذا، ربما لأنه توقع الأسوء، أجلى حلقه ليتحدث بصوت مهزوز: مياس، أعلم أنني أخطأتُ بحقك، ولكن صلاح...
انتهت مهلتك، غادر.
بفظاظتها اللامتناهية قاطعته ودون أن يحرك انكساره شعرة واحدة فيها، تلاقى حاجبيه باستهجان منها فهتف باحتجاج: لم تسمعيني إلى النهاية مياس، على الأقل اتركيني لأكمل جملتي؟
التفتت لتطالعه بمقلٍ حبست فيها دمع الإهانة قائلة باستنكار: هل سمعتني أنت؟

لجمت لسانه بسؤالها لتضيف بشراسة: أنت لم تسألني حتى، أصدرتَ حكمك ونفذته دون أن تكلف نفسك عناء التأكد مما سمعت، لذا فلا منة لك عليّ.
نعم هو مقتنع بكل ماقالت، لكنه حاول مجددا باستجداء يائس: معكِ حق، لكنك لم تسمعي التسجيل الذي لفقه صلاح، لقد كان حقيقياً بالفعل...
تبسمت بمرار فألهب حديثه نيراناً مستعرة في مقلتيها، وأشعل جذوة غضبها الكامن فقاطعته مجدداً قائلة بسخط: فعلاً، عذرٌ أقبح من ذنب.

تراجع أويس عن موقفه وهو يسمعها تضيف بنبرة خاوية: لا شيء تتعذر به قد يتشفع لك عندي، أنتَ لم تظلمني وتشكك بي فقط، أنت قتلتني، وضربات سوطك تلك لم تهشم جسدي، بل كانت تمزق رداء الثقة الذي نسجته لك وحدك.

لأول مرة يستشعر أويس غصة عظيمة تسدّ مجرى تنفسه حين سمع اعترافاً ضمنياً، لكنه كان اعترافاً قاتلاً ذو حدين، التمعت في عينيه عبراتٌ كوت أجفانه لكن كبرياؤه لم يسمح لها بالتحرر، فيما يستمع لكلماتها وكأنها حجر تقذفه بها: أنت الوحيد الذي استطعتُ أن أثق به بخلاف اللواء جلال و رائد، لم أصادق رجلاً وكان قريباً مني مثلك أنت، لكنك دمرتَ كل هذا بتفكيرك المشوّه.

ازدرد ريقه وحديث طويل بدأ يدقّ جنبات عقله، كاد يصرخ في وجهها مقاطعاً كلماتهأ القاسية حتى صدمته بعبارتها الأخيرة، فعلاً قد أصابت كبد الحقيقة، ليس تفكيره فقط المشوّه بل هو مشوّه كلياً من الداخل، جزّ على فكه بغيظٍ يتنامى داخله من نفسه أولاً وآخراً، كل ماسبق وقالته لم يحرقه بقدر حديثها التالي عندما قالت بنبرة باردة حد القتل: في قاموسي الثقة و الاحترام فوق كل اعتبار أويس، قد أدوس على كل شي في سبيل كرامتي، كل شيء، حتى أنت، وحقي منك سآخذه بطريقتي.

الله وحده يشهد تأثير تلك العبارة عليه، لا هي ليست مجرد كلمات، كانت كخنجرٍ مسموم ذو حوافّ مسننة اقتحم صدره فأرداه قتيلاً في الحال، صدمته بما سمع جعلت مآقيه تهدد بتحرير دموعه في أية لحظة، وتعابير وجهها الجامدة كان لها أبلغ الأثر في نفسه، كانت قاسية، مرعبة، مخيفة.
تطلعت أمامها تالياً وبكل مااعتراها من فظاظة وخشونة أردفت: اغرب عن وجهي.

لم يعد له وطرٌ بعدما سمع مقالها فوضع هاتفها الذي لم تراه حتى اللحظة بجانبها على السرير، و بتثاقل سحب نفسه خارجاً من الغرفة بأكملها، يجرجر أذيال الخيبة والهزيمة، وشعور آخر كان يقبض على قدميه يحاول ثنيه عن الهرب، لكن عقله هتف بضراوة: لقد انتهت الحكاية، قبل أن تبدأ حتى.

كالمنوّم كان يمشي في الرواق، بوجه واجم ومقلٍ أحرقتها الدموع التي ترفض التحرر، صادفه مازن أثناء خروجه من المكتب فعقد جبينه باستغراب لحاله حتى وصل أويس أمامه، رمقه مازن بتساؤل ليبادله الآخر بتيهٍ واضح في عينيه قبل نبرته حين هتف: مات الأمل قبل أن يولد مازن...

لم يدرك معنى عبارته فوراً، إلا أنه خمّن قسوة مياس على شقيقه، لكن أكثر ما أثار فيه التساؤل كانت تعابير أويس الغريبة، باغته أويس عندما ألقى ثقله عليه ليعانقه دون أن يرفع ذراعيه، فقط أسند ذقنه على كتف مازن الذي تفاجأ كلياً، وزادت دهشته حين سمع نحيباً خافتاً يصدر عن أويس، ليوقن أن تحت ذلك التمثال المتحجر قلب طفل فقد لعبته المفضلة للتوّ.

أيقن أنّ تركه على هذه الحال قد يودي بحياته ربما، فسحبه قسراً ليخرجا من المشفى دون أن يرفع أويس أنظاره عن الأرض، استقلّ مازن سيارته ليأخذ اخاه متجهين إلى المنزل، وقد أطلّ الشفق الذهبي مبشراً بشروق الشمس بعد ليلة ماطرة.

الخيانة!
ما أقساها من كلمة وما أفظعه من شعور!
قد تتقبل كل النواقص في البشر إلا صفتين، الكذب والخيانة، بعدما منحته الثقة غدرها، خدعها وخانها، اعتقدت أنها ستؤلمه بحديثها، لكنها تألمت مثله وربما أكثر.

ظلت على وضعها بعد مغادرته تحبس عبراتها التي تكاد تقتلها، لكنّ كبرياءها العنيد لن يسمح لها بالراحة بهذه الطريقة، فالبكاء في قاموسها للضعفاء وهي ليست منهم، ظلت تضغط على فكيها حتى صرّت أسنانها توسلاً، وصوت زفيرها الساخن أضحى مسموعاً، وجمرةٌ حارقة تشكلت في حلقها فتكاد تقتلها، أسدلت مياس أجفانها بروية ورمت رأسها للخلف لكن رنين هاتف أخرجها من حالة الشرود الذهني هذا، لم يكن الصوت لهاتفها فالتفتت إلى مصدره لتجد هاتف والدتها، ثنت حاجبيها بغرابة فمن ذا الذي قد يحادث عليا في هذه الساعة المبكرة جدا؟

تناولت مياس الهاتف لتجده رقماً خاصاً فزادت عقدتها بارتياب، انقطع الصوت معلناً عن انتهاء المكالمة فحاولت فتح الهاتف فأفلحت من المرة الأولى، تفحصت سجل المكالمات لتجد الرقم ذاته وقد حادث والدتها أكثر من مرة فزاد داخلها شعور بعدم الراحة، ليعود الرنين من جديد بعزم وإصرار أكبر، فتحت الخط قبل أن ينقطع الرنين مجدداً فوصلتها أنفاس معبقة باشتياق لم تستشعره مسبقاً فهتفت بتساؤل مستغرب: ألو؟ من معي؟

جمود تام أصاب عمار حين سمع صوت ابنته، لوهلة ظنّ أنه أخطأ بالرقم فتطلع إلى الشاشة ليتأكد من الرقم المطلوب، أعاد الهاتف إلى أذنه ليسمعها تصيح بنبرة أشدّ: من هناك؟ تحدث؟
أغمض عينيه وهو يتلذذ بسماع صوتها حتى وإن كان صياحاً، تلك النبرة الحادة ورثتها عن عليا الحكيم بلا ريب، عاد الحنين خفّاقاً بين جنباته ليجبره على التحدث بنبرة مبحوحة من فرط التأثر: مياس؟

تعالت أنفاسها حين سمعت صوتاً رجولياً غريباً، من هذا بحق الله؟ ومن هو بالنسبة لأمها ليتصل بها في هذا الوقت؟
لم تترك نفسها للأسئلة فهتفت بجفاء: من أنت؟
لم يجسر في المرة الأولى أن يجيب سؤالها، لكن إصرارها حين أعادت الكرّة بنبرة أكثر حدة جعلته ينطق بصوت أهلكه الندم: مياس، أنا عمار، والدك.

في هذه اللحظة شعرت وكأنّ جبلاً سقط على رأسها فلم تدرك مياس إجابته، أصابها الصمم عن كل شيءٍ حولها لتتردد إجابته بتتابعٍ كالصدى في عقل مياس، تطلعت ناحية الباب الذي دخلت منه عليا في هذه اللحظة، حاملةً بين يديها وعاءً زجاجياً قد ملأته بالماء وأودعت فيه الورد الذي جلبه طارق سابقاً، كانت ملامحها ضاحكة وهي تتقدم لتضع الوعاء على الطاولة بجانب مياس، رصّت زهرة تمردت عن مثيلاتها ثم التفتت ناحية مياس قائلة بغبطة: رائحتها جميلة للغاية.

تجمدت ابتسامتها حين لاحظت نظرات ابنتها المصدومة كأنها تلقت خبراً مفزعاً، كادت تتحدث قبل أن تلاحظ هاتفها الموضوع على أذن مياس، ولا تدري لماذا قفز وجه عمار في هذا الوقت ليحتلّ المشهد، ربما لأنها تعرف توقيت اتصاله، تصلّب جسدها وهي تطالع مقلتيّ مياس التي زادت ظلمتها، ونارٌ شرسة شبت في زاويتها إن خرجت فلن تبقِ ولن تذر ْ...

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة