قصص و روايات - قصص بوليسية :

رواية حي الورد للكاتب علي اليوسفي الفصل الثاني والأربعون

رواية حي الورد للكاتب علي اليوسفي الفصل الثاني والأربعون

رواية حي الورد للكاتب علي اليوسفي الفصل الثاني والأربعون

(((شتان مابين نظرتي لك أول مرة و لقاؤنا للمرة الأخيرة، في المرة الأولى أسرت نبضاتي، وفي الثانية قتلتها، أحرقت أنفاسي حتى شعرتُ أنني مغيبةٌ تسير إلى حافة الهاوية، أتهاوى لأسقط فيها وأصرخ دون أن يسمعني أحد، ))).

أسبوع كامل، سبعة أيام تامة تمرّ دون أي جديد، مازالت كالمجنونة تبحث عن خيط يوصلها إليه لكن عقلها فارغ، لا تستطيع التفكير في أية وسيلة فكل مايخطر في بالها يذهب أدراج الرياح أمام دهاء خصمها.

تأففت بانزعاج واضح ملقيةً الأوراق أمامها فوق الطاولة، أدرات كرسيها ناحية النافذة وهي تفرك جبينها بتعب ظاهر على قسماتها، حاولت بكل ما أوتيت من ذكاء و فطنة أن تصل إليه قبل أن يفجر قنبلته المنتظرة، هي على يقين تام بأنّ ما يحضر له الخفاش لن يكون هيّناً، و اختفاؤه التام عنها معناه أنّ ما تتوقعه سيكون قريباً بلا ريب، تكاد تجنّ، أهو من الجان أو ما شابه؟

حاولت الوصول إلى سجلات المكالمات على رقم صلاح، وجدتْ رقماً غير مسجل بينهما مكالمات عدة لكنّ الرقم احترق منذ انكشاف الغطاء عن صلاح، يبدو أنّ الخفاش من حرقه تحسباً لأن يكون مراقباً من قبل صلاح أو مياس..

لكن أكثر ما أرهقها خلال الأيام المنصرمة هو حال أبيها، تحسنت علاقتهما بشكل ملحوظ وقد عاد أيضاً إلى متابعة جلسات العلاج الكيميائي، لكن صحته لم تتحسن كثيراً، رغم حركته الجيدة لكن جسده مازال ضعيفاً، أخبرها الطبيب أن حالته النفسية تؤثر بالسلب والإيجاب عليه، لكن كيف تعمل على تحسين نفسيته؟

تأففت بضيق واضح و لم تتوصل إلى فكرة مناسبة، أصابها الملل فقررت زيارته بما أنّ النهار مايزال في بدايته، لملمت هاتفها و مفاتيحها ثم خرجت من مكتبها لتصادف خروج طارق من المكتب المشترك، تبسم الأخير باتساع قادماً ناحيتها متحدثاً: هل أنتِ خارجة مياس؟
بادلته بأخرى أقل اتساعاً لتجيبه: بلى طارق، هناك أمرٌ هام يجب أن أقوم به.
حرك رأسه بتفهم ليردف: جيد، كنتُ في طريقي لجلب كوبي قهوة لي و لإيهاب.

تغضن جبينها باستغراب وقد جذبت جملته الأخيرة انتباهها تسأله: أنتَ و إيهاب في المكتب لوحدكما؟
أدرك مقصدها فأجاب: بلى، أويس لم يأتِ بعد، حادثه إيهاب قبل قليل لكنه قال أنّ لديه زيارةً لأحد أقاربه.

لا ريب أن أويس أكثر ذكاءً من أن يتعذر بتلك الحجة البالية، أدركت مياس أن أويس يخفي أمراً هاماً، ربما لا يقل أهمية عما تخفيه هي، انتبهت لشرودها الذي طال أمام طارق فعقبت: سأرحل الآن طارق، إن جدّ معكم أي شيء فاحرص على محادثتي فوراً.
أماء طارق بطاعة لتتحرك مياس من فورها، و لا تنكر الشك و القلق الذي أثاره فيها حديث طارق، ترى ما الذي يخبئه أويس عن الجميع؟

ما إن أنهى الطبيب ربيع حديثه مع عمار حتى سيطر الكَدر على الأخير، التمعت دموع حزن في مقلتيه و هو واجمٌ تماماً، تنهد الطبيب الذي جلس بقربه فوق الفراش متحدثاً بعطف: للأسف يا سيد عمار، أتمنى لو أن لديّ أفضل من هذه الأخبار، و لكن...
قاطعه عمار مبتسماً بمرار: لا تعتذر حضرة الطبيب، لا ذنب لك أنت، كله مقدّرٌ و مكتوب.

حاول الآخر الابتسام لكنه فشل فحرك رأسه بتفهم، فيما أردف عمار راجياً: لي طلبٌ عندك أيها الطبيب، أرجوك لا تخبر مياس أو عليا بما قلته لي الآن.
قطب جبينه بعدم فهم ليردف عمار بتنهيدة ثقيلة: لن احتمل أن يحزنا بسببي أرجوك.

لمس رجاؤه الصادق قلب الطبيب الشاب فأماء بتفهم، سمع كلاهما قرعاً على الباب ثم أطلّت مياس مبتسمة ببشاشة فتفاجأا بحضورها الآن، قالت أثناء تقدمها ناحيتهما: لقد مررتُ على مكتبك حضرة الطبيب لكني لم أجدك.

استقام ربيع أمامها وقد أدرك ما تريد، فهي تمرّ إليه يومياً لتسأله عن صحة والدها، ألقى ربيع نظرة سريعة صوب عمار الذي رجاه بعينيه، ثم عاد ناظراً إلى مياس وقد رسم ابتسامة زائفة على محياه مجيباً: إنه بأفضل حال حضرة النقيب، وهذا كله بفضلك أنت.

كانت قد وقفت أمامه مباشرة في هذه اللحظة، أتقن ربيع كذبته لدرجة لم تشكك مياس معها بأنه يكذب، بدت الراحة واضحة على قسماتها وهي تزفر بطمأنينة، وجهت أنظارها ناحية والدها حين أردفت بصدق: جيد، أسعدتني بحديثك.
التمعت عيناه تأثراً لكنه برع بإخفائه جيدا، استأذن ربيع لتجلس مياس بقربه عمار الذي سألها بهدوء: أراكِ جئتِ هذا اليوم أبكر من العادة؟

ظلت محافظة على ابتسامتها البشوش و رفعت كتفيها أثناء إجابتها: كنتُ متفرغة، فأحببتُ أن آتي لرؤيتك.
هز رأسه بتفهم ثم ساد الصمت بينهما إلا من حديث العيون، كم تبدل حال مياس منذ أن رآها أول مرة، باتت ألطف و أكثر بشاشة و هذا معناه أنها سامحته بالفعل و من كل قلبها، حتى عليا سامحته، وهما تأتيان لزيارته كل يوم دون أن يطلب حتى، فأي راحة يريدها أكثر من هذا؟
الآن فقط يستطيع أن يضع رأسه ويسلم الروح بكل رضا...

طال الوضع الصامت بينهما حتى قاطعه عمار متحدثاً: أخبريني مياس، ما هي هواياتك؟ وهل تمارسينها باستمرار؟
عقدت ذراعيها أمامها لتجيب بتلقائية: كان لديّ الكثير من الهوايات حين كنتُ صغيرة، لكني الآن ما عدتُ أجد الوقت المناسب للقيام بها.
تجسدت أمامها ذكريات الماضي فابتسمت دون وعي مضيفةً بشرود: كنتُ أحب ألعاب الفتيان، بل و كنتُ أتحدى أولاد الحي و أغلبهم معظم الأوقات، مثل كرة القدم أو الدحاحل و غيرها الكثير.

تبسم عمار لمجرد تخيل هذه الفتاة الجميلة أمامه تتقرفص على الأرض و تلعب بالكرات البلورية الثقيلة المسماة ( دحاحل)، أردف بعد لحظة بتأنيب طفيف لنفسه و ظل محافظاً على ابتسامته: تعلمين؟ أنا كنتُ أحب كرة السلة، و كم كنتُ أرغب بأن أعلمكِ إياها..
قطع حديثه مجبراً حين اقتحمت غصة موجعة حلقه، راقبت مياس تجهم وجهه و نفسيته المتعبة فأحبت أن تخفف عنه، خطرت في ذهنها فكرة ظريفة فأردفت ببساطة: تتحداني؟

عاد ينظر إليها غير مستوعبٍ لما تقوله فوجدها تناظره بخبث، ثم أضافت بتلاعب: هناك ملعب كرة سلة خلف المستشفى، ما رأيك بأن تريني مهاراتك هناك؟
رفع عمار حاجبيه بدهشة إلا أن مياس تابعت بمكر مازح: إلا إن كنتَ قد فقدتَ مهارتك وأصبحتَ عجوزاً؟
أدرك مقصدها تماما فابتسم بتفاخر مجيباً بحزم مصطنع: من تنعتين بالعجوز؟ فقط أوصليني إلى الشبكة وضعي الكرة في يدي و قفي في الزاوية و تعلمي.

حركت كتفيها باستفزاز قائلة بلا مبالاة: سنرى، و كما يقولون الماء يُكذب الغطّاس.

بعد وقتٍ قليل كانت مياس تدفع الكرسي المتحرك الذي رقد فوقه والدها ناحية ملعب صغير، في نهايته تعلقت شبكة خاصة بكرة السلة، أوقفت الكرسي قريباً من الشبكة ثم جلبت الكرة ذات اللون البرتقالي، وقفت أمام كرسي والدها وقد تخلّت عن سترتها السوداء لتبقى بقميص أسود يغطي مسافة قليلة بعد كتفيها، و سروالها ذي اللون الأسود من قماش الجينز و ربطت خصيلاتها السوداء الكثيفة للأعلى على هيئة ذيل حصان لتعطيها هيبةً و وقاراً، قذفت الكرة بين يديها بخفة و هي تسأل عمار بلطف: جاهز لنبدأ؟

شمّر عمار كمّي ثوب المستشفى الذي يرتديه محدثاً إياها بجدية زائفة: أمثالي يولدون جاهزين يا حضرة النقيب، أنتِ لا تعرفين مع من تتعاملين بعد.
رفعت أحد حاجبيها قائلة بسخرية مازحة: أنا لا أحب الكلام الكثير، هيا أرني مهاراتك.

ضربت الكرة على الأرض لترتدّ إلى كفها مجدداً، حرّك عمار كرسيه ليأخذها منها فناورته عدة مرات حتى نجح في سرقتها بتساهلٍ منها، و بحركة سريعة أدار كرسيه ليقذف بالكرة في السلة فدخلت دون عناء، تطلع إلى مياس ليخبرها بتفاخر: نحن نريد محترفين لنلعب معهم لا هواة.
مثّلت مياس الغضب و الامتعاض فأخبرته بتهكم غير حقيقي: لا تغترّ بنفسك كثيراً، هذا فقط حظّ المبتدئين.
لوى فمه بغير رضا معقباً باستهجان: مبتدئين؟

ابتسمت بسخافة قابلها بأخرى صفراء ثم عادا للتحدي، ضربت مياس الكرة لترتدّ إليها و حين حاول عمار سرقتها دارت حوله، لصعوبة تحركه بالكرسي لم يستطع إختطافها منها فسجلت هدفاً هذه المرة، ادّعى عمار الانزعاج و هي تخبره بنفس طريقته المستفزة أثناء رفعها ياقةً وهمية: نحن لا نلعب هنا، أريد محترفين لا هواة.

ابتسم باستخفاف على حديثها ثم عادا للمناوشة، يختطف الكرة منها لتنزعج ثم تسجل هدفاً ليغضب، تستفزه فيردّها لها، تحت السماء الملبدة بالغيوم قضت مياس مع أبيها أفضل ساعات حياتها، ضحكت من كل قلبها و كأنها لا تحمل هماً، أرجعتها هذه اللحظات حين كانت طفلة تلعب مع أولاد الحي، كل ما كانت تريده حينها أن تتخلص من الضعف فيها، و تثبت لنفسها أنها لا تحتاج لوالدٍ تحتمي به، لكنها في كل ليلة تعود طفلة طبيعية، تحب أن يدثرها والدها في فراشها، أن يحكي لها قصة أو يمنحها قبلة ما قبل النوم، أمنيات سخيفة في نظر البعض لكنها عند مياس كانت تساوي الدنيا بما فيها...

.

ألمّ به التعب لكنه كابر على وجعه ولم يظهره لها، حرص عمار على أن يكون هذا اليوم أفضل ما حصل في حياة ابنته، و من فرط الحماسة لم تشعر مياس به ولم تنتبه إلى غروب الشمس، حتى أنقذه ربيع أخيراً لمعرفته بحقيقة وضعه، ساعده ربيع في العودة لسريره لتودّعه و لأول مرة في حياتها بقبلة زرعتها فوق رأسه، أصابه الذهول و طالعها بعيون متسعة لكنها تجاوزت الموقف بسلاسة فخرجت ترافقها مقلتيه الدامعة كأنه علم أنه لن يراها مجدداً، يا الله!

لو تمنحني بعض الوقت الإضافي فقط، تأفف بقوة ثم عاد إلى تلك اللحظات التي جمعتهما قبل قليل، على الأقل سيترك لها ذكرى جميلة تكون كبقعة ضوء وسط ما تحمله من ذكريات سوداء...

شهقت هويدا بصوت مسموع حين قرأت ورقتي التحليل أمام مازن، تطلعت ناحيته لتجده شارداً و في مقلتيه تلتمع دموع تربد التحرر فسألته بصدمة: ما الذي يعنيه هذا؟
أجاب بزفير بارد دون أن يحرك عينيه ناحيتها: كما قرأتِ.
حركت رأسها للجانبين لتردف: لم أفهم، إن لم يكن هؤلاء هم والديك الحقيقين، فمن هم أهلك إذاً؟
اجترع ريقه بصعوبة و هو يثني ذراعيه فوق الكاولة يستند فوقهما ليخبرها بنبرة متأثرة: لا أعلم...

آلمها منظره بحق، مازن طبيب مهذب وناجح بكل المقاييس، لا يستحق هذه الصدمة القاتلة، عادت لتنظر إلى التحاليل فجذب انتباهها أمرٌ ما لم ينتبه له مازن من فرط الصدمة، ضيقت عينيها قبل أن تردف: لكن هناك أمر غريب فعلاً.
انتبه لمقالها فتطلع ناحيتها لتخبره أثناء رفعها لإحدى الورقتين أمامه: هنا مكتوب أنك تتشارك مع عثمان نسبة معقولة من الحمض النووي! وهذا معناه أنه من أقاربك!

قطب جبينه بعدم فهم ليقترب و يأخذ الورقة منها يطالعها بعيون متسعة، قرأ النتيجة ليجدها فعلاً كما قالت، يتشارك مع عثمان نسبة من الحمض النووي في حين لا يشارك ميادة شيئا منها، تلقائياً عاد حديث عمار ذلك اليوم يتردّد في أذنه عن زوجة عم عثمان التي توفيت مع جنينها، ثم جملة والده المستهزئة حين عاير ميادة بأنها أم أويس لا أم مازن، انتبه لتوّه لفارق العمر الكبير بينه و بين أويس، حلّل الكلمات و المواقف و ربط الأحداث ببعضها ليخلص إلى النتيجة الصادمة...

ليلٌ طويل مرّ عليها كالعادة تبحث عن عذر لتراه في الغد، بالكاد نامت بضع سويعات في حين لم يغمض له جفن، جلسته المفضلة لم تعد تريحه، كتبها التي جلبتها له نمت لها مخالب فجأة لتخدشه كلما فكر بلمسها، ذاك القلم الذي أهدته إياه يوم جلبت الكتب تحوّل لأفعى تناوشه أثناء كتابته سطور رسالته إليها، يا الله!

كان قد سمع مقولة أن الجزاء من جنس العمل، لكنه يرى نفسه هذه المرة يدفع ثمناً باهظاً جداً جراء فعلته، لا يزال عقله يجلده بقوة و قسوة، مرّت عليه ساعات الليل و أشرقت الشمس و ما زال غريب جالساً كما كان، على كرسيه في منتصف الحجرة التي حوته لأيام طوال، مستنداً بمرفقيه فوق ركبتيه و أصابعه متشابكة بحزن و كدر، و كتابٌ ما في أحضانه، لغاية اللحظة لا يزال غير مصدق لما اكتشف عن نفسه، أيعقل؟

وحده الله يعلم ما عايشه الليلة الفائتة من تناقض، ظلّ يدور في متاهة محورها واحد، ضميره الذي يعذبه ويجلده بقسوة، يخبره بضرورة معرفة الجميع للحقيقة، و جزء أناني داخله يخبره بأن يتكتّم على الموضوع فأنت لن تحتمل فراق أروى، يعود عقله لينهره ولن تحتمل أن تنظر في عينيها الزمردية وأنت تكذب أيضاً، خاطرة حقيرة تطرق ذهنه تخبره بأن يهرب، يقفز وجدانه هذه المرة يصرخ أنها أسوء طريقة يردّ بها دَينهم، أغمض غريب مقلتيه متأوهاً بصوت مسموع، دفن وجهه بين يديه ليخنق العبرات التي تحرق مآقيه تريد التحرر، حرب طاحنة تدور داخل رأسه ونار لاهبة تحرق أنفاسه في صدره، لم يعدْ يطيقْ البقاء بين الجدران الأربعة فخرج إلى أزهار الإقحوان الخاصة بأرواه، لربما إن شكى لها الحرب الدائرة داخله ساعدته، ما يزال الوقت مبكراً جداً لاستيقاظ أحد، لفحته برودة الطقس لكنه لم يأبه، فما يعتمل داخله أصعب وأقسى من أن يتنبه لتفصيل تافهٍ كهذا، جلس على الأرض و في يده الكتاب الذي خطّ فيه رسالته ليتطلع إلى حَجَرها فيتمثل طيفها الباسم أمامه، عاد ناظراً إلى ورودها فرآها كأنها اكتشفت حقيقته فتوبخه، ألستَ السبب الرئيس في الآسى الذي عايشته أروى و عائلتها؟ تريد أيضاً أن يحيوا في كذبة حقيرة منك؟ يكفيك أنانية، يكفي أنك دمرتهم و تسببتَ في وجعهم، لم ترَ منهم حتى الآن إلا كل خير ورعاية، يكفي أنهم أنقذوك من الموت المحتم، هم لا يستحقون منك هذا الغدر، تحلّ ببعض الشجاعة واترك عنك الدناءة لبعض الوقت، أشرقت خيوط الشمس ليلتمع نصل السكين الذي تركته أروى أمس لينعكس على صفحة وجهه، كوّر قبضتيه بقوة و قد اتخذ القرار، أليس العين بالعين والسن بالسن والبادئ أظلم؟

من العدل أن تُعاقب بنفس ما اقترفته يداك، هربتَ طويلاً يا غريب و الآن؟ و الآن آتى وقت الحساب، تجهمت ملامحه بحزم و هو يستلّ السكين من مكانه، رفعه أمام وجهه و قد عزم أمره، أنت تستحقّ هذا العقاب، لكن أولاً، يجب أن يعرف الجميع الحقيقة...

لم يدرك كم من الوقت الذي قضاه جالساً أمام حوض الزهور، لكنه استفاق على صوتها يناديه من الخلف، تنبه لتوّه أنّ الشمس قد توسطت السماء إذاً فقد أطال الجلوس دون وعي، انتفض واقفاً كالملسوع و جسده يرتعش حين اقتربت أروى منه، و على محياها ابتسامتها الجذابة التي أحدثت داخله شرخاً غائراً لا يُجبر بسهولة، تحدثت بصوتها الرقيق: صباح الخير.

ارتجف كفه القابض على الكتاب ثم قفز مبتعداً عنها و هي تواصل اقترابها منه، استغربت أروى فعقبت بذهول: غريب؟ ما الأمر؟
انتبهت إلى السكين في يده الأخرى فاسترابت في أمره لتسأله بارتياب: ماذا تفعل بهذه السكين؟
ظلّ للحظات يطالعها بمقلٍ تلتمع، تدخل عقله لينهره بغلظة: أخفض نظرك عنها فمقلتيك لا تستحقان أن تريا ملاكاً مثلها.
اجترع غصة عظيمة و هو يخفض نظره عنها أثناء إجابته بصوت هامس بالكاد يُسمع: لا شيء.

زادت عقدة حاجبيها ثم همّت لتقترب أكثر و هي تقول بدهشة: لا شيء؟ لكن منظرك...
أوقفها بإشارة من يده التي تحمل الكتاب و هو يتحاشى النظر إليها قائلاً بنبرة بدت أقرب للأنين: لا تقتربي أرجوكِ.

توقفت مكانها ناظرةً إليه بغرابة، تصرفاته لا تبعث الراحة في النفس، و مع أن المسافة بينهما لا تتعدى المترين لكنها تشعر و كأنها آلاف الأميال، نازعته عيناه تريد أن تتملى من النظر ناحيتها لتطبع صورتها في خياله لآخر مرة، لكنه ما إن حاول رفع عينيه إليها حتى قفزت بدلاً عنها صورة ورد ليعود ويخفض نظره و يعضّ على شفتيه، تغضن جبينه بانزعاج من نفسه وجُبنه ثم تمالك نفسه ليسألها بنزق طفيف: أين السيد كمال؟

رفعت حاجبيها بدهشة متسائلة باستغراب من نبرته: ما الذي تريده من والدي؟
أجاب باقتضاب و عيناه معلقة بالأرضية: أريده في أمر هام، أين هو؟
ضمت شفتيها بقوة محاولةً النفاذ إلى عقله لتستوعب ما الذي جرى ليعاملها بهذه الطريقة، و هي التي لم تعتد منه سوى اللطف و الحنان، انزعجت من معاملته فقالت بضيق بائن: لقد رحل إلى مخزنه.
هل لديكِ هاتف؟
نعم؟
سأل بغموض لتجيب بمفاجأة فأردف بغضب متوارٍ و نبرة أعلى: لديكِ هاتف؟

تكاد تنفجر منه فأجابت بغيظ: نعم، أملك هاتفاً، لماذا؟
اجلبيه لي.
هكذا أمرها بجفاء فارتفع حاجباها بذهول للمرة التي لا تعرف عددها، لاحظ غريب كل هذا فالتفت إلى الجانب معقباً بنبرة أكثر جدية و جفافاً، وكأن اسمها أكثر طهراً من أن يتلفظ به: لو سمحتِ، اجلبي هاتفك أريد أن أحادث السيد كمال بأمر ضروري لا يحتمل التأجيل.

تنفست بعنف و هي تشعر كأنها ستنفجر من معاملته الغريبة لها، غادرت تدكّ الأرض بقدميها بقوة حتى دلفت إلى المنزل، توجهت إلى غرفتها بخطوات مغاضبة و هي تتمتم بكلمات غير مفهومة فلاحظتها والدتها الخارجة من المطبخ فسألتها باستغراب: أروى؟ تحدثين نفسك أم ماذا؟
توقفت في منتصف الدرج و هي تمسك بإطاره بانزعاج، دارت غضبها أمام والدتها قائلة بهدوء مصطنع: لا أمي، أنا فقط أريد هاتفي.

لم ترحها نبرة ابنتها رغم هدوئها فعادت تسأل بريبة: لماذا تريدين هاتفك؟ وأين كنتِ أصلاً؟
عضّت على شفتيها و قد تنبهت لتوّها أنها نزلت دون أن تلاحظها أمها، ابتلعت ريقها بوجل ثم قالت بصدق كاذب: ذهبتُ لأتفقد أزهاري أمي، فأخبرني غريب أنه يريد مهاتفة والدي لأمر ضروري، سأصعد لأجلب له الهاتف لن أتأخر.

ألقت عبارتها الأخيرة بلا مبالاة لتتابع صعودها بخطوات راكضة لتتهرب من أسئلة أمها التي تابعتها بشك، انتظرتها حتى أحضرت الهاتف ثم خرجت إلى الحديقة الخلفية، تابعتها سعاد بقلق بالغ و لا تعرف مصدره حقاً، إلا أنها اختارت التغاضي مجدداً فحركت رأسها بيأس لتعود لمتابعة أعمالها، فيما عادت أروى إلى غريب الذي ما زال واقفاً مكانه ينتظرها، اقتربت حتى باتت أمامه لتمدّ يدها بالهاتف قائلة بضيق لم تخفه: تفضل، هذا هاتفي.

حاول استراق النظر إليها برمشة سريعة من عينيه لكنه نهى نفسه، مدّ يده بحرص ليأخذ الجهاز من يدها دون أن يلامسها، إنها أنظف من أن يدنسها بلمسة عابرة منه، ارتعشت يده حاملة الهاتف المفتوح على رقم حمل اسم والدي الحبيب، يبدو أنها اختصرت الطريق عليه و خففت عنه عبء الطلب، طلب الرقم ثم ارتفع صدره بتنهيدة ثقيلة ينتظر الردّ من كمال الذي لم يتأخر عن الإجابة حين رأى رقم صغيرته الحبيبة، أجاب بصوت حنون: حبيبة قلب أبيها، كيف حالك؟

لم يدرك كمال ما فعلته تلك الجملة بغريب، أضرمت النار فيه و أحرقته حرفياً، تماسك و ابتلع ريقه بمرار ليقول بجمود مفتعل: أنا غريب يا سيد كمال، أأستطيع محادثتك في أمر هام؟
أصابه الاستغراب ثم القلق حين سمع صوت غريب فأردف: غريب؟ ما الذي حدث؟
أغمض عينيه بتعب ثم قال بنبرة متوسلة: أرجوك سيد كمال، فقط عدْ إلى المنزل سريعاً.

لا تبدو لهجته مازحة و لا عابثة، عقب كمال أثناء وقوفه من خلف مكتبه في المخزن: أنا في طريقي.
أخفض الهاتف عن أذنه متنهداً بثقل، المهمة الصعبة لم تأتِ بعد، تفطن لتلك التي تملكها القلق عندما قالت بهمس مترجي: ما الذي حصل غريب؟ أرجوك أخبرني؟

خانت عيناه كل الأوامر التي كبّلها بها لتغدر به و تتثبت فوق محياها كأنها تودّعها، هامت روحه حتى شعر كأنها تنسلخ عن جسده ثم تعود إليه لتنسلخ مجدداً، التمع الدمع في مقلتيه فتضاعف قلق الواقفة أمامه، مدّ يده بالهاتف دون حديث فأدركت أنه لن يخبرها، اغرورقت مآقيها بالعبرات لكنها أبت تحريرها أمامه فاستلّت جهازها من يده بعنف، استدارت تريد المغادرة فأوقفها هاتفاً: انتظري.

التفتت نحوه مجدداً وقد نبض قلبها بأمل أن يخبرها بما حدث، لكنه خيّب أملها حين رفع الكتاب ليعطيها إياه قائلاً بصوت مختنق: هذا الكتاب لك.

لم تتفطن لمقصده حين تصاعد غيظها منه فأعماها عن رسالته الخفية في عينيه الحزينة، أخذت الكتاب من يده بعنف و غادرت فعليا هذه المرة، ليظلّ غريب يشيعها بعينيه دون ذرة ندم واحدة على كل حرف كتبه، و لا على ما انتوى فعله، اتخذ القرار ولن يتراجع، اشتدّت كفه على سكين أروى، و من كل قلبه يتمنى لو أن كمال ينحر عنقه بها، على الأقل سيشتمّ رائحتها أثناء طلوع روحه...

كالعادة جاءت إلى مركز المكافحة لتتابع التحقيقات في قضية الخفاش، في مكتبها ما زالت تبحث عن أي خيط يهديها إليه، و أمر آخر أثار قلقها هو غياب أويس يوم أمس حسب ما أخبرها به طارق، هذا الرجل الغامض يثير ريبتها لتجد نفسها تفكر فيه بكثرة هذه الأيام، تأففت بانزعاج مع قرعٍ متتالٍ على الباب لتأذن لصاحبه بالدخول، انشقّ الباب ليطلّ أويس من خلفه محاولاً رسم ملامح عادية على وجهه هاتفاً: صباح الخير، أخبرني إيهاب أنكِ طلبتي رؤيتي؟

شبكت كفيها أمامها و هي تتفحصه هيئته المبعثرة لتدرك وجود خطبٍ ما خلفه، أماءت برأسها و هي تشير إلى الكرسي أمامها، ليتقدم أويس أثناء سؤاله: هل لديكِ أية أخبار عن الخفاش؟
نفت مياس مجيبة: للأسف أويس، لم نصل إلى شيء بعد.

ألقى بنفسه على الكرسي حيث أشارت و هو يزفر بضيق بالغ، فرك عينيه بتعب و قد بدى النعاس واضحاً بهما لتدرك مياس أن ما تفكر به صحيح، هناك ما يشغل بال أويس و يحرمه النوم، أرادت استدراجه في البداية لكنها لم تحبذ اتباع هذا الأسلوب معه هو بالذات، لذا سألته مباشرة: لماذا غبتَ يوم أمس أويس؟

أجفل ناظراً لها بحاجبين منعقدين و جبين متغضن باستغراب لتردف مياس بجدية: و لا تخبرني أنك كنت في زيارة لأحد أقاربك، فالعذر السخيف هذا لن ينطلي عليّ.
تجمد عقله عن العمل تماماً و هو يرى سهام الارتياب تصوّب من مقلتيها ناحيته، صَعُبَ عليه نفسه أن تشكك به مياس، لكن لمَ الاستغراب؟

فهي لا تعرف حقيقة ما حصل معه و لا ما يعانيه، ضمّ شفتيه بقوة و قبل أن يدافع عن نفسه سمع كلاهما طرقاً على بابها أتبعه دخول طارق و هو يقول: مياس، هناك من يريد أن يراك..

تلاقى حاجبيها باستغراب و قبل أن تتساءل ظهر من خلف طارق شابٌ تجاوز منتصف الثلاثين من عمره بقليل، يرتدي ثياباً عادية و يحمل في يده مغلفاً شفافاً، تطلع أويس صوب مياس التي لم تتعرف على الشاب، لقد رأته في مكان ما لكنها لم تتذكر أين فسألته مباشرة: تفضل، من أنت؟
تحدث الشاب بصوت أجش: مرحبا، اسمي الطبيب باسم ياسين، أنا أعمل في المختبر الجنائي و صديق للنقيب رائد رحمه الله.

رفعت حاجبيها بدهشة و قد تذكرت أين رأته فهتفت بتذكر: أجل، لقد رأيتك في جنازة رائد، كيف أستطيع مساعدتك؟
تقدم باسم ناحيتها ليردف: منذ فترة طلب مني النقيب رائد خدمةً شخصية لأجلك، ذهبتُ معه إلى مشفى المدينة لنأخذ عيّنةً من شخصٍ مجهول الهوية كان في غيبوبة بهدف التعرف على شخصيته.

فهمت مياس كذلك أويس ما يتحدث عنه باسم، فيما تابع الأخير بحزن بائن: بحثتُ عن عيّنات مطابقة في النظام عندنا فوجدتُ تطابقاً، هاتفتُ النقيب وأخبرته بالنتيجة فأخبرني أنه سيأتي ليأخذ التحاليل من المختبر، لكنه لم يأتِ وفي اليوم التالي سمعتُ بنبأ وفاته.

نطق جملته الأخيرة بهمس خافت، بينما تجهم وجه مياس و قد عادت بها ذاكرتها إلى يوم وفاة رائد، فطنت أنه أخبرها بصدور نتيجة تحاليل غريب و أتى يومها إلى المركز ليخبرها، هزت رأسها بتفهم فيما رفع باسم المغلف المغلق ناحيتها ليسلمها إياه هاتفاً برسمية: هذه نتيجة التحاليل حضرة النقيب، لكن يجب أن تعرفي أنّ هذا الشاب مطلوب في قضية قتل و استغلال منصب، فإن كان لا يزال في المشفى يجب القبض عليه فوراً.

تلاقى حاجبيها بدهشة هاتفةً باستهجان أثناء فتحها للظرف المغلق: ماذا قلت؟
أكّد باسم مقاله حين أردف: أجل، هذا الشاب في الحقيقة هو الضابط الهارب عُدي الجبالي.
رفعت رأسها بغتةً ولم يكن أويس بأقلّ دهشةً منها حين سمع الاسم فصرخ كلاهما بصدمة في وقت واحد: من؟!

ظلّ القلق يداهمها منذ أن عاملها بجفاء ثم طلب أن يحادث والدها، ترى ما الذي حدث لينقلب حاله هكذا؟
لم تهتدِ أروى إلى السبب الحقيقي فاعتزمت الذهاب إليه لتسأله، و هذه المرة سيخبرها شاء أم أبى، خرجت إلى الحديقة وقبل أن تصل إلى غرفته رأته يخرج منها فنادت باسمه، تجمد مكانه دون القدرة على الالتفات ناحيتها، فسألها بجمود: وصل أباكِ؟

ضغطت على شفتيها بقوة قبل أن تجيب بنبرة هادئة لكنها تحمل الرجاء بين طيّاتها: لم يصل بعد لكنه سيحضر قريباً، أخبرني غريب ما الذي حدث؟ و لماذا تعاملني بهذه الطريقة؟

آهٍ لو أنها تعلم كم يصعب عليه أن تخاطبه، وألف آهٍ لو أنها تدري بأنها أنقى و أتقى من يخاطب لسانه لسانها، أغمض عينيه يضغط على أجفانه بقوة و قد أدرك أنها لم تقرأ رسالته، و ربما لن تفعل قط، قبض بقوة على السكين الذي لم تلاحظه هي حتى الآن، تنفس بعمق ثم قال بجفاء قاتل لقلبها الرهيف: ستعرفين، حين يصل والدك ستعرفين.

تحرك من فوره دون انتظار ردها بينما القلق ينهش بصدرها، شاهدته يخرج من الحديقة متجهاً إلى الطريق الفرعي المارّ بجوار المنزل، فعادت راكضةً إلى غرفتها لتشاهد ما الذي سيفعله، وقف غريب أمام بوابة المنزل بمسافة قريبة ينتظر عودة كمال، هبّ عطرها ليغرقه فأيقن تواجدها في نافذة غرفتها تنظر إليه، فتحت أروى شباكها وتدلت لترى غريب في الأسفل، أزعجتها الستائر البيضاء التي ترفرف بقربها فتأففت لتبعدها عنها و تركز نظرها عليه، حتى اللحظة لم تفهم ما أصابه فجأة لكن منظره لا ينمّ عن خير، لماذا طلب والدها؟ ما الذي استجدّ معه لينقلب حاله هكذا؟ و ما الذنب الذي اقترفته لتستحق منه هذا الجفاء؟

كل هذه الأسئلة تتزاحم في عقلها دون إجابة...
صرخ غريب بصوت جهوري: أيها الناس، اجتمعوا إليّ، يا سكان حيّ الورد تجمعوا هنا واسمعوا ما سأقول.
تضاعف قلقها خاصة حين صاح هكذا فأيقنت أنه إما قد جنّ أو فقد عقله أيهما أقرب؟
سمعت صوت خطوات راكضة من خلفها، ثم سعاد تخاطبها بقلق: أروى؟ ما الذي يحدث في الأسفل؟ من هذا الذي يصرخ هكذا؟

أنهت جملتها وقد وقفت بجانب ابنتها تتطلع إلى الأسفل، فيما تجيبها أروى بارتجاف متأثر: لا أدري أمي، هذا، هذا غريب..

لم تكدْ تنهي جملتها تلك حتى لاحظتا تجمهر عدد قليل من الناس حول غريب الذي كان واقفاً باعتداد، تقاسيم وجهه لا تُفسر و مقلتيه تكاد تحرر أدمعها لكنه أمسكها رغماً عنه، لم تمرّ إلا ثوان حتى سمع صوت كمال يقتحم الجمع، أصابه القلق حين رأى تحلق الناس أمام منزله فشقّ طريقه بينهم ليقابل غريب بحالةٍ مريبة، زوى ما بين حاجبيه سائلاً بذهول: غريب؟ ما الأمر؟

تلألأت العبرات في مقلتيه لكنه ما زال يجاهدها، ارتفع صدره بنفس مؤلم ثم قال بنبرة هادئة عكس حاله قبل قليل: يجب أن أخبرك بأمر هام يا سيد كمال.
جال الأخير بعينيه على الحضور من اهل حيّه ثم عاد بنظره صوب غريب ليردف بلين: حاضر، تعال لندخل إلى المنزل و نتحدث...
و همّ بالتحرك نحوه فيما هتف الأخر بعناد غريب: لا، لا أستطيع دخول منزلك، يجب أن يسمع الجميع ما سأقوله الآن.

زوى كمال ما بين حاجبيه بدهشة و هو حقاً لا يفهم ما الذي يجري، حاول استمالته من جديد فقال بنبرة عطوف: لا يصحّ أن نقف هكذا أمام الناس يا بني...
كأنه نار وانسكب فوقه البارود انفجر غريب صارخاً بكمد: لا تنادني بتلك الكلمة، أنا لستُ ابنك.
انخفضت نبرته مضيفاً بنشيج: ولا أستحق هذه الكلمة أساساً..

انقلاباته المفاجئة أقلقتها فخرج اسمه من بين شفتيها بلا صوت، رفعت يدها لتضعها على قلبها الهادر بعنف حتى تكاد تجزم أنه سيخرج بعد قليل من صدرها، بينما اعترى الخوف صدر سعاد مما يفعله هذا الغريب، الآن تأكدت أن من خلفه مصيبة، و مصيبة كبيرة أيضاً...
..
كل ما يحدث الآن جعله لا يفهم ما دهاه، تحدث كمال بجمود مصطنع والشك يتضاعف داخله ناحية هذا الشاب: قلْ ما لديك الآن يا غريب.

ارتعش جسده ولوهلة كاد يتراجع لكن وقت التراجع قد فات، تحدث بعد برهة قصيرة: يجب أن تسمعني إلى النهاية، لذا اعطني الأمان أولاً.
الآن ولم يعد هنالك مجال للشك، من خلفه مصيبة عظيمة، أجابه ببرود مفتعل: لك الأمان، تحدث.
ابتلع ألماً خانقاً يغلق مجراه التنفسي، فرد كتفيه و شدّ ظهره ليسأل كمال بتأثر: هل تعرف من أنا؟

حرك رأسه بالسلب بخفة وجبينه مقطب بريبة، تابع غريب بنبرة متأثرة: أنا الذي تسببتَ أنتَ بفقده لوظيفته، بأن يتشرد ككلاب البراري، و ينام كالحيوانات الضالة تحت الأشجار، أنا الذي أراد أن ينتقم منك...
ارتعشت شفتاه بتأثر عظيم قاطعت حديثه فيما كمال يطالعه باستغراب جمّ و لم يفهم ما يقوله، تماسك غريب ليردف بصوت مغلول: أنا، أنا الضابط عديّ الجبالي.

شهقت بصوت مسموع و هي تغطي شفتيها بكلتا كفيها، ترقرقت الدموع في عينيها في حين تهاوت قوى سعاد التي استندت بكفيها على عتبة النافذة أثناء همسها بصدمة: من؟
سيطرت الصدمة على قسمات كمال فلم ينبس بحرف، توسعت عيناه حتى كادتا تخرجان من محجريهما، تعالى صدره وهبط بمفاجأة نزلت فوق رأسه كحجر عظيم دقّته، أيعقل؟!

لا تعرف حقاً كيف وصلت إلى هنا دون أن تقوم بحادث ما، و أويس بجانبها يغلي حرفياً من داخله، شاهدا التجمهر القائم قريباً من منزل عائلتها فهمست بقلق: ما الذي يحدث هنا؟

دقق أويس النظر بدوره فأوقفت مياس السيارة بعيداً بمسافة قليلة حين شاهدت سيارة خالها متوقفة بشكل عشوائي، بالكاد استقرت السيارة ليترجل كلاهما منها، كانت هي الأسبق بخطواتها حين اقتحمت المجتمعين أمامها لتجد خالها يقف وعلى وجهه أمارات الصدمة، شاهدت غريب يقف قبالته و في الأعلى كانت أروى التي كممت فمها بيديها فأدركت مياس أنهم علموا الحقيقة بطريقة ما، وقف أويس إلى جانبها مسدداً ناحية عدي نظرات حارقة لكن الأخير لم يهتمّ لأمرهم، هو لم يرهم حتى بل كان اهتمامه كله منصباً على وجه كمال، زفر بصعوبة ثم تابع حديثه: أعلم بما تشعر به نحوي و أعذرك، أنا رجل خسيس حقير، ظالمٌ لا أراعي الله في أحد كما ظلمتُ بسام و لفقتُ له تهمة باطلة، لكن الأمر ليس بيدي، كان يجب أن أكون هكذا، فالمكان الذي أتيتُ منه هو من علمني هذا، إن كنتَ ضعيفاً في الميتم فاقرأ على نفسك السلام، ستموت ولن يسأل بك أحد.

قست نظراته أثناء تلفظه بعبارته الأخيرة، ابتلع ريقه ثم أردف بندم محسوس في صوته: مرؤوسيّ وبخوني بشدة بعد مظاهرة ورد، اعتبروا أني لا أستطيع ضبط أمور الحي فكرهتُ من تسبب بهذا التوبيخ لي، حاولتُ إجبار بسام على إخباري باسم الشاب الذي قام بها لكنه لم يرضَ، حتى نصبتُ فخاً لعائلته، كنتُ على يقين أياً كان من نظم المظاهرة فهو سيأتي ليرى بسام في المستشفى، و هناك...

اختنق صوته لتنفر الدموع من عينيه عندما فشل في ضبطها، فعقب بصوت خافت دون أن يحيد بأنظاره عن وجه كمال المحتقن: هناك قابلتُ ورد، الكبرياء الذي واجهني به أغاظني، رأيتُ فيه كل الصفات الجيدة التي لم أراها فيّ...

لم تستطع سعاد الاستماع لقاتل ابنها أكثر من هذا فارتعشت قدماها لتتراجع للخلف وتسقط جالسةً على سرير أروى تنظر أمامها بصدمة، في حين لم تعبأ بها الأخيرة فالذهول الذي سيطر عليها أنساها وجود أحد معها، لم تستطع تحريك عينيها لترى حال والدها الذي اشتعلت النيران في مقلتيه حتى شعر بأنه قد يحرق ذلك الوغد الواقف أمامه، تنفسه بات ساخناً و على وشك أن يخرج الدخان من رأسه من فرط الغضب، سمع همهماتٍ متفرقة حوله فجزّ على فكيه بقوة حتى برز عرق بائن على رقبته، و كوّر قبضتيه بشدة حتى نفرت عروق ذراعيه الواضحة، لاحظت مياس هذا و كم رغبت بإنهاء معاناة خالها، همّت بالتحرك فعلاً لكن ذراع أويس منعتها، كان يريد الاستماع لما سيقوله عدي بالفعل رغم أن لا عذر في الدنيا قد يبرر قتل نفس مهمن كان، استمعوا جميعاً إلى عدي وهو يضيف محادثاً كمال بعد أن تمالك نفسه بعض الشيء: هربتُ بعد معرفتي بموت ورد، كنتُ أجبن من أواجه فعلتي، طمعتُ في حماية رؤسائي لي لكنهم خيبوا أملي عندما فضلوك أنت عليّ، همتُ على وجهي فاختبأتُ في الغابة كالمشردين و علمتُ أنك تبحث عني، و بسببك لن استطيع حتى الهرب، أردتُ الانتقام منك فلم أجد أمامي إلا أن أحرق المخزن...

كلما تحدث كلما زاد غضبه وغيظه يحرق صدره بقسوة، من فرط ضغطه على أسنانه شعر بها ستتكسر، لكنه لم يشعر بالألم الجسدي، فالألم الذي ألمّ به كان أقسى وأدهى، قرأ عدي في عينيه الغضب والحقد لكنه تابع اعترافه بندم: راقبتُ الشاب الذي يحرس المخزن، و حين ذهب إلى الحمام استغللتُ الفرصة، دخلتُ وعبثتُ بأزرار الكهرباء لأجعل الأمر يبدو كما لو أنه حدث بسبب ماس كهربائي، انطلقت شرارة النار فحاولتُ الهرب لكن الحارس عاد، بحثتُ عن منفذٍ آخر للهرب وحاولتُ تسلق الحائط لكني وقعتُ على رأسي، و آخر ما رأيته كان النار تشتدّ حتى أتت على معظم المخزن، والباقي أنت تعرفه...

كان حديثه في معظمه موجهاً إلى كمال الجامد مكانه، حتى محياه واجم الملامح لا يُدرك ما خلفه، فقط تنفسه السريع كان واضحاً وعروقه النافرة بائنة، جرت دموع عديّ على عرض خدوده بندم واضح للعيان، لكن بمَ ينفع الندم الآن، استطاع أن يلحظ النار السوداء التي تطلّ من مقلتيّ كمال ولو أنها تصله لأحرقته حياً، ارتفع صدر عديّ بتنهيدة ثقيلة ليلقي بآخر أوراقه، قذف بالسكين تحت قدميّ كمال الذي لم ينظر إلى الأسفل حتى، ثم قال بصوت خاوٍ: خذ بثأرك يا سيد كمال، اقتلْ قاتل ابنك وأرحه في قبره، فالعين بالعين والسن بالسن، والبادئ أظلم...

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة