قصص و روايات - قصص بوليسية :

رواية حي الورد للكاتب علي اليوسفي الفصل الثالث والأربعون

رواية حي الورد للكاتب علي اليوسفي الفصل الثالث والأربعون

رواية حي الورد للكاتب علي اليوسفي الفصل الثالث والأربعون

((( كمراهقة جمعت مشاعرها و أحلامها و بعضاً من قلبها و أنفاسها، لملمتهم في وشاح بنفسجي و سارت لتدفنه تحت الياسمينة، تلك ذاتها التي كانت تلتقي تحتها القلوب بعيداً عن أعين المتلصصين. ))).

بعد مرور أكثر من شهرين على تعرضه للاعتداء حضر بسام هذا اليوم إلى المستشفى ليفكّ جبيرة قدمه وذراعه اليسرى، كان قد شُفي تماماً من الكدمات التي سببها له عدي، و تحسنت حالته النفسية نسبياً، لكن آثار اعتداء عدي ما يزال حاضراً في عقله وذاكرته، خاصة ذكرى وفاة ورد.

أنهى طبيب العظام مهمته في فكّ الجبائر ليترك بسام يحرك أصابع قدمه و ذراعه بصعوبة طفيفة، أثناء مرور حسام في الممر ليرى مريضه السابق من خلال الباب المفتوح، انعقد حاجباه أثناء دخوله إلى الغرفة الكائن فيها بسام هاتفاً: بسام؟ ما الذي تفعله هنا؟
رفع المقصود رأسه نحو الطبيب الشاب فابتسم بخفة مجيباً: كيف حالك حضرة الطبيب؟

ارتخت ملامح حسام حين رآه يحرّك أصابع يده فأدرك الأمر فأردف براحة طفيفة أثناء إخفاء يديه في جيبي معطفه الطبي: أنا بخير، و أرى أنك بخير أيضاً.
أشار بذقنه إلى ذراعه المكشوف فاستدار بسام ناحيتها تلقائياً، و جعل يحرك أصابع راحته بخفة مضيفاً: الحمد لله، شُفيت ذراعي و قدمي تماماً.

تنهد حسام بارتياح و هو يربت فوق كتفه السليمة قائلاً بلطف: الحمد لله فعلاً، أتعلم؟ حين جلبوكَ إلى المستشفى و رأيتُ حالك قلتُ في نفسي لن تشرق عليك شمس، لكن الحمد لله استطعتَ تجاوز تلك المحنة بسلام.

انقلبت سحنة بسام عندما ذكره بما لم ينسه أصلاً، تجهمت ملامحه و هو يخفض رأسه ليتطلع أمامه مطلقاً آهاً ناقمة قائلاً بنبرة غاضبة: أي سلامٍ تتحدث عنه يا حضرة الطبيب؟ أنسيتْ ما فعله عدي الوغد؟ أم أنك نسيت أمر ورد؟
تلاقى حاجبي حسام باستغراب ما إن أنهى بسام حديثه كأنما لفت انتباهه إلى أمر لم يتذكره، حين سمع اسم عدي أدرك أنه نسي أمراً ما لكن ما هو؟

لم يجد الإجابة بعد في حين كوّر بسام كفه اليمنى ليضغط عليها بقسوة معقباً بحقد بائن: ذاك الحقير! آهٍ لو أني أمسكه أو يقع تحت يدي فقط، أقسم بربي لأسكبنّ فوقه قارورة بنزين قذر ثم أشعله ليحترق كما حرق قلوبنا على زهرة شباب ورد.

لم يسمع حسام باقي جملته حين ربط الأحداث، عدي المختفي و الحريق المفاجئ و الشاب الغريب، اتسعت عيناه بصدمة و قد تذكر الآن أين رأى ذلك الوجه و أين سمع ذلك الصوت، صور متعاقبة و أصوات متلاحقة و أخيراً وجه غريب.
يا آلهي!

نطقها حسام و هو يندفع خارجاً بكل قوته عير عابئٍ بنظرات بسام و ندائه المستغرب، أخرج هاتفه ثم خلع معطفه الطبي أثناء جريه ليلقيه أرضاً دون اكتراث، لم يأبه بالاعتذار لتلك السيدة التي ضربها بكتفه أثناء انشغاله بطلب رقم هاتف كمال الذي نسيه في السيارة، طال الرنين حتى انقطع دون إجابة، هسهس حسام بغضب من تحت أسنانه و قد استقرّ خلف مقود سيارته: لماذا لا يجيب؟

أدار السيارة لينطلق بأقصى سرعة متجهاً إلى منزل آل الحكيم، و في داخله لعن نفسه ألف مرة، كيف غفل عن هذا التشابه الواضح؟ كيف يعقل أن ينسى صوت الطاغية؟ بل و الأدهى من هذا و ذاك أنّ كمال نفسه احتواه في بيته و آواه و قدّم له الرعاية والاهتمام!؟
جزّ حسام على فكه بغيظ أثناء قيادته السيارة بأسرع ما يمكن، و لم ينسَ بالطبع أن يحادث الشرطة لتلقي القبض على مجرمٍ هارب...

الصمت التام خيّم على الحضور كأن على رؤوسهم الطير، ينتظرون بمشاعر متفاوتة ردة فعل كمال بعد القنبلة التي فجرها ذاك الواقف هناك وحده كالمنبوذ.

ظلّ عديّ محافظاً على تقاسيم وجهه الفاترة، لم يعدْ يرغب بأيّ شيءٍ في هذه الحياة سوى أن يموت ليرتاح ضميره، و يرتاح قلبه المدمى، لحظة عودة ذاكرته إليه كانت خنجراً ثلماً يحزّ خافقه ببطء مميت، و لا مناص للراحة سوى الممات، هو فقط ما قد يخمد النار في صدره، ويريحه من عذاباته.
وأيّ موقفٍ أصعب مما وُضع فيه؟
ألهذه الدرجة كان أعمى؟
ألهذا الحدّ كان أحمقاً؟

يشعر كمال الآن بآلاف المطارق و المعاول تنخر في رأسه و صدره، و عينيه تحولتا لجمرتين لاهبتين، و محياه إربدَ بغضب أشوس و حقد أسود إن هو أطلقه قد يمزق أشلاء ذاك الواقف وحده دونما رحمة، في هذه اللحظة، و في هذا الوقت، يقف قاتل ابنه الوحيد أمامه، وحيداً، منبوذاً، مستسلماً له بالكامل، فالحريّ به الآن أن يجري إليه ليغرس أظافره في عنقه حتى يُسلم الروح، لكن كمال اكتشف فجأة أنّ عدي مجرد حثالة لا يستحق حتى أن يرتاح، شهق نفساً عميقاً ليحتوي غضبه قبل أن يتحدث بصوت قاتم: أتعلم ما كنتُ أنتوي فعله بك حين تقع تحت يدي؟

ارتعد جسده ما إن بدأ كمال الحديث، إلا أنه ظلّ واقفاً ببسالة وليدة قراره، فيما تابع الآخر حديثه بحزم واضح: كان في ذهني آلاف التصورات لشكل انتقامي منك، أنت لم تكسر لي كأساً أو تقتل لي غنمةً، لقد أخذتَ ابني الوحيد و رفيق نبضي من بين يديّ.

التفتت مياس تناظر خالها بنظرات حزينة و لم يكن بقية أهل الحيّ بأقلّ حزناً، فورد كان يمتاز بمكانة خاصة لدى الجميع، أما في الأعلى فقد شعرت سعاد بنخزة قاتلة في خافقها، مشاعر كثيرة راودتها و صور متعاقبة تتسابق أمامها ببرود موجع، مسّدت على صدرها باختناق و بكل ما بقي فيها من قوة و عزم استقامت بهدوء، سارت بخطوات ثقيلة حتى خرجت من غرفة ابنتها و دموعها جارية على وجنتيها، ألم حادّ ألمّ بصدرها و كأنها تعايش وفاة ورد من جديد، أطلقتْ آهاً مسموعة و أغلقت جفنيها و هي تستند على عضادة الباب، استدارت إلى الخلف لتعاين ابنتها التي كساها الذهول و للحظة أشفق قلبها عليها مما قد يحدث لها إن هي تابعت ما يحدث في الأسفل، لكنها لم تجدْ في نفسها الجَلَد لتحدثها فخرج اسمها من بين شفتيها بهمس خافت، ظلّت هكذا لثوان حتى تماسكت ثم تابعت مسيرها المتثاقل، كأنما استثقلت ما ستسمعه تالياً فاختارت الهرب بكرامة الذكريات، و لم تنتبه تلك الواقفة هناك إلى رحيل والدتها، ما زالت كفيها تكمم فمها و عبراتها تسري فوقهما، و عيناها مثبتةٌ على الغريب الواقف بالأسفل يتلقى أقسى تقريع سمعه من والدها، و خافقها ينتفض في صدرها كالديك المذبوح الراقص فوق أوجاعه، بانتظار ما سيكون...

وقوف كمال هكذا بين أهل حيّه و أقاربه كأنهم يدعمونه جعله يشعر بالدونيّة المفرطة، و ليعود إليه ذات الإحساس الذي شعر به في الميتم، إحساس كريه حاول إلغاؤه كثيراً لكنه كان يفشل دوماً، شعور الضعف و الهوان...

كل ما سمعه و مازال يعلق عينيه الخائبة على وجه كمال يرجاه أن يخلصه، فيما تابع الأخير بعينين حمراوين و صوت ناقم كأنما يزيد من ناره و يخبره بحجمه الحقيقي: لكن الآن، و أنت تقف أمامي هكذا كالمذلول اكتشفتُ أمراً، أن أقتلك بدم ورد فكأني أساويكَ به، بينما في الحقيقة ظفر ورد لا يساويه ألف واحد مثلك، و روحه أطهر من أن ترتاح بقتل حثالة كحالك أنت.

عادت الهمهمات الجانبية بالارتفاع و هم يحللون كلام كمال، و لم يكن أويس و لا مياس بأقلّ دهشةً من الحاضرين، أما عديّ فقد رفرف قلبه بين أضلعه رهبةً من قرار كمال والذي بانت ملامحه الأولى في حديثه قبل أن ينطق به، في هذه اللحظة سُمِعَ صوت حسام من الخلف و هو يخترق الحشد المجتمع صائحاً: سيد كمال؟

لم يتحرك قيد أنملة و لم يلتفت حتى إلى مناديه الذي وقف بجانبه، دُهش حين رأى عديّ يقف أمامهم كتلميذ يتلقى توبيخاً من معلمه و ملامح وجهه كانت مجبولة بالأسى، و بنظرة خاطفة لوجوه الحاضرين و محيا كمال أدرك معرفتهم للحقيقة و إن لم يأبه بطريقة اكتشافها، صوّب ناحية عديّ نظرات مغلولة ثم سمع بقية حديث كمال الصارم: أنت ستلاقي ابني ورد يوم الحساب، سيكون هو خصيمك و هناك سيأخذ حقه بيده، أما أنا فلن ألوّث يديّ بدمك القذر لأن في الموت راحة لك، و أنا لا أريدك أن ترتاح، إعطائي الأمان لك لا يعني أني عفوتُ عنك، بل سأشكوك إلى الله هو من يأخذ حقنا منك.

أصابت الدهشة جميع الواقفين الذي التفتوا يطالعونه بمفاجأة ما إن سمعوا بقراره، و لم تكن مياس بأقلّ منهم دهشة فهتفت باستغراب: خالي؟

لم يلتفتْ كمال و لم يسمعها، و في اللحظة التالية تناهى إلى سمعهم بوق سيارة الشرطة، و في لمح البصر توقفت ثلاث سيارات تابعة للشرطة ثم ترجل منها بضعة عساكر ليهتفوا بالبشر المجتمعين فيبتعدوا عن الطريق، تجاوزوهم ليلقوا القبض على عديّ الذي استسلم لهم و لم يقاوم البتة، كبل أحدهم كلتا ذراعيه خلف ظهره ثم دفعوه بإهانة ليتحرك معهم، وقف فجأة قرب كمال إلا أن الأخير لم يحرك عيناه ناحيته نهائياً، كأنما يستكثر عليه النظرة الأخيرة، تجهم وجه عديّ بحزن شديد و نكّس رأسه بذلّ لم يشهد مثله من قبل، ثم دفعه العساكر خلفه ليتابعوا مسيرهم به نحو السيارات ليرحلوا أخيراً برفقته...

كل هذا تمّ تحت أنظار أروى التي تبعته حتى غاب عن نطاق عينيها، ارتعش جسدها بقسوة و هي تسقط على سريرها، لم تنتبه حتى إلى أمها متى غادرت؟ لم تعبأ أروى بشيء أبداً، فالصدمة التي استحوذت عليها جعلتها على حافة الانهيار، طافت داخل مُخيلتها كل لحظاتهما معاً، كل كلمة، كل همسة، كل اعتراف أرسله لها مع الفراشات و عبق الورود، شهقت برعب و قد اقتحمت رائحة مميزة أنفها، إنه الكتاب الذي أهدته له ذات مرة، حملته بين كفين مرتعشين بتأثر، طالعته بعينين غائمتين بخيانة، ارتجفت شفتاها وقد تفطنت الآن ما قصد حين أرجعه لها قبيل رحيله، سمعت قرعاً ما ثم بابها يُفتح و مياس تظهر من خلفه هاتفة: أروى؟ هل أستطيع الدخول؟

لم تنتبه لها و لم تمنحها حتى نظرة، فتحت الكتاب لتطالعها رسالته التي خطّها بقلمه على أول صفحة، بأنفاسٍ تكاد تنقطع شرعت تقرأ كلماته الأخيرة: إلى الصافية أروى:
أنا رجلٌ خسيس بنكهة الخيانة و الخداع، عقرب أسود أقتل كل من يقترب مني، و لا ذنب لكِ بكل ما اقترفه قلبي من ذنوب العشق، سأحتضنه في كل ليلة ينزف جرحه صديد الحزن، لن أؤنبه على الاشتياق إليكِ و لن أمنع نبضاته أن تهفو على جناح الحنين لتهرب مني إليكِ.

أما أنتِ، فأنتِ حزمةٌ من الضوء، غزالةٌ برية شاردة تأسر كلّ من يراها، ولو كان الأمر بيدي لاختطفتك وسجنتكِ في منارة الفؤاد حيث لا خلاص، لكن لم يعد لي حقٌ بك بعد هذا اليوم، أتمنى لكِ حلاوة النسيان و لي حياةً أخرى، تأكدي أنكِ أجمل من كل النساء، امنحي لنفسك فرصة للحياة، حياة خالية مني، و تذكري دوماً أنّ الحياة لا تقف على رحيل أحد، أخر طلب سأطلبه و لا أعرف إن كان لي الحق بهذا، أرجوكِ فقط كوني بخير...

تلاحقت أنفاسها بغلٍّ تستشعره لأول مرة في حياتها ما إن أنهت قراءة تلك الكلمات، الجبان الأخرق! أخشي عليها من صدمة موته فأخبرها أنه راحلٌ ببساطة؟ أم أنه كان ينتوي الهرب فعلاً؟

من كتب تلك الكلمات كان غريب، أما من كان واقفاً في الأسفل قبل قليل فهو قاتل شقيقها الوحيد، ما إن فهمت الفرق بينهما حتى استطاعت تقبل التناقض الذي فعله، لم تنتبه في غمرة تفكيرها على مياس التي تقدمت لتجلس بجانبها فوق الفراش، و قد قرأت ما كتبه فسمعت تنهيدةً ثقيلة منها و مشاعر أروى في هذه اللحظة تعرفها جيداً، رأت دموعها الجارية فمسحت على رأسها بحنوّ قائلة بتشجيع: ما من رجل في الدنيا يستحق دمعة واحدة من عينيك أروى، ستتجاوزين هذا الألم، فأنت نقية، بريئة، و حنونة أيضا.

حاصرت شفتها العليا بين أسنانها كأنها تخنق غصة مشبعة بالخذلان داخلها، مرّت ثوان حتى انفجرت لتقاطعها بقهقهةٍ خالية من المرح، ضحكتها كمن يموت ببطء لتردف بسخط حزين وقد تضاعفت أمطار عينيها: نعم صحيح، و أكثر ما أحبه في نفسي هو غبائي المثير للشفقة...

ارتعشت شفتيها بقهر فتضاعف الغضب داخلها حتى لم تعد تسيطر عليه، بحركات مجنونة راحت تمزق صفحات الكتاب بين يديها، و حين لم يشفِ هذا غلّها ألقت به فوق الأرض بقسوة فتمزقت ما بقي من صفحاته، احترقت خلاياها بمزيج من المشاعر القاسية، نار لاسعة اشتعلت في حنايا جسدها دون امتلاك القدرة على إخمادها، لم تستطع سوى أن تلقي بنفسها و تمسك بوسادتها فتصرخ بداخلها بصوتٍ جمع الخيبة والخذلان، شهقت بعنف وهي تعيد الصراخ المتألم وفي داخلها أمنية أن تفقد روحها التي أنهكتها الجراح، أيعقل أن تكون غبيةً إلى هذا الحدّ اللا متناهي؟

خافت عليها مياس في البداية، لكنها بطريقة ما أدركت أنّ أروى تحتاج الآن لتفرغ الغضب والقهر داخلها، لذا تركتها تصرخ و تبكي لتخفف عن قلبها الرهيف، تسترجع في ذهنها حديث عديّ و خالها كمال ثم حال هذه البريئة، بحق الله ما ذنبها في كل ما حدث؟ أيجب أن تقسو عليها الحياة إلى هذه الدرجة؟ أيجب أن تكون صدمة الحب الأول في حياتها ببهذه البشاعة و القسوة؟

أعانكِ الله يا أروى، و كان الله في عوننا جميعا على القادم من الأيام...

لم يعدْ بكرها الحبيب إلى المنزل يوم أمس، لم يخبرها بغيابه و لم يجبْ على اتصالها الوحيد لذا لم تحاول من جديد، بدأت ميادة بطريقة ما تعوّد نفسها على غياب الجميع من حولها، يبدو أنّ الوحدة قدرها و عليها أن تعتادها رفيقةً لها، منذ الليلة الأخيرة حين عايرها لم تلتقي زوجها أبداً، بدى كما لو أنه يعاقبها فلا يظهر أمامها حتى من قبيل الصدفة، لم يدرك عثمان بعد أنّ ميادة القديمة ماتت و دفنتها دون أن تقيم لها مأتماً حتى.

بعد ليلة عاصفة بالأفكار والخواطر القاتلة، عاد مازن إلى منزل عائلته و ليس في نيته مواجهة والديه، ربما لم يئن الأوان بعد، بإخفائهم حقيقته أشعلوا فتيل غضبه لكن من العدل أن يستغلّهم مثلما استغلوه و ضحكوا عليه لسنين طوال، سيؤلمهم كما آلموه لكن ليس اليوم، طوال الليلة الماضية كان يفكر في كيفية التعامل معهما فلم يجد سوى البرود و ادّعاء الانشغال، كاد يجنّ حرفياً لكنه بطريقة ما وجد أنهما قد ينفعانه فيما انتواه، هو لم يخاطب صاحبة الشأن بعد، لذا ارتأى أن يبلغ ميادة لربما تساعده فتردّ بعضاً من دَينها، المسكين! أعتقد أن ما يصبو إليه هو أمر عادي في شريعة حي الورد...

فتح مازن باب منزل عائلته ليدلف بخطوات ثقيلة، ما إن بات في الصالة حتى صادف هبوط ميادة من الدرج، فجأة لم يعد يرى تلك المرأة كأمه، فجأة باتت غريبة لا يعرفها، و للحق هو لا يريد أن يعرفها حتى..

اغتصبت ميادة ابتسامةً لم تصل إلى عينيها و هي تهبط الدرجات تحمل في يدها سلة غسيل فارغة، تقدمت نحوه حين وقف مازن وسط الصالة يطالعها بنظرات غريبة، خاطبته بنبرة متكلفة و قد باتت أمامه مباشرة: أهلاً بك مازن، شغلتَ بالي بغيابك يوم أمس.

لم يكن صوتها معاتباً كالعادة حين يتأخر خارجاً دون إبلاغها، و لم يكن يقطر حناناً و عطفاً، هزّ رأسه دون جواب و لم تلحظ هي حتى الآن الأسى الذي أطلّ من عينيه، تابعت حديثها و هي تربت على كتفه قائلة بعطف لم تنقصه النوائب التي توالت على قلبها العجوز: اصعد و بدّل ملابسك لأحضر لك الطعام بنيّ.

بنيّ؟ آهٍ لو تعلم ميادة ما فعلت به تلك الكلمة الصغيرة ذات الحروف القليلة، كوتدٍ حديديّ اخترقت أذنه، همّت بالتحرك ليقبض مازن على كفها قائلاً بهدوء غريب: أريد التحدث معك في أمر هام لو سمحتِ؟

استغربت البرود الذي يعاملها به هذا اليوم إلا أنها لم تعقب، ضمّت شفتيها و هي تومئ برأسها موافقة ثم سارت قبله إلى أحد المقاعد في أطراف الصالة الكبيرة، تبعها هو بعد لحظة يسير ناحيتها بثقل حتى جلس على مقعد بجوارها، أخذ بعض الوقت ليرتب عباراته و للحظة كاد يتراجع ربما التوقيت ليس مناسباً، لكنه وجد في نفسه الشجاعة ليتابع قدماً، شبك كفيه في حجره ثم همس قائلاً ببسمة زائفة و نبرة جاهد قدر الإمكان أن تكون طبيعية: أنا، نويت أن أتزوج..

مجرد نطقه لهذه الكلمة أنست ميادة كل الأسى والاكتئاب الذي تعايشه حالياً، تهللت ملامحها بسعادة حقيقية و ابتسامة عريضة احتلت ثغرها لتهتف بفرحة: أخيراً! أخيراً يا مازن ستريح قلبي.

باغتته بعناق مفاجئ عبث بحساباته فنثرها، ضمّته ميادة بغريزة لم تعرف الكذب يوماً و من فرط فرحتها لم تستريب بردة فعله حين لم يعانقها، ابتعدت عنه بعد لحظة ليرى دموع غبطة تلتمع في مقلتيها فغرزت في فؤاده الجريح سهماً آخر، لماذا يجب أن تكون صادقةً في تمثيلها إلى هذه الدرجة؟
تمالكت ميادة فرحتها لتردف بحماس: مبارك يا حبيبي مبارك، أخبرني من هي العروس؟ هل أعرفها؟ فقط قل لي اسمها و سأذهب لأخطبها لك اليوم.

حاول مازن التعامل مع كل المشاعر الزائفة من وجهة نظره التي تبثه إياها ميادة، أخفض رأسه لثانية ثم عاد يرفعه ليجيبها بنبرة متأثرة: أظنّ أنكِ تعرفينها جيداً، إنها الطبيبة هويدا الشامي..
تبخرت سعادة ميادة في لحظة سماعها للاسم الذي تلفظ به مازن، جحظت عيناها و ظلت ساهمةً لثوان في محياه ذي التعابير العادية، همست تسأله بتحقيق كأنما تتأكد من الإسم الذي سمعت: قلت من؟

التمس تغيّرها الواضح فاستغرب الأمر، لكنه عاد ليؤكد عليها الاسم ذاته: هويدا الشامي، الطبيبة النسائية التي...
و لم تجدْ سوى تلك الأرملة يا مازن؟
صرخت لتقاطعه باستهجان و هي تجفل واقفةً، حملق فيها بذهول و لم يتخيل قط أن تكون هذه ردة فعلها، وقف قبالتها بهدوء ليسألها بملامح مدهوشة: و ما يضير أنها أرملة؟
هتفت تجيبه بصياح مستنكر: و تسألني ما الضير؟ ألا تجد أي ضرر في أنها أرملة و لديها ولدٌ أيضاً؟

لوى فمه بغير رضا و رفع كتفيه بلا مبالاة قائلاً بصدق: لا، لا أجد أي ضرر، بل أراها أكثر خبرة من الفتيات العاديات و تفهمني بشكل جيد.

حدقت فيه بجنون كأنّه قد فقد عقله، يبدو مازن مصرّاً على تلك الفتاة لكنها لن ترضى بها كنة لو حدث ما حدث، زمجرت توبخه بغلظة: أتريد أن تسوقني للجنون يا مازن؟ ها أخبرني؟ مرة تريد أن تخطب من أشدّ العائلات عداءً لنا و مرة تريد أن تتزوج بأرملة؟ لماذا؟ أخبرني ما ينقصكَ لتكون اختياراتك بهذا الشكل المخز؟

ذكرها المتواري لعائلة الحكيم جعل غضبه يغلي داخله، مع ذلك حاول الحفاظ على تعابيره الباردة و هو يضع كلتا كفيه في جيبي سرواله ثم يخبرها بكل برود: هذا قراري و هويدا خياري، مهما كان رأيكِ فهي ستصبح زوجتي قريباً.
تحرك عقبها ليتركها مذهولةً من عقوقه لها، لاحقته عينيها المصدومة و هي تراه يريد الصعود إلى غرفته لتوبخه بدهشة غاضبة: ما الذي تقصده بأنها ستصبح زوجتك مهما كان رأيي؟ أنا أمك يا مازن أم أنك نسيت؟

حقاً بلغ صبره حدّه، ما بال هذه السيدة تتقن تمثيلها حتى تخدع الواقف أمامها بالفعل؟
التفت مازن إليها و صاح بلا وعي: صدقاً كيف تقومين بهذا أخبريني؟كيف تكذبين الكذبة و تصدقينها؟

للحظة توقف عندها الزمن، جحظت عيناها بقوة حتى تكاد تخرج من مكانها، و شحبت بشرتها دفعةً واحدة، هكذا أيقن مازن أنه قال ما كان يجب إخفاؤه لبعض الوقت على الأقل، و حين أدرك زلّته كان الأوان قد فات، همست ميادة تسأله بصدمة مذهولة و ريق ناشف: ما الذي تقصده يا مازن؟
فتح فمه يريد النطق لكنه جَبُنَ أمام العبرات التي التمعت في مقلتيها، ضغط على شفتيه بقسوة ثم قال بحيادية: مقصدي تعرفينه تماماً يا، يا أمي.

ألقى كلمته الأخيرة محملةً بوجع الخذلان والخيبة، لم يبقَ لثانية واحدة فاستدار يلطم درجات السلم الرخامي بقدميه الغاضبة، لتتابعه ميادة بقلب يكاد ينخلع من مكانه و صدرٍ تتزاحم الأنفاس فيه حتى تكاد تختنق حرفياً إلى أن غاب عن نطاق نظرها، تحسست بيدها على صدرها المشتعل بالشك تريد إخماد ناره لكنها فشلت، أعادت حديث مازن منذ دخوله في عقلها لتتنبه لتوّها أنه لم يتلفظ بكلمة أمي لمرة واحدة سوى الأخيرة، نفضت رأسها إلى الجانبين و كالحمقاء تكذب ما سمعت و استنتجت لتتبعه، يجب أن تقف على الحقيقة، أتراه بدأ يشكّ بحقيقة نسبه؟

لم يتوقع أن تكون هذه هي ردة فعلها صدقاً، دار مازن في غرفته ثائراً و رأسه يكاد ينفجر، التناقض الذي يراه منها جعله يشكك بقدراته الطبية و ذكائه المهنيّ، كيف لها أن تدّعي الحب له و تتقن تمثيلها إلى هذا الحدّ الموجع من الصدق؟

سمع طرقاً على بابه فتوقف يناظر اللوح بذهول لثانية، ما لبث أن تنهد بقوة وهو يلقي بثقل جسده فوق الفراش ليسمح لها بالدخول، انشقّ الباب بهدوء لتطلّ ميادة من خلفه فترى مازن يوليها ظهره، تحلّت بالشجاعة لتسير ناحيته تقدّم قدماً و تؤخر أخرى، باتت خلفه فلم تتمكن من التقدّم أكثر من هذا، حاولت الحديث فخرج صوتها متذبذباً و أصابع كفيها تتشابك بتوتر قائلة: أنا آسفة مازن، لم أقصد جرحك بنيّ...

زفر بصوت مسموع و هو يحني رأسه إلى الأسفل مغمضاً عينيه بهدوء، ابتلعت ميادة خوفها البائن لتوضح له سبب غضبها: أنا أم كجميع الأمهات يا مازن، أحبّ لأولادي أفضل الأمور و أكملها، و أنت شاب كامل من جميع النواحي و أجمل البنات تتمنى نظرة واحدة منك، فلماذا لا تختار غير تلك الأرملة...
إزدراؤها الواضح لوضع هويدا دفعه لرفع رأسه و مقاطعتها بصوت جاف: يكفي أرجوكِ، لا أريد التحدث الآن.

لم تفقه بعد أنّ غضب مازن وصل إلى ذروته، ربما لأنها لم تألفه غاضباً من قبل فسيطر عليها عنادها لتزمجر باعتداد: لا يا مازن، يجب أن نتكلم الآن حول هذا الموضوع، يجب أن تعدني أن تترك تلك الفتاة و شأنها، أنت ابني و لن أرضى لك إلا أحلى الفتيات و أجملهنّ...

لم يعد مازن يتمالك نفسه ليهبّ واقفاً في لحظة مستديراً ناحيتها، مخرجاً كل ما اعتراه من مشاعر حانقة ليصرخ دون حساب و يجفلها: يكفي كذباً، أتوسل إليك يكفي..
خمد لهيبه ولم يُطفئ الجمر فتابع بهمس مخذول و قد التمعت دموع الرجاء في مقلتيه: لقد اكتفيت، أقسم لك أنني اكتفيت من تلك التمثيلية الركيكة، لم أعد أتقبل الكذبة التي تجرعتها لسنين طوال، لم أعد أحتمل أكثر...

انقطعت أنفاسها حرفياً و هي تسمع من مازن ما لا يقبل الشك، لقد اكتشف الحقيقة إذاً، انخلع فؤادها حين رأت عبراته تتهاوى فوق خديه ثم يمسحها بعنف، همست باسمه تريد الاقتراب إلا أنه أوقفها بإشارةٍ من يده و هو منكّسٌ رأسه بحزن، لم تعد قدميها تحتمل ثقل جسدها المترهل فألقت نفسها فوق سريره لتوليه ظهرها، شبكت كفيها المرتعشة ببعضها هامسةً بدهشة: عرفت الحقيقة إذاً؟

ابتسم ساخراً ليجيبها بهمس متهكم: كان بودّي لو أنكِ أكملتِ تمثيليتك لوقت أطول و لكن..
قاطعته بحزم تتطلع إليه من فوق كتفها: لم يكن حبي لك تمثيلاً أبداً يا مازن.
جزّ على فكه بعنف و قد وقع بين نارين، نبرتها الصادقة و الحقيقة الصادمة التي اكتشفها، تطلعت إلى الأمام متنهدةً بقوة لتحدثه: لا تنسى أنني من رباكَ و أرضعتك حليبي، أي أنكَ ابني شئتَ أم أبيت.

أمام صراحتها و صدقها لم يجد مازن ما يعقب به فعاد جالساً فوق فراشه هو الآخر ليتقابل ظهريهما، أحنى رأسه مغمضاً جفنيه بهدوء ليحرك رأسه إلى الجانبين بيأس قائلاً بنبرة متعبة: لا أعرف ما أقول، صدقاً لا أعرف ما يجب أن أفعله في هذه الحال..
التفتت نصف التفاتة نحوه تتوسله بلهفة: قلْ ما تشاء يا مازن، فقط كن متيقناً أنني أحببتك بقدر إخوتك و ربما أكثر، بغضّ النظر عمّا تفكر فيه لا تنسى هذا أرجوك...

رجاؤها هذا كان بمثابة القشة التي قصمت قلبه حرفياً، بحق الله كيف سيؤلم هذه السيدة، تأوه مازن بصوت مكتوم و هو يمسح على وجهه بقوة، مهما كان و ما سيكون هي أمه، يعترف مازن أنه لن يستطيع أن يكرهها يوماً، و ما أصعب هذا الشعور...

بعد إلقاء القبض على عديّ و تفرق الحاضرين دخل كمال إلى منزله، كذلك فعلت مياس دون الالتفات إليه فآثر أويس العودة إلى منزل عائلته القريب ليرتاح فيه، كاد يطرق الباب قبل أن يسمع صوت عثمان من خلفه هاتفاً بسخرية: أهلاً بحضرة النقيب، ما الذي حدث لتفاجئنا بطلتك البهيّة؟
التفت أويس ناحية والده الذي أطلّ من العدم من خلفه، زفر محاولاً الابتسام بصعوبة ليجيب باحترام: أبي؟ كيف حالك؟

وقف أمامه مباشرة ليرمقه بنظرة شاملة لم تخلو من الغضب الذي لا يعرف أويس له سبباً، تلاقى حاجبيه بعدم فهم حين تجاوزه عثمان ليخرج مفتاح المنزل من جيب جلبابه بحركةٍ عصبية، دلف إلى المنزل يدبّ الأرض بقوة أثارت استغراب أويس و للحظة كاد يغادر، لكنه زفر بقوة ثم دلف خلف أبيه ليجيبه ببرود مقتضب: كنتُ مشغولاً بقضايا مهمة يا أبي..

لم يبدُ أنّ عثمان سمعه حين وقف وسط الصالة الكبيرة يتفحص بعينيه المنزل الفارغ فلم يرها، أردف بفظاظة يوبخ ابنه: جيدٌ أنك تذكرتَ والدك يا سيد أويس..
التفت صوب ابنه و في مقلتيه التمع غضبٌ أشوس لكنه سأل ابنه بكل برود: ما لك و مال بنت آل الحكيم يا أويس؟
للوهلة الأولى لم يفهم سؤاله إلا حين تابع عثمان بحقد بان على تقاسيمه: رأيتكُ تجاورها في سيارتها، بل و ذهبتَ معها إلى منزل آل الحكيم، صحيح؟

الآن و قد تفطن و فهم، يبدو أنّ عثمان قد رآه و هو في طريقه مع مياس إلى منزل عائلتها، حاول تبرير موقفه إلا أن غضب أبيه كان الأسبق حين صرخ بغلّ: ما دخلك أنت بتلك العائلة أفهمني؟ ما شأنك بهم؟ ألا تعرف ما بيننا وبينهم؟
سمع كلاً من مازن و ميادة صوت صراخه يملأ المكان فخرجت هي أولاً، أطلّت من فوق السياج الحديدي لترى عثمان يوبخ ابنه الغائب منذ مدة ليست بهيّنة، همست بصوت خافت و قد تلاقى حاجبيها بدهشة: أويس؟

سمعته يجيب والده بغيظ حاول مداراته لكنه فشل: ذهبتُ معها لنمسك بالضابط الذي ضرب رامي يا أبي، فأنا و مياس نعمل في فريق واحد يا أبي...

تسارعت أنفاس عثمان و هو يسمع إجابة ابنه الحانقة لتزيد من سعيره، كان الآن كالمرجل الذي يغلي، كأنه يريد أحداً ليفرغ فيه غضبه من ميادة التي تجاهلته بحرفية طوال الفترة الماضية كأنه سراب، و يبحث عن أبسط الأعذار ليتخذها حجةً ليخرج سعيره، و كمن أدركت ما سيحدث مسبقاً ترجلت ميادة لتهبط الدرج بسرعة فتحول دون وقوع المصيبة و تبعها مازن بعد لحظة.

رغم أنّ أويس لم يقل ما يجعله غاضباً بهذا الشكل الغريب لكن عثمان تحرك رافعاً يده للأعلى يريد البطش به هاتفاً بغيظ: و تردّ في وجهي أيضاً...
كادت يده تهبط فوق وجنة أويس الواجم بذهول لولا ذراع ميادة التي تشبثت بذراعه و حالت بينهما صارخةً بحزم: إياك يا عثمان.
توسعت عيناه عن آخرهما و هو يراها تقف أمامه هكذا باعتداد بل وتمنعه من ضرب أويس، قطب جبينه بدهشة صارخاً بها: أجننتِ يا ميادة؟

رفعت ذقنها بترفع بائن لتجيبه: لن أسمح لك بأن تضرب أويس.
لم يعتدْ على هذا العناد منها يوماً، بل و تقف لتواجهه هكذا، دفعها من كتفها يريد الوصول إلى أويس الذي ابتعد و ما زال الذهول مسيطر عليه، صرخ عثمان: ابتعدي عن وجهي يا ميادة...
دفعته بعيداً صائحةً: قلت لن أسمح لك بأن تضربه...

في لحظة غياب عن الإدراك لم يعرف عثمان كيف رفع يده لتسقط فوق وجنة زوجته تحت أنظار مازن و أويس، في لطمةٍ كسرت ما بقي له من حب و حنين في قلبها، تراجع عثمان للخلف و صدره يعلو ويهبط بدهشة من نفسه، لم يتوقع أن يفعلها ذات مرة بالفعل، رمشت أجفانه بعدم ثبات يطالع عينيها الحمراوان و التي احتقن الدم فيهما قبل الدمع، وضعت كفها مكان صفعته و لا تصدق بعد أنه ضربها، سيطر الصمت المشحون بين الثلاثة ينتظرون ردها، و مآقيها تحرقها تريد تحرير دمعها لكنها تأبى الانهزام، جزّت على أسنانها بقسوة ثم قالت و هي تحرك رأسها بخيبة: قطعتَ آخر حبلٍ لك بفعلتك هذه يا عثمان.

حاول إبقاء تقاسيمه الغاضبة كما هي و هو يهتف بنبرة ارتعشت رغم محاولته الثبات: أنتِ من دفعني لفعلها يا ميادة...
أردفت لتقاطعه بصوت خاوٍ: يكفي يا عثمان، يكفي إلى هذا الحد، يكفيني بؤساً وامتهاناً وقلة كرامة، أنت بحياتك لم تعاملني كحبيبة، ولا حتى كزوجة، كنت أم الأولاد وخادمة هذا المنزل فقط، لم تحبني و لم تحسن معاملتي يوماً، و بفعلتك هذه قطعت آخر أمل لنا في البقاء سوياً.

ارتجف داخل عثمان بعنف لم يشهد له مثيلاً من قبل، ابتلع ريقه الذي جفّ بصعوبة ليعقب بصوت حاول جعله غاضباً علّها ترتدع: ما الذي تقصدينه أنتِ؟
بذقنٍ مرفوعة و ملامح ثابتة، و مقلٍ امتلأت بالدمع يأبى الانهيار، و حزمٍ تُحسد عليه قالت ميادة ما جعل الجميع في حال مذهولة: أقصدُ أننا وصلنا إلى طريق مسدود، طلقني يا عثمان...

جحظت عيناه بصدمة لم تقلْ عن صدمة ذينك الواقفين كلاً في زاوية مختلفة، لم تطلْ الوقوف بل تحركت لتصعد إلى غرفتها بخطوات تهتزّ لها الأرض لثباتها، تابعها ثلاثتهم و قد أدركوا لتوهم أنهم أمام نسخة معدلة من ميادة القديمة، نسخة أذهلتهم و تركتهم في حالٍ من التعجب و الدهشة، خاصة ذلك الذي كان يظن أنها ستظلّ طوع بنانه مهما فعل و تمادى، لكنها هذه المرة خيّبت ظنه تماماً...

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة