قصص و روايات - قصص بوليسية :

رواية حي الورد للكاتب علي اليوسفي الفصل الرابع والأربعون

رواية حي الورد للكاتب علي اليوسفي الفصل الرابع والأربعون

رواية حي الورد للكاتب علي اليوسفي الفصل الرابع والأربعون

((( حبه ابتدأ بشعلة صغيرة كالشمعة، و انتهى بحريق أتى على قلبي فلم يبقِ و لم يذر، لم يمنحني سوى عشقاً أبتر، لوحة صماء لا ينبض فيها قلب ))).

كثرة الضغط يولد الانفجار، مبدأ بسيط تعلمناه في دروس الفيزياء، لكن على ما يبدو فعثمان لم يسمع به قبلاً، و لم يدرك عواقب معاملته الفظة لزوجته إلا بعد فوات الأوان...

لم يزلْ صدى كلماتها يتردّد في أذنه حتى بعد إختفائها عن نطاق نظره، بمقلٍ مفتوحة عن آخرها طالع عثمان خيالها المغادر، و لا يصدق بعد أنها ميادة ذاتها، تقهقر غضبه حتى استحال دهشةً و مفاجأة، فيما تبعها مازن يريد التحقق مما سمعه منها، و بعد لحظة تبعه أويس ليبقى عثمان وحده و قد آلمته فعلة ولديه، كم أحسّ بالوحدة و هو يراهما يتبعانها دون توجيه كلمة واحدة له، لأول مرة في حياته كلها يشعر عثمان بالامتهان و الوحدة، و ما أقساهما من شعور!..

بحركات منتظمة تخفي خلفها النار المشتعلة داخلها، راحت ميادة تخرج ثيابها من خزانتها لترتبها في حقيبة جلدية متوسطة أسندتها فوق مقعدٍ عريض وسط حجرة الملابس، كانت تتحرك برتابة أثارت ريبة مازن الذي دلف من الباب المفتوح دون طرقه، فقنبلة أمه العاصفة أفقدته ما تبقى من تعقله، طالع حركاتها الروتينية كأنها كانت تعدّ نفسها لفعل هذا منذ زمن، أطلّ أويس من خلفه ليرى ما تفعل والدته فتقدم حيالها هاتفاً بعدم تصديق: ما الذي تفعلينه أمي؟

دون أن ترفع نظرها نحوه أجابته بهدوء مفتعل: أحزم ثيابي.
بات يقف جوار مازن الآن حين هدر بجنون: ما معنى هذا؟ تريدين ترك المنزل حقاً؟
استقامت لتقابله بوجهٍ غائم بغضب عارم هاتفةً بأنفاس متلاحقة و هي ترفع يديها على خصرها: نعم سأترك المنزل، هل لديكَ اعتراض أنت أيضاً؟
لم يصدق بعد هذه السيدة الغريبة فحرك رأسه إلى الجانبين بخيبة قائلاً بنبرة ذات معنى: لا أصدق! أهذه أنتِ حقاً أمي؟ لأني لا أستطيع التعرف عليك..

ارتجع غضبها الذي أعماها أمام الخذلان الذي تراه في عينيّ ابنها، إلا أن خيبتها كانت أقسى و أمرّ، أذنت لعبراتها بالتحرر و هي تخبره بصوت ساخر: و هل لي أن أعرف بما يهمّك الأمر يا أويس؟ ما الذي سيتغير عليك إن أنا تركتُ المنزل؟

أصابه عتابها المتواري في مقتل فتراجع بغضبه عنها، فيما تابعت ميادة بتوبيخ لاذع مصحوباً بنشيج: منذ متى و أنت تهتمّ لما يحدث في هذا المنزل أساساً؟ حتى قدومك هنا هذا اليوم كان محض صدفة صحيح؟
أمسك مازن بذراع أويس فيما يستمعان لحديث ميادة إذ تابعت: أنت لا تعرف شيئاً مما يحدث في هذا البيت يا أويس، فلا تأتي الآن لتلُمني حين اتخذ لأول مرة في حياتي قراراً لنفسي، قرار يحفظ كرامتي.

أمام حديثها هذا و تحت نظراتها الحارقة لم يجدْ أويس إلا التراجع بخزيّ مهرباً، لتمسح ميادة دموعها التي أوجعتها ثم تعود إلى عملها. في ظل ما يتخبّط به اختلطت كل حسابات مازن، الشيء الوحيد الذي لم يتأثر هو مكانة هذه السيدة في قلبه، ما تزال أمه و ما تزال روحه تهفو شوقاً لأحضانها كطفل صغير انكسرت لعبته المفضلة فلا يجد المواساة إلا بين ذراعيها، لم يتفوّه بحرف حتى انتهت ميادة مما تفعل و أغلقت حقيبتها، حاولت إنزالها عن المقعد العريض لكنها واجهت صعوبة لثقلها فهرع لينزل الحقيبة هاتفاً بهمس: هاتها عنكِ أمي..

لم يعِ أنه ناداها بهذا الاسم حتى استقام قبالتها، لثوانٍ ظلّت منكسةً رأسها بضعف أوجعه حتى مدّ إبهامه ليرفع وجهها فيقابل عينيها المنكسرتين، همست ميادة بضعف و نقلتيها تلتمع بالدموع: آسفة مازن، سامحني يا بنيّ أرجوك...

خنقها شعورها بالذنب و الهوان أمام مازن الذي جذبها إلى أحضانه يضمّها بعاطفة لن يستطيع نكرانها يوماً، تشبثت به كغريقٍ وجد قشةً يتعلق بها فتنقذه من الغرق، هكذا كان دعم مازن لها، منقذها من الغرق في موجة انهيار بسبب قراراها الذي اتخذته قبل قليل، تدرك ميادة أنها أخذت خطوةً صعبة و ربما لن تجد داعماً لها، قد يتخلى عنها الجميع ليتركوها تواجه المجتمع المعاق، و تواجه ألسنة الناس التي لن ترحمها و ربما لن ترحم ابنتيها خاصة و أن إحداهما على وشك الزواج، و قد يصبح طلاقها نقطة سوداء تؤثر بمستقبليهما، لكنها تحلّت بالشجاعة الكافية لتواجه ردة فعلهم مهما كانت، فهؤلاء الناس لن يعرفوا ما عانته و هي تنام ليلاً بجوار رجل تعرف أن خافقه يسكنه امرأة سواها، لن يعرفوا كم احتملت من مهانات عثمان و سخطه الدائم، صبرت و صبرت حتى يئس الصبر منها و نبذها، إلى أن بات قلبها صحراء خاوية لا يصلح لشيء سوى الموت...

تابع أويس ما يحدث بين أمه وشقيقه الأكبر بريبة دون غيرة، لماذا اعتذرت من مازن الذي لم يتفوّه بكلمة في حين وبخته هو حين استهجن قرارها؟
في الأمر إنَّ.
حدّث بها أويس نفسه همساً مراقباً تقاربهما حتى ابتعد مازن عنها راسماً على محياه ابتسامة عذبة، شملها بنظرة تقييمية ليسألها بجدية: ستخرجين هكذا؟

انتبهت ميادة لتوّها إلى ما ترتديه من ثوب منزلي قصير بالكاد يغطي نصف ذراعيها و إلى شعرها المحزوم بعبث، تبسمت ساخرةً على نفسها بتعقب بتهكم: معك حق، هذا ليس منظر سيدة تخرج غاضبة من منزلها.
ربت على كتفها قائلاً برفق: أبدلي ملابسكِ براحتكِ أمي، سننتظرك خارجاً.
انحنى ليحمل الحقيبة ثم تحرك إلى الخارج ليتبعه أويس فوراً، أغلق الأخير الباب ليواجه الثاني بسؤال حازم: ما الذي حدث قبل قليل مازن؟

قابله بنظراتٍ خاوية ثم ابتسم بكسل بعد هنيهة مجيبا بتنهيدة طويلة: حدث الكثير يا أويس، حدث الكثير يا أخي.

كان يعنيها بكل ما أوتي من قوة و مشاعر صادقة، فيما الآخر لم يفهم ما قاله و قبل أن ينطق من جديد فُتِح الباب لتخرج ميادة، مرتديةً عباءةً سوداء مع شال ملائم، تراجع أويس خطوتين ليطالعها بتردد قابلته ميادة بثبات ثم ابتسامة صغيرة و هي تجذبه إلى أحضانها، أبعدته بعد زمنٍ قليل قائلة بهدوء: زرني عند خالك عبدالله يا بني، أرجوك.

أماء أويس و هو يحاول أن يبتسم و لو كذباً، التفتت ناحية مازن تريد أن تعانقه لكنه أوقفها بيده مردفاً بحسم: سآتي معكِ لأوصلكِ أمي.

طالعته بفخر و اعتزاز حقيقيين و هي تحرك رأسها بقبول، أمسك بكفها بيده الحرّة ثم تحرك جوارها يهبطان الدرج بهدوء، لم ترفع عينيها ناحية الجالس هناك في صدر الصالة يراقبهما بدهشة، ما زال كالأبله لا يصدق أن زوجته التي يعرف ستفعلها حقاً، انتفض واقفاً و هو يراها تتجاوز مكانه رفقة مازن باتجاه باب المنزل، صرخ مهدداً في محاولة يائسة لإعادتها إلى صوابها: إياكِ و الخروج يا ميادة.

لم تعبأ لا به و لا بصراخه بل تابعت المسير، تجعدت ملامحه بضيق ليعاود الصياح: أحذركِ مرة أخرى يا ميادة، إن خطوتِ خارج الباب فلن تعودي إلى هذا البيت مرة ثانية.
توقفت ميادة و فعل مازن المثل، للحظة ظنها قد تراجعت فطالعها باستفهام لتربت على جانب ذراعه تحثه على متابعة المسير بهمس: انتظرني خارجاً.

أماء لها بالإيجاب ثم تابع تحركه و دون أن يمنح عثمان نظرة واحدة مما أثار ريبة الأخير، في حين استدارت ميادة ناحية زوجها تطالعه ربما للمرة الأخيرة، شبكت كفيها و على محياها ابتسامة متحدية أرعبت عثمان حقا لتجيبه بسخرية مبطنة: من دون حلفان يا زوجي العزيز، أعاهدكَ منذ الآن أنني لن أعود و لو حدث ما حدث، قصتنا و قد وصلت خواتيمها، فاجعل ختامها مسك.

أرخت ذراعيها لتسقطا على جنبيها و تختفي بسمتها المتهكمة، فيما تضيف بثبات تُحسد عليه بحق: أنا ذاهبةٌ إلى منزل شقيقي عبدالله، سأنتظر ورقة طلاقي هناك في أقرب فرصة.
ما إن تلفظت بتلك العبارة حتى استدارت لتخرج نهائياً دون نظرة واحدة تلقيها إلى الخلف، زمن التردد ولّى و لا عزاء للخاسر...

أسقط عثمان جسده ليعود جالساً فوق مقعده و الصدمة العظيمة هي المسيطرة عليه، أحقيقة ما حدث أم أنه مجرد حلم سيستفيق منه بعد قليل ليسمع صوتها تحادث الأولاد و يملأ البيت؟
و في الأعلى تابع أويس ما حدث بصدر يضيق كلّما راجع مشهد عثمان و هو يضرب ميادة بسببه، تنهد بثقل ثم سار ناحية غرفته ليلقي بنفسه فوق فراشه، و في نفسه فقط يريد أن يسقط في هوّة لا خروج منها...

أمام بوابةٍ كبيرة دُهنت باللون البني أوقف مازن سيارته، استدار ناحية ميادة يحادثها: سأوصل الحقيبة إلى الباب من ثم أغادر.
طالعته ميادة بمقلٍ جفّ دمعها لتعقب بتعب: لا بأس بني، أفعل ما بدى لك و لكن...
بدا التردد واضحاً عليها فأردف بتساؤل: ما الأمر أمي؟
ضغطت على شفتيها لينفرج فمها قائلة: هل، هل ستخبر عثمان بما عرفت؟
أجاب ببساطة: لا أستطيع مواجهته بشيء إن لم تخبريني بالحكاية كلها.

تهدل كتفاها بحزن لتضيف: معك حق.
ضغط على كتفها بيده ليتابع حديثه بلطف: لن أضغط عليكِ أمي، خذي وقتكِ كاملاً و عندما تصبحين جاهزة للحديث تعالي إلى عيادتي.
أماءت برأسها ثم سألت بتردد طفيف: ستعود إلى المنزل؟
تطلع أمامه ليخرج زفيراً ثقيلاً ثم هزّ رأسه نافياً: لا، لن أستطيع العودة إلى هناك، سأعيش في عيادتي مؤقتاً ريثما أجد شقة قريبة.

تعب مازن و ضعفه أثار فيها زوابع عاتية لم تستطع الصمود أمامها، و قبل أن تنهار من جديد فتح مازن بابه قائلاً: تفضلي.
ترجلت ميادة لتقف أمام باب منزل شقيقها عبدالله فيما عمل مازن على إخراج حقيبتها من صندوق سيارته الخلفي، أودع الحقيبة أمام الباب ليستقيم و يعانق ميادة مودعاً: سأحادثك كل يوم لأطمئنّ عليكِ، و إن احتجتِ لشيء لا تتردي في طلبه مني.

مسحت على ظهره ببسمة رضا فابتعد عنها ليخاطبها بجد: ارتاحي الآن، حاولي ألا تفكري في أي شيء.

هزت رأسها موافقة ليتحرك مازن من فوره بسيارته، تاركاً ميادة تشيعه بحزن، و صوت ضميرها يتعالى الآن ليصفع قلبها بقوة، مازن الشاب الكامل المتكامل لا يستحقّ أن يحيا في كذبةٍ مقيتة كالتي كانت هي سببها، لكنها بطريقة ما وجدت نفسها تبرر الأمر بأنها خشيت أن يتركها عثمان، فلولا معاملته الجافة لها وقتها و خوفها من أن يتركها لما فكرت في أخذ ولدٍ ليس ابنها، و هكذا استطاعت ميادة أن تلقي اللوم على عثمان حتى في هذه النقطة...

تأففت بضيق حين أدركت ابتعاده و بقائها لوحدها في الشارع ثم قرعت باب منزل شقيقها، لم تلبث إلا ثواني حتى انفرج الباب ليظهر من خلفه شاب يبدو في منتصف العشرين من عمره، ارتفع حاجباه بدهشة حين هبطت عيناه إلى حقيبتها الكبيرة قائلا: عمتي ميادة! خيراً إن شاء الله؟
دخلت ميادة لتدفعه من كتفه بغلظة هاتفة بانزعاج: أهكذا تستقبل ضيوفك يا فهيم؟ أين والدك؟

ظلّ الأخير واقفاً عند الباب يطالع الحقيبة حتى استفاق على هتاف عمته: أحضر الحقيبة يا فهيم.
أجفل بخفة ليتطلع إلى الخلف فوجد شقيقته قد حضرت ترحب بعمتها الغالية، لوى فمه بعدم رضا و هو يتقدّم ليحمل الحقيبة قائلاً بتبرم: حاضر حاضر، سيجلبها العتّال و يأتي حاضر.

لم ينفجر المنزل كما كان يتوقع، فمازن لم يعد إلى المنزل و أغلق هاتفه نهائياً مما ضاعف الشك في داخل أويس، طرقات على بابه جعلته يغمض عينيه نافخاً بضيق و هو يدرك صاحبتها مسبقاً، إنها شقيقته اللّحوحة و ستسأله السؤال الذي رددته ربما مئة مرة منذ أن عادت من المدرسة، انبلج اللوح لتدلف جهينة هاتفة بامتعاض: ألن تخبرني بما حدث يا أويس؟

طالعها بنصف عين يجيبها ببرود كما فعل في المئة مرة السابقة: قلتُ لكِ تشاجر والدينا فغضبت أمي و ذهبت إلى بيت خالي عبدالله.
تأففت جهينة بغيظ لتعاود السؤال بصيغة أخرى: هذا هو سؤالي تماما، أقصد لماذا تشاجرا؟ في حياتي كلها لم أسمعهما يتشاجران فما الذي حدث لتصل الأمور إلى هنا؟
ادّعى الانشغال بهاتفه دون أن يجيبها فصاحت بحنق: أويس أجبني!

تأفف بصوت مسموع قائلا من بين أسنانه: ماذا يا ثرثارة؟ قلتُ لكِ لا أعرف شيئاً.
لوت جهينة شفتيها و تجعدت ملامحها فبدت كأنها على وشك البكاء فعلا فرفع سبابته في وجهها محذراً: أسلوبك هذا لن يجدي نفعا معي يا جهينة فلا تحاولي!
عادت ملامحها غاضبة في ثانية لتعقب بنزق و هي تضمّ كفيها أمام بطنها: ما الأسلوب الذي يؤتي بنتيجة معك يا حضرة النقيب؟ لأني استهلكتُ جميع حيلي النسائية معك و لم تفلح؟

عاد لينظر إلى شاشة جهازه مضيفاً بلا مبالاة: لن يفيد معي أي أسلوب لأني لا أعرف شيئاً، فاخرجي من رأسي و من غرفتي أيضاً.
عاد ليحاول الاتصال بمازن فرفع الهاتف يضعه على أذنه مشيراً إلى شقيقته بيده بأن تخرج ففعلت و هي تدمدم بصوت ساخط: فقط أريد أن أعرف كيف ستحتملك زوجة المستقبل؟
ابتسم باتساع ليجيبها بهمس متسلٍ لم يصل لها: بل قولي كيف سأحتملها أنا، فلسانها سليط و باردة أكثر مني!

منذ أن خرجت ميادة من المنزل التزم عثمان غرفته فلم يخرج منها نهائياً، ما يزال يُمني نفسه بأن يكون ما حدث محض كابوس سخيف، ستوقظه ميادة بلمستها الحنون في أية لحظة، ستخبره بأنها في انتظاره مع أولادهما الأربعة لتناول الطعام، و كالعادة سيكون أويس غائباً، ستقوم منى بتحريض أبيها على شقيقها رامي لكنه لن يغضب منه هذه المرة، بل سيوبخها هي لأنها واشية و لسانها الطويل يلزمه تقصير، لن تتدخل ميادة بينه و بين منى لتتركه يعاقبها كما شاء...

تأوه عثمان بصوت خافت مستشعراً انفجاراً قريباً في رأسه، مسح على وجهه زافراً بقوة و تكتل عظيم سدّ حلقه لا يعرف له سبباً، نبضة خائنة أخبرته أنه خسر ميادة إلى الأبد، لكنّ كبرياءه العتيد قفز معانداً، ربما ستغضب بضعة أيام لكنها سرعان ما ستعود، فهي لن تقوى على العيش بعيداً عنه و عن أولادها و بيتها، أجل فهذا بيتها هي، لولاها لكان بضعة جدران لا تدرء عنه برد الشتاء و لا شمس الصيف...

قبل شروق شمس الصباح التالي بمدة طويلة قرّر أويس الرحيل عن منزل عائلته و الذهاب ليجلب سيارته من أمام مركز المكافحة دون أن يخبر أحداً، حتى والده لم يراه أو يحادثه، لكنه علم أنه لم يغفل له جفنٌ طيلة الليلة الماضية نظراً إلى أن إضاءة غرفته لم تطفأ أبداً.

أمام محل الأزهار المغلق وقف أويس يتفحص بعينيه الشارع الفارغ، ما زالت العتمة تحيط به فلم يتواجد أحدٌ في الجوار، و هذا منحه الوقت الكافي ليتسلّل إلى الدكان بخفة اللصوص، تمكن من فتح الباب بعد جهدٍ جهيد ثم دلف مستعيناً بكشاف هاتفه و هو يعرف طريقه جيداً، توجه إلى مكتب رفيف الذي سبق و أن زاره و قد تأكد من خلوّه من كاميرات المراقبة، تفحصه بنظرات سريعة باحثاً عن المكان الأنسب لوضع كاميرا المراقبة الصغيرة التي سبق و أن جهزها، فلم يجد مكاناً أنسبَ من المساحة الخالية فوق عتبة الباب العليا، من هنا سيتمكن من كشف المكتب بأكمله و رؤيته من جميع الزوايا، سحب مقعداً قريباً ليصعد و يلصق الكاميرا المخفية ثم يعيد المقعد مكانه، و يخرج بخفة كما دخل تماماً ليستقلّ سيارته، أخرج أويس هاتفه ليتأكد أنّ الكاميرا بدأت تسجل بشكل صحيح، تنفّس الصُّعداء و هو يخفي جهازه من جديد ليسند رأسه إلى مقعده سارحاً فيما حدث قبل أيام عدة...

بغضب سافر تهتزّ له الأرض و روح تهفو وجلاً من مواجهة الماضي، توجه أويس إلى محل بيع الورد الخاص برفيف، طفح كيله خاصة و أنها ما زالت ترسل له كل يوم باقة ورد جديدة، لم يتسنّ له بعد أن يغيّر الشقة التي يسكنها حين كان منشغلاً في البحث عن هوية الخفاش، و هذا منح تلك الشمطاء الوقت و الجرأة بأن تتابع في لعبتها دون رادع.

أوقف سيارته أمام المحل و ظلّ يطالع الواجهة الزجاجية المزينة بعدد كبير من الزهور لفترة طويلة، يحاول ترتيب خطواته القادمة في التعامل مع تلك المختلة أخلاقياً، راقبها لبضعة أيام قبل قدومه و تفحص سجلها الأمني، لكنه لم يقف على أيّ تجاوز يساعده في التخلص منها دون أن يلوث يديه.

رفع رأسه إلى اللافتة العريضة و التي حملت اسمها، أصابه الاشمئزاز حين لمحها تترجل من سيارتها لتدخل إلى المحلّ، و للحظة كاد يخرج ما في معدته دفعة واحدة، لكنه قاوم قرفه ليرتدي نظارةً شمسيّة سوداء، أخبره مازن أنّ الدواء مرّ لكنه يُشفي، و أنّ مواجهة مخاوفه هي الحل الأنسب للتخلص منها فالهروب ليس حلّاً لما يعانيه، لهذا شحذ نفسه بالشجاعة لأيام طوال قبل أن يُقدِمَ على خطوته التالية.

بذقنٍ مرفوعة و كتفين مفرودين و ملامح وجهٍ جامدة ترجل أويس من سيارته، متجهاً بخطىً جبّارة إلى محل الأزهار، شاهدها من خلف البوابة الزجاجية تحادث أحد العملاء النساء، كما عهدها ما زالت تحتفظ بشبابها المصطنع، الأمر الوحيد الذي تغيّر هو لون شعرها الذي صبغته بلونٍ أحمر لا يليق بسيدة في مثل عمرها، و قد أخفت مساحيق التجميل علامات تقدم السن من محيّاها لتخدع من يراها، دائماً ما كان يُخيّل له أنها كالحرباء كلّما رغبت غيّرت من لون جلدها الأملس، لكنها تظلّ مجرد حرباء كما كانت و ستبقى.

دفع اللوح الزجاجي ليصدر رنيناً مميزاً ناجمٌ عن جرسٍ صغير تمّ تعليقه أعلى الباب، انتبهت رفيف للقادم فتجمدت ابتسامته المصطنعة لثانية، سرعان ما تحوّلت إلى أخرى ماكرة و هي تستدير قبالة أويس، تستندُ بذراعها أعلى الطاولة أمامها بحركة طفولية لا تليق بسيدة مثلها، تحدثتْ بدلع سافر و المكر يتراقص في مقلتيها: أهلا أهلاً بحضرة النقيب، كيف أستطيع خدمتكَ؟

نار سوداء اشتعلت في مقلتيه و لحسن الحظ أخفاهما خلف نظارة لا تشي بحقيقة ما يحدث خلفهما، للحظة كاد يتراجع عن محادثتها و قد عملت نبرتها على زيادة اشمئزازه، إلا أنه قاومها فشدّ ظهره واقفاً باعتداد قائلاً بحيادية مفرطة: أريد أن أتحدث معك.
اتسعت ابتسامتها الماكرة و هي تشير له إلى ممرٍ صغير مجيبة بتلاعب: بالطبع، بإمكانك انتظاري في مكتبي حتى أُنهي حديثي مع السيدة هنا.

في موقفٍ آخر كان ليرفض عرضها إلا أنه وجد في نفسه الرغبة في إجابة سؤاله الذي شغله، ما الذي تريده تلك المرأة منه بعد؟ ألم تكتفِ بفعلتها قبلاً؟

دون ردة فعل توجه أويس إلى حيث أشارت ليجد حجرةً صغيرة فيها طاولة مربعة الشكل و أمامها كان مقعدان متوسطا الحجم، رقد فوق أحد المقاعد بانتظار تلك العجوز، لم يمرّ وقت يُذكر حتى دلفت رفيف بخطى متمايلة، رمقته بخبث يتقاطر من قسماتها ثم تحركت لتجلس خلف طاولتها الصغيرة، شبكت كفيها لتحدث أويس الذي لم يلتفت إليها بنبرة لعوب: إذاً حضرة النقيب، هل لي أن أخبرك أنني كنتُ أنتظرك منذ وقتٍ طويل؟

أرغم نفسه على الالتفات ناحيتها و من خلف زجاج نظارته صوّب إليها نظرات مستحقرة، فيما تابعت هي بمكر: بصراحة لم أتوقع أن تستغرق كل هذا الوقت للوصول إليّ، خاصة و أنني تعمدتُ أن أُرسل الصبي الذي يعمل عندي مرتدياً القبعة الخاصة بالمحل، و بالسيارة التي نوصل بها الطلبات و المسجلة باسمي أنا.

زاد سعير غضبه و لو أن له شعاعاً لأحرقها في طرفة عين، كتفت يديها أمامها و هي ترجع ظهرها إلى الخلف و على ثغرها رسمت ابتسامة تصيبك بالتقزز من فرط ما تحمله من عاهات نفسية خبيثة، تماسك أويس قدر ما أمكنه ليسألها مباشرة بصوت قاتم أثناء خلع نظارته: من غير لفّ و لا دوران، ما قصدك من وراء تلك الباقات؟

تعرف جيداً كيف تلعب على أوتار أعصابه فالتزمت الصمت المطبق، لكنه كان أذكى من أن ينسحب خلف خيوط المكر التي تنسجها فقابلها بتحدٍّ، و حين أدركت رفيف هذا من مقلتيه أجابت بدهاء: اشتقتُ إلى طالبي العزيز...
قاطعها ضارباً فوق الطاولة بعنف هاتفاً من بين أسنانه المتلاقية: أجيبي سؤالي يا رفيف.

أجفل قلبها و رفرف في صدرها بخوف من غضبه الذي بدأ يتنامى رغم ثبات تقاسيمها، ابتلعت ريقها بوجل ثم برعت في رسم الاستخفاف على وجهها حين أردف أويس بنبرة أهدأ من سابقتها لكنها صارمة: أنصحكِ بألا تتذاكي عليّ و أن تجيبي السؤال باختصار.

ارتفع صدرها بنفسٍ عميق لتتخلى عن قناع الهدوء، برز وجهها الحقيقي الذي لم تفلح مساحيق التجميل بإخفائه، وجه مقيتٌ كريه ذو رائحة نتنة أفظع من رائحة مقالب النفايات المتعفنة، لمعة اشتهاء معتوه ظهرت في مقلتيها التي سلطتها فوق وجهه مباشرة، لتجيبه بصوت مريض: تريد الصدق يا أويس؟ لقد اشتقتُ إليك، إلى لمعة الخوف في مقلتيك، الرعب الذي كنتُ أراه مرسوماً على وجهك ببراعة، رعشة جسدك الغضّ الصغير.

ارتجع بغضبه للخلف دون القدرة على وأد الدهشة التي ارتسمت على محياه من فرط ما يرى من هوسها به، يستحيل أن تكون هذه المخلوقة إنسانة طبيعية، بحق الله كيف تمكنت من خداع الجميع من حولها بأنها مربية أجيال فاضلة؟ و هي من تحتاج إلى إعادة تأهيل كاملة و عقلها المعتلّ بحاجة إلى إعادة هيكلة؟

تعالى زفيره و هو يسمعها تضيف بهمس: تعلم؟ أنت الوحيد الذي تمكنتَ من إرضائي، حتى الآن لم أستطع إيجاد طفل يخاف و يرتعش كما كنت تفعل، مستعدةٌ لأن أدفع نصف عمري لأعود و أرى ذلك الخوف الساكن مقلتيك من جديد.
قطب جبينه بعدم فهم ليسألها: لا أفهم، ماذا تستفيدين من إرسال الأزهار إليّ إذاً؟
لم تتأخر أبداً في إجابته: أخبرتك أويس، أريدك أن تعود ذلك الطفل الذي يشبع حاجتي...

قاطعها أويس بخفوت مذهول و هو يحرك رأسه للجانبين: أنتِ مريضة...
تعالت قهقهتها المتهكمة لتحرر ذراعيها ثم تقترب منه لتجيب و هي تبخّ سمومها المقرفة في وجهه بصراحة: أعلم أنني مريضة، و مرضي يتغذى على خوفك و عجزك يا عزيزي..

لم يعد يحتمل التواجد معها في غرفة واحدة أكثر من هذا، لو أنه بقي يشاركها الهواء ذاته يقسم أنه سيفرغ حتى أمعاءه من فرط الاشمئزاز و القرف، تماسك أويس لتعود تقاسيم وجهه قاسية كما كانت، رفع النظارة ليغطي بهما عينيه ثم استقام تحت أنظاره المدهوشة، استند بكفيه فوق الطاولة ليواجهها و بكل الشجاعة التي يعرفها أخبرها: ذلك الطفل الذي تتحدثين عنه قد مات منذ أمد، احترق و لم يبقَ منه سوى ذكريات تعيسة أجاهد في دفنها، أما الواقف أمامك فهو أويس جديد، و ما ترينه الآن هو وجهي اللطيف، أنصحكِ بألا تخرجي وجهي الآخر لأنه لن يعجبكِ أبداً...

ابتسمت باتساع و لم يؤثر تهديده فيها قيد شعرة، بيد أنه لم يطلْ البقاء أكثر فتحرك أويس من فوره ليخرج بخطى ثابتة تضرب الأرض بقوة، و من حديثها استطاع فهم أنها لم تتبْ عما كانت تفعله، و يبدو أنها لن تفعل أبداً...

تنفّس أويس بعمق و هو يعود إلى واقعه ليكتشف أنّ الشمس قد أشرقت و ملأت الأرض بضياها، كذبت الأرصاد الجوية كالعادة حين قالوا أنّ اليوم ستهطل أمطارٌ غزيرة، أشعل سيارته ليرحل عائداً إلى مركز المكافحة ليبدأ يوماً جديداً، لكنه و بلا أدنى شك مختلفاً...

ليلةٌ طويلةٌ بحق حتى كاد يُخيّلُ إليها أنها لن تنتهي قط، صُدمتْ عليا عقب عودتها من زيارة عمار بما حدث مع عائلتها، عاتبتْ توأمها لكنه لم يمنحها أي سبب مقنع، إنما بدأتْ الأزمة العائلية الفعلية عندما حضر خالها سعيد مع جدتها رائدة، انفجر سعيد غاضباً لأن كمال فرّط في حق ابنه إذ كان الأولى به أن يفتك بعدي لينهي ثأر ولده، و بالطبع لن يحاكمه أحد بعد تخلي وزارة الداخلية عن عديّ و ترك الأمر منوّطاً بكمال وحده، ظلّ سعيد يضغط عليه في الوقت الذي كان فيه كمال بالكاد يستطيع الحديث، لينتهي الأمر بصراخ كمال في وجه شقيقه الأصغر و تشاجرهما، ثم انزواء كمال في غرفته وحيداً و رحيل سعيد بثورته التي آتى بها، كل هذا حدث و أروى لم تغادر غرفتها بل شدّت على نفسها غطاء الاكتئاب، توسّدت الخذلان وسادةً و سبحت في تأملٍ شارد كأنها ناسك و عبراتها تزيّن رموشها الطويلة، بيدْ أنّ مياس لم تتركها حتى لا تدري كيف غَفتْ بجانبها على السرير.

ضربت أشعة الشمس الذهبية مقلتيها السود بعد ليلة عاصفة من الهموم و المشاعر المتنوعة، مسحت على محياها بنعاس و أدارت رأسها لتقابل وجه أروى المنقلبة على جنبها، رأتها مغمضة العينين فظنّتها نائمة، بالكاد استطاعت تحريك جسدها لتعتدل جالسةً فوق سرير أروى، تأملت ملابس العمل التي نامت بها فتأففت بانزعاج من نفسها، ثم استقامت لتخرج بهدوء محاولةً عدم إصدار أي صوت حتى خرجت و أغلقت الباب من خلفها بروية، ما إن سمعت صوت إغلاق الباب حتى فتحت أروى عينيها المتعبة من فرط السهر والسُّهاد و التفكير العقيم، تنهدت بعمق و هي تنقلب على جنبها الثاني لتقابل أشعة الشمس من خلف زجاج نافذتها، كم تمنّت أن تغفو طيلة الليلة الماضية علّها تستفيق لتجد أنّ ما حدث يوم أمس مجرد كابوس مقيت، لكنه لم يكن إلا الحقيقة التي يجب أن تعايشها أروى و ما أفظعها من حقيقة!..

كأنّ أحدهم نفخ ناراً على هذا المنزل الكبير!
كلما هدأت قلوبهم قليلاً حتى تأتيهم هزة قوية أو مصيبة فظيعة، كلما اقتربوا من الراحة متراً ابتعدت أميالاً ليُضرب بينهم و بينها طوقٌ غليظ.

انتوت عدم الذهاب إلى عملها هذا اليوم و البقاء رفقة أروى لتخفف عنها هول المصاب، و لا مصيبة أفظع من أن يتعلق قلبها بقاتل، و ليس أي قاتل بل هو من سلب شقيقها حياته و عائلتها فرحتها، حب فاشل بجميع المقاييس و ميت قبل أن يولد حتى، .

بعد حمامٍ ساخن شعرت مياس بالجوع يداعب معدتها الفارغة منذ إفطار أمس، و بما أنها فاشلة أصلاً في الطبخ اختارت الأمر الأسهل و اعتزمت إعداد شطائر خفيفة لنفسها، الغريب أنّ أحداً من أفراد عائلتها لم يخرج بعد من غرفته و هذا مؤشرٌ لا يسرّ البتة، حملت مياس صحن الشطائر و كوب الشاي لتصعد إلى غرفتها، استقرّت متربعةً فوق السرير و ما كادت ترفع الشطيرة الأولى إلى فمها حتى تعالى رنين هاتفها، تأففت و هي تغمض عينيها هامسةً لنفسها بسخط: دقيقة سكون، فقط هذا ما أريده، لحظة سكون واحدة يا ربي.

يبدو أن صاحب الاتصال لم يكن ينوي تركها لسبيلها فعاد الرنين أكثر صخباً و إلحاحاً، فلم تجد مياس من حل سوى الإجابة، رفعت الجهاز تطالعه بكسل تحول بغتة إلى دهشة و هي ترى رقم اللواء جلال، و هذا معناه حدوث أمر جلل، أجابت باحترام: نعم سيدي؟
مياس، أمامكِ ربع ساعة بالتمام لتكوني في مكتبي، بانتظارك.

بنبرة حيادية ألقى جلال جملته المقتضبة، و التي بعثت داخلها القلق والريبة خاصة و هي تسمع صفير إغلاق الخط، تطلعت أمامها بجبين مغضن و حاجبين معقودين بشك، عاينت الساعة على هاتفها لتجدها قاربت العاشرة، أياً كان ما حدث لا ريب أنه أمر خطير للغاية دفع جلال لأن يحادثها و يطلب حضورها الضروري حالاً، لم تتأخر مياس لحظة أخرى بل انتفضت من مكانها لتبدّل ثيابها ثم تستقلّ سيارتها متجهةً إلى مركز المكافحة.

وصلتْ خلال عشر دقائق تقريباً، صعدت من فورها قاصدةً مكتب اللواء جلال لتجد فريقها قد سبقها، و اللواء جلال جالس خلف مكتبه و القلق و الترقب واضحان على محياه المجعّد، ألقت مياس تحيةً مقتضبة و هي تمرّر نظرها على الحاضرين بتساؤل قَلِق، ليتحدث جلال بجدية: تعالي مياس، جيدٌ أنكِ لم تتأخري.

اختارت مياس المقعد حُذاء طارق و المقابل لأويس لتجلس فوقه سائلةً بقلق لم تُخفه: ماذا هناك سيدي؟ لماذا طلبت قدومي بسرعة؟و ما الداعي لهذا الاجتماع؟
قالت عبارتها الأخيرة و هي تمرّر نظراتها المضطربة على رفقائها الحاضرين ليعقب أويس أولاً: لقد سألنا حضرة اللواء هذا السؤال لكنه لم يجبْ.
توجهت الأنظار جميعها إلى جلال الذي عقد كفيه فوق الطاولة مجيباً باقتضاب: اتصل بي الخفاش، و هو من طلب اجتماعكم.
من؟

صرخ أربعتهم دفعةً واحدة ما إن سمعوا اسم الخفاش، هزّ جلال رأسه مردفاً: كما سمعتم يا شباب، هو من طلب حضوركم، و قد شدّد على حضوركِ أنتِ مياس.

قالها و عيناه مسلطة على مياس المصدومة حرفياً، مرّت لحظات ثقيلة و هي تحلّل ما فعله الخفاش لتخلص إلى نتيجة واحدة، أجفلت بخفة قائلة بنبرة عكست تخوّفها: فعلته تبعث على القلق سيدي، في العادة يحادثني أنا، أما أن يحادثكَ أنت بل و يطلب اجتماع الشباب جميعهم، فهذا معناه أنه سيُقدم على خطوة كبيرة.
تلقائياً انتقل قلقها إلى أويس الذي سأل: ماذا تعنين بخطوة كبيرة مياس؟ما الذي ينتويه الخفاش برأيك؟

أشارت برأسها بالسلب كناية عن عدم تأكدها و قبل أن تنطق بحرف صدح صوت جهاز جلال الذي هتف: هذا هو.
انتفض أربعتهم واقفين، فيما تحركت مياس من مكانها لتقف قرب جلال الذي بقي جالساً أثناء قولها باحترام: هل بإمكانك فتح مكبر الصوت سيدي؟
أجاب جلال الاتصال ثم فتح مكبر الصوت و أعاد الهاتف فوق الطاولة هاتفاً بثبات: نعم يا خفاش؟

سمعوا صوت الخفاش يتردد من الجهاز رغم معرفته المسبقة: هل حضرت مياس كما طلبتُ حضرة اللواء؟
أجابت هي نيابة عن جلال بنبرة قوية: أنا هنا يا خفاش، قلْ ما لديك.
تبسم بانتشاء ما إن سمع صوتها ليقول بصوت لعوب: مياس عزيزتي؟ اشتقتُ لسماع صوتك.
عقبت بجدية ممزوحة بتهكم بائن: أما أنا فلم أفتقدك بالمرة، أخبرني ما لديكْ؟ و لماذا غيّرت أسلوبك هذه المرة؟

تنهد بصوت مسموع و مثّل الحزن في صوته عندما قال: تؤ تؤ تؤ، هكذا سأزعل يا مياس! و أنتِ تعلمين أن زعلي لا يُحتمل أبداً.
جزّت على فكها بغيظ و كادت أن تصرخ به لتلاعبه بهم، إلا أنها تماسكت في اللحظة الأخيرة لتزفر و هي تضمّ شفتيها بقوة ثم قالت بنزق: يكفي تفاخراً بنفسك و أخبرني ما الذي تريده هذه المرة؟
صاح خطاب بتلاعب و كم أعجبه اللعب على أعصابها: كنتُ أحادث اللواء جلال بالمناسبة و لم أطلب التحدث معك.

تراجعت للحظة و هي تصوب نظرها ناحية جلال حتى سمعت تعقيب الآخر الساخر: أم ليس في الفريق من رجال ليتركوا لكِ مهمة التحدث؟
أردف جلال بجدية حاسمة: قلْ ما لديكَ يا خفاش و دعنا ننتهي.

أطال الصمت متعمّداً فنظر أويس ناحية مياس ليجد وجهها يتلوّن بمشاعر مختلفة، و قد أدرك حاله حال الجميع أنّ اتصال خطاب لا يحمل الخير بالطبع، أكّد خفاش معتقده حين نطق بتفاخر مريض: اتصل لأخبرك بآخر إنجازاتي، سبع قنابل تم توزيعها على سبعة أماكن مختلفة في المدينة.

شحب وجهها دفعةً واحدة و تسابقت أنفاسها بقلق، و لم يكن الأربعة الباقون بأقلّ ذهولاً منها، كانت هي أول من استفاق من الصدمة فاستندت بيديها على الطاولة برعشة سرت في بدنها، و بطريقة ما أدركت مطلب خطاب، فيما سخر أويس: و كأننا سنصدق إدّعاءك هذا...
قال خطاب بجدية لا تقبل التشكيك: تريد أن أُفجر إحداها لتتأكد حضرة النقيب؟
أدرك الجميع صدق خطاب فيما سأل جلال بحيادية: ما هي طلباتك يا خفاش؟

مطّ خطاب فمه ليخبره باعتيادية: بكل بساطة أريد أن أقايضكْ، مياس مقابل إنقاذ المدينة..
ماذا؟

هتف الشباب الأربعة و هم يتوجهون بأنظارهم إليها، فيما هي بُحّ صوتها و تهدّج صدرها من فرط المفاجأة الخبيثة، لم تنتبه متى تحرك أويس بخطوات عصبية حتى وقف بجانبها ليسمع بوضوح، في حين تابع خطاب حديثه بنبرة لا تحمل أدنى علامة على المزاح: كما سمعتْ يا حضرة اللواء، لتنقذ مدينتك ستسلمني مياس، سأمهلك حتى العاشرة صباح الغد، إن لم تحضر مياس إلى العنوان الذي سأرسله سأفجر القنبلة الأولى، و سأنتظر حتى صباح اليوم التالي، فإن لم تأتِ مياس كذلك أفجر القنبلة الثانية، و هكذا حتى تنتهي القنابل.

اتسعت بسمة خطاب المختلّ أثناء تعقيبه الساخر: و هكذا ستدخل مدينتك موسوعة الأرقام القياسية بأكثر أسبوع دمويّ في التاريخ، ما رأيك؟
بصعوبة جمّة ابتلعت مياس ريقها إلا أنها تحلّت ببعض الشجاعة لتهتف بصوت تذبذب رغم جهادها في الثبات: لن تفعلها يا خفاش، هذا ليس أسلوبك أنت..
ما لبثت أن أتاها ردّه الذي يحمل بين طيّاته تهديداً: بالمناسبة مياس أخبريني، كيف حال أبيكِ؟

تلوّنت وجنتيها بحمرةٍ غاضبة و تكاد أسنانها تصرخ ألماً فيما تتوجه ناحيتها العيون المستغربة، إلا أن جلال كان أقلّهم استغراباً لمعرفته بالأمر مسبقاً من رائد، أما أويس لم يستطع إمساك نفسه ليسألها بدهشة: والدكِ عاد مياس؟
لم تجبه فيما تولّى خطاب هذه المهمة متهكماً: ألم تكن تعرف يا حضرة النقيب؟ هذا يسمونه إهمالاً بالمناسبة!
صرّ على فكّه بحنق يتعالى حتى يخنق حنجرته فصاح به: خذني أنا بدلاً منها يا خفاش...

طالعه الرجال الثلاثة بذهول فيما تعالت قهقهة خطاب المستهزئة من عرض أويس الذي تعالى زفيره الساخن، هدأت ضحكاته ليجيبه بحزم ساخر: للأسف لا أستطيع يا أويس، فالمأذون لن يقبل بأن يزوجني إياك...
تحوّلت نبرته إلى الجدية التامة حين عقب: سأنتظر حتى العاشرة صباح الغد، القرار لكم.

سمعوا تالياً صفيراً طويلاً معلناً عن إغلاق الاتصال، و للحظات طوال التزم الجميع الصمت دون حديث إلى أن نطق جلال منكساً رأسه: يا للمصيبة!
هسهس أويس من تحت أسنانه المتلاقية بكمد: السافل المنحطّ! أوصلتْ به النذالة إلى هذا الحد؟
ألقى إيهاب بجسده فوق المقعد جامعاً كلا كفيه فوق رأسه، أما طارق فكان أول المستفيقين من هول المصيبة ليتساءل: ماذا سنفعل الآن حضرة اللواء؟

رفع الأخير رأسه نحوه فبان في مقلتيه العجز الواضح ليحرك رأسه إلى الجانبين بيأس، فيما صاح أويس بغضب: لن نقبل بطلبه بالطبع.
هتف طارق بقلة حيلة: سيفجر القنبلة يا أويس، ألم تسمع ما قاله؟
صرخ قائلاً: سنبحث عن القنابل و نعطلها، و هكذا لم يكون لديه ما يساوم عليه.
أردف إيهاب بدوره: لدى الخفاش دائماً ما يساوم عليه، لا تنسى مع من تتعامل هنا؟
عقب أويس: على الأقل سنكسب بعض الوقت لنصل إليه.

أردف طارق بتهكم ساخط: استغرقنا الأمر أكثر من سنتين لنصل إلى هويته، فكم المدة التي سنأخذها حتى نمسكه؟
زمجر بغيظ: طارق لا تغضبني...
انتفض الأخير واقفاً ليقاطعه بحنق: و إن أغضبتكْ فماذا ستفعل يا أويس؟ ستضربني مجدداً؟
يكفي!

صرخ بها جلال ليقاطع شجارهما الأخرق فالتزما الصمت المشحون مجبرين، طالعهما بنظرات نارية ليوبخهما بغلظة: و الله عال، فعلاً ما أراه أمامي يدفع إلى الفخر، أهذا الوقت المناسب لتصفية حساباتكما الشخصية؟
نكّس طارق رأسه بخزي فيما زفر أويس بضراوة ممرراً كفه فوق خصيلاته القصيرة، و نارّ لاسعة شبّت بين أضلعه تصفعه بلا رحمة، سأل إيهاب اللواء باحترام: ما الذي سنفعله الآن سيدي؟

قاطعه أويس هاتفاً باندفاع: ما رأيك أن نتتبع الاتصال سيدي؟ اتصاله تجاوز الدقيقتين لربما نصل إلى عنوان مقره؟
في هذه اللحظة أصدر هاتف اللواء جلال رنةً قصيرة معلنةً عن وصول رسالةٍ ما، فسارع ليلتقطه و يقرأ العنوان الذي أرسله الخفاش، رفع الشاشة قبالة أويس يجيبه بتهكم: لا داعي لتتعب نفسك، الرجل أرسل إليك عنوانه بنفسه.
بحماس أخرق صاح: دعنا نداهم مقرّه فوراً إذاً؟

زمجر جلال ليردعه هاتفاً: و هل تظنّ أنه سيكون بانتظارك لتفعلها؟ لا ريب أنه حصّن مقره و إن شعر باقترابنا سيفجر القنابل السبع دفعة واحدة، حينها ستكون مجزرة فعلية.
تجعدت قسماته ليضغط على فكيه بقسوة آلمته، بينما تطلع جلال ناحية مياس التي لم تحرّك ساكناً ليسألها: و أنتِ مياس؟ ما رأيكِ؟

التفت أويس ناحيتها فلم تنبس بحرف، طال بها الصمت لترفع ناظريها إليه، أدرك ما تفكر به فهتف رافعاً سبابته بتحذير: إياكِ مياس، أنصحكِ بأن تلغي هذه الفكرة من رأسك نهائياً.
استدارت بدورها لتواجهه مجيبةً بقلة حيلة: لا حل آخر أمامنا أويس، إما أن نقبل بمطالبه أو نستيقظ كل صباح على مجزرة...
صاح يقاطعها: سنجد حلاً مياس، لن نعجز بالتأكيد.
فهم جلال ما ترمي إليه مياس فتساءل بقلق: لكن ماذا إن آذاكِ مياس؟

التفتت ناحيته قائلة بجدية: لا أظنّ أنه سيفعلها سيدي...
قاطعها أويس من جديد: القضية لا تحتمل الاحتمالات مياس، إن لم يردْ أن يؤذيكِ فلماذا طلبكِ إذا ً؟
عادت لتنظر إليه لتعقب بتأكيد: لو أراد أذيتي لما عجز عن فعلها طول الفترة الماضية، لم يكن لينتظر حتى أكشف هويته.

كان إيهاب و طارق يتابعان السجال الدائر بصمت و قد فهما نيتها بتسليم نفسها للخفاش، قطب أويس جبينه بعدم فهم متسائلاً بريبة ساخرة: ما الذي تقصدينه مياس؟ إن لم يردْ قتلك فلماذا طلبك شخصياً؟
عقبت بجدية: سمعت مطلبه يا أويس.
استهزأ ساخراً: نعم سمعت، يريد أن يتزوجك!
رغم تهكمه لكنه لم يهزّ فيها شعرة واحدة، ظلّت أنظارهما متشابكة لفترة قصيرة قبل أن تبهت ملامحه هامساً بحاجبين متلاقيين بذهول: بماذا تفكرين مياس؟

لن يعجب أحد ما ستقول لكنها لن تأبه، أدارت مياس جسدها لتستند فوق مكتب اللواء من جديد، نكّست رأسها لتخبرهم بما لا يقبل التسويف: كنتُ أشكّ بهذا منذ زمن لكني لم أكن متأكدة، إنما الآن تأكدت تماماً..
قاطعها بصبر نافذ: تأكدتي من ماذا بالضبط؟
لفظت كتلة الهواء التي كتمت صدرها لتردف: تأكدت أن الخفاش مهووس بي...

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة