قصص و روايات - قصص بوليسية :

رواية حي الورد للكاتب علي اليوسفي الفصل الثلاثون

رواية حي الورد للكاتب علي اليوسفي الفصل الثلاثون

رواية حي الورد للكاتب علي اليوسفي الفصل الثلاثون

(((ترتجف يدي كلّما أمسكتُ دفتري، عبثاً أحاول وصفك فلا يستجيب قلمي، أنت لي كنجم بعيد المنال أتأمله كل ليلة بمشاعر طفلة، وأنا لك كزهرةٍ صغيرة تبخر عبقها فأصبحت لك مداساً. ))).

بخطوات جبارة في ظاهرها، متداعية في حقيقتها تقدمت مياس خلف رائد في أروقة المستشفى، رغم الجمود والقوة اللتان تظهرهما، إلا أنها تسمع ضربات قلبها كقرع طبول في عرض عسكري، حتى توقف رائد أمام إحدى الغرف، رمقها بنظرة متفحصة بينما كانت هي تتطلع ناحية اللوح الخشبي دون أن ترفع يدها لتفتحه، فتولى رائد تلك المهمة، انبلج اللوح ليظهر عمار من خلفه يجاهد للجلوس وقد اعتلت وجهه تعابير سعيدة حين شعر بها خارج غرفته، ولم يعبئ بالأسلاك الطبية المتصلة بذراعه، لم يستطع منع ابتسامته السعيدة التي شقت ثغره وهو يراها تدلف بخطوات رتيبة، باردة، يا الله!

ابنته حملت ملامحه وملامح والدتها، رؤيتها على الواقع اجمل بخير من الصور، همس باسمها لكن قاطعه ذلك السعال المؤذي حتى نفر خط رفيع من الدم على جانب فمه، شعر بطعم الألم البارد يقوض أحشاءه لكنه لم يأبه، يكفيه أنها هنا.
وقفت أمامه يفصلها عن سريره مسافة مترين، تعابيرها جامدة غيرمقروءة كصفحة بيضاء، قابلها هو بأخرى سعيدة مسرورة، ظلت تطالعه بنظرات خاوية حتى نطقت أخيراً بصوت فقد بهجة الحياة: لماذا؟

لم يستغرب عمار هذا منها فقد اعتاد على الكبرياء الذي يصدر عن تلك العائلة، ولم تهتز تعابيره المبتسمة وهو يستمع لها تردف بنبرة أعلى قليلا فبدت كأنها توبخه: لماذا عدت؟
ابتلع ريقه المختلط بدماء الندم مجيباً بهمس دون أن تخبو بسمته البسيطة: لأنني أموت.
تخلخل ثباتها الغاضب حين سمعت جملته لتذكرها، اهتزت حدقتاها ليلحظ عبراتٍ تختنق داخلهما حين هتفت به صارخة: مادمتَ تموت لماذا عدت؟ أخبرني؟

أمال رأسه إلى الجانب أثناء إغماضه لعينيه بتلذذ وانتشاء وهو يستمع لنبرتها الغاضبة، وكأنها أعادته سنوات عديدة إلى الخلف، ليس مهماً أنها تصرخ في وجهه، الأهم أنها تحادثه ولو كان عتاباً، ارتجفت شفتيها وهي تقاوم أدمعاً أحرقت مقلتيها، وفي ذهنها توضح شكل انتقامها منه لتتقدم خطوة واحدة للأمام معاودة صياحها الغاضب: هل تذكرتني لتوك؟ الآن فقط تذكرت أن لك ابنة بحاجتك؟

اعترافها بهذا لم يكن أمراً هيّناً، أرادت إيلامه فتألمت فخرجت الكلمات منها دون استيعاب، لم يأتِ هو بأي حركة وتركها لتفرغ مابداخلها، ورائد يقفُ قرب الباب يراقب مالذي يحدث باهتمام فكلاهما عزيز لديه، في حين تقدمت هي خطوة أخرى لتتابع صراخها اللائم: أين كنتَ عندما كنتُ بحاجتك؟ عندما كان المدير يطلب ولي أمري فأخذ خالي بديلاً أين كنت أنت؟

مازالت هي تخنق عبراتها بينما كان عمار أضعف من أن يكتم دموع الندم التي تحرق مقلتيه، فانهمرت دمعاته بتتابع وهو يطالعها بأسف واضح، لم تعره اهتماماً لتتابع تقدمها نحوه وصراخها: عندما كنت أتعارك مع أولاد الحي فيأتي أباؤهم مهددين وخالي كمال يهدئهم ويعتذر أين كنت أنت؟ عندما نجحت في المدرسة وتقدمت للجامعة فلم أجد إلا عائلة أمي حولي أين كنت أنت؟

أضحت أمامه في هذه اللحظة، وقد تعبت من احتجاز دموعها فنفرت دمعة سقطت غدراً من عينها، انتحبت بخفوت وهي تضيف بنبرة أهدئ من سابقاتها: عندما تقدمتُ لمسابقةٍ خاصة بالرجال وكنت من بين الخمسة الأوائل أين كنت أنت؟
تتابعت عبراتها وهي تسقط أمام سريره لتعترف بنحيب صامت: أين كنت عندما احتجتُ لصدر أبكي عليه، وأخبره بأن الشخص الوحيد الذي وثقت فيه و..
تثاقلت نبرتها لتعترف بهمس: و أحببته غدرني؟

شهقت ببكاء يقطع نياط القلب وهي تضرب على مرتبة السرير التي استقرّ فوقها و تقول بصياح: أين كنت؟ أخبرني؟
صرخ هو الآخر: كنت أحترق في الغربة.
سكتت لتنظر اليه بعينيها الحمراوين مستمعةً له يقول بنحيب الحزين: كنت أبتلع سكين الفراق على الحدين، لا أنا بقادر على العودة، ولا بقادر على جلبكم إليّ.
تمالكت بعضاً من نفسها المهشمة وهي تسأله بوجوم المجروح: لماذا لم تستطع؟ مالذي منعك؟

أجاب دون تردد: لم أكن أملك تأمين حياةٍ مناسبة لكما.
اكتست نبرتها حدة غريبة وهي تصرخ به، واثبة على ركبتيها لتصبح بمواجهته: ومن قال لك أننا بحاجة حياة لائقة؟ كان يكفينا وجودك بجانبنا؟
حرك رأسه بخفة معقباً ببكاء مفطور: نعم، أدركت هذا متأخراً، لكني خفتُ مياس، كنتُ أجبنُ من أن أستجدي أمراً لا أستحقه.

قَسَت ملامحها أكثر وهي تسمعه يضيف بشفتين مرتعشتان ونبرة موجعة: خفتُ ألا أستحق الغفران منكما، خفتُ منكِ ومن أمك، أنا اعترف أنا جبان ولكني...
ابتلع غصته الخانقة ليتابع معترفاً باختناق صادق: لكني أحبكما صدقيني.
سكت من جديد ليبتلع ريقه المدمى ثم أضاف باستجداء سائل: سامحيني مياس، أرجوك.
اكتسح تعابيرها جموداً غريباً وهي تجيبه بقسوة: للأسف، تأخرت كثيرا.

طالعته بنظرة أخيرة كانت أقسى عليه من العلاجات الكيميائية وألم المرض، استقامت تالياً لتمسح دموعها بقوة أثناء استدارتها منتوية الخروج، ناظرها رائد بدهشة من جبروتها، لم يتخيل أن تكون قاسية لهذا الحد، منظر عمار يلين أقوى القلوب وأكثرها تحجراً، رغم هذا لم يلن له قلب مياس ولم ترأف بحاله، قبل أن تمر بجواره نقل بصره إلى عمار الذي بدأ يسعل بشدة وقسوة كأنه يختنق بشيء ما حتى استفرغ دماً من فمه.

هتف رائد وهو يجري نحوه: سيد عمار؟
تجمدت مكانها وهي تسمع سعاله الجاف، قبضة جليدية اعتصرت صدرها حتى شعرت بنفسها تكاد تقع مغشياً عليه.

نعم تعترف كان غرضها هو الانتقام، وبالفعل لثانية ظنت أنها نجحت، لكنّ نشوة الانتصار التي تخيلتها تحولت إلى جمرة مؤذية تخنقها، أدركت حينها أن كلماتها تلك كانت سبب اختناق أبيها، بشكلٍ لم تتوقعه شعرت بالمرار والندم للحال الذي أوصلته إليه، وكلمات قميئة تدور في رأسها في تتابع مؤثر، أنتِ قاتلة، لقد قتلته.

مرت لحظات أشق عليها من دهر، كانت تسمع صفير الجهاز معلناً عن أزمة لدى عمار، وصراخ رائد الذي ضغط على زر استدعاء الأطباء، ثم رفع الهاتف المحاور لعمار صارخاً بممرضة الاستقبال: أرسلوا طبيباً إلى هنا فورا.
كانت هي تقف في وسط الغرفة كأنها تمثال، لا هي بقادرة على المضي قدماً ولا العودة إليه، توقف التوقيت عندها فلم تشعر بدخول الطبيب يتبعه عدد من الممرضات وقد صاح بإحداهن: اجلبي جهاز الصدمات.

تحركت تلك الممرضة بعجلة ومن لبكتها لم تشعر بنفسها عندما اصطدمت بمياس لتقع الأخيرة وقد غامت الدنيا في عينيها...

كل ذرةٍ داخلها ترتعد وهي تقبلُ بخطوات مترددة نحو البهوّ ذي التصميم العالمي، حيث وقفت كاريمان أمام أحد المقاعد الفخمة ذات الحوافّ المزركشة بتطريز دقيق من النقش على الخشب، وقماشه من القطع المخمليّ الناعم مع خيوط الذهب المتداخلة معه لتعطيه منظراً مترفاً للغاية، كانت كاريمان عاقدةً كفيها خلف ظهرها ليعطيها هيبةً مخيفة وثقة عارمة. تتأمل بتدقيق لوحة لأحد الرسامين الروس المشهورين، كانت عبارة عن صورة رجلٍ يحتض رأساً مدمىً لشابٍ آخر، وكان الرجل الأول قد فتح عيناه عن آخرهما كنايةً عن الدهشة المختلطة بالندم.

لم تستبشر هويدا خيراً خاصة في وقفتها تلك، استعاذت بالله في سرها ثم تابعت خُطاها حتى باتت واقفةً خلفها، أجلت حلقها وهي ترسم على مُحياها ابتسامة صغيرة، ما إن استقرت واقفةً خلفها حتى قالت كاريمان بهدوء: هل فكرتِي في عرضي؟
للوهلة الأولى لم تدرك هويدا مقصدها فهمست بتساؤل: عرضك؟
أوضحت مقصدها عندما أردفت ببرود ومازالت على وضعها الأول: تأخذين مبلغاً وافراً من المال وتتنازلين عن حضانة همام لي.

اتسعت مقلتتا هويدا من قباحة عرضها الذي تعرضه ربما للمرة الألف منذ وفاة فريد، زفرت بضيق حاولت إخفاؤه في أعمق نقطة منها، شبكت كفيها لتجيبها، الردّ ذاته الذي تحفظه هويدا: أخبرتكِ منن قبل سيدة كاريمان، كل أموال الدنيا لن تغريني لبيع ابني.

لم تلتفت كاريمان ولم تناقش نهائياً جملتها، فظنت هويدا لسذاجتها أنها أسكتتها فتشكلت بسمة هازئة، اهتزّت ما إن ابتدأت كاريمان حديثها بلهجة عربية متقنة: لقد اشتريتُ هذه اللوحة من أحد المعارض الروسية، وقد كلفتني ثروة هائلة، لا أظنّ حتى أنكِ قد سمعتِ بهكذا رقم.

كانت نبرتها أثناء نطقها الجملة الأخيرة مستهزئة ساخرة في إشارةٍ واضحة منها على تدنيّ مركز عائلة هويدا، اجترعت الأخيرة مرار جملتها محاولةً بكلّ ما أوتيت من عزم التحلي بالهدوء، في حين لم تأبه كاريمان لمشاعر هويدا فأضافت بترفع: لم أهتمّ للمبلغ الذي دفعته، فحين تعلمين بالقصة التي تحكيها ستدركين أنها تستحق القيمة والأهمية تلك.

ارتفع صدرها بنفسٍ عميق ثم تابعت بتوضيح: إنها تحكي قصة أحد القياصرة الروس الذي قتل ابنه ووريث ملكه الوحيد في لحظة غضب، لحظة عابرة كلفته الكثير، أتعلمين ماكان اسم هذا القيصر؟
لم تدرك هويدا مغزى كاريمان بعد مما تحكيه إلا أنها لاتشعر بالراحة، لم تجدْ بُدّاً من مشاركتها الحديث الغامض فأماءت بالسلب هامسة: لا، ما اسمه؟

أجابتها بعد لحظة صمت: كانوا يلقبونه بإيفان الرهيب، لقد كان يبثّ الهلع والرعب في نفوس أتباعه وأعدائه على حدٍّ سواء، لكنه هدم كل مابناه في لحظة اختيار غير محسوب.
أشارت إلى وجه الأب المرتعب وقد جحظت عيناه لتردف بنبرة مُقلقة: أنظري إلى ملامح وجهه، ملامح أب قتل ابنه، مَلِك أضاع مُلكه في ثانية.

ضاقت هويدا ذرعاً بكل ماتقوله دون أن تعي مقصدها، شعرت كأنها تدور غي حلقات مفرغة تململت مكانها زافرةً بقوة أثناء إسدالها لأجفانها لاستدعاء قوة احتمالها، شعرت كاريمان بها فاستدارات لتقابلها وعلى وجهها الأبيض ملامح غريبة قائلة: تعلمين؟ لطالما رأيتُ ابني فريد في هذه اللوحة.
ارتفع حاجبا هويدا بدهشة مختلطة بعدم فهم فتشكلت ابتسامة باردة وأردفت أثناء جلوسها: أعلم، تتساءلين مالصلة بينهما، سأخبرك.

رفعت إحدى قدميها فوق الأخرى مضيفة بنبرة ذات معنى أزعجت الأخرى: هو أيضاً دمّر حياته في لحظة غباء مفرط، ودمّر مستقبل ابنه بزواجه ممن هي أقلّ منه مركزاً وشأناً.
جزّت على فكيها بغيظ يتصارع ليطفو على صفحة وجهها المنقبض، حديث تلك الساحرة السوداء أشعل فيها غضباً تحاول وأده فعلاً، لم ترضَ السكوت عن الإهانة الواضحة فهتفت وأسنانها تصطكّ: فريد اختارني بكل قواه العقلية يا سيدة كاريمان، كان يحبني..

قاطعتها بقهقهةٍ ساخرة وهي تفرد كفها لتغطي فمها في حركة ترفعٍ واضح، فثارت ثائرة هويدا وقد احمرّ وجهها، استغرقها الأمر بضع لحظات حتى أنهت استهزاءها الضاحك لتعود ملامحها منقبضة في لحظة، منحتها نظرة شريرة حين قالت بلكنتها المعبقة بالغرور والكبرياء: كان يحبك؟ هذه هي اللحظة التي كنتُ أتحدث عنها، لحظة غباء جارف اعترف فيها فريد بمشاعر حمقاء سحبته إلى الدرك الأسفل من الحياة.

فعلاً هذه السيدة مزعجة، لم تعد هويدا بقادرة على السيطرة على أعصابها التي تكاد تنفلت، بينما تابعت كاريمان لتضغط على أعصابها أكثر غير آبهةٍ بمنظرها:
رحمه الله، كان ذوقه في النساء مُقرفاً، فقط لو أعرف ما الذي رآه فيكِ ولم يكن في سواكِ؟

كادت تتخلى عن برودها فتنفعل في وجهها وتجرجرها من شعرها الأشقر الناعم على الأرضية الكريستالية اللامعة، إلا أنها في اللحظة الأخيرة استعاذت من وسوساتها وأدركت أنّ كاريمان تضغط عليها للرضوخ لمطالبها، لكن هذا بعيد عنها، أبعد من أبعد نجم في المجرة.

صوت خطوات داليا التي هبطت الدرج بتهاد قاطع تفكيرها الإجرامي، وهي تتثاءب وتمطّ يديها بكافة الاتجاهات، فركت شعرها ومصمصت شفتيها قبل أن تلاحظ وجود أمها في الصالة، صَحت في ثانية فصاحت بسعادة: أمي!أهذه أنت؟
جَرَت نحوها لتقبلها على وجنتيها هاتفة: صباح الخير عزيزتي، كيف خطرنا على بالك بعد هذا الغياب؟

بالكاد ارتسمت ابتسامة عابرة على محيا كاريمان قبل ان تخبرها براحة ساخرة: صباح الخير؟ لقد أصبحت الساعة الرابعة فأي صباح هذا؟
قهقهت داليا باستمتاع فزجرتها أمها لتتعلم الضحك بطريقة راقية على حد وصفها، فاستغلت هويدا انشغال ( الشمقرين) لتنسحب بهدوء ترتقي السلم متجهة إلى ابنها الوحيد، وفي عقلها مازالت ترنّ كلمات كاريمان المسمومة، مالذي تريده منها لتكسر خاطرها كما كل مرة؟

في غرفة مطلية باللون الأبيض الشاحب الخاطف للنفس استقرت سعاد بسريرها الطبي وردائها الأبيض، حاولت قدر استطاعتها التحكم بانفعالاتها فنظمت نَفَسها وأسدلت أجفانها بهوادة، في حين توزعت ممرضتين حولها ترتديان ثياباً خاصة بالعمليات من حولها، تجهزان المريضة فتوصلان أسلاكاً متصلة بجهاز ما لم تعرف سعاد ماهيته.

لم يمضِ الكثير من الوقت حين دخلت هويدا برداءٍ طويل أزرق، وغطاء رأس بلاستيكي رغم ارتدائها للحجاب، تغطي فمها بكمامةٍ طبية وترتدي في كفيها قفازات خاصة، ومن خلفها كانت طبيبتان إحداهما شقراء، وكلتاهما ترتدي مثل هويدا بالضبط.
، تقدمت هويدا ناحية سعاد وقد ظهرت ابتسامتها من خلف الكمامة وهي تشير صوب الفتاة الشقراء: أعرفك إلى الطبيبة رحمة، طبيبة الجراحة التي ستجري العملية.

أشارت تالياً الى الأخرى مضيفة: وهذه الطبيبة سلمى، طبيبة التخدير.
ثم انحنت ناحيتها قائلة بتشجيع: هل أنتِ مستعدة سيدة سعاد؟

كانت مقلتيها تنطقان بالقلق رغم محاولتها وأده خلفها، أماءت إيجاباً وقبل أن تضيف هويدا حرفاً آخر دلف كمال بهيئةٍ تشابه ماترتديه هويدا والبقية، تشابكت أنظارهما المضطربة حتى وقف بجوارها محافظاً على مسافة جيدة، ابتسمت عيناه برفق مشجعاً إياها في حين رفعت إحدى الممرضات غطاءٍ لتمنع سعاد من رؤية مايفعلن وقد بدأت طبيبة التخدير عملها بالفعل، أخرجت إبرةً طويلة مُعدّة سابقاً مملوءةٍ بكميةٍ ضئيلة من المخدر، ثم حشرتها أعلى صدر سعاد من جهة اليسار فتقلصت ملامح الأخيرة بألم، حاول كمال التماسك مكانه حين رأى مقلتيها التي اغرورقت بالدمع فكوّر كفيه يضغط عليهما بقوة، ماهي إلا ثوان معدودة حتى زال الألم ولم تعد تشعر سعاد بصدرها كأنه لم يعدْ جزءاً منها، فاقتربت رحمة وفي يدها مبضعٌ جراحي في حين كانت هويدا تراقب مايفعلن بوجل، ركزت سعاد نظراتها عليه وكمال يوزع أنظاره بينها وبين الطبيبة الأخرى متظاهراً بالقوة، لكنّ تماسكه المزيف انهار ما إن رأى قطرات من الدم لوّثت قفاز رحمة المعقم، أدركت سعاد بطريقة ما خوف زوجها فحاولت قدر استطاعتها التظاهر بالراحة، لكنها فشلت حين بدأ نَفَسها يتعالى وضربات قلبها تزداد باضطراد مرعب، جفلت هويدا وهي تقترب منها تحاول محادثتها لكنها كمن يحادث جماداً، بدى صوتها بعيداً جدا كالصدى فقط ثبتت مقلتيها التي تتحرك بعدم ثبات على وجه كمال، صخرة عظيمةٌ جَثَتْ فوق صدرها حتى شعرت بأن أنفاسها ستنقطع لا محالة، صداع مفاجئ بات يضرب رأسها تزامناً مع غثيان وغليان على رأس معدتها، لم يعد كمال يُطقْ صبراً خاصة حين صاحت طبيبة التخدير أنهم على وشك فقدان المريضة إثر نوبة فزع مفاجئة، تحرك حتى أمسك بكفها فصاحت به إحدى الممرضات بالابتعاد لكنه ضرب بأمرها عرض الحائط، انحنى حتى ضربت أنفاسه المُتسارعة بشرتها الشاحبة، نادى باسمها مرات عدة لكنها لم تستجب فقط حدقتيها المتحركة بعدم انتظام تمركزت عليه. صوت صفير الجهاز المعلن عن ارتفاع غير محسوب في ضغط المريضة وكلام الطبيبات غير المفهوم ساهم في إرباك كمال فتيبّس عن فعل أية حركة، هواجس مريرة وصورٌ متداخلة غير منتظمة وصرخات متلاحقة اقتحمت عقلها لتزعزع استقرارها المهتزّ أصلاً، تسبب هذا في نوبة فزع رفعت ضغط سعاد حتى كادوا يفقدونها حرفياً، صراخ رحمة في إحدى الممرضات لتسرع في جلب جهاز صدمات القلب مع إدراكها لصعوبة استخدامه أعاد عقل كمال للعمل، اقترب منها ليهمس في أذنها بصوت مبحوح: سعادتي، اسمعيني أرجوك.

وصلها صوته في البداية على شكل فحيح غير مفهوم، ضغط على كفها وهو يجره بقسوة حين لم يجدْ منها ردّاً ثم هتف بصوت جهوري: إياكِ وأن تفعليها ياسعاد، سمعتِ؟ قاومي هيا كوني قوية، لن ترحلي هكذا.
مازال صوت الصفير المرعب يعلو في حين هتفت رحمة توبيخاً وهي تدفعه من كتفه: لايجوز هذا ياسيد، فقط ابتعد ودعْنا نتولى الأمر.

من أصعب ماقد يعايشه الإنسان أن يقف مكتوف الإيدي وقطعةٌ من قلبه تصارع للبقاء، إنهار غضب كمال أمام هذا الموقف فتجعدت ملامحه بخوف من فقدانها، تلألأت العبرات في عينيه وارتجف فكه حين جثى على ركبتيه دون أن يحيد بأنظاره عن مقلتيها الثابتة بفزع، اجترع غصة بكائه ثم أخبرها بصوت مرتعش: لا أستطيع ياسعاد، أرجوك لا أستطيع الحياة بعدك.

نفذ همسه المثقل بمشاعر صادقة إلى وعيّها المحتجز خلف ضباب الذعر، ليتابع كمال بجزع: أرجوكِ، لا تتركيني، من لي سواكِ؟ من لي بعدك؟

وقفت هويدا ورفيقاتها مدهوشاتٍ من حديثه الموجع، في حين كانت هويدا أكثرهنّ تأثراً ودهشة ربما لمعرفتها برزانة كمال ومقامه في الحيّ، شعر كمال بتثاقل نبضاته حتى بدت على وشك التوقف فأردف بنشيج باكٍ وقد أحنى رأسه بجزع، وعبراته قد بللت ذقنه غير المهذبة: عودي إليّ أرجوك، لن أحتمل رحيلك بعد ورد.

لا شكّ أنّ المشهد كان مؤلماً، مؤثراً للغاية فأدمعت عيون المتواجدات ونسينَ لوهلةٍ أمر العملية الأساسية، كانت سلمى أول من استفاقت على صوت الجهاز الذي انتظم طنينه فهتفت بسعادة مختلطة بدهشة: لقد عاد الضغط طبيعياً، تجاوزت الخطر!

رفع كمال عينيه المتسعة إلى سلمى كأنه يُعاين حقيقة ماقالت، انتبه بعد ثانية إلى دمعةٍ متأثرة سقطت على كفه القابضة على يدها فارتفعت مقلتاه لتتعلق بصفحة وجهها الشاحب، وقد زحفت ابتسامة صغيرة على شفتيها قبل أن تهمس بصوت يكادُ يُسمع: وأنت نبضي ياكمال، أنت روحي.

ظلّ لثوان لايستوعب المفاجأة، سرعان مالانت ملامحه ليبتسم بعدم تصديق، اختلطت ضحكاته بعبراته كمجنون لم يعطِ بالاً لما قد تقوله هؤلاء عنه، وهو من هو في حيّه وبين أقرانه، قبّل يدها بحنوّ فاستفاقت هويدا من دهشتها تلك، نكزت رحمة لتتابع عملها، تاركةً عاشقين مُتيّمين قَسَتْ عليهم الأقدار حتى كادت تُزهق أرواحهما...

استفاق كمال من شروده في المشهد القاسي الذي عايشه قبل وقتٍ قليل، لينظر ناحية سعاد النائمة على سريرها وبجانبها كانت أروى غافيةً في أحضان أمها عقب خروجها من العمليات، رأسه تكاد تنفجر كلما تذكر كيف كاد يفقدها في لحظة، تأوه بقسوة وهو ينتفض من مقعده ليخرج من الغرفة يجول على غير هدى في الممرات، حتى صادف الغرفة التي أُودع فيها الشاب الغريب والفاقد للذاكرة، تأمل وجه الشاب الملفوف كلياً من خلال الباب المفتوح، حسب ماعلم من حسام فلم تعد هناك من ضرورة لإبقائه غي المشفى، لكن الشاب استفاق لا يذكر حتى اسمه، اعتبر كمال نفسه مسؤولاً عنه بطريقةأو بأخرى، فقرر في لحظة إنسانية نبيلة أخذه معه إلى منزله، هناك غرفةٌ فارغة متطرفة عن المنزل قرب زهور أروى، تبدو المكان المناسب له.

ظنّ كمال أنه يعمل بأصله كما يقال، لكنه لم ولن يدرك أنه يدخل إلى منزله أفعى غدّارة، ستغدر به وبكل أفراد عائلته...

لم تدرك حقاً كم بقيت في غيبوبتها الإجبارية، لكنها حين استفاقت شعرت بصداع لا يرحم في رأسها، أنّت بوجع فهبّ رائد الجالس بقربها يهتف بوجل: مياس! أنتِ بخير؟
رمقته بنظرةذات مغزى ولم تجبه فعاد رائد ليجلس مكانه، حاولت مياس الاعتدال جالسة على الفراش الأبيض، لتسند ظهرها إلى الخلف تحاول السيطرة على الوجع الذي يفتك بها، سؤال علق في حنجرتها
وكادت تختنق به حتى قالت بتردد: كيف حاله؟

لسببٍ تنكره ومازالت تبعده عن تفكيرها خشيت مياس من إجابةٍ تصدمها، لكنها تنفست براحة عندما نطق رائد بخفوت: إنه بخير، أصابته أزمة قلبية مفاجئة.
همهمت بتفهم وهي تعقد جبينها في محاولة لإخفاء ارتياحها، مرّت بضع لحظات لتتذكر خيانة رائد لثقتها هو الآخر، تلاقى حاجبيها بضيق ثم قالت بنبرة جوفاء دون النظر نحوه: منذ متى وأنت تعرفه؟

بدت متيقنةً من السؤال إلى الحد الذي جعل رائد يشبك كفيه زافراً بقوة، قبل أن يجيب بصراحة: منذ زمن طويل مياس، ربما قبل أن أعرفكِ حتى.
ابتسامة مرة ارتسمت على محياها وقد شعرت بخنجر الخذلان يطعنها مجدداً، أرجعت رأسها إلى الخلف تتطلع إلى السقف وملامحها تنطق بالخيبة، قضمت شفتها السفلى من الداخل حين أردفت بصوت باهت: تعلم مالمؤلم في الأمر يارائد؟

استمع إلى نبرتها الجريحة وهي تستدير إليه نصف التفاتة: أنكَ لم تكن بأفضل منهما، فأنت أيضاً استغفلتني رائد، ظننت أنني غبية لدرجة لن ألاحظ وأنت ترسل إليه الرسالة أثناء قدومنا إلى هنا.
تلألأت العبرات في مقلتيها فصاح رائد بها: أنا لم أخنكِ يامياس، أنا...

قاطعته وهي تزفر بضيق ثم نفضت الغطاء الخفيف عنها لتهبّ واقفةً في لحظة، حاول رائد إسنادها لكنها نهرته بجفاء صامت، خرجت من الغرفة التي كازت داخلها لكنها لوهلة شعرت بالضياع، هذه المشفى تزورها المرة الأولى، شعر رائد بارتباكها وتوقع سببه فصاح باسمها لتلتفت نحوه، مستخدماً عينيه وحاجبيه في الإشارة أخبرها بأنّ الطريق من هذه الناحية، رمقته بضيق ثم دبّت الأرض بقوة حتى خرجت من المستشفى، وقبل ان تستقرّ في سيارة رائد تعالى رنين هاتفها، طالعت الشاشة بعدم اهتمام في البداية لكنها أجفلت حينما رأت الرقم الخاص، إنه الخفاش، لوهلة شرد عقلها في خطرة معينة، اين كان الخفاش طوال الايام الثلاثة المنصرمة؟

أعادها الرنين إلى الواقع فأجابت أثناء استدارة رائد ليكون بجانبها: نعم ياخفاش؟
شهق خطاب نفساً عميقا، قبل ان يقول بصدق: دعيني أكن صادقاً معكِ مياس، في كل مرة تنجحين في إثارة إعجابي، تقفين باعتداد حين أعتقد أنك انهرتِ حقا.
رغم صدق نبرته لكنها كتمت بصعوبة بعض العبر ات التي تكافح للهروب من سجن مقلتيها، فعلا هذا ماكان ينقصها فقط!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة