قصص و روايات - قصص بوليسية :

رواية حي الورد للكاتب علي اليوسفي الفصل الخامس والثلاثون

رواية حي الورد للكاتب علي اليوسفي الفصل الخامس والثلاثون

رواية حي الورد للكاتب علي اليوسفي الفصل الخامس والثلاثون

(((قلبي كمريض توحّد، نبضاته ثقيلة بطيئة، حبه هادئ لطيف، لم يستطع معايشة عالمه القاسي فاختار الهرب والانعزال))).

لم يُطق أويس صبراً ليخبر شقيقه بكل ماجرى معه هذا اليوم، كانت السعادة تنطق في محياه منذ أن استخلص من كذبتها المتقنة على داليا حقيقة مشاعرها وإن أنكرت، قهقه مازن بقوة بعد ما أخبره أويس بمافعل وما كان ردّها، زفر الدخان بانزعاج مصطنع وهو يطفئ سيجارته في المنفضة التي امتلأت عن آخرها مقاطعاً سخرية مازن: نعم اضحك اضحك بقوة أكبر، مياس تتجنّى عليّ بتهمة فظيعة وأنت تسخر مني الآن، يبدو أنني سأرحل.

تأهب يريد المغادرة بالفعل فسعل مازن بخفة وهو يشير نافياً بسبابته، ابتلع سخريته ليقول بمقلٍ دامعة على إثر الضحك: انتظر أويس، لن أضحك ثانية أعدك فقط إبقَ.

عاد أويس مرتاحاً في جلسته وحاول مازن التماسك قدر الإمكان، كتم ضحكته في جوفه لكنه فشل حين ناظره أويس بحاجبين منعقدين، فانطلقت ضحكته الساخرة من جديد بصوت أعلى فانتفض أويس من مكانه نافخاً بضيق، مالبث أن وقف مازن بدوره ليقبض على ذراعه هاتفاً من بين ضحكاته: تعال تعال، لن أضحك أبداً...
قاطعه الآخر بغيظ: كاذب لقد وعدتني قبل لحظة لكنك ضحكت مجدداً؟

أشار مازن بيده فسيطر على ضحكته ليعقب: لا هذه المرة أنا جاد، أجلس أويس.
نظر إليه شزراً بعدم تصديق لكنه عاد جالساً مكانه على أية حال، في حين توجه مازن ليفتح النافذة قائلاً بضيق: دخان سجائرك يكاد يقلنا يارجل!
عاد بعد لحظة ليستقرّ مكانه ثم سأل: أخبرني أذاً أويس، برأيك لماذا كذبت مياس على داليا؟ هل لتنتقم منك فقط؟

ابتسم باتساع حين سمع سؤاله فحرك رأسه نافياً قبل ان يجيب بثقة: بل بدافع الغيرة يا مازن، لا أرى مبرراً سوى الغيرة ما دفع مياس إلى حياكة تلك الخدعة.
استغرب مازن ثقته فأجاب بلا مبالاة: ربما انطلت عليها كذبة خطبتك لداليا ففعلت هذا فقط لتبعد داليا عنك لأجل طارق لا أكثر؟

بدى الآخر متأكداً من استنتاجه فأضاف بيقين: لا يامازن، أنتَ لم ترَ تعابير وجهها حين أخبرتها أنني خطبت، ربما ادّعت اللا مبالاة لكن ملامحها كان تنطق بحقيقة مشاعرها وإن أنكرت.

قاطع حديثهما رنين هاتف أويس، طالع الشاشة ليجده أحد معارفه من العاملين في قسم المركبات، حيث كان قد أوكل إليه مهمة معرفة صاحب السيارة التي تحضر له باقة الورد يوميا، استأذن من شقيقه ليبتعد ناحية النافذة المفتوحة ثم أجاب الاتصال: نعم خالد؟
أتاه صوت محدثه بود: كيف حالك أويس؟
باقتضاب أجاب: أنا بخير خالد شكرا لك، هل لديك أية أخبار لي؟

لم يتأخر الآخر في الرد: بلى، في الواقع لقد عرفتُ صاحب السيارة التي أعطيتني رقمها.
همهم أويس بتفهم منتظراً تعقيب خالد: السيارة مسجلة باسم رفيف صادق، وهي مدرسة متقاعدة حالياً وتملك محلاً لبيع الأزهار يحمل اسمها، رفيف...

تسارعت أنفاس أويس بشكل غريب فلم يستمع لباقي حديث خالد، ولم ينتبه على كفه التي اشتدّت على عتبة النافذة، محالّ أن يكون الأمرمجرد مصادفة، قاطع ثرثرة رفيقه حين أغلق الخط في وجهه دون شكره حتى، استدار بجسده حتى قابل المدينة فأقلق جموده المفاجئ مازن الذي سار ناحيته متحدثاً باستغراب: هل حدث شيء ما أويس؟

تطلع ناحية أخيه بمقلٍ منزعجة، ألم يكن قد أقسم على دحر الماضي بما فيه من ألم؟ فماذا يفعل أذاً إن كان الماضي نفسه لايريد تركه وشأنه؟
الجواب بديهيّ وواضح كعين الشمس في كبد السماء، رغم صعوبة الأمر لكنه لن يلقي لها بالاً، لكنه على الأقل عرف غريمه.
ربت على كتف شقيقه وهو يحرك رأسه نافياً بضعف ثم تحرك بتثاقل ليخرج من عيادة مازن، فلتحاول قدر ماتشاء، لكنها لن تسحبه من جديد إلى المستنقع...

هجره الوَسنُ كلما حاول النوم يأتي طيفها ليطرده، أغلق التلفاز و هذه الروح التائهة تعلقت بكل تفاصيلها رغماً عنها، تهفو على أجنحة الشوق كلّما مر في الريح عطرها، ابتسامة ذاهلة ارتسمت على ثغره حين تذكر عطرها والذي سكن ذاكرته كتميمة مقدسة، لم يكن من العطور الفرنسية غالية الثمن، أو من تلك التي تجذب الرجال كالنحل فوق الزهر، إنه عطر خاص بها، فتح غريب نافذته لتلطم أنفه رائحتها، اتسعت ابتسامته وهو يتلمّس زهرة ياسمين غافية على نافذته، إنه أريجٌ رقيق لايليق بسواها...

أسند رأسه على إطار النافذة وهو يتلمس تلك الأربطة التي تحاوط وجهه وكفيه إلى الرسغين، لم يعد يتضايق منها كالعادة، بل بات الآن يحبها كما لو أنها ابنة قلبه، فبسبب هذه الأربطة يفوز كل يوم بلقاء مع الحورية اللطيفة، تلك التي سرقت قلبه وعقله وحتى أنفاسه، شرد بذكراه إلى ثلاثة أيام مرّت، حين كان بانتظار كمال ليأخذه كالمعتاد إلى المستشفى لتغيير الأربطة الطبية، كان غريب جالساً على فراشه عندما سمع طرقاً على بابه، انتفض بلهفة معتقداً أنه كمال لكنه تفاجأ بوجود أروى بهالة البراءة واللطافة التي تحاوطها مرابطةً أمام بابه، أصابه الخرس لثانية قبل أن يسمعها تخبره برقتها المعهودة: أخبرني والدي أنه لن يستطيع الحضور لأخذك إلى المستشفى.

رفعت حقيبة الإسعافات الأولية لتردف: فأرسلني أنا لأُغير ضماداتك.
بالكاد استجمع نفسه ليتمتم بهمسٍ مدهوش: هل تعرفين؟
ابتسمت فخطفت روحه حين أجابت: بالمناسبة أنا في السنة الثانية بكلية الطب.

سيطرت عليه الدهشة الفعلية سرعان ما ابتسم باتساع وهو يتحرك للجانب ليُفسح لها المجال للدخول إلى غرفته، راودها التردد لثانية لكنها تشجعت لتدلف تحت أنظاره المُغرمة، على طاولة صغيرة أسندت أروى حقيبتها لتفتحها وترتب بعض أغراضها، لم تنتبه له وهو يتحرك ليجلس على سريره ومقلتيه الهائمة مُسلطةٌ فوقها، نهر نفسه حين عاودت كلمات كمال تتردد في ذهنه فأخفض نظره.

أخرجت أروى من حقيبتها مقصاً حديدياً مُعقماً واقتربت منه وقد بان عليها التردد، قربت المقص منه فرفع رأسه ليناظرها عن قرب، ارتبكت للحظة سرعان ماتمالكت أعصابها فهمست تحادثه بوجل: سأحاول أن أقصّ الضماد برفق، فساعدني أرجوك ولا تتحرك.
أحب أن يمازحها فقال وابتسامة ساخرة تتراقص على شفتيه: متأكدةٌ أنكِ تعرفين كيفية تغيير الضماد؟
لم تنتبه هي للسخرية التي غلفت نبرته فأجابت بجد: أخبرتكَ أنني أدرس في كلية الطب؟

قهقهه مازحاً وهو يشير إلى كفها المرتجف: أشكّ في هذا ياطبيبة المستقبل.
فهمت دعابته الظريفة فقهقهت بخفة لتردف بتذمر: إنها المرة الأولى التي سأقوم بها بقصّ ضمادات حول الوجه، وهذا أمر مربكٌ للغاية.
ضحك غريب من قلبه وهو يرى وجهها وقد تحوّل إلى ثمرة طماطم، التزم الصمت بعد لحظة حين قالت بانزعاج لطيف: ستثبتُ مكانك أم أغادر؟

رفع كفيه باستسلام وأشار إلى فمه كأنه يخبرها بأنه سيخيطه فباشرت أروى عملها بارتباك طفيف، قصت الشاش محاولةً عدم المساس بجلد وجهه وماأصعبها من مهمة خاصة بالنسبة لمبتدئة مثل أروى، فيما كان غريب قد سلّط مقلتيه عليها، ورائحة عطرها تنسلّ بين ذراته حتى تتلاحم مع خلاياه، محياها شبه البدر يوم اكتماله، ولمقلتيها الزمردية سحر آسر، بدت كملاك سقطت خطأً على الأرض ولكم تمنى أن تتلقفها يداه...

بعد وقت قصير أنهت أروى ماكانت تفعل ليظهر وجه غريب تحت الشاش الطبي، تراجعت قليلاً للخلف أثناء إخراجها زفرةً متعبة وبسمة ظفرٍ قد زيّنت ثغرها، سرعان مااختفت وهي تعاين وجه غريب، كانت جراحه والحروق قد التأمت تقريباً، باستثناء ندبةٍ زيّنت جانب خده وتحت عينه، انتبه غريب إلى الصدمة التي تلبستها و التماع عينيها بالدموع فهمس بخفوت: هل الأمر سيءٌ إلى هذا الحد؟

تنبهت إلى عبارته القلقة فأدركتْ أنه لم يرَ وجهه حتى اللحظة، مثّلت الابتسام وهي تخبره بلطف مراعيةً لنفسيته: أبداً، بل أرى أمامي طابع حُسنٍ فريد من نوعه.
رغماً عنه ابتسم لمقالها فبادلته بواحدة أكثر رقة، عادت إلى حقيبتها لتجلب المطهّر ومنديلاً طبياً حين سمعت سؤاله المتردد: أتظنين أنّ شكلي الآن قد تغير كثيراً عن شكلي السابق؟

بدأت بتطهير وجهه محاولةً عدم لمسه بيدها أثناء إجابتها بجدية: لا أدري، لكني سمعتُ الطبيب حسام يخبر والدي بأنهم أخذوا جزءاً من جلد ظهرك ورمموا بها بعض الحروق، ثم قاموا بإجراء عملية تجميلية للحروق الأخرى، لذا أظنّ أن ماحدث هو تبديل بسيط فقط في قسمات وجهك.

جلبت ضماداً طبياً جديداً ثم عادت لتلفّه حول وجه غريب حتى انتهت، تنفست بقوة وهي ترجع إلى الخلف مبتسمةً براحة وقد أنهت مهمتها أسرع مما توقعت، فرفع غريب يديه الملفوفة حتى الرسغين أمامه قائلاً بمزاح: هل سنغير لهاتين أم نتركهما للغد؟
قهقهت بسخرية عليه: ها ها ظريف جدا.

رغم أنها خرجت منها بتهكم لكنها كانت أعز على قلبه من شهادات العالم بأسره، بدأت مهمتها على كفيه بانتباه شديد فلم تلاحظ تجهم وجهه بضيق جم، وصداع فتّاك ينهش رأسه بدأ بنسبةٍ مقبولة لكنه تزايد طرداً مع توارد صورٍ غير منتظمة، أصواتٌ متداخلة ولقطات متباينة جعلته يصرخ بقوة مغمضاً عينيه، استلّ كفيه من بين يديها بعنف فأخافها حين أطلق صرخة ألم محاوطاً رأسه بكفيه، تراجعت أروى للخلف وهي تضمّ كفيها إلى صدرها بحماية، شاهدته وهو يئنّ لبضع لحظات، لم تعرف مالذي يحدث معه فهمست بخفوت حزين: غريب؟ مالأمر؟ هل تتألم؟

من بين غمامةٍ سوداء حاوطت عقله برز صوتها ينطق باسمه فأنعش خلاياه، اختفت تلك الصور فجأةً كما ظهرت، أخفض كفيه وفتح مقلتيه ببطءٍ فشاهدها تقف بعيداً ومحياها ينطق بالخوف، تصنع الابتسام ثم نطق بخفوت هامس: لاتقلقي أنا بخير.
لم تتحرك من مكانها بل بقيت تطالعه بوجل، غابت بسمته وهو يسألها بحزن: هل أخفتكِ؟

لاحظت الرجفة في صوته فحاولت السيطرة على ذعرها، رسمت ابتسامة رقيقة ثم تقدمت منه وهي تجيب: لا، لقد خفتُ عليك أنت.
ربما قالتها حقيقة أو شفقة لايهم، المهم ماحدث من تدافع دمائه بحرارة داخل شرايينه حين نطقتها كأن كرياته قد تلاحمت باحتفال عظيم، أردفت متسائلة وهي تعود إلى عملها: مالذي حدث؟
أخفض نظراته إلى كفيها وهي تبدل ضماد يده مجيباً بضياع: لا أدري، صور كثيرة أطلّت فجأة كما رحلت.

ناظرته بتقاسيم سعيدة قائلة بغبطة: حقاً؟ هذا أمرٌ مبشر.
لم يفهم مقالها حتى عقبت: هذه إشارة جيدة معناها أنك في طريقك لاستعادة ذاكرتك.
رغم جمال الخبر لكنه لم يكن سعيداً ولا يدرك لماذا، عادت أروى إلى عملها بحماس مفاجئ في حين شرد هو في حديثها، منذ أيام قليلة كان يتمنى أن يسترجع ذاكرته الغائبة، إنما الآن يخشى أن يتذكر من هو فيُصدم بواقعٍ لايريده، وهكذا وقع غريب بين نارين أبردهما لاسعة...

كان غريب كطفلٍ يتبع أثر والدته في كل خطوة تخطوها، تعلق بها دون أن يدري حتى بات يومه لايكتمل قبل أن يكتحل بمرآها...

عاد من ذكرى ذلك اليوم متنهداً بثقل رغم ماحمله من أخبار سارة، أودع زهرة الياسمين الغافية قبلة صغيرة ثم أغلق نافذته، نفض وسادته ليستريح عليها ثم حانت منه التفاتة سريعة إلى النافذة، جمد مكانه لثوان معدودة حين لاحظ ظلاً قادماً من منزل كمال، دقق النظر ليجدها أروى فأصابه التخبط رغم سعادته لمرآها، هي لم تخرج في هذا الوقت منذ قرابة أسبوع، دبيب خافت أخبره أنها تريد التخفيف عن نفسها كما تلك الليلة، الغريب أنها لم تجلب مرشتها هذه المرة ولم تسترق النظر ناحية غرفته لتتأكد من منامته، فأيقن أنّ مايشغلها هذه المرة عظيم...

ليس الأرق فقط ماكان يراود أروى، بل الضيق والاختناق، كلما هبط الليل يُخيل لها كأن جدران غرفتها تتحرك حتى تدهسها وتعتصر جسدها الرقيق، لكن حال أمها وبعض التنهيدات التي بثتها لها قبل لحظات أقلقها، فكان اختيارها الأوحد الخروج إلى الحديقة الخلفية لتحادث رفيقاتها الزهور، هذا الأمر الوحيد الذي قد يخفف عنها في غياب من قد يستمع لها.

خرجت أروى مرتديةً غطاءها وتلتحف شالها، متجهةً إلى حاكورة أزهارها، بعد أن تأكدت أن الجميع نيام فتسللتْ تحت جنح الليل حتى وصلت إلى رفيقاتها، كالعادة جلست على مقعدها الحجري الصغير، تتجاذب أطراف الحديث مع تلك الورود كأنها تسمعها وتراها، لم تشعر بذلك الغريب الذي انتظرها بلهفة قلقة لم يدرك مصدرها حتى جلست مكانها، ندّت عنها تنهيدة حارة ثم قالت بصوتٍ متأثر: مساء الخير يا زهراتي الجميلة، أنا لستُ بخير...

محاولاً عدم إصدار أقل صوت، رفع غريب النافذة قليلاً ليختلس السمع على حديث أروى، هذه الليلة بدت مختلفةً، قميص نومها ذي اللون الشاحب والرسومات الطفولية تبدّل و صار لونه بنفسجياً، وشال شعرها اتخذ من بياض الياسمين لونه كنقاء سريرتها تماماً، تغضن جبينه بعدم فهم حين سمع بداية حديثها، بدت أكثر بؤساً وحزناً من العادة، نخزة موجعة ضربت يساره ماإن سمع نشيجها وهمسها الباكي، مسحت عبراتها التي تسللت بين رموشها الطويلة قائلة بخفوت حزين: أشعر بتبدل معاملة أمي مع الجميع وأدرك ماتشعر به، لكني لا أدري ماذا أفعل معها، ولا أستطيع محادثة أبي بشأنها فهي ستغضب مني بالتأكيد.

تنهدت بثقل بالغ وهي تضيف: والدي أيضاً كان الله في عونه، إنه يتعب في إعادة تأهيل مخزن الحبوب بعد احتراقه، وفي رأسه ألف أمر وأمر، ربما لم ينتبه لحزن أمي، وأنا وحيدة لا أحد يسمعني.

هذا القلب الذي لايسكنه سواها أقلق جلسته حتى أجبره على المضي للخارج حيث تجلس هي، أقسم أن يعانده ولا يستمع له فلا يحرجها، لكن خافقه ظلّ ينبض عصياناً حتى رضخ غريب فخرج إليها، لم يحبذ اقتحام دائرتها الشخصية لكنّ ذبذبات خفية قسرته حتى جلس فوق التراب بقربها بهدوء، بدى عليه التردد جلياً خشية أن تعترض وترفض، لكنها لم تحرك ساكناً مما جعل القلق يستبدّ به، بَدَتْ كئيبةً للغاية هذه المرة فراح يتساءل داخله، كيف للحزن أن يتجرأ فيتلبس هذا الوجه الملائكي؟

مرّت لحظات كانت أروى تذرف العبرات الصامتة وغريب يراقب حتى شهقت بحزن، لم يعدْ يُطقْ صبراً فقال هامساً بلين: أنتِ وحيدةٌ مثلي!
مسحت وجنتيها بقوة ورفعت مقلتيها الدامعة ناحيته فقابلها ببسمةٍ لطيفة مردفاً: أنا مثلك أيضاً، أقضي نهاري بين جدران الغرفة وحيداً، ولولا التلفاز ربما كنتُ سأُجنّ.

ظلّت تطالعه بزمردتيها الثائرة وقد احمرّ بياضها، ثم عقبت بصوتٍ مختنق مبتسمةً بحزن: أنت محظوظ بالمناسبة، على الأقل ليس عندك ماتفكر فيه أو تقلق بشأنه.
التفتت إلى الأمام وتنهدت بحرارة لتضيف ببؤس: أحياناً أتمنى لو كنتُ مثلك لا أتذكر من ألمي شيئاً.
لوى فمه بعدم رضا ليخبرها بجدية: ومن أخبركِ أنني محظوظ وليس هناك مايوجعني؟

عادت لتتطلع ناحيته بحاجبين متلاقيين بعدم فهم فأضاف ببسمة باردة: ومن قال أنني لا أحمل هماً؟ صدقيني العكس صحيح تماماً.
رفرفت عيناها وكأنها لم تفهم حديثه أو لم تصدقه ربما، فقطع تواصل عينيهما ليقابل الأزهار بدوره مردفاً بشجن: صدقيني أنا أتألم أكثر منك، على الأقل أنتِ تدركين مايحدث من حولك، أما أنا فلا أذكر شيئاً عن نفسي أو عائلتي، لا أعرف من هم ولا لمَ لم يسأل عني أحد لغاية اللحظة.

سكت للحظات والكآبة انتقلت لتسيطر عليه هو الآخر كأنها معدية، راقبته أروى بمشاعر متضاربة لا تعرف لها اسماً او ربما هي فقط تتحاشى التفكير فيها، سمعته يزفر بحرارة ثم تابع ناظراً ناحيتها بقوة: أنتِ على الأقل لديكِ بعض الذكريات عن عائلتك أما أنا فبلا ماضي، محاصر في هذه اللحظات التي أعيشها ياأروى، وإن ظللتُ على حالتي هذه لربما لن يكون لديّ مستقبل أيضاً.

كل حزنها بات الآن مصوّباً نحو هذا الغريب، الآن شعرت بمصداقية القائل من رآى مصاب غيره هانت عليه مصيبته، الآن وهي تنظر إليه بهدوء أدركت أروى أنّ الحزن الذي تعانيه لا يساوي شيئاً أمام مصاب غريب، حقاً كما قال، هو بلا ماضي ولا مستقبل، ولولا أباها لكان بلا حاضر أيضاً، مرّت لحظات حتى نطقت بتجهمٍ لايليق بقسماتها البريئة: هل تستطيع القراءة؟

انعقد حاجباه ولوهلة لم يفهم مقصدها، سرعان ما ارتخت تقاسيمه حين أجاب بمشاكسة: أعتقد أنّ هذا الأمر الوحيد الذي لم أنساه، نظراً إلى أني كنت أشاهد فيلماً مترجماً قبل ساعة من الآن.
ابتسمت باتساع وهي تسأله: ما رأيك لو أحضر لك بعض الكتب لتتسلى بقرائتها في النهار؟
قابلها بأخرى مدهوشة فأردفت لتوتر طفيف: لديّ مكتبةٌ صغيرة فيها بعض الروايات والكتب والدواوين؟

اتسعت بسمته مجيباً بصوت عميق عبر إلى داخلها: أتمنى هذا حقاً.

زحفت حمرةٌ خجولة لتغطي وجنتيها فبدتْ كجوريةٍ حمراء حديثة العهد بمشاعر صادقة، لكنها مازالت تكابر، تنبهت إلى اقتراب انبلاج الضوء فاستأذنت لتغادر فلاحقها بنظراته، شيّعها بمقلٍ تلتمع حتى غابت كما جاءت تحت الظلام، ويقين بحقيقة مايعتمل في يساره حيالها غزا عقله، فإن لم تكن تلك الذبذبات والنخزات وكل مايشعر به ناحيتها حباً فتباً لكل ماتعرفه البشرية عن الحب...

ركنت مياس سيارتها في موقفها المخصص أمام مدخل مبنى المكافحة، ثم دلفت بخطىً متسارعة حتى تعالى رنين هاتفها، توقفت على الدرج الرخامي لتجيب الاتصال بنبرة قوية: نعم رائد؟
سمعت إجابة رائد المقتضبة: كيف حالك مياس؟ أتذكرين حين كلّفتني بأن أعرف لك هوية الشاب الذي وِجد في مخزن خالك كمال؟

تغضن جبينها بضيق مالبثت أن مسحت على وجهها متنهدةً بامتعاض حين تذكرت أمر غريب، أجابت بعد لحظة زافرةً بعمق: بلى رائد تذكرت، ماالأمر الآن؟
لم يتأخر الآخر حين أردف: هناك بعض الأخبار التي يجب أن تعرفيها، ولن أستطيع إخبارك عبر الهاتف.
ضغطت بأصبعيها على مقدمة أنفها لتعقب بتعب: أنا في مبنى المكافحة الآن، بانتظارك.

أغلقت مع رائد لتتابع مسيرها إلى داخل المبنى، غير منتبهةٍ لأويس الذي أوقف سيارته للتوّ، راقبها حتى دخلت بابتسامةٍ ماكرة، ثم حثّ خطاه خلفها متجهاً ناحية مكتبها ليخبرها بما أخفاه عنها لكنه لم يجدها، عقد حاجبيه باستغراب فتفكر في مكانها الآن، لم يرَ سيارة اللواء جلال خارجاً إذاً على الأغلب سيجدها في صالة الرياضة، توجه إلى هناك وعلى محياه بسمة ماكرة متخيلاً وجهها حين تعلم بمعرفته مكاناً محتملاً لصلاح لكنه لم يخبرها...

لم يصدق مارآه لغاية اللحظة، يعترف بأنها لا مبالية لكن لم يتوقع أن تنساه وتتخطاه في ظرف أسبوع فقط، بل وتُخطب إلى صديقه! متى عرفها بحق الله؟ وكيف سمح أويس لنفسه بأن يخطبها بعد طارق؟ والذي من المفترض أنه رفيقه؟
يبدو أنّ أويس قد تغير كثيراً حتى لم يعد يفرق بين صديق أو عدو...

كان طارق يحاول تخطي صدمته برفيقه وخطيبته إلا أنه يفشل في كل مرة، كاد يحادث هويدا لكنه تراجع فلا فائدة من إدخالها في مشاكلهما، فمصائبها تكفيها وتفيض.
ضرب كيس الرمل للمرة التي لايعرف لها عدداً منذ حضوره في وقتٍ مبكر جدا هذا اليوم، أنهكه التعب فجلس يستريح على المقعد القريب، لهث بقوة والعرق الساخن يجري على صدغيه بتتابع...

دخلت مياس الصالة لتوها وقد رأت مايفعله طارق بنفسه حسرةً على من لا تستحق فحركت رأسها بعدم رضى، نفخت بخفة متجهة صوبه حتى ألقت بنفسها إلى جانبه، طالعها طارق لثانية ثم استند برسغيه على قدميه بتعب، كان أويس قد بات قريباً منهما حين قالت مياس بهدوء مصطنع: أنت حزينٌ بسببها؟
زفر طارق بقوة دون إجابة بينما ابتسمت مياس بعدم تصديق قبل أن تعقب باندفاع: داليا لاتستحق أن تهدر ثانية واحدة في التفكير فيها ياطارق.

أسند ظهره الى الخلف ليقاطعها بقوة: لكني أحبها يامياس.
رمقته بدهشة لتعقب: لماذا تركتها إذاً؟
التفت إلى الأمام مجيباً بلا مبالاة: لأنها خنقتني بعدم اكتراثها لشيءٍ سواها هي.
بتذاكي قالت: أنت لستَ شيئاً ياطارق، أنت خطيبها، أي زوجها المستقبلي وشريكها.
نفخ وهو يدفن وجهه بين كفيه: أعلم هذا، لكنها خرقاء.
إمالت مياس رأسها إلى الجانب لتردف بحاجب مرفوع: وتحبها؟
هزّ رأسه بالإيجاب فعقبت بسؤال: وهل تحبك هي ياطارق؟

ببطءٍ رفع طارق رأسه، تفكر لثانية ثم ابتسم بتهكم قائلا بسخرية مريرة: ومالفائدة من هذا التحقيق مياس؟ لقد خُطبت الآن لأويس، لصديقي!
قررت أن تريحه فتخبره، فربتت على كتفه بدعم قائلة بثقة مبالغ بها: لاتقلق إذاً، على الأرجح ستفسخ داليا خطبتها من أويس، هذا إن لم تفسخها مسبقاً.
طالعها بعيونٍ متسعة كأنها قالت سراً خطيراً، هو يعرف هذه النبرة جيداً خاصة حين تصدر عن مياس، والتي قابلته ببسمة باردة مع تأاكيد من.

عينيها، ابتسم أويس بفخر لحدة ذكائها سرعان مااغتالها وهو يحثّ خطاه نحوهما، رآه كلاهما فاستقام طارق من مكانه ببطء في حين أنها لم تعره انتباهاً كأنها لم تره، تجاوز أويس كل العتاب الواضح في مقلتيّ طارق ليقول مباشرة بنبرة باردة: أنا أعرف مكان صلاح.

تصلّب جسدها لجزءٍ من الثانية وقد اتسعت عيناها، رغم كلّ مساوئه لكنه لا يكذب، خاصة فيما يخصّ العمل، استقامت بعنف وهي تستدير إلى الخلف لتقابله باستفسار جاف: مالذي قلته للتوّ؟
عبّئ صدره ليرتفع بنفسٍ مغرور ثم عقب بلا مبالاة: كما سمعتِ، أنا أعرف مكاناً عزيزاً على صلاح أعتقد أننا قد نجده فيه.

تلاقى حاجبيها باستهجان فهاجمته باندفاع: تعرف مكاناً محتملاً لتواجد صلاح وتتركنا ندور في حلقة مفرغة دون أن تخبرنا ياحضرة النقيب؟
بكل مايتقنه من برود أجابها بتذاكي: لو أنكِ سألتني لأخبرتك.

ظلّت للحظات تطالعه غير مصدقةٍ لنبرته غير المبالية، جزّت على فكها بغيظ وضمّت شفتيها بقوة في حين أردف هو بتوضيح: في أحد المرات كنتُ معه، فحادثه واحد من سماسرة المنازل بشأن بيع منزل جدته القديم في أحد الأزقة الفقيرة، لكن صلاح رفض وبشدة وعلى مايبدو أنه متعلقٌ بذلك المنزل كثيراً.

عقد طارق جبينه باستغراب ليسأله: لكني لم أجد في السجلات منزلاً بمواصفات مشابهة لما قلت بإسم صلاح؟ كان يملك منزلاً باسمه لكنه في أحد الأحياء الراقية وليس كما وصفتَ أنت؟
التفت أويس ناحية طارق فأضاف: لأن صلاح لم يوفّ جدته عند الدولة بعد، لذا فمايزال المنزل باسمها هي.
بصبر نافذ قاطعته مياس: المهم هل تعرف عنوان المنزل؟

إبتسامة جانبية ارتسمت على محياه وهو يحرك رأسه إيجاباً، استدارت مياس نحو طارق لتأمره: طارق جهّز قوة مداهمة فورية، لا نريد تضييع وقتٍ أكثر.
قالت عبارتها الأخيرة بانزعاج واضح فهزّ طارق رأسه باحترام، تحركت هي لتتوقف فجأة أمام أويس، رفعت سبابتها في وجهه مضيفةً بعصبية مضمورة: أما أنت فحسابك بعد أن نمسك بصلاح.

سارعت لتتحرك بدورها فشيّعها أويس ببسمته التي اتّسعت، وتهديدها داعب قلبه بمشاعر لطيفة، فلتهدد كما شاءت مادام قد تيقن من مكانته بالنسبة لها...

ترجل رائد من سيارته واضعاً هاتفه على أذنه يحادث الفتاة التي باتت على اسمه قبل يومين، تحدث مخاطباً إياها بانزعاج مصطنع: لديّ عمل هام ياردينة، مياس ستعلق مشنقتي إن تأخرتُ عليها أكثر من هذا!
وصلته ضحكة ردينة المتسلية قائلة بدلال: لن تعلق مياس مشنقتك اطمئن، ولايهمني إن غضبت أم لا.

تبسم بمكر حين أجابها: لكن إن تأخرتُ عليها أكثر من هذا فلن أستطيع العودة مبكراً لأجل دعوة والدتك على العشاء! حتى أنتِ لن يكون لديكِ الوقت لتطبخي وسأتعشى في النهاية زيتاً وزعتر.
تراقص حاجباه بخبث حين سمعها تشهق عالياً ثم أردفت بسرعة: أقفل أقفل الآن رائد لستُ متفرغةً طول اليوم للثرثرة معك.

أغلقت هاتفها دون سماع رده فقهقه رائد على حركاتها الطفولية، هز رأسه بيأس ثم حثّ خطاه ناحية المبنى، لكن خروج مياس حاملةً مسدسها تتإكد من حشوه، ومظهرها الذي ينمّ عن نيتها لاقتحام وكرٍ ما جعله يتيبس مكانه لثانية، رآته مياس فأخبرته أثناء هبوطها عن الدرج: تأخرتَ عن موعدك رائد..
وقفت أمامه حين سألها باستغراب: مياس؟ الى أين تذهبين بهذه الهيئة؟

أشار إلى جعبة سلاحها التي ارتدتها فأردفت دون تأخير: وصلتنا معلومات عن مكان محتمل لتواجد صلاح ونحن في طريقنا إليه الآن، بإمكانك انتظاري في مكتبي.
تلاقى حاجباه باستهجان وهو يخبرها: أنتظرك؟ مجنونة أنتِ؟ أنا ذاهب معك.
حاولت إثناؤه ليقاطعها بقوة: لاتحاولي مياس، قلت سأذهب معك يعني سأذهب.

زفرت بقلة حيلة لكنها ابتسمت له بامتنان في نفس لحظة خروج أويس من المبنى، شاهدها تقف هكذا مع رائد مبتسمةً باتساع فشبت النار في مقلتيه، سرعان ما وأدها حين سمع جلبة من خلفه، كان طارق مع بضعة رجال من قوة المداهمات الخاصة، منحتهم مياس نظرة سريعة ثم اتجهت إلى سيارتها برفقة رائد، أنزلت زجاحها حين استقرت خلف المقود لتخاطب اويس بنبرة رسمية: لانريد موكباً كبيراً فيشعر بنا صلاح، تعاليا معي في السيارة ودع الرجال يذهبون بسيارتهم المصفحة.

كاد ينفجر غيظاً من تصرفها معه الثقيلىخاصة معةنار الغيرة التي حرقت صدره ووهو يرى رائد يجلس بجانبها، كاد أن يعترض لكنها منحته نظرة مستفهمة فأشار بطاعة على مضض، جلس خلفها مباشرةً وطارق بجانبه، فقادت مياس سيارتها مُتبعةً إرشادات أويس ومن خلفها كانت سيارة مصفحة لقوة المداهمة.

بعد وقتٍ ليس بطويل وصلت مياس بسيارتها إلى حيٍ فقير على أطراف المدينة، بدى ذلك جليّاً من منظر ساكنيه وبيوتهم ذات سقف الصفيح المتداعية وطرقاتها الرديئة، ويستريح أسفل قدميّ الجبل في منظرٍ جميل.
أوقفت مياس السيارة في بداية الحيّ ثم ترجلت رفقة الثلاثة الباقين، جالت بعينيها على المنازل في محاولةٍ منها لمعرفة المنزل المقصود، هذا حتى التفتت ناحية أويس لتسأله: أيّ منزلٍ هو؟

بدى عليه عدم المعرفة هو الآخر فأخبرها بجدية: لا أعرف بالضبط، أنا سمعته فقط يتكلم عن عنوان الحي.

لم تستغرق مياس في التفكير الحائر وتضييع الوقت فأشارت لرائد ليسير ناحية سيدة عجوز جالسة على كرسي خشبي متهالك أمام منزلها المتداعي، ظلّت مياس مكانها تراقب رائد يحدّث العجوز ثم أشارت له إلى منزلٍ متداعٍ يقبع على تلةٍ مرتفعة بعض الشيء عمّا حولها، وقد حاوطه جدارٌ قصير من الحجارة والوحل، شكرها رائد وعاد إلى مياس قائلاً: المنزل فوق التل هو لجدة صلاح.

أشارت بتفهم ثم تحركت باتجاه البيت الذي لم يكن بعيداً جداً، لكن الزقاق ضيق فبالكاد يمرّ شخص واحد وهذا ساهم في تأخيرهم، ومن نافذة غرفة السطح الصغيرة رآهم صلاح بمنظاره فابتسم بخبث مدمدماً بهمس ماكر: أخيراً! لقد انتظرتك طويلاً يامياس.
عاد إلى مخبئه ليتأكد من الفخ الذي أعدّه لمياس دوناً عن الجميع، فقط ليصدق حدسه...

قريباً من بوابة قصيرة صدئة تؤدي الى مدخل المنزل أشارت مياس بقبضة مغلقة للتوقف، همست أثناء إشهارها لسلاحها بأمر غير قابل للنقاش: أويس، خذ الرجال واصنع طوقاً حول المنزل.
ضيّق عينيه وزفر بعدم رضى في حين لم تنتظر هي ردّه فهمست: طارق، رائد، تعاليا معي.
كاد طارق أن يتحرك خلفها لكن يد أويس الغليظة أوقفته وهو يخبره: اذهب أنت مع الرجال، أنا سأدخل معها.

وقبل أن ينطق باعتراض استبقه أويس ليتبعها فلم يجد طارق بُدّاً من الذهاب مكانه، أشار للرجال ليحاصروا المنزل، في حين تحركت مياس لتدلف إلى محيط البيت القديم لتجد بوابته ذات الخشب البالي مفتوحة، رفعت مسدسها وهي تتطلع بحذر إلى الداخل فلمحت مدخلاً صغيراً يعقبه مفترقين وفي وسطهما درج يؤدي إلى سطح المنزل، كانت تُدقق النظر داخلاً فلم تلحظ أويس وهو يقف بجانبها ثم همس: هل رأيته؟

أجفلت بخفة مالبثت أن استعادت ثباتها ونظرت إليه شَزراً لتوبخه من بين أسنانها: ألم أخبرك أن تحاوط المنزل مع الرجال؟
لم يأبه لغضبتها بل تابع حديثه بلا مبالاة: طارق ذهب بدلاً عني، المهم الآن، سنقتحم أم ماذا؟
ضمّت شفتيها بعدم رضا لكن لم يكن لديها الوقت لتضيعه، تحدثت بأمر: فلنفترق، ليتخذ كلاً منّا مفترقاً ليفتشه.

رفعا أسلحتهما ليدلفا برفقتها بكل حرفية، أرادت مياس التوجه إلى إحدى الغرف لكنّ ريحاً محملةً بالغدر صفقت وجه رائد فأوقفها بإشارة من يده، ثم أشار لها صامتاً أن تصعد الدرج وهو سيذهب بديلاً عنها، هزت رأسها بتفهم لترفع سلاحها وتصعد الدرج بخطىً حذرة، ماكادت تصل نهايته حتى سمعت طلقاً نارياً يُسمع دوّيه في الأرجاء، خفق قلبها برعب وفي هذه اللحظة لم يأتِ سواه على بالها، لاشعورياً خرج اسمه من فمها وهي تعاود الهبوط إلى الأسفل برعب نهش صدرها، لم تنتبه لخروجه هو الآخر من الغرفة التي دخلها قبل ثوان لتسقط هي في أحضانه، رفعت رأسها تطالعه بمقلتيها الدامعة وإحساس مخيف سيطر عليها أن يكون قد أُصيب، في حين أن نفس الإحساس قد راود أويس عندما سمع صوت الرصاص فخرج راكضاً ليطمئن عليها، لهث كلاهما وهو يشمل الآخر بنظرات سريعة ثم خرج سؤالهما في وقتٍ واحد:.

هل تأذيتْ؟
هل تأذيتِ؟
انتبهت هي أخيراً إلى لهفتها غير المبررة فابتعدت عنه قائلة بجفاء وهي تتهرب من عينيه: سمعتُ صوت إطلاق نار.
همهم بتفهم قبل ان يعاود عقلها العمل ليذكرها برائد، تلقائياً عاضدها أويس وهي تنظر إلى الغرفة التي دلف إليها رائد لكنه لم يخرج الآن فصاح كلاهما في الوقت نفسه: رائد!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة