قصص و روايات - قصص بوليسية :

رواية حي الورد للكاتب علي اليوسفي الفصل الثاني

رواية حي الورد للكاتب علي اليوسفي الفصل الثاني

رواية حي الورد للكاتب علي اليوسفي الفصل الثاني

مازال الهدوء المخيف هو المسيطر على جلسة عائلة الحاج عثمان، بعد أن قامت منى ( كثيرة الغلبة) باستدعاء الوحش الكامن في نفس والدها، خاصة وهي تعرف مالذي يفعله به ذكر اسم تلك العائلة أمامه، اجترع رامي غصة ثقيلة كادت تخنقه من فرط خوفه من أبيه، ولم يجسر على الردّ.

وكأن صمته هذا أطلق شياطين غضب عثمان، ضرب بكلتا يديه على الطاولة مجدداً، صائحاً بانفعال أهوج: ألم أخبرك أن تقطع علاقتك بهذا الصبيّ؟ ألم أفعل؟

لم يجرؤ رامي على رفع رأسه ليواجه مقلتي أبيه، والتي زاد سوادها عتمة مع غضبه الشرس، اكتفى بأن غاص داخل مقعده أكثر، بينما كانت تقاسيم عثمان المشدودة كلوحةٍ مرعبة حقاً، تدخلت جهينة محاولةً تهدأة الجو العاصف، فوجهت حديثها إلى والدها قائلة باحترام: رامي ليس صديقاً لوردْ يا أبي، لكنه عندما رأى الصبيّ يسقط أمامه تأثر، هذا هو الأمر ببساطة.

كلماتها المنتقاة بحرص كبير أثرتْ على والدها فسكن سخطه الذي كتم نفسَ الجميع، بمن فيهم زوجته، حتى مازن قد حاول مجاراة شقيقته بكذبتها التي يعلمها جيداً، مشاركاً إياهم الحديث للمرة الأولى: أنت تعلم يا أبي أن رامي ولد مطيع، ولن يكسر كلمتك أبدا، صحيح يا رامي؟

وجه سؤاله الأخير إلى شقيقه الذي كاد يختنق بنَفَسَه حرفياً، فأومأ بسرعة لمعرفته مدى تأثير حديث مازن على والده، لكأنه جرعة مسكن، فيما ظلت نظرات عثمان مصوّبة ناحية رامي المُنكس رأسه، ساد الصمتُ الموحش من جديد وفي أماني الجميع مرور تلك العاصفة على خير، حتى نطق عثمان أخيرا بلهجة هادئة، إلا أنها كانت تحذيرية: إياك وأن اعرف بأنك لم تزلْ على علاقةٍ بذلك الفتى، أو أيٍ من عائلته، فهمت؟

أومأ رامي من جديد باحترام، ثم رفع رأسه إلى أبيه يحدثه برعشة بسيطة بانت في نبرته: أمرك يا أبي، كلمتك سيف على رقبتي والله.
نالت جملته تلك استحسان عثمان وإن لم يعفو عنه بعد فبقايا غضبه كانت كجمرةٍ ألهبت صدره وانعكس ذلك على ظلام عينيه، استقام من مكانه فجأة فسارعت ميادة تقول بلهفة: أكمل غداءك يا حاج...
دون أن ينظر صوبها، وبجمود ولا مبالاة أجابها: لقد شبعتْ.

وقبل أن يتحرك بخطىً حثيثة ناحية غرفته، سدّد إلى منى، آخر العنقود، نظرة مخيفة جعلتها تبتلع ابتسامتها الشريرة حتى كادت تختنق بها.
تنهدت ميادة بقلة حيلة وهي تتابع زوجها الذي أسرع في خطاه ليصعد الدرج متوجهاً إلى جناحه الخاص، في كل مرة تذكر فيها عائلة الحكيم يحدث ذلك الزلزال، وينتهي بانزوائه وحيداً في مخدعه، وهي تعرف جيدا ما الذي سيفعله الآن...

مررت نظراتها المُنكسرة على وجوه أولادها الأربعة، ثم قالت بهدوء وهي تزيح كرسيها إلى الخلف وتقف: اكملوا طعامكم يا أولاد.

تبعت زوجها عقب جملتها تلك بخطىً متهادية، وفي داخلها تتمنى ألا يفعل عثمان مايفعله كل مرة، حتى دلفت إلى جناح نومهما، وصلت إلى اللوح الخشبي المصقول بعناية، امتدت يدها إلى مقبض الباب لكنها أغلقت عيناها لبعض الوقت، أخذت نفسا عميقا تطفئ به نار الغيرة التي تحرق أحشاءها، ثم أدارت المقبض بهدوء لتعطي عثمان فرصةً قبل دخولها، وقد صدق حدسها تماماً عندما دلفت وكان عثمان يقف أمام النافذة الزجاجية مولياً إياها ظهره، وقفت للحظة تراقب جذعه الذي اشتدّ ويده التي امتدت إلى جيب جلبابه المنزلي كمن يحاول أن يخفي شيئاً، تسللتْ الخيبة إلى تجاعيد محياها إلا أنها اغتالتها ببسمتها البسيطة، تقدمت منه حتى غدت خلفه ثم وضعت يدها على كتفه قائلة بنبرتها الهادئة: هل أحضر لك الشاي يا حاج؟

شعرت بتنهيدته الثقيلة التي زفرها من أنفه، ليردّ بنبرةٍ جلفة: لا، أريد أن أنام.
سار من فوره ناحية سريره ليستلقي عليه، دون أن يمنحها ولو نظرة خاطفة، صوتٌ مقيتٌ داخلها يصرخ بها: لم ينسها أبداً، ولن يفعل يا ميادة، هي حبيبته فقط، أما أنتي...
تنفست بعمق وهي تخرسُ ذلك الوسواس قائلة في نفسها: انا أم أولاده الخمسة، وربةُ منزله ورفيقة سنواته الطويلة، ولا أريد أكثر من هذا.

ظلت محافظةً على ابتسامتها الوديعة وهي تتقدم منه لترفع الغطاء أكثر على كتفيه، ثم سارت لتخرج إلى غرفة الملابس، جلست أمام مرآتها لتتأمل وجهها، مرت ثوان حاولت فيها تجاهل تلك العبرات التي تحرق زوايا عينيها حتى سمحت لها أخيرا بالتحرر، كم من مرةٍ أخبرها بأنه مزق تلك الصورة وتخلص منها؟

لكنه و في كل موقف يسنح له يثبت لها بأنه لم يفعل، في الحقيقة تلك الصورة هي رفيقته الوحيدة كلما غضب أو حزن، بل وحتى أقرب إليه منها هي...

تابعت منى طعامها بعد رحيل والديها كأنّ شيئاً لم يكن وعلى وجهها ابتسامة حاقدة، وقد أرضت غيرتها الطفولية بعدما افتعلت مشكلة لرامي وقدمته وجبةً دسمة لغضب أبيها، إلا أنها شعرت بنظرات نارية تصوب نحوها، رفعت رأسها لتجد ثلاثة أزواج من العيون االغاضبة ترمقها بغيظ، بلعت بقايا لقمتها بصعوبة وهي تقرأ نيةً مُبيتة لقتلها تلتمع في عينيّ رامي، خاصة وأن كلا والديها في الطابق الأعلى وعلى الأغلب لن يسمعا استغاثتها، ازدردت ريقها بتوتر وخوف أثناء وقوفها بهدوء، قائلة بصوت متقطع: أنا، أنا، لديّ دروس، كثيرة...

كانت تلك كلمتها الأخيرة قبل أن تجري بسرعة غزالةٍ تهرب من ليثٍ مفترس، كاد رامي أن يتبعها لولا ذراع جهينة التي أوقفته قائلة: لا رامي، دع الأمر لي أنا.
كوّر يده وحنقه من تلك الصغيرة في ازدياد، فهذه ليست المرة الأولى التي تتسبب له بنوبة غضب من والده الحاج عثمان، ويبدو أنها لن تتوقف قريباً...

ورد ورامي صديقان منذ أول يوم لهما في المدرسة، رغم معرفة كلاهما بالعِداء القديم بين عائلتيهما لسببٍ يجهله الكثيرون، إلا أن ذلك لم يؤثر أبدا على صداقتهما التي استمرت لأعوام في الخفاء، إلا عن بعض المقربين منهم.

غرفةٌ واسعة غلب اللون البني الداكن على جدرانها، خلا أحدها الذي كان عبارة عن حائط من الزجاج في الواجهة، مكتبٌ من الخشب المصقول واللون الأسود مع حوافّ ذهبية، وكرسيٌّ من الجلد الأسود ومسندين مذهبين، رجلٌ قارب الثلاثين يجلس واضعاً يده اليمنى على المسند واليسرى قد رفعها بحركةٍ ارستقراطية قديمة أضفت عليه هيبةً ووقاراً مخيفين، بشرته بيضاء وعينيه الرمادية ذات نظرة ثاقبة تكاد تنطق ذكاءً وحدّة، وكتفيه العريضين أكملا المشهد لتتيقن أنك لا تقف أمام مجرد رجل عادي أبداً.

في هذه اللحظة، دخل شاب آخر ربما كان يصغره ببضع سنوات، كان يسير ناحيته بلهفة وخطوات مُتعجلة حتى وقف أمام الطاولة السوداء، انحنى باحترام ثم وقف لثانية يستعيد أنفاسه ويبتلع مافي جوفه قبل أن يعاجله رئيسه بجملةٍ ظاهرها سؤال وباطنها تحذير: أين نديم؟
كان سؤاله هذا فخاً بلا ريب، فهو يعرف الإجابة تماماً، رمش الشاب الآخر بعينيه قبل أن يجيب بنبرة آسفة: لقد أمسكوه.

ضرب خطاب بقبضته اليسرى على سطح المكتب مُتخلياً عن هدوئه حتى أجفل الشاب الآخر، ثم صاح بقسوة: كيف؟ نديم من أمهر العاملين عندي فكيف وصلوا إليه؟ أخبرني؟
ازدرد الموظف ريقه الجاف تماماً ثم أجاب بتوتر محاولاً ترتيب جملةٍ مفيدة: لا نعرف التفاصيل كلها بعد سيدي، لكننا علمنا أنّ من أوصلهم إلى نديم هو نفسه من يدعى الذئب.

أعاد خطاب جسده للخلف زافراً من أنفه ليعود إلى هدوئه البارد من جديد، مُضيقاً عينيه ومُتفكراً في أمر ذلك الذئب، هذه ليست المرة الأولى التي يتمّ فيها القبض على أحد موظفيه- إن صحت تسميتهم- بواسطة ذلك الجاسوس السري، والذي لا يُعرف عنه أكثر من اسمه، الذئب، اسمٌ مميز للغاية، ولا شك أنّ شخصية حامله مميزة كذلك، تجهمت ملامحه الغاضبة من جديد هذا ليس وقت الإعجاب بأسلوب ذلك الخبيث، فهو الآن يهدد منظمته بشكل فعلي، ربما خطاب الآن ممتنٌّ لذكائه، فلولا فكرته في أن يُشكلَ مجموعات منفصلة عن بعضها لكانت انهارت منظمته بالفعل، تحدث بعد حين بنبرة هادئة ذات مغزى: ماذا عن ذلك الأحمق؟ ألم يتوصل إلى أي شيء قد يفيدنا بخصوص هذا الذئب؟

حرّك الشاب رأسه بالنفي قائلا برعشة طفيفة: لا سيدي، لم يخبرنا بعد بأي شيء.

أشار خطاب بأصبعيه للموظف بالانصراف فانحنى الآخر باحترام مجدداً ثم غادر بعجالة كما دخل، لكنه هذه المرة بارتياح طفيف فرئيسه امتلك الصبر ولم يردهِ قتيلاً بسبب أخبار السوء التي يجلبها، أدار خطاب كرسيه ليواجه الحائط الزجاجي ويشرد في المنظر المهيب أمامه، كان مقرّه في مكان حصين في الجبل المُطلِّ على ( المدينة الساحرة )، هكذا يلقبها أغلب أبنائها، وعلى عتبة الجبل تقبع غابة صغيرة، ويُدير خطاب منظمة مختصة بالتجارة غير الشرعية بالآثار وسرقتها وبيعها، وبسبب ذكائه وخططه التكتيكية ظلت منظمته قيد الخفاء لأكثر من عشرِ سنوات، لكن ومنذ عام تقريباً اقتحم خططه جاسوس متخفٍ، حرفياً هو جاسوس سريّ، لا أحد يعرف عنه أي شيء، أي شيء سوى لقبه الذي ذاع صيته وانتشر كالنار في الهشيم، ضيّق خطاب عينيه مُحدّثاً نفسه بهسيس كالوطواط: ترى من أنت أيها الذئب؟ من أنت؟

إنه حيّ الورد، أحد أكبر الأحياء في تلك المدينة الساحرة، إلا أن موقع ذلك الحي أكثر سحراً، فهو يقبع على أطراف المدينة، وبطريقة ما يتوسط موقعاً وسطاً بين الجبل والبحر، وقريب من الغابة التي قبعت أسفل قدميّ الجبل كأنها تقدمُ له فروض الطاعة، يقطنه عائلتين كبيرتين، عائلة الحكيم وعائلة الشافي، وبين هذه وتلك عداوةٌ قديمة لا يعرف أغلب أبنائه أصلها، مايعرفونه أنه لا يمكن أن يجمع بين تلكما العائلتين لا مصاهرة ولا صداقة، ولا حتى تعامل في أبسط الأمور.

كان الحيّ هادئاً في مثل هذا الوقت من النهار، على عكس سعاد التي كانت تزدرع رواق منزلها جيئةً وذهاباً، وفي صدرها تشتعل نارٌ قاتلة منذ أن سمعت بنقل وحيدها الى المستشفى، ترفع رأسها إلى السماء تارة داعيةً له، وتفرك كفيها بنفاذ صبرٍ حيناً آخر، فيما كانت الحاجة أم كمال تجلس على كرسيها الخشبي برصانة سنواتها التي تجاوزت الخمسة وخمسين، تتوكأ عصاها وتمسك بسبحتها السوداء المذهبة والتي لا تفارقها، الناظر إليها يرى وجه صبيةً بعمر الزهر الندي، أرملة منذ خمسة عشر عاما، زوجها هو كبير عائلة الحكيم، وبعد وفاته انتقل أمر إدارة العائلة إلى ابنه الأكبر كمال والذي يعيش معها في منزل العائلة الضخم، برفقة زوجته وولديه، ورد وأروى، وأيضا شقيقته عليا ذات الأربعين عاما، وبالمناسبة عليا وكمال توأمان، أما عن شقيقه الأصغر سعيد فقد كان يعيش في منزل منفصل مع زوجته، ولديه ولدين شقيين.

وعلى ذكر عليا، فهاهي تخرج من المطبخ تجفف كلتا يديها بخرقة نظيفة، ناظرةً إلى زوجة أخيها الملهوفة بشفقة، لكنها تصنعت الحزم وهي تحادثها: اهدأي يا سعاد، ألم يخبرك كمال أنه في طريقه رفقة ورد؟
لم تتوقف سعاد عن التحرك، فأجابت عليا بلهاث ولهفة وهي تشير بأصبعها السبابة: لا أستطيع يا عليا، قلبي لن يهدأ مالم أرَ ورداً يقف أمامي واحتضنه بيديّ...

أطلت أروى ابنة كمال من فوق سور الطابق العلويّ، ابتسمت برقة وهي تحمل في يدها دفتراً كانت تدرس فيه، ثم نزلتْ الدرج بتهادٍ حتى وقفت أمام أمها التي لم تكفْ عن التحرك، وضعت كفيها على كتف الأخيرة قائلة بصوتها الهادئ: لا تقلقي أمي، سيكون ورد بخير.

تمعنت سعاد في عينيّ ابنتها الزمردية التي شابهت خاصتها، تلك الرقة التي تمتلكها هذه الفتاة النقية تجبر روحها القلقة على الاطمئنان والسكينة، فقد ورثت أروى ملامحها الناعمة عنها هي، طولها المتوسط وخصرها الاسطواني، إلا أنها ورثت شعرها الطويل ولونه الأسود الليليّ عن جدتها، الحاجة رائدة، أروى تبلغ من العمر الآن عشرون عاما، وهي تدرس في كلية الطب في سنتها الثانية.

تنهدت سعاد بقلة حيلة، حتى أجفلت عندما سمعت صوت المفتاح يدور في مكانه، التفت جميعهن إلى ورد الذي دلف أولاً ومن خلفه كان كمال يحثه على المسير، ويدفعه من ظهره بخفة، وفي اليد الأخرى يحمل كيساً ورقياً فيه الأدوية الجديدة التي وصفها الطبيب، هرولت سعاد لتضمّ ابنها إلى صدرها بلهفة أمّ حنون، وقد تغضنت ملامحها ببعض الراحة لرؤيته سليماً معافىً أمامها، أبعدته عنها دون أن تنزل ذراعيها عنه، تفحصت وجهه الشاحب بعينيها التي أدمعت لتحادثه بعتاب: أتقلقني عليكَ بهذه الطريقة؟ أهانت عليك دموع أمك ياورد؟

ابتسم بتعب ليرفع كفها يلثمه بطاعةٍ مُتمتماً: أعتذر إليك أمي، لم أقصد إخافتك صدقيني.
أفلتَ من بين ذراعيها عندما اقتربت عليا بدورها لتعانق ابن شقيقها هامسةً بالدعاء له بالسلامة والعافية، بينما راقبت سعاد اصفرار وجهه الذي لم يكن مُريحاً لقلبها، وكأنما علمت أنه أبعدها عنها فقط لئلا تلاحظ وهنَ محياه وقد أنهكه المرض، حاولت السيطرة على عبراتها لكنها فشلت، فأيّ أمٍ لن تتحكم في دموعها ووليدها عليلٌ سقيم.

شعرت بكفّ كمال الخشن يحطّ على كتفها، ولكمْ كانت بحاجة دعمه في هذه اللحظة، أراح ثغره بقبلةٍ فوق رأسها ثم انحنى أكثر ليهمس قرب أذنها: لا تقلقي عليه، سيكون بخير.
التفتت صوبه لتهديه نظرةً ذات مغزى، كيف يخبرها ألا تقلق وهو لم يجرب البركان الذي يغلي داخلها؟ نعم هو والد، لكنها أم في النهاية...

اتجه ورد إلى جدته بعدما عانق شقيقته الكبرى، قبل جبينها ثم رفع كفها يزرع فوقه قبلة طاعة ويحدثها بأدب: كيف حالك يا حبيبة؟
تبسمت الحاجة رائدة بحنان وهي تحاوط وجهه بكفها المجعد مجيبةً: أنا بخير طالما بقيتَ ياقلب جدتك بخير.
ابتسم بحبور ثم قبّل باطن كفها قبل أن يستأذن ليرتاح في غرفته، تبعته أروى مُتعذرةً بأخذها لكيس الأدوية من والدها، وفي خاطرها سؤال أخفته عن الجميع، ولا يملك جوابه سوى ورد...

شيعتهما سعاد بعينيها الذابلة حتى صعدا إلى الأعلى، ولا تستطيع تجاهل الهواجس المخيفة التي تزداد داخلها كل يوم على وحيدها، تربيتةٌ خفيفة من كف كمال أجبرتها على الالتفات نحوه، ليخبرها برغبته بتناول الطعام فأشارت له موافقةً ببسمةٍ حزينة، ثم توجهت برفقة عليا إلى المطبخ بينما جلس كمال بجانب والدته، قبل كفها القابض على عكازها فمسّدت على رأسه قائلة بحنوٍّ: أشعر بما يعتري صدرك من هموم.

أحنى رأسه بثقل وزفر تنهيدةً مختنقة من صميمه، مسح على وجهه مُتحدثاً بنبرة أظهرت عجزه وخوفه: الطبيب حذرني من ذهاب ورد إلى المدرسة، وأخبرني من جديد بضرورة إجراء العملية.
ولكأنها شعرت بالحريق الذي يتآكل داخله، فربتت على ظهره ليرفع رأسه إليها مُضيفةً بحكمةٍ مجبولةٍ بتعب السنين: ياولدي، الحذر لا يمنع القدر، ولكل أمةٍ أجل فإذا جاء أجلهم لا يستقدمون ساعة ولا يستأخرون، فثقْ بحكم ربك وقضائه.

في داخل مقلتيه تلألأ دمعٌ لم يلقَ طريقاً للظهور، لمحتْ الحاجة رائدة كذلك تعباً وتوجساً، لكن بكرها لن يُظهر ضعفه أمام أي أحد حتى لو كانت أمه، طبعا فهي أكثر من يعرف آل الحكيم وجبروتهم وعنفوانهم، آماء برأسه ثم استأذن ليصعد هو الآخر إلى غرفته مُتعللاً بأداء الصلاة، فيما هي تعرف أنه يهرب، كعادته، من هموم الدنيا إلى سجادته...

دخل أويس إلى مبنى مكافحة الجريمة الإقتصادية، مُتجهاً من فوره إلى الصالة الرياضية الخالية من أي أحد سواه، توجه بعدما بدّل ملابسه إلى كيس الملاكمة الرملي في زاوية الصالة، أسند هاتفه على مقعد جلوس بقربه ثم بدأ تمريناته القاسية، ليفرغ طاقة هائلة يختزنها داخله حتى تصببت منه أنهراً من العرق، فيما هو كذلك حضر صديقه وشريكه في الفريق، طارق.

كان طارق يماثل أويس طولاً، إلا أن روحه مرحةٌ أكثر وهذا ماينفر أويس منه ويجذبه إليه في ذات الوقت، قوته الجسمانية بسيطة مقارنةً بجسد رفيقه، وجهه حَسنَ الخِلقة وشعره طويل نسبياً، ويُعتبر طارق الرجل الثاني في الفريق بعد أويس، هذه الفرقة التي تمّ تأسيسها منذ قرابة العامين للتحقيق خلف عمليات تنقيب غير مشروعة، بالإضافة إلى سرقة وبيع الآثار خارج البلاد وفي السوق السوداء، إلا أنهم وكلما اقتربوا من رأس الحربة يعودون من جديد إلى نقطة الصفر.

لم يستغرب طارق من قدوم أويس إلى الصالة في هذا الوقت المتأخر من النهار، إذ أنه على علمٍ بأنه ينتظر اتصالاً هاماً، وتمريناته تلك ليست سوى تفريغاً للتوتر الذي لن يعترف به أويس مطلقاً، وبينما كان الآخير يضرب الكيس بقوة قاطعه رنين هاتفه فسارع بخلع القفاز من يده ليجيب الاتصال ومازال يلهث، بضع كلماتٍ مُقتضبة ثم أغلق الجهاز من جديد، استدار ليواجه طارق الذي تأهب في وقفته مُخاطباً إياه بحزم وأنفاس متلاحقة: اقترب موعد انصرافها، تجهز أنت فقط..

لم يزدْ حرفاً على ما قال حتى أنه لم يهتمّ لسماع إجابة طارق، بل سار نحو غرفة الملابس من جديد ليتجهز لمهمته التالية، والتي تتمحور حول اعتقال نادلةٍ تعمل في مطعمٍ مشبوه...

ضيقت أروى عينيها وتأهبت في جلستها حيث كانت على سرير ورد، بعدما استشعرت رغبة الأخير بالتملص من أسئلتها التحقيقية حول سبب النوبة التي داهمته هذه المرة، هتفت بكل مايعتريها من حنق تجاهه: ما الذي تقصده بأن لا شيء قد حدث وردْ؟
أجابها بلا مبالاة وهو يحاول أن يعتدل في سريره لينام: كما سمعتِ أروى، لا شيء.

زاد حنقها منه فضربته من فوق الغطاء على قدمه قائلةًوهي تصرّ على أسنانها بغيظ: فكر في كذبة أخرى ورد، لأني لن أصدقك.
تأفف وهو يعتدل من جديد ليواجهها متحدثاً بسخط: مالذي تريدينه أروى؟
- أريد الحقيقة.
هتفت بها بجدية وهي تكتف يديها ليفهم ورد أنها لن تتراجع حقا حتى تعلم، زفر ببطء ثم همس بضيق: لد أدخلوا شقيق جمال إلى المستشفى مجدداً بسبب التعذيب في مخفر الحيّ.

شهقت أروى بخفة وقد أحزنها سماع مثل هذا الخبر، خاصة وأنها تعرف شقيق جمال هذا، ضغطت على شفتيها لتسأل بحذر: ومالذي تنتويه الآن؟
ضيق عينيه بتفكير ثم أجابها بقوة ودون تردد: سننظم مظاهرةً جديدة للتنديد بأفعال رئيس المخفر وزبانيته.
حركت رأسها بكافة الاتجاهات وقد سقط فكها من عناد شقيقها فنهرته باحتدام: أما زلتَ تفكر في هذا الأمر ورد؟ ألم ترتدع من المرة السابقة؟

رمقها بضيق وماكاد يجيبها حتى سمعا هرجاً ومرجاً مصدره إيوان منزلهم، انتفض كلاهما ليخرجا فيجدا مياس غارقةً في أحضان أمها، مياس ابنة عمتهما الوحيدة والغائبة منذ مدة طويلة، ابتسم ورد باتساع وسارع ليهبط من على الدرج مُرحباً بها، فيما بقيت أروى لثوان تراقب الوضع من الأعلى وقد شقت ابتسامة ماكرة ثغرها، ها قد حضر علاج ورد، فإن كان شقيقها عنيداً فلا شك بأن رأس مياس أكثر تحجراً وعناداً...

ما يزال أويس منتظراً في سيارته قبالة الزقاق الجانبي المُعتم، وقد أسندَ رسغه على النافذة المفتوحة واضعاً إصبعه السبابة بين شفتيه كطريقة إلهاء، وعيناه مثبتتان على مرآة السيارة الجانبية، بينما لم يكفّ طارق عن التملل في مكانه حتى هتف مُقاطعاً أجواء الصمت الباردة: هلّا أخبرتني لماذا لم نجلب إيهاب وصلاح معنا؟

أتته إجابة أويس المختصرة بنبرة باردة وما يزال على وضعه المراقب: أخبرتك، لا أريد إصدار جلبة أو لفت الأنظار.
تأفف طارق وهو يفرك كفيه ببعضهما يستمدّ الدفء من احتكاكهما، وقد بانت عليه علامات الضيق كأنّ لم يكفه برودة الطقس خارجاً ليكملها معه لوح الجليد الجالس بجانبه، منذ ساعة وهما على هذا الوضع حتى أصابه الملل ليسأل رفيقه للمرة العاشرة بنبرة عكست سخطه: ألم يخبرك رجلك بأنها على وشك الخروج؟

لم يجبه أويس، بل ضيق عينيه بانتباه عندما أبصر ظلاً يبدو أنه لفتاةٍ ما يخرج من الباب الخلفي للمطعم، ثم سارت بخطوات متعجلة تريد الالتفات إلى الزقاق الذي كان مراقباً من قبل أويس، مما دفع بالأخير إلى نكز طارق ليخرس، ثم فتح بابه بهدوء وخفة حتى لا يحدث جلبة، وما إن مرت الفتاة إلى جانب سيارته حتى دفع الباب وبلمح البصر كان يقف أمامها مما أرعبها، ثوان مرت قبل أن تستوعب أنها على وشك أن تُخطف فاستدارت للخلف لتشهق بهلع عندما ظهر طارق أمامها من العدم، ازدردت ريقها بخوف وهي تستدير من جديد إلى أويس الذي همس لها بنبرة بثت الرعب داخل ثناياها: إلى أين تظنين نفسك ذاهبة ردينة؟

ارتجفت المدعوة ردينة بهلع وهي تقرأ في عينيّ أويس وميضاً، لكنه لا يبشر بخير أبدا...

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة