قصص و روايات - قصص بوليسية :

رواية حي الورد للكاتب علي اليوسفي الفصل الثالث

رواية حي الورد للكاتب علي اليوسفي الفصل الثالث

رواية حي الورد للكاتب علي اليوسفي الفصل الثالث

كان أويس جالساً بهيبته المخيفة وقميصه الأسود على كرسيّ خشبي في غرفة فارغة تقريبا إلا من رُدينة التي كانت تتقرفص على الأرض وترتجف خوفاً ووجلاً، وقد تلطخ وجهها بزينتها بسبب بكائها، وطاولة صغيرة في زاوية بعيدة عليها بعض مُتعلقات أويس وسترته الجلدية، أما طارق فقد دخل لتوّه حاملاً في يده كوباً زجاجياً فيه بعض المياه، تقدم حتى قدّمه لردينة التي لم تجرؤ على رفع عينيها إلى أويس بعد، تحدث طارق برفق: اشربي بعض الماء وهدّئي نفسك.

رفعت رأسها إليه قائلة بنبرة مرتجفة مبحوحة من فرط البكاء ولم تأخذ الكأس: أرجوك سيدي، أخبرني لماذا ألقيتم القبض عليّ؟ انا لم أفعل شيئاً.
زفر طارق من أنفه لينظر إلى أويس بنظرة ذات مغزى فيما لم يبادله الآخر، بل أبقى عينيه مُعلقةً على وجه رٌدينة، ثم أعاد بصره إليها عندما أردفت وقد بدت كأنها ستنخرط في نوبة بكاء أخرى: أنا ادفع فواتيري بانتظام، ولم ارتكب في حياتي أية أخطاء، فماذا أفعل هنا؟

قاطعها أويس عندما نفخ من فمه بنفاذ صبر فارتجفت رُدينة تلقائياً، وكأنما عرف طارق بأن الآخر على وشك الانفجار فوضع الكوب بجانبه وجلس على الأرضية ليقابلها ثم تحدث برفق: اسمعي رُدينة، نحن نعلم أنك فتاةٌ مُطيعة ومُراعية للقوانين أيضا، ونعلم كذلك أنك لم تقترفي في حياتك حتى مخالفة سير واحدة، لكن عملك في ذلك المطعم...

بتر كلماته بطريقةٍ مُوحية ليتيح لها فهم سؤاله دون نطقه، ومع أن الأخيرة فهمت ما يقصده إلا أنها ادّعت عدم الفهم وهي تُجيبه بانفعال: ماشأنكم بعملي في المطعم؟

نفخ أويس من جديد وقد بدأ صبره ينفذ فعلا، لكنه ترك الأمر لطارق علّه يتمكن من معرفة شيءٍ ما منها قبل أن يستخدم هو طريقته والتي، بلا أدنى شك، لن تعجب رُدينة، ضيّق طارق عينيه قائلا بجمود: شأننا به أن المطعم الذي تعملين فيه هو مكان مشبوه، نعتقد أنه واجهةٌ لعصبةٍ تتاجر بالآثار...

قهقهت بسخرية لتقاطعه وقد بدى أنها استعادت جأشها، ثم قالت: على مهلك حضرة الضابط، المطعم الذي أعمل فيه مجرد مكان يجتمع فيه صفوةُ المجتمع وأبناء العائلات الراقية لتناول الطعام، والسهر والترويح عن النفس، وكلّ روّاده أبناء عائلات معروفة، فكيف يكون كما تدّعي؟

بنظرة محترفة، قرأ أويس في حركاتها الكذب والادّعاء، وعلم أنها تخفي أكثر بكثير مما تظهر، لذا تدخل في الحوار مُتحدثاً بنبرة هادئة بخطر لينظر كلاً من رُدينة وطارق نحوه: اسمعي، نحن نعلم أن مكان عملك ليس مجرد مطعم عادي، وأيضا نحن على يقين بأن معظم العاملين هناك يعلمون بطبيعته الحقيقية، لذا لا تدّعي عدم الفهم.

ابتسمت مجدداً باستهزاء مُجيبةً بمسحة تهكم بانت في كلماتها كأنما قد تلاشى خوفها: وكيف أصدق ما تتحدثون عنه؟ فأنا مجرد نا...
بترت كلماتها شاهقةً بصدمة وقد هبّ أويس بلمح البصر فارتدّ كرسيه على الأرض مُحدثاً صوتاً عالياً، وقبض على مقدمة ثيابها بذراع واحدة ثم رفعها حتى أصبحت قدميها لا تلامس الأرضية، بينما هتف طارق بحذر وهو يقف بدوره، وقد عرف أن صبر رفيقه قد نفذ: أويس حاذر.

لم يستمع الآخير له، بل ركز نظراته المُشتعلة بجنون على وجه رُدينة الذي انقلب مُصفرّاً، وقد انقطع نفَسها لثانية حتى تحدث أويس من بين أسنانه: ستصدقين كل حرفٍ سمعته لأنني من أخبركِ به، لذا سأنصحكِ بألا تتحاذقي أمامي أبداً، وإلا سترين مالن يرضيكِ.

قشعريرة خطرة سرت في بدنها وقد تحركت مقلتاها بعدم ثبات مع سماعها لنبرته المُرعبة، حتى أنها لم تجسر على الالتفات إلى طارق وهو يضرب على ذراع أويس الحرة بخفة يحاول تهدأته: أويس لا تتهور أرجوك.
حاولت إخراج بضعة كلمات من جوفها لكن صوتها خرج مبحوحاً يكاد لا يُسمع: صدقني انا لا أعرف أي شيء...
- يبدو أنكِ لم تفهمي ماقلت.

صرخ أويس وهو يرميها في زاوية الغرفة حتى تأوهت بألم، بينما صرخ طارق وهو يجري نحوها: أيها المخبول..
أعانها طارق على الجلوس وسألها بلهفة: هل تأذيتي؟
اماءت إيجاباً بضعف وهي تمسّد على ظهرها وقد جَرَتْ عبراتها بانكسار، وقف طارق مواجهاً لأويس ثم همس بغيظ: على مهلك على الفتاة أويس.
أجابه أويس باقتضاب وقد ركز مقلتيه على رُدينة: اخرج.

جحظت عيناه من نبرة أويس المخيفة، فحاول استمالته علّه يهدأ: أويس أرجوك لا تتهور.
حدجه الأخير بنظرة جامدة إلا أنه استجمع شجاعته ليتابع بهمس: اسمع، عليك أن تهدأ، فطريقتك هذه لن تجدي نفعا معها، انظر إليها الفتاة لن تحتمل جنونك!

أعاد أويس نظراته إلى تلك القابعة في الزاوية ترتجف قهراً وألماً، مؤكد أنها لن تحتمل شياطينه إن هو أطلقها، فآثر السلامة وأن يسمح لطارق بالبقاء معهما، وضع يده على كتف طارق ليزيحه عن أمامه ثم قال بنبرة لا تحتمل النقاش: ابقَ بقرب الباب إذاً.

راقبه طارق وهو يثني كُميّ قميصه للأعلى، وقد تيقن أن أويس على وشك الخروج عن طوره، تطلع إلى رُدينة التي أصابها الهلع من مرآى الوحش الواقف أمامها، تطلعت إلى طارق باستجداء أخرس لكن لم يكن في يده حيلة، حرك رأسه بيأس ثم ابتعد حتى وقف بجانب الباب يراقب ماسيفعله أويس بتلك الضعيفة، وهو أكثر العارفين بهمجية أويس وأن يده دائما ما تسبق عقله، فقط تضرع إلى خالقه أن يُحكم رفيقه عقله هذه المرة، وألا يتهوّر...

آوى أفراد عائلة الحكيم إلى فراشهم بعد سهرةٍ عائلية عامرة احتفالاً بعودة ابنتهم الغائبة، مياس، حتى أن خالها سعيد قد حضر مع زوجته سارة وولديه الشقيّين، لكنه عاد إلى منزله أخيرا.

إلا أنه وعلى مايبدو فإن الفتاتين، مياس وأروى، لم تخلدا إلى النوم بعد حتى بعد أبدلتا ثيابهما إلى أخرى مريحة أكثر، فهناك الكثير من الأخبار التي يجب أن يتشاطراها، وعلى الرغم من اختلاف شخصيتهما إلا أنهما أقرب صديقتين، تحدثت مياس تسأل أروى بعدما قصّته عليها من قضية بسام: وهل يعلمُ خالي كمال بما قلته؟
حركت أروى رأسها سلباً بنفي ثم أضافت برجاء: أرجوك مياس تحدثي مع ورد، فهو عنيد ولن يستمع لأحد.

ابتسمت الأخرى باقتضاب ثم تساءلت بمزاح: ومالذي يضمن لكِ بأنه سينصت لي؟
قابلتها أروى بابتسامة مُتسلية ونبرة درامية: لأنه ياعزيزتي لا يفلُّ الحديد إلا الحديد، وعلى قدرِ عنادُ ورد فأنا مُتيقنةٌ أنكِ عنيدة أكثر.
قهقهت مياس من حديثها ثم نكزتها في كتفها فآلمتها، مسّدت أروى مكان ضربة مياس قائلة بامتعاض: فقط أخبريني بالله عليك هل ذراعكِ هذه ذراع بشرية أم أنها قطعة حديد؟

زادت قهقهتها الساخرة من شكل أروى المُتألمة ثم نهضت من مكانها مُتجهةً إلى غرفة ورد المجاورة لغرفتها، طرقت الباب ليأتيها جوابه سريعا، لكنه لم يتخيل أن تكون هي من يطرق بابه في هذه الساعة، ارتفع حاجباه بدهشة هامساً باسمها وهو يعتدل في سريره ويغلق كتاباً كان يحمله في يده، فيما قالت مياس وهي تغلق الباب خلفها: أرى أنك لم تنمْ بعد.

تبسم بلطف وهو يضعُ الكتاب على طاولته القريبة مُجيباً: لديّ بعض الدروس لأراجعها.
جلست مياس على حافة فراشه وهي تتمعّن في وجهه الذابل، ثم سألته مباشرة: أخبرني ورد، ماقصة بسام؟
تجهم وجهه قائلا ببرود: مادمتِ تسألين عنه إذاً فقد أخبرتكِ أروى، صحيح؟
كتفت كلتا يديها في حِجرها قائلة بنبرة جادة: نعم أخبرتني، لكنني أريد سماع القصة منك أنت.

زمّ وردٌ شفتيه بضيق، لكنه قلّب الأمر في رأسه، نظراً لطبيعة عمل مياس فقد تساعده في قضية شقيق رفيقه، لذا أجابها ببساطة: أنت تعرفين بسام، إنه شابٌ بسيط تخرج حديثاً من كلية الإعلام، بحث عن عمل له لكنه لم يجدْ، فكتب مقالاً على صفحته الخاصة يتحدث فيه عن البطالة وأسباب هجرة الشباب، ويبدو أن مقاله كان ذو لهجةٍ حادّة لم تُعجب البعض، فوشى به أحدهم ليتمّ اعتقاله وسجنه في مخفر الحيِّ.

كانت مياس تستمع له بإمعان فقاطعته لتسأل: لماذا لم توكلْ له عائلته محامياً؟
أجابها بانفعال طفيف: بلى قد فعلوا، ودفعوا كفالةً وأخرجوه، لكن بسام كتب مقالاً جديداً هاجم فيه عُديّ رئيس المخفر الجديد، وتحدث عن المعاملة القاسية والضرب والإهانات التي تلقاها منه أثناء محبسه، فقام الأخير بتلفيق تهمة تعاطي المخدرات لبسام ثم اعتقله مجدداً.

حركت مياس رأسها بتفهم لتسمع باقي حديث ورد: صدقيني مياس بسام شاب مجتهد و مُتدين، هو لم يُدخن في حياته سيجارةً واحدة حتى، فكيف يتهمونه بالتعاطي؟
تساءلت ابنة عمته برزانة: حسناً فهمتُ كل ما قلته لغاية الآن، لكن ماشأنك أنت بقضية هذا الشاب؟
اخرج ورد من صدره نَفَساً حاراً يعكس اللهيب في صدره ثم أجاب: أنا لا أرضى بالظلم يا مياس، وبسام مظلوم صدقيني.

تبسمت مياس بإعجاب لتضيف قائلة: فقمتَ بجمع بعض الطلاب من المدرسة وخرجتم في مظاهرة ضد رئيس المخفر، صحيح؟
أماء ورد برأسه إيجاباً ليتابع: نعم قد فعلتُ، وإن اضطررتُ سأفعلها مرةً أخرى يا مياس، هذا الرجل قد طغى وتكبر ولم يجدْ من يردعه، حاول الكثيرون التوسط عنده لأجل بسام لكنه كان يرفض باستمرار.

قاطعت مياس كلماته وهي تمسك بكفها ذراع ورد الغضة قائلة بجدية لا تقبل النقاش: اسمعني يا ورد، مما أخبرتني فأنت تحارب مع عدد قليل في معركة غير متكافئة البتة، فعُديّ يمتلك السلطة والقانون إلى صفه.
- ولكن يا مياس...
قاطعها ورد بعدم تصديق لتتابع حديثها بنبرة أقوى: كما أخبرتك يا ورد، حتى الآن عُديّ هو الفائز في هذه الحالة، ومظاهراتكم تلك ستكون نتيجتها ضدكم ولن تنفع بسام بشيءْ.

سيطرت الخيبة على قسمات ورد الفتيّة من حديث ابنة عمته، فلانت تعابير مياس مُضيفةً: مؤكد أن عُدي قد نظّم محضراٍ نظامياً ضد بسام، ومواجهته وجهاً لوجه لن تكون في صالحكم أبدا.

تهدل كتفاه بخيبة أمل، فقد كان يعتقد ورد أن المظاهرات السلمية قد تأتي بنتيجة ضد سطوة عُدي وظلمه، لكن يبدو أن ظنه قد خاب مجددا، أفاق من شروده على جملة مياس الأخيرة قبل المغادرة: أعدك بأنني سأحاول مساعدة بسام والحرص على معاقبة عُدي وكل من يسانده، وإلى ذلك الحين أريدك أن تعدني بأنك لن تشارك في أي نشاط ضده.
وضعت كفها على كتفه قائلة برفق: أمثال عُدي خطرون للغاية ورد، أرجوك ابقَ آمناً.

حرّك ورد رأسه بالإيجاب فتبسمت مياس وربتت على كتفه برفق، ثم خرجت من غرفته تاركةً الرجل الصغير يتفكر في أمر بسام وعذاباته، لتشتعل النار في صدره وتغلي دماء الشباب في عروقه، دماء آل الحكيم التي ترفضُ الضيّم للغير قبل النفس...

كما توقع طارق تماماً، أطلق أويس العنان لموجة غضبه على رُدينة، اعتدى عليها بدنياً حتى آذاها بشكل فعليٍّ، مزق ثيابها حتى بقيت بقميصٍ حريري خفيف ممزق وبنطالها القماشي الذي تداعى إلى بضعة شرائط تكاد لا تستر قدميها، سالت الدماء من جانب شفتيها وطُبِعتْ أصابعه الغليظة على وجنتيها، فُتحتان في جانبي رأسها جَرَتْ منهما خطين عريضين من الدم، حتى أن عينها اليسرى قد تضررتْ وقد جُرح حاجبها.

همجيّة أويس لم تكن ذات نهاية أو حدّ، وربما وجود طارق في الغرفة ذاتها حال بين ردينة وبين الموت الذي كانت قريبة منه للغاية، لولا تدخل طارق وإنقاذها بمعجزة إلهية، صرخت رُدينة تستجديه وتستغيث به خمسٌ او ربما ستّ مرات قبل أن ينقطع صوتها ويتحول إلى أنينٍ متوجع، لكنه ورغماً عنه كان مُقيد اليدين، فبحسبةٍ رياضية بسيطة يعلم أن لا حظّ له أمام أويس، ببنيته الضخمة وشراسته المُخيفة، حتى تدخل أخيرا بدوافع إنسانيّة لإنقاذ رُدينة من لفظ آخر أنفاسها تحت همجية رفيقه.

اقترب طارق من رُدينة المرمية على الأرض كقطعة قماش مُهملة، تفحص بإصبعيه نبضها ليشعر به رغم ضعفه، تنفس براحة طفيفة فاعتدل ليواجه أويس الذي كان يرتدي حامل مسدسه بلا مبالاة قائلا: مازالت على قيد الحياة، سأطلب الإسعاف.
- لا، لا داعي.
قالها بصرامةٍ باردة ليصدم طارق، ثم تابع وهو يلتقط متعلقاته من على الطاولة الصغيرة: لا تقلق، فإصاباتها ليست سيئةً إلى هذا الحدّ.

جحظت عيناه من مقال الحائط أمامه، فنظر إلى تلك المسكينة المُلقاةِ على الأرض الباردة ولمّا يبقَ في جسدها مقدار إبرةٍ إلا وقد تضرر أو نزف، أعاد نظره إلى أويس معترضاً بصدمة: انظر إلى حالها يا رجل، إصاباتها أسوء من السيء!
كان أويس قد انتهى فوقف قبالة طارق مُجيباً بلا مبالاة تجلب أزمة قلبية: على الأقل جراحها ليست مُميتة.

كاد طارق أن يعترض مجدداً قبل أن يقاطعه أويس قائلا بجدية: لكن ابقَ معها هذه الليلة، ولا تسمح لأيٍّ كان بالدخول إلى هنا مهما حدث.
كاد أن يخرج ليعود ويواجه طارق مُضيفاً بتحذير: أتركها كما هي حتى أعود في الصباح.

للمرة الثانية يُصدم طارق من أوامر أويس، إنها المرة الأولى التي يخبره بضرورة المبيت مع مشتبهٍ بها تكاد تلفظ آخر أنفاسها في غرفة التحقيق، تابعه بعينيه حتى خرج وقد تصاعد غيظه من تسلطه، ألقى نظرةً أخيرة إلى رُدينة قبل أن يعود وينظر إلى الباب الخشبي المهترئ هامساً بعدة كلمات نابية بحق ذلك المخبول...
إنه مخبولٌ بالفعل!

انقلب كمال على جانبه ليلاحظ أن زوجته سعاد ماتزال مُستيقظة، يعلم بما يجول في خاطرها، فأحبّ أن يروّح عنها قليلاً فناداها بنبرة دافئة: ألم تغفو سعادتي بعدْ؟
ابتسمت بحنان وهي تُدير رأسها ناحية زوجها، تأملت في وجهه قليلاً فقرأ قلقها المبرر على وحيدها، وإن لم يكن في حال أفضل لكنه أحاط وجنتها بكفه الخشنة قائلاً بعتاب طفيف: لا داعي لتقلقي على ورد عزيزتي، صدقيني سيكون في أفضل حال.

تنهدت بخفة ثم أمسكت بكف زوجها وقبلت باطنه، عادت لتضعه على وجنتها وكفها فوقه ثم تحدثت بنبرة عكست قلقها: لا أستطيع إلا أن أقلق يا كمال، أرجوك لا تلمني لكنني لا أستطيع..
قدّر كمال مشاعرها النبيلة نحو ابنهما فهي والدةٌ في النهاية والقلق سُنّةُ الأمهات لا يمكن تجنبها، تبسم بعطف فقال وهو يشير بكفه الثاني إلى صدره: تعالي إلى مكانك عزيزتي، فقلبي يناديكِ.

شقت ابتسامة رقيقة مُحيّاها واقتربت حتى استلقت على إحدى ذراعيه ودفنت رأسها في صدره لتشعر بالأمان، فيما عملت يده الأخرى على سحب الغطاء على كليهما ثم حاوط جسدها الممتلئ قليلاً بحنان، قبلها على شعرها وقد استشعر حرارة أنفاسها على صدره من خلف جلبابه المنزلي فهمس في أذنها بشقاوة غرٍّ لم يتجاوز سنّ المراهقة بعد: وكيف يُفترض بي أن أغمض عينيّ وأنام وأنتِ تُغرينني هكذا؟

ضحكت بصخبٍ أشعل فتيل غرامه بها من جديد ليسحبها معه في حلمٍ ورديٍّ خاص بهما، كمال، رجلٌ أربعيني بقلب نقي بريء، مازال يعيدها بين ذراعيه تلك الطفلة ذات الضفائر التي لم تتجاوز يومها الرابعة عشر عاما، لم تجدْ الحنان في دار والدها بعد وفاة والدتها حين لم تبلغ سعاد الثلاث سنوات، وبعد زواج أبيها من أخرى عانت الأمرّين وذاقت الويلات على يد خالتها، حتى قرر والد كمال انتشالها من بؤسها ومرارها ليخطبها لابنه البِكر، ورغم كون كمال يكبرها بخمس سنوات كاملة إلا أنها آلفته وكأنها ترعرعت ونشأت على رائحته وأمانه، ببراءتها سلبت لبّه وخطفت قلبه وعقله عندما أولدها أروى، ابنته الكبرى، ثم تبعها ورد، لكنها عزفت عن الإنجاب بعد علمها بمرض ابنها الوحيد، رغم كل المصاعب التي مروا بها والمصائب التي تنتظرهم، يبقى كمال زوجها، وأباها، سندها الذي تعرف لو أن الدنيا كلها مالت فهو لن يميل...

منتصف الليل.
كانت عليا تبثُّ همها لربها على سجادة صلاتها، بعدما ختمت بالتسليم قيامها رفعت كفيها إلى السماء، وبعيون منكسرة وقلبٍ ذليل دعت لربها أن يهوّن عليها عذاباتها، عليا توأم كمال، و كعادةِ أهل هذا الحيّ زوجها أباها عندما بلغت الخامسة عشر من عمرها، لم تكن صغيرةً في عُرفهم لكنها كانت كذلك في عُرف الحياة وامتحاناتها.

أجبر والد عمار ابنه يومها على الزواج من عليا، طمعاً في علوِّ شأنه إن صاهرَ آل الحكيم، لكنه لم يحسب حساباً لسقطات ابنه الكثيرة، وقد عانت عليا معه وذاقت مالم يكن في حسبانها.

لم يتقبلها كامرأةٍ له ولم يعاشرها بالمعروف، بل كان يتفنن في تعذيبها نفسياً ويُعيرها بأنّ عائلتها قد زوجتها صغيرةً لتتخلص من همها، لم تكن عليا بالبلهاء لتصدق حديثه وكانت تردّ عليه بعنفوانها وكبريائها الموروث، ولم تخجل من أن تُصرح أمامه بحبها له وانتظارها ليعود زوجها إليها، وهذا أكثر ما أفقده عقله، بعد عامين من زواجهما رُزقت عليا بابنتها مياس، لكن عمار لم يحضر ولادة ابنته حيث كان مشغولاً في اللهوّ في بيتٍ للقذارة، وفي الليلة ذاتها أُلقي القبض على عمار وأودع السجن فانتشرت فضيحته في الحيّ كالنار في الهشيم، ورفض والد عليا السماح له بالعودة إلى الحيّ فقامت عائلة عمار بنفيه خارج الحيّ، كذلك حُرِمَ من ابنته الوحيدة بعدما طلّق والدتها، ومنذ ذلك الحين نذرت عليا نفسها لتربية ابنتها ورفضتْ خُطاباً كُثر تقدموا إليها وهي ابنة سبع عشرة سنة...

رنين هاتفها أخرجها من شرودها عنوةً، قطبت جبينها باستغراب وهي تقرأ رقماً دولياً على الشاشة، نظرت إلى الساعة المتأخرة فلم تجب الاتصال حتى انقطع الرنين، استقامت من مكانها لتطوي سجادتها فعاد الاتصال من جديد، ضغطت على شفتيها بقوة تحاول عصر عقلها علّها تعرف من صاحب الرقم لكن بلا جدوى، حتى قررت أخيرا الإجابة فقالت بصوتٍ هادئ: نعم، من معي؟

وصلتها أنفاس حارة مُعبقةً بالحنين عبر السماعة لكن لم يتحدث أحد بعد، هتفت بسؤالها من جديد فأتاها صوتٌ بعث القشعريرة في أوردتها: عليا!

اتسعت عيناها بصدمة جليّة وهي تسمع صوت من كان يوماٍ ما زوجها، لم تُغيره السنين لكن ما تغير هو نبرة الاشتياق الذي وصلها، ألجمتها الصدمة وقد تعرفت على صاحب الصوت فورا، فلم تُحرك ساكناً حتى هتف هو باسمها مجدداً بنبرة مليئة بالصبابة والتوق، رمشت عيناها وقد احتقنت بدموع تأبى السقوط، ومشاعرٌ كثيرة مُختلطة أشعلت صدرها فسارت بخطوات بطيئة حتى خرجت إلى شرفة غرفتها، لفحتها نسمات الليل الباردة لكنها لم تفلح في تبريد تلك النيران المُشتعلة في جوفها، استجمعت بعضاً من عنفوانها فقالت بنبرة ثابتة: ماذا تريد؟

لم يعبأ عمار بصوتها البارد ولا بسؤالها الجاف، لكنه همس بندم: اليوم ذكرى زواجنا ياعليا، كل عام وانتِ حبيبتي.
ابتسمت بسخطٍ على جملته تلك، منذ متى يا عمار؟ منذ متى؟
رمشت عيناها عدة مرات حتى تحررت دموعها أخيرا، ارتفع صدرها بتنهيدةٍ ثقيلة لتجيبه بجمود، مع سقوط عبرتها المتوجعة: كل عام وأنت جرحٌ في قلبي، كل عام وانت جمرة في روحي لا تنطفئ، .

لم تنتظر إجابته بل أغلقت جهازها ثم اجهشت بالبكاء المرير، لم تصرخ علناً لكن قلبها صرخ بقسوة، كأنها نسيت مثلاً هذا التاريخ ليأتي اليوم ويذكرها؟ لماذا الآن؟ هل صحى ضميره فجأة؟
مسحت وجهها بقوة وعقلها يجلدها من جديد، يلعن هذه الذكرى التي لم تنسها على مرّ السنين، وهي على يقين أنها لن تفعل أبدا...

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة