قصص و روايات - قصص بوليسية :

رواية حي الورد للكاتب علي اليوسفي الفصل الثاني والثلاثون

رواية حي الورد للكاتب علي اليوسفي الفصل الثاني والثلاثون

رواية حي الورد للكاتب علي اليوسفي الفصل الثاني والثلاثون

((( بعض الذكريات كغانيةٍ ماكرة لعوب، تستغلّ عطشك للسعادة لتوقعك في شباكها، لكنّ جمالها ليس إلا قناعاً تخفي خلفه بشاعتها وشؤمها))).

منذ تلك الليلة حين اتهموها بما ليس فيها فعلاً صار نومه متقطعاً، يشعر طارق بتأنيب الضمير ينهش داخله لأنه أيّد تهمة صلاح وأويس رغم تأكده من نزاهة مياس، أحسّ أنه بطريقة أو بأخرى له يدٌ في إيذائها، معنوياً على الأقل.

انقلب طارق على ظهره بعدما هجره النوم إثر استيقاظه عقب منام مزعج، يبدو أنّ مايعايشه من ضغط خلال النهار يرافقه في نومه أيضاً، تحسس مكان ضربة أويس بيده فقد تورم أنفه واحتاجه الأمر إلى لصاقة طبية، نفخ بقوة حين سمع رنين هاتفه، لاريب أنها خطيبته المخبولة، رفض طارق الاتصال بانزعاج للمرة السادسة بعد الأربعين ربما، المشكلة أنّ داليا لا تُقدّر الضغوط التي يُعاني منها، وأن تلك الضغوط هي سبب عدم ردّه عليها منذ أيام، لكنها اليوم تبدو أكثر إصراراً من كل ليلة فعاد الرنين مجدداً، فلم يجد بُدّاً من الرد عليها، طبعاً لن يجسر على إغلاق الهاتف نهائياً لأنه يدرك مدى تهوّر خطيبته، ببساطة لايستبعد أن تأتيه إلى المنزل قبل طلوع الفجر، قد تتسبب بفضيحة كبيرة له فهي مجنونة وقد تفعلها!

مايزال مستلقياً على ظهره حين أجابها بنبرة فاترة: نعم داليا؟
كأنبوب غاز متفجر تتابعت الكلمات من فم داليا ساخرة بدون حساب: أخيراً تكرمتَ بالردّ عليّ حضرة النقيب؟ أخيراً وجدت في يومك المليء بالمشاغل لحظة لتردّ فيها على خطيبتك؟ ألا ترى نفسك مبكراً قليلاً؟أو أخبرك لماذا تردّ عليّ أصلاً؟ اتركني كالخرقاء اتصل بك لعدة أيام دون أن تجيب، طبعا فأنا لامكان لي بين أعمال النقيب المبجل...

أبعد الهاتف عن أذنه نافخاً بملل متعاظم من حديثها الذي لا ينفع، لم يخطر ببالها حتى أن تسأله إن كان بخير، أحياناً يشعر بأنها لاتهتمّ سوى بنفسها، لكنه كالأحمق يحبها ويحتملها دوماً، تمالك نفسه بعد لحظات ليعيد الجهاز إلى أذنه فسمعها تهتف: طارق؟ أين أنت؟ أجبني لا تتركني أحادث نفسي كالبلهاء.
تنهد بثقل بالغ مجيباً بصوت متعب: نعم داليا، أسمعك عزيزتي.

لم تأبه داليا للوهن الواضح في صوته فهتفت بصياح مزعوج: تسمعني؟ الآن تسمعني طارق؟ أخبرني ألم تشتاق لسماع صوتي؟ ألم تفتقدني؟ كيف هُنتُ عليك لتتركني أياماً دون أن تحادثني ها أخبرني؟
زفر بضيق وقد ضاق ذرعاً بتجاهلها لمشاعره وانشغالاته، المهم هي وهي فقط، وجد نفسه يهمس بسخرية واضحة لأذن السامع: وما أدراكِ عزيزتي؟ أليس من الوارد أنني أجلس كل ليلة أتصفح صفحتكِ الشخصية وأقبل صورك التي تنشرينها يومياً؟

لم تلتقط منبهات عقلها استهزاؤه البائن فأجابت بتنهيدة عميقة بهيام: حقاً طارق؟
صرّ على فكه بقوة لغبائها اللامتناهي فصاح بغيظ: طبعاً لا داليا، لم أكن متفرغاً لهذه الترهات الفارغة.
توسعت مقلتيها لصياحه في وجهها فهتفت قائلة بحنق: ولماذا تصرخ طارق؟
لأنكِ لا تهتمين لأمري داليا، المهم نفسك ومن بعدك الطوفان، لم تفكري حتى بسؤالي كيف حالي، أو إن كنتُ بخير أم أنني متُّ مثلا؟

صرخ بالمقابل وهو يعتدل جالساً فأخرسها لثوان، لكنها لم تطلْ الصمت حين أدركت أنه حصرها في الزاوية فنطقت ببلاهة: لا أظنّ أنك متّ وإلا لكنتُ سمعتُ من هويدا.
احمرّ وجهه غضباً وغيظاً، جزّ على فكه باحتدام ثم قال من بين أسنانه المتلاقية بحنق: تعلمين داليا؟ الذنب ذنبي أنا فقط، أنا من وضع نفسه في هذا الموقف الغبي.

أنهى عبارته ليغلق هاتفه نهائياً ثم ألقى نفسه على فراشه نافخاً بعظيم الانزعاج، ولأول مرة يتسرب إليه الندم لأنه خطبها وارتبط بها أساساً، بل وأنه احتمل دوماً تلميحات والدتها الارستقراطية إلى أنه أقلّ منها مركزاً وشأناً، كيف أحبّها رغم كل عيوبها بل واحتملها حتى اللحظة؟ حقاً لا يدري، ولا طاقة به للتفكير فسقط في بؤرةٍ مظلمة غير عابئٍ بما قد تفعله داليا، خطيبته المجنونة رسمياً...

ليلة طويلة ليست كمثيلاتها تمر على مياس، فتحت مقلتيها المعتمة حين تسللت إليها خيوط الشمس لتخبرها بأنّ اليوم أفضل، لاحظت وضعها الغريب على الأرض، هذا الغطاء لايخصّها وهذه الرائحة التي تخللت في الوسادة ليست غريبة عنها، رفعت نصف جذعها الأعلى لتكتشف أنها في غرفة والدتها، حاولت الاعتدال جالسةً فآلمها ظهرها بشدة نتيجة النوم فوق الأرض فارتفعت لتجلس على السرير، احتضنت وجهها بكفيها لتنحني مُستندةً على ركبتيها، وبلا رحمة تتابعت على رأسها مشاهد محتدمة من ليلة أمس، زفرت بقوة وهي تتذكر اعترافها لأمها وكيف ستقابلها الآن، أثناء تفكيرها هذا دلفت عليا لتجدها على هيئتها تلك، بكل سلاسة قررت تجاوز كل ماحدث أمس فهتفت أثناء توجهها إلى خزانة ثيابها: صباح الخير حبيبتي.

اعتلت وجهها حمرة خفيفة وهي ترفع رأسها بغتة إلى أمها، رتبت عليا الثياب المطوية التي جلبتها في الخزانة موليةً إياها ظهرها لتتابع باعتيادية: أنا و جدتك بانتظارك على مائدة الإفطار حبيبتي.
التفتت عليا صوبها وعلى ثغرها بسمة هادئة مردفةً: هيا لتغتسلي وتشاركينا.
تجهم وجه مياس باستغراب فتساءلت: ألن ننتظر عائلة خالي كمال؟
ظلت عليا محتفظة بملامح عادية أثناء إجابتها: خالك كمال وعائلته في المستشفى منذ الأمس.

بان عليها عدم الفهم فأدركت جهلها بموضوع سعاد فأردفت: سعاد زوجة خالك أجرت عملية استئصال في صدرها يوم أمس، ومن المفترض أن يخرجوا بعد الظهيرة.
لم تكن في مزاج رائق للتفكير والاستفسار فاكتفت بإيماءةٍ بسيطة، في حين تحركت عليا متوجهةً إلى الخارج أثناء قولها بمرح طفيف: هيا هيا عزيزتي بلا تكاسل.
خرجت ثم عادت بعد لحظة مضيفةً بمزاح: وإلا سأتناول حصتك من عجة البيض.

أهدتها ابتسامة جذلى ثم خرجت نهائيا، تاركةً مياس ترمق أثرها باستغراب مدهوش، والدتها تتعامل كما لو أنّ شيئا لم يحدث، ترى هل كانت تحلم؟ ربما فهذا التفسير الوحيد لما تفعله عليا، نفضت كل تلك الأفكار عن رأسها ثم استقامت بتثاقل لتخرج صوب غرفتها، للاستعداد ليوم آخر حافل بالمفاجآت...

كالعادة حضر رائد جالباً بعض الحاجيات، بالإضافة لطقم أكواب شراب مذهبة التي أوصته عليها ردينة، رغم عدم حاجتها لشيءٍ أو لتلك الأكواب، هي فقط اتخذتها حجةً لتراه، ورغم إدراكه لهذا إلا أنه أطاع بصدر رحب.

استقبلته ببسمتها اللطيفة والإحمرار الساخن الذي ينطق بمشاعرها الرهيفة، في حين كانت تعابيره هو مقتضبة وابتسامته بالكاد تُرى لا تبوح بشيءٍ مما يعتمل داخله، بعض التخبط يعتري صدر ردينة في كل مرةٍ يقابلها بوجهه الجاف، ثم يعود ويبتسم في وجهها ليقلبها على جمر الهوى كيفما شاء، إلا أنها لاتستطيع إنكار تلك الخفقة العنيفة التي تعصف بيسارها، وتخبرها بأنّه يبادلها مشاعرها.

جلس برفقة والدتها المستلقية على فراش المرض يحادثها برفق، في حين كان شقيقها الصغير مايزال نائماً في غرفته، تحدثت والدتها السيدة ذات الخمسين عاماً والتي أنهكها السقم: سامحنا لأننا نتعبك معنا يابني..
قاطعها باحترام مبتسماً وهو يربت على يدها المرتاحة بقربها: لاداعي لهذا سيدتي، فأنا لا أفعل إلا واجبي.

كانت ردينة ماتزال واقفةً عند باب غرفة والدتها، وقد زحفتْ حمرةٌ سعيدةٌ لجلوسه هكذا معها، ربتت الأخيرة على كفه بيدها الثانية بامتنان داعيةً له بصدق: وفقك الله يابني ويسر كل أمورك.
اتسعت بسمته مردفاً بمزاح مَرِح: ادعِ لي بالله عليكِ أن يجمعني بمن أحب أيضاً.

شحب وجه ردينة واختفت سعادتها حين تلفظ بتلك الكلمة، ولاتدري لماذا فسّر عقلها حديثه بأنه يهوى فتاةً ما سواها، في حين لم تلحظ ملامح رائد الخبيثة وقد لاحظ تبدلها بزاوية عينه، دائماً ماسمع عن غيرة الأنثى فأحبّ اختبارها رغم تأكده من مشاعرها نحوه، ابتلعت ريقها بصعوبة حينما سمعت أمها تدعو له بكلّ صدق، أيعقل أن والدتها أيضاً لم تقرأ حقيقة شعورها حيال رائد؟

وقفت دون حراك لبضع لحظات حتى أتاها صوت والدتها الآمر: مابكِ ردينة؟ لماذا تقفين هكذا كالتمثال؟
رمقتها بنظرة مزعوجة لتردف بأمر: حضري شيئاً دافئاً ليشربه النقيب.
ضغطت على شفتيها بقوة قبل أن تجيب بهسيس حانق من بين أسنانها: حاضر أمي. ، حاضر.

خرجت تدبّ الأرض بخطوات مُغاضبة متجهةً صوب المطبخ الصغير، تاركةً رائد يبتسم باتساع على غيرتها المكتومة، اغتالها بعد لحظات صوت سقوط شيءٍ زجاجي متهشماً على الأرض، لم يستطع السيطرة على انفعالاته حين دبّ الرعب في شرايينه خوفاً عليها، فهبّ راكضاً إليها فقهقهت والدتها بخفة هامسةً خلفه: أحمق متسرع.

رفعت يديها تضمهما معاً لتتضرع إلى خالقها: أسأل الله أن يجمعكما على طاعته، ويعوضك ياابنتي عن صبركِ وبرّكِ بي كل خير...

وقف عند باب المطبخ يشملها بنظراته القلقة، في حين كانت هي تلملم شظايا الطبق الذي سقط على الأرض دون إرادةٍ منها، تغضن جبينه بعدم راحة وقد لاحظ عبراتها التي تسري فوق خديها، بقي لثوان يراقبها هكذا في حين لم تكن هي منتبهة له حتى تمالك نفسه، حمحم بصوت مسموع لتنتبه إليه لتوها، رفعت رأسها فجأة فشُلّ لسانه ماإن تلاقت عينيه بمقلتيها الباكية، زمّت فمها بحزن كالأطفال لتنتصب واقفةً توليه ظهرها قائلة بحنق مُستهزئ: لم أكن لأنتحر لا تقلق.

لم يستطع منع ابتسامة متسلية على ثغره لتصرفاتها المضحكة، تحرك ناحيتها بخطوات بطيئة يقول بمرح فظّ: لم أكن قلقاً عليكِ، خشيتُ أنك كسرتي أحد الأكواب الغالية التي جلبتها.
لم تلحظ هي وقوفه خلفها فرفعت رأسها تتطلع امامها بعينين متسعتين لفظاظة حديثه، فأخفض وجهه قليلاً ناحيتها ليهمس قرب أذنها: أنتِ لا تعرفين كم هي غاليةٌ عليّ تلك الأكواب، لقد دفعتُ فيها الكثير.

كادت تبكي من جديد قبل أن تتمالك نفسها ولم تدرك بعد وجوده خلفها، همست بسخط مُغتاظ: بإمكانك استعادتها إذاً.

استدارت باندفاع لتتحول عصبيتها إلى جمود في ثانية حين أدركت للتوّ أنها محاصرةٌ بين جسده والطاولة الرخامية في المطبخ، مقلتيها الدامعة تحولت الى عيني قطة مسالمة، ارتجفت ملامحها كما جسدها لمفاجأة الموقف، في حين كان رائد يرمقها ببسمةٍ متسعة لتأثيره عليها، أو ربما تأثيرها هي عليه، لا يعلم حقاً كل مافي الأمر أنه مستمتع بهذا الإحساس الذي يضرب جنباته وهي أمامه الآن لايفصلهما سوى سنتمترات قليلة للغاية، شعر برجفتها في حضوره فرفع يده ليعيد خصلةً تمردت عن شعرها ليعيدها خلف أذنها، فزادت رعشة جسدها وذبذبات لذيذة سرت في عروقها كادت تسقط أرضاً بسببها، لولا أنها أسندت جسدها الى الطاولة خلفها، همس رائد بنبرة هادئة لكنها أحدثت داخلها صخباً مدمراً: كم أنتِ بلهاء ردينة، ألم تدركي حتى الآن كم أنا أحبك؟

فلتت الكلمات دون وعيّ منه إلا أنه لم يندم، خاصة حين عاين بنفسه حمرة الخجل التي اعتلت بستان خديها فزادها بهاءً، يكاد يجزم بأنه يسمع صوت ضربات قلبها التي تسارعت بشكل غير محسوب، نشف ريقها وتجمدت الكلمات على رأس لسانها، كلما فتحت فمها لتتحدث لاتجد ما تقوله كأنما قد أصابها الخرس، قدميها الهلامية تهدد بالسقوط كل لحظة، وكمن قرأ انفعالاتها اختار رائد الابتعاد عنها ليسمح لها بالتنفس بشكل صحيح، قبل أن تسقط بين يديه مغشياً عليها.

أجفلت ردينة مقلتيها للأسفل بارتباك وتوتر، اعترافه الصريح خلخل كل معاييرها فلم تعد تفكر بشكل سليم، رغم مبادلتها له لمشاعره إلا أنها شعرت بالخجل يقيدها، حياؤها العذري أعجب رائد وزادها رفعةً ومقاماً في خافقه، لم يرغب بإحراجها أكثر فهمس قائلاً بمرح: سأرحل الآن قبل أن تداهمنا والدتك.
صمت لثانية قبل أن يضيف بغمزةٍ سحرية وبسمة متسعة: وقبل أن تذوبي كقالب الزبدة من فرط الخجل.

حرارة وجنتيها وصلت المئة درجة وهي تتابعه ببلاهة يخرج من المطبخ، ثوان حتى سمعت صوت إغلاق الباب فأدركت أنه رحل، تاركاً إياها تلملم نبضاتها التي تناثرت بفعل حديثه، تصريحه غير المتوقع عاث في مشاعرها الفساد فزادها حباً وغراماً، وتضاعف هيامها وتعلقها به، ابتسمت بخجل سرعان ماتحولت إلى قهقهة سعيدة وهي تتلمس وجنتيها تستشعر حرارتها العالية، عضت على شفتيها وأغمضت عينيها كالخرقاء، تتلذذ كلما استعادت كلماته، رغم اقتضابها لكن كان لها أثر السحر على خافقها المجنون به، رجل بكامل معاني الهيبة والشموخ، يجيد العبث بالحب، تماماً كما يجيد اللعب بمشاعرها...

فتح عينيه مستيقظاً كالعادة على صورة لها تعايش أحلامه، يبدو أن وجهها لن يفارق أحلامه قريبا، استقام أويس من سريره وهو لايذكر فعلاً كيف عاد ليلة أمس إلى منزله، آخر مااستطاع استحضاره هو اتفاقه مع شقيقه مازن على بدء جلسات العلاج، رغم رغبته الفعلية في أن يُشفى إلا أنّ الأمر أصعبُ مما يبدو عليه، الأهم الآن أن يترك هذه الشقة المقيتة كما نصحه مازن، انطلق جرس الباب لينبهه إلى زائر غير منتظر، توجه أويس ليفتح الباب لكنه لم يجد أحداً، استراب في الأمر خاصة حينما التقطت عيناه باقة الورد أسفل بابه، ضيق عينيه بريبة من يرسل الورد نيته ليست خيراً، لكن من هو؟

حثّ خطاه متجاوزاً الباقة حتى نزل إلى أسفل البناء فوجد سيارةً ما تنطلق مسرعةً، تلفت حوله فلم يجد الحارس مكانه فأيقن أن الأمر مستقصد، أياً كان من يرسل هذه الأزهار فهو يستغلّ انشغال الحارس أو غيابه ليدخل ويغادر بسرعة، لكنه فوّت أمراً في غاية الأهمية، كاميرات المراقبة.

ملامح ساخرة اقتحمت قسمات وجهه أثناء تحركه ناحية غرفة الحراسة، كما توقع لم يكن الحارس هناك فحاول الدخول إلى الغرفة وقد نجح بسهولة، فالباب لم يكن مقفلاً، توجه أويس إلى الشاشات المتعددة ليعبث بأزرار لوحة التحكم، اختار واحدةً بعينها ثم استرجع اللقطات قبل ثوان ليلتقط صورة السيارة الواقفة أمام المبنى، انحنى قليلاً ليشاهد صورة شاب يرتدي قبعةً تخفي وجهه وفي يده يحمل الباقة، تلفت الشاب حوله بدى كما لو أنه يتأكد من خلوّ المكان ثم تحرك إلى الداخل، غاب لبضع لحظات ثم عاد مسرعاً يتلفت حوله بعد أن وضع الباقة أمام شقة أويس، أوقف الأخير الصورة حين لاحظ وجود شارةٍ ما على قبعة الشاب، دقق النظر فيها عبارة عن بضعة أزهار مع حرف الراء، يبدو أنه رمز محل أزهار أو ماشابه، اشتدّ فكه بقوة مفكراً في هوية من يرسل الأزهار ومقصده من هذا، حاول النظر إلى السيارة فالتقطت عيناه رقمها من الخلف، بحث عن ورقة وقلم فوق الطاولة ليدوّن الرقم، في ذات اللحظة حين عاد الحارس ليجد أويس أمامه، ارتبك وهو يدمدم من خلفه بتقطع: ح حضرة النقيب...!

استدار أويس نحوه بعدما أنهى ماكان يفعل ليسأله بنزق: أين كنت؟ بحثتُ عنك فلم أجدك؟
بالكاد استطاع الرجل ابتلاع ريقه وتشكيل جملة مفهومة ليجيبه: سيدي كنتُ أقوم بسقاية الحديقة الخلفية.

انخفضت أنظار أويس إلى حذاء الرجل الطويل فوجده ملطخاً بالطين مما يدل على صدقه، اكتفى بإشارة صغيرة من رأسه ليغادر بخطوات منزعجة، تنفس الحارس بقوة حين ظنّ أنه نجى من غضبة غير محسوبة لأويس، حتى باغته الآخر حين أمسك به من مؤخرة عنقه متحدثاً من بين أسنانه: وفي المرة القادمة لا تترك غرفة المحرس مفتوحة.

هزّ المسكين رأسه بسرعة عدة مرات فتركه أويس ليغادر فعلياً هذه المرة، تاركاً إياه يلتقط أنفاسه بصعوبة كبيرة، مرت ثوان لم يجسر الحارس على الالتفات إلى الخلف حتى تأكد من مغادرة أويس، فرمى بجسده على الكرسي القريب وقد باتت قدماه هلاميتان من فرط الرعب الذي يتلقاه من أويس، زفر بعنف وهو يدمدم بسخط: الرجل مجنون رسمي، تصرفاته مريبة وتبعث على الشك.

سكت للحظة ثم تابع بامتعاض مفكراً بشرود: ادفع نصف عمري وأعرف مابال هذا الرجل الغريب!ما قصته؟ ولماذا كل فترة يخبرني بأن أصعد لأنظف أدواته الغريبة في داخل الغرفة المريبة؟ وماسبب وجود بعض الدماء على تلك الأدوات؟ ولماذا لايزوره أحد نهائيا كأنه مقطوع من شجرة، لا عائلة ولا أصدقاء؟

نفخ مجدداً حين لم يجد إجابةً على أسئلته الكثيرة ثم وقعت عيناه على مافعل أويس بالكاميرات، عبث بالأزرار ليعيد الكاميرات على حاله الأول وهو يزمجر بغيظ: قال ضابط قال! وهو بحاجة إلى من يضبط له تصرفاته!

بعد ساعة بالتمام كانت مياس في غرفة المكتب التي اختارتها بعيداً عن المكتب المشترك، تتفحص ملف صلاح وسيرته الكاملة والذي جلبته من أرشيف الضباط، الأمر الغريب عدم ذكر أي أقارب له أو حتى أصدقاء مقربين، وصلت مياس إلى آخر صفحة في الملف خالية الوفاض، فلم تحصل على أية معلومة قد تفيدها، أغلقت الملف وهي تنفخ بامتعاض، مسحت بكلتا كفيها على رأسها في محاولة منها للتفكير بذهن صافٍ، خطر في بالها الحديث مع رفاقه في الفريق علها تقف منهم على ماقد ينفعها، استقامت من مكانها لتأخذ هاتفها وتتجه إلى المكتب المشترك، كان الباب مفتوحاً فتهادت في خطواتها لترى من في الداخل فلم تجد سوى طارق وإيهاب الجالس خلف طاولتها القديمة، لسبب ما أصابها بعض الضيق سرعان مانفضته وتجهمت ملامحها وهي تدلف إلى المكتب قائلة باقتضاب: صباح الخير.

رفع طارق رأسه بعنف حينما سمع صوتها ليتبادل مع إيهاب نظرات مستغربة، لم يتوقع كلاهما خروجها من قوقعتها قريباً لكن هذه هي مياس، تخالف كل التوقعات!
لم تأبه هي بدهشتهما فقط سحبت أحد المقاعد لتستقر فوقه في مقابلهما، طالعتهما بنظرات قوية وقبل أن تفتح فمها بحرف لاحظت أنف طارق الذي اعتلته لصاقة طبية، كذلك التقطت أنظارها كدمةً زرقاء على جانبه، تلاقى حاجبيها باستغراب لتسأله بنبرة رسمية: مالذي حدث لأنفك؟

تلقائياً ارتفعت كفه ليتلمس أنفه الذي تضرر من ضربة أويس يوم أمس، لم يرغب فعلاً بإخبارها الحقيقة فقال بهمس كاذب وابتسامة سخيفة: لا شيء مياس، لقد اصطدمتُ بالحائط البارحة.
همس إيهاب ساخراً: اصطدمتَ بالحائط أم الحائط من اصطدم بك؟
لكزه طارق في خاصرته إلا أنها التقطت سخريته بالفعل فزادت عقدتها وقبل أن تسأل أتاها صوته من الخلف ببرود: صباح الخير.

لم يلاحظها في بداية الأمر، إلا أنه تجمد حالما وقعت عيناه عليها جالسةً في المنتصف، لم تُعره أيّ اعتبار ولم تلتفت فقط قَسَتْ نبرتها وهي تعقب بصوت واضح مُتعمدةً تجاهله: طارق، إيهاب، أريد معرفة كل التفاصيل التي تعرفونها عن صلاح التايب.

لوهلة كاد طارق يبتسم لوقوف أويس هكذا كأنه خيال لاوجود له، إلا أنه كتمها في اللحظة الأخيرة احتراماً لمشاعر صديقه وإن لم يزلْ غاضباً منه، في حين نقل إيهاب نظراته بينها وبين أويس فلاحظ نظرات الأخير النادمة ليهمس بنبرة عادية: أويس كان أقربنا إليه، باعتقادي هو يعرفه أكثر من كلينا.

بنظرة جانبية رمقت إيهاب غير راضيةٍ عما قاله، فقررتْ تجاهله هو الآخر، تطلعت ناحية طارق قائلة: أخبرني بكل ما تعرفه عن صلاح طارق، حاول أن تتذكر كل شيء فأصغر تفصيلةٍ قد تنفعنا.

بنظرة انتصار سريعة رمق طارق كلاً من إيهاب وأويس ثم شرع بخبرها مايعرفه: صلاح ذكيٌ للغاية مياس، لم يسبق وأن حدثنا عن حياته أبداً، مانعرفه أنّ والدته توفيت أثناء ولادته، والده مات حين أتمّ الثلاثة أشهر أثناء سرقة المحل الذي كان يعمل فيه وقد ربته جدته لوالده، عرفناه حين فرزه اللواء جلال ليكون معنا في الفريق عقب تخرجه، لا نعرف أكثر من هذا عنه.

سكت لثانية ليعقب كمن تفطن إلى أمر هام: وطبعاً خطه مقفل منذ لحظة هروبه، حاولنا الوصول إليه مراراً لكنه لم يفتحه أبداً.

كانت تستمع إليه باهتمام شديد حتى أنهى مقالته فتهدلت ملامحها بضيق لعدم التقاطها شيئاً يفيد، لم تلاحظ أثناء انتباهها متى تحرك أويس ليتخذ مكانه بجوار طارق، بنظرات حملت مشاعراً مختلفة شملها أويس بتفحص، في هذه اللحظة سمعت صوت رائد يلقي تحية الصباح، استدارت صوبه لتجده واقفاً عند الباب فقال: لقد ذهبتُ إلى مكتبك فلم أجدك، فخمنت تواجدكِ هنا.

أنهى جملته وهو يرتاح بجسده فوق طاولة فارغة ثم عقب بسؤال: ماهي آخر الأخبار؟
أشارت برأسها نافيةً لتجيب مُتنهدةً باقتضاب: للأسف لا شيء جديد.

هزّ رأسه بتفهم دون تعقيب وهو يشمل المتواجدين بنظرات متفحصة حتى تلاقت عيناه مع مقلتي أويس التي تطالعه بغرابة، اندلعت حرب العيون لكن مياس لم تلحظها حين كانت غارقةً في التفكير، لا بدّ من وجود طريقةٍ ما للوصول إلى صلاح والخفاش، في النهاية فهما ليسا من الجنّ ليستحيل الوصول إليهما، كما أنها على يقين بأنّ صلاح لم يغادر المدينة ولن يفعل، انتبهت إلى رنين هاتفها فرفعته لتجده رقماً غير مسجل في قائمة اتصالاتها، لوهلة ارتجف بدنها ماقصة الأرقام الغريبة التي تتوافد للاتصال بها دائماً؟ أيجب أن تتوقع مصيبةً ما خلف كل رقم مجهول؟

لم تطلْ تفكيرها الساخط فقط أجابت الاتصال بنبرة هادئة: نعم؟ من معي؟
قطع حربه مع رائد لينتبه أربعتهم إليها، أصابتها الدهشة حين أتاها صوت صلاح المقيت قائلاً بسخرية: أما زلتِ على قيد الحياة مياس؟ فعلاً أدهشتني قوتك.

لا إرادياً انتقلت نظراتها لتسلطها فوق أويس باتهام ولم يخفَ ذلك عنه، فتحفز في جلسته حين سمعها تجيب بنبرة قوية، وأنظارها مازالت مصوبةً عليه: يلزمكَ أكثر من مجرد تسجيل مزيف للقضاء عليّ ياصلاح، فأنا لستُ بتلك الهشاشة التي تظنّ.

تملكتهم الصدمة حرفياً حين أدركوا أنها تحادث صلاح، في حين أنزلت الهاتف عن أذنها لتفتح مكبر الصوت فيصل صوت قهقهته المستهزئة إليهم، ثم عقب: تعلمين؟ لقد كانت الخطة مغايرةً لما حدث تماماً، لكن ظهور أويس غير المحسوب قلب المخطط بأكمله.
سكت لثانية ثم تابع بتهكم مستمتع: بالمناسبة أين هو؟ هل شكيته إلى اللواء أم أنكِ لم تجرؤي؟
لم يتمالك أعصابه بعد سماع عبارته الأخيرة فزمجر أويس بغضب: أيها الحثالة الخسيس!

عادت قهقهاته تعلو مجدداً حتى قطعها قائلا بسخرية: أويس صديقي أنت هنا؟ كل الحق على مياس لم تخبرني بوجودك لألقي عليك التحية.
تعلم تهوّر أويس وهي أرادت استغلال اتصاله لعلها تصل الى مكانه فقالت مسرعةً بحزم تقاطع غباء الآخر: أخبرني ماسبب اتصالك ياصلاح، بالتأكيد لم تهاتفني فقط لتسأل إنْ كنتُ ماأزال حيةً صحيح؟

همس صلاح بنبرة مُستفزة: همم، يعجبني ذكاؤك يامياس، في الحقيقة أعجبني رهانك مع الخفاش يوم أمس، يبدو أنني محظوظ للغاية، فأكثر شخصين ذكاءً عرفتهما في حياتي يتراهنان من يعثر عليّ أولاً، وهذا في حدّ ذاته اعترافاً منكما بعبقريتي.
تغضن جبينها بعدم فهم لثوان فسكتت تفكر، كيف له أن يعلم بشأن الرهان؟ هل كذب الخفاش عليها يوم أمس؟
وكمن سمع سؤالها أضاف صلاح بتوضيح: لقد كلفتني بنفسك بمراقبة هاتفك مياس، أنسيتي؟

انفرجت تقاسيمها بصدمة ليتابع الآخر ساخراً: يبدو أنّ المثل صدق حين قال غلطة الشاطر بألف، وكلاكما أخطأ.
جزّت على فكها بغيظ و فعلاً صدق صلاح، لكن الغريب كيف تناسى خفاش ذلك؟ قاطع صلاح تفكيرها وهو يضيف بثقة: أنا مُعجب بلعبة القط والفأر التي تلعبينها معه يا مياس، لكن يجب أن أخبرك أنني خصمٌ ضاريٍ أيضاً، ولن أستسلم لكما بسهولة.

لم تعد قادرةً على البقاء ساكنة فأخبرته بفظاظة: على النقيض تماماً لا أريدك أن تتساهل، لكني أعدك، سأصل إليك ياصلاح وفي وقتٍ قريب جدا. ولك عهدي.
ماكادت تنهي جملتها حتى سمع الجميع صفيراً طويلاً معلناً عن إنهاء الأتصال، زفرت بحنق يتعالى حتى يكاد يشكل غشاءً فيقتلها، هنيئاً لكِ مياس، لقد كسبتِ عدواً جديداً يضاف للائحتكِ الكبيرة للتوّ.

كان إيهاب أول من استطاع النطق فعقب أثناء محاولته الوقوف: ربما قد نصل إليه إذا تعقبنا الرقم مياس، ما رأيك؟

لم تجبه في الحال فقد كانت منشغلة في العبث في شاشة هاتفها، في البداية قرأت مدة المكالمة التي لم تتجاوز ثلاثاً وستون ثانية، انتقلت تالياً لتتفحص اتصال الخفاش بها أمس لتكتشف لتوّها أنّ الاتصال لم يتعدّ التسع وخمسون ثانية هو الآخر، إذاً فهو لم ينسَ أمر مراقبة هاتفها مثلها، همست لتجيب إيهاب بثقة دون أن ترفع رأسها إليه: لن تستفيد شيئاً، لصلاح خبرةٌ واسعة في الإلكترونيات، بالتأكيد لن يكون أحمقاً ليسمح لك بالتقاط أثره.

ألجمتهم الصدمة جميعا في حين ضغطت هي على نفسها فكورت يدها بغيظ يتمادى حتى يكاد يسبب لها أزمة قلبية، تعاظم انزعاجها فضربت بيدها المكورة على قدمها محدثة صوتا مسموعا هامسة باحتدام: بالغباءك مياس.

عضت شفتها من الداخل بشراسة وخواطر متتالية تضرب عقلها بلا رحمة، وهي شاردة في نقطة فارغة حتى كاد عقلها ينفجر، مسحت على جانب وجهها بضيق ثم استقامت تالياً لتتحدث بنبرة رسمية: لقد سمعتم ماقاله صلاح النذل، يجب أن نكثف جهودنا لنصل إليه في أسرع وقت، إن وقع صلاح سيقع الخفاش بلا شك.

أنهت أوامرها دون أن تمنح أويس نظرةً واحدة، غادرت تالياً فلاحقها بنظراته حتى اصطدم برائد الذي رمقه بانزعاج، استقام الأخير ليتبع مياس وفي أثناء سيره أشار له بأصبعيه على عينيه ثم إلى أويس بتهديد، بمعنى أنه يراقبه فبادله الآخر شراسةً غير معهودة، مابال هذا الرائد وقد نصّب نفسه حارساً لها؟

عاد كمال إلى منزله هذا اليوم ومعه مريضان، كانت سعاد تمشي الهوينى تسندها ابنتها، أما كمال فقد ساعد الشاب الذي أخرجه من المشفى بعد أخذ الإذن من حسام، كان وجهه ويداه مايزالا مضمدين، وبالكاد يستطيع التحرك بحدود.
وقف أمام المنزل الفخم يطالع واجهته باستغراب جمّ، بينما كان كمال خلفه فربت على كتفه بحنان متسائلاً: بماذا تفكر؟

رمقه الشاب بمقلتيه البنية ونظرات حائرة تتقافز منهما، أجلى حلقه ليخبره صراحة: لا أعرف.
أعاد نظره إلى المنزل مردفاً: المشكلة أن عقلي يبدو كصفحة بيضاء تماماً، لا أستطيع تذكر أي شيء أبداً، لا اسمي ولا هويتي، ولا حتى إن كنت أملك عائلةً أو منزلاً كهذا.

أنهى جملته مشيراً إلى المنزل أمامه فتفهم كمال تخبطه وحيرته، أحبّ تبسيط الأمور فقال بابتسامة عريضة: لا تقلق، فكما أخبرنا الطبيب ستسترجع ذاكرتك رويدا رويدا، فلا تضغط على نفسك.
سكت للحظة ثم أضاف: أما بالنسبة لاسمك، فالأمر سهل، نستطيع مناداتك باسم آخر ريثما تتذكر اسمك الحقيقي.
لاقت الفكرة قبولاً لدى الشاب الذي سأل: تطلق علي اسماً جديداً؟ مثل ماذا؟
غريب.

تلفظت بها أروى وهي تقترب منهما بتهاد حين جلبت لوالدها مفتاح الغرفة التي سيرقد فيها الشاب، استنكر كمال برفق معاتباً: غريب يا أروى؟سامحكِ الله ألا يبدو الاسم ثقيلاً؟
قاطعه الشاب بابتسامة عريضة: غريب؟ اسم جميل.
ابتسمت بلطف يليق بها وهي تراه قبل بالاسم الذي أطلقته عليه، فرمقه كمال بغير تصديق: أحقا تقبل أن نناديك باسم غريب؟

أماء الآخر موافقاً ولايدري لماذا انتقت أروى هذا الاسم العجيب، لكنه وجد في نفسه القبول به، رفع كمال كتفيه بقلة حيلة متنهداً: كما تشاء، والآن تعال لأريك الغرفة التي ستعيش فيها.

عادت أروى إلى الداخل فيما اتخذ كمال طريقاً ضيقاً يمرّ بجوار المنزل ويلتفّ إلى الخلف، قريباً من الطريق الفرعي قبعت غرفةٌ صغيرة بدت كأنها إحدى غرف المنزل الخلفية، حاول كمال فتح الباب الحديديّ في حين وقف غريب يطالع المنظر حوله، إلى الجانب من الغرفة كانت حاكورة صغيرة تحوي أنواع شتى من الأزهار التي لايدرك لها اسماً، وجد قدميه تأخذانه ليعاين تلك الورود الرقيقة، كم أعجبه منظرها الباعث على الهدوء في النفس، بالإضافة إلى بضع شجيرات قريبة من الغرفة ونبتة ياسمين رائعة الجمال تمتدّ لتتسلق على نافذته، لقد أحسن كمال بالفعل باختيارها فهنا سيجد غريب من الصفاء ما يساعده على استرجاع ذاكرته الهاربة قريباً.

صوت كمال أيقظه من شروده حين وقف بجانبه مشيراً بيده: هذه الحاكورة الصغيرة لابنتي أروى، فهي من زرعت تلك الأزهار وتعتني بها دوماً، لذلك حين تخرج أروى إلى هنا حاول ألا تضايقها.
أنهى حديثه أثناء استدارته ناحية غريب والذي قرأ التحذير المبطن، ربما هو فاقد الذاكرة لكنه لم يفقد ذكاءه بعد، أشار بطاعة حين عقب بامتنان: لا تقلق سيد كمال، لن أضايق الآنسة أروى، ولن أنسى معروفك أبداً.

ربت كمال على كتفه وقد لاقت فطنة غريب استحسانه ثم أضاف: جيد، والآن ادخل لترتاح، ستجد المفتاح على الباب، وأنا سأعود بعد قليل.

تحرك كمال بالفعل عائداً إلى منزله مروراً بحاكورة أروى الصغيرة، ليدخل غريب إلى غرفته الجديدة يتفقدها، وجد داخلها سريرٌ واحد وتلفاز صغير بدى قديماً لكنه مازال يعمل، رائحة النظافة كانت تفوح منها فخلع غريب المفتاح ليغلق الباب جالساً فوق فراشه الجديد، تنهد بعمق وفي نفسه أمنية وحيدة، أن يجد نفسه قريباً...

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة