قصص و روايات - قصص بوليسية :

رواية حي الورد للكاتب علي اليوسفي الفصل الثامن عشر

رواية حي الورد للكاتب علي اليوسفي الفصل الثامن عشر

رواية حي الورد للكاتب علي اليوسفي الفصل الثامن عشر

((( تعلم ألا تتوقع الكثير من أحد، فالخيبة طعمها لاذع، وللحب أنواع مختلفة، حتى الرحيل أحياناً وجه من وجوه الحب))).

الهزيمة مرة، أسأل من كان يعتقد أنه ممسكٌ بأطراف اللعبة كلها ليكتشف أنه جنديٌّ صغير في لعبتها هي، حين ظنّ أنّه يراقصها على أصابعه عضته بشراسة آلمته.
نهض خطاب بهدوء وعلى وجهه علامات الصدمة، عينيه متسعة عن آخرها وأنفاسه بطيئة، لم يصدق لغاية اللحظة ماسمع من أخبار خطيرة، تساءل بفحيح كالأفعى ورأسه يميل للجانب: مالذي قلته للتوّ سهيل؟

ازدرد المقصود ريقاً جفّ من فرط الخوف والرعب وقدميه ترتعدان ذعراً، كالواقف أمام حاكم ظالمٍ أمر بإعدامه أجاب سهيل بأحرف تتقطع جزعاً: س س سيدي مياس هجمت على المطعم و، و قتلت نبيل...
كيف؟

قبل أن يلفظ سهيل كلمته الأخيرة صرخ خطاب بهذه الكلمة بصوت مقهور، وقد تناثر كل ماكان فوق الطاولة المكتبية على الأرض، تلقائياً تراجع سهيل للخلف وساقيه لم تعودا تتحملا ثقل جسده المهتزّ، صاح خطاب بكمد أثناء ضربه بكلتا كفيه فوق الطاولة: كيف أخبرني؟ ألم تخبرهم أن يأخذوا حذرهم؟
حرّك سهيل رأسه بإيجاب سريع فأضاف الآخر وأنفاسه الحارة تصهر الحديد: إذاً كيف غدرتهم؟ تحدث؟

يكاد يجزم أن قلبه قد يتوقف بين الفينة والأخرى، حاول سهيل تمالك نفسه ليركب جملةً مفيدة يجيب بها رئيسه الثائر: لقد كان معها ضابط آخر، اسمه أويس، دخل قبلها ومن ثمّ...
قاطعه خطاب بصراخ مستهجن وتكاد مقلتيه تخرجان من مكانهما: إذاً مياس وجرذٌ آخر لوحدهما قتلا نبيل وكل أعوانه؟
س سيدي...
أخرس، لا أريد أن اسمع صوتك.

لفظها خطاب اثناء استدارته إلى الخلف محاولاً تهدأة ناره المشتعلة، وقد استشعر ألم طعنة غادرة في ظهره سددتها له مياس، بل الواقع هم ثلاث طعنات، لم يكد يستفيق من الأولى حتى عاجلته بالثانية وأتبعتها الثالثة، كالثور الهائج زفر أنفاسه المتلاحقة، تعالى صدره وهبط بسرعة تناسبت طرداً مع تسارع نبضاته الناقمة، كيف فعلتها؟

حقاً لا يصدق أنها خدعته هكذا، لقد ظنّ أنه يسبقها بخطوة ليكتشف أنها حلقت بعيداً لتتركه يتنفس غبارها.
مرت لحظات عدة قبل أن يتمالك نفسه، أسدل جفنيه يطبق عليهما بقوة مفكراً في طريقة لردّ اعتباره فوراً، لن يكون الخفاش إن ترك ثأره يبرد.
حادث سهيل بتأنٍ ومايزال على وضعه: أين هي الآن؟
تفهم الأخير مقصده ليجيب دون تأخير: مازالوا أمام المطعم سيدي.

شهق نفساً عميقاً من أنفه زفره ببطء قاتل، ضيّق عينيه وقد التمعت فيهما نظرة شر ثعلبية، حادث نفسه بوعيّد كأنما يتوعّد مياس: لقد سلكتِ طريقاً موحلاً، ولن تخرجي منه بسهولة!

مزاج كمال الرائق هذا اليوم شجعها على اتخاذ خطوة جريئة كانت تريد اتخاذها منذ بعض الوقت، ربما الوقت لازال باكراً على تنفيذ فكرتها على أرض الواقع، لكنها ستستغلّ كل الوقت المتاح لإقناع كمال.

اختلى بها في غرفتهما الخاصة كما الليلة الماضية، استلقى كمال على فراشه بعد ارتدائه بيجامة النوم، يطالع زوجته التي وقفت على بضع خطوات منه تفرك يديها ببعضهما، بردائها الأسود و لم يحرر الحزن مقلتيها التي تسحره دائماً، إلا أنه أضفى عليها جمالاً ورونقاً لامعاً، لاحظ توترها وكأن خلفها أمرا فانعقد حاجباه أثناء سؤاله لها بحنوّ معروف فيه: مالأمر ياسعادتي؟ هل تريدين شيئاً؟

رفعت إليه وجهها الذابل وهي تشير له بالإيجاب، تقدمت منه بضعة خطوات حتى جلست جواره، أجلت حلقها مجيبة بتذبذب: الحقيقة أجل، أريد أن أحادثك في أمر هام.
اعتدل في جلسته ليقابلها متسائلاً بجبين مقطب: طبعا عزيزتي، أخبريني بمَ تريدين؟
ابتلعت ريقها بتوتر وقطرات عرق باردة غزت جبينها ومؤخرة رأسها، لتفاجئه بسؤال خائف ونبرة خافتة: ما الذي فعلته في قضية ورد؟

تجهم وجهه بحزن ليطرق رأسه للأسفل لثوان، عاد ليقابلها مجيباً بنبرة متأثرة لذكر وحيده: لقد رفعتُ على ذاك الوغد دعوى قضائية أمام محكمة المدينة، وقد أصدروا برقية مستعجلة للبحث عنه والقبض عليه حالاً.

أماءت له إيجاباً ثم عادت لتلتزم الصمت، في حين أنّ كمال كان يراقب حركاتها ولايشعر بالراحة ناحيتها البتة، امتدت يده ليرفع ذقنها فتتلاقى العيون الهائمة يسألها بهدوء عاطف: أهذا فقط ماكنتِ تريدين سؤالي عنه ياسعادتي؟
ارتبكت لثانية أمام عطفه وتدليله لها، سرعان ماتجاوزتها لتثبط انفعالها قائلة بجدية: لا، أريد محادثتك في شأن آخر.
سكتت للحظة ثم قالت بشكل مفاجئ: اسمع كمال، أنا لا أريد أن تبقى هكذا.

يعترف أنه لم يفهمها فارتسم استفهامه على محياه لتقرأه سعاد بسهولة فتضيف بتردد: أعني، لا أريد أن تبقى وحيداً، ولا ابنتي...
قطعت كلماتها وقد بدت كالتائهة، في حين أن كمال لم يفهم مغزى ماقالت فاستفسر: ماذا تقصدين بكوني وحيداً؟ وماشأن أروى؟
رفرفت بأهدابها بتوتر لتعاجله بإجابة: أعني أريد أن يكون لك أولاداً ولابنتي إخوة، ذكور!

ضيّق عينيه وفي رأسه اشتعلت شرارات الفهم كأنه استوعب ماتريد قوله قبل أن تتفوه بباقي جملتها، لكنه وليقطع الشك باليقين عاود سؤالها بجمود مريب: ماالذي تريدين مني فعله؟
قلبها صارع كطير مذبوح بين أضلعها، ريقها فجأة بات مراً وجفنيها لم تكفاا عن الحركة السريعة، الإجابة مريرة مرار العلقم في جوفها لكنها قالت ببرود مختلق ليس موجوداً بصدرها المشتعل: أريدك أن تتزوج!

كم هو كبير قلب المرأة، يتسع لكون بحاله بينما يرضيها قطعة حلوى صغيرة.
كان حرياً بكمال التفكير بهذه الطريقة، لكنّ عقله توقف عن العمل للحظات ومايزال صدى كلمتها الأخيرة يتردد بين جنبات دماغه لتبعثه على الجنون، بل ربما هي من جُنّت أيهما أسبق؟
توسعت عيناه عن آخرهما وتكادان من محلهما، مرت لحظات عدة قبل أن يتمالك نفسه حين لاحظ عبراتها الصامتة فسألها بوداعة، آملاً أن تكذب ماسمع: مالذي قلته ياسعاد؟

يبدو أنه مصرٌّ على تعذيبها، شفتاها ترتعشان بقسوة حينما أعادت على مسامعه الكلمة ذات السم الزُعاف: تتزوج ياكمال، أريدك أن تتزوج.
بهتت ملامحه بذهول عندما تيقن أنه لم يتخيل ماقالت، طالعها بقسمات مصدومة خاصة حينما تابعت ببرود مراوغ: أنت كبير عائلة الحكيم ويجب أن يكون لك وريثاً يحمل اسمك، ويكون سنداً لأروى في حياتها...
أجننتِ ياسعاد؟ أنتِ تريدينني أن أتزوج؟

قاطعها بهذه الجملة المدهوشة وقد أخذ التعجب به مأخذه، كوّب وجهها بين يديه مضيفاً باستغراب متعاظم: كيف؟ أخبريني كيف لامرأة أن تطلب أمراً مماثلاً من زوجها كيف؟
شدّدت على شفتيها بقوة قبل أن تنطق بنشيج يقطع شرايينها: لأنني أحبك ياكمال لا أريدك أن تعيش مقطوعاً...
اصمتي يكفي.
قالها وهو يضمها إلى صدره يخرس كلماتها البلهاء التي تتدفق دون مراعاة شعوره، حمقاء بالفعل!

دفست وجهها في صدره متشبثة بثيابه التي بللتها عبراتها، فيما هو يشدّد من عناقها وقلبه يتقطع لألاف القطع ثم يعاود تركيب نفسه ليتقطع عليها من جديد، أغمض عينيه حتى تمالك نفسه وقد استبدّ به القهر، أخرجها من أحضانه ليتطلع إليها قائلا بجمود مستهجن: مجنونة أنتِ؟! تريدين أن تزوجي زوجك ياحمقاء؟!
ضغطت على شفتيها قبل أن انفجرت بإجابة أزادت غيظه: أريد أن تنجب ذكوراً يحملون إسمك...

استنكر جوابها الأخرق فهتف بشبح عصبية طفى على تعابيره: أتظنين أنّ ذكور الأرض جميعهم قد يعوضونني فقد وحيدي ياسعاد؟
بعناد حواء قالت من بين دمعاتها: ربما إن أنجبت أولاداً ستنسى فاجعة ورد.
باستهجان سألها: وأنت؟ ستنسينه؟
تذبذبت تعابيرها حين فاجأها بسؤال لم تتوقعه، أخفضت أنظارها عن عينيه المتفحصة مجيبة بصوت هامس: يستحيل أن أنساه، ورد جرح كوى قلبي لن يزول، لكن أنت ستفعل عندما تنجب ولداً يحمل اسمك.

رفع ذقنها بإصبعه قائلا بحاجبين منعقدين: ومن قال لك أنني أريد أن أنسى؟
للوهلة الأولى لم تجد ماتجيبه ليعقب قائلاً برفق جاد: سعاد حبيبتي، أنا وأنت مررنا بذات تجربة الفقد، كلانا محكوم علينا بالوحدة والصبر لنتشارك تلك الوحدة، ولنسلك معاً طريق الصبر حتى إن غزتنا أشواكه.

أغمضت مقلتيها للحظة وكلماته تلامس قلبها المحترق فتثلجه، إلا أنها لم تقتنع وكادت تتحدث عندما قاطعها رنين هاتف كمال، سارع الأخير ليلتقط الهاتف فوجد المتصل حازم المكلف بحراسة مخزن الحبوب التابع له، أجاب من فوره ليأتيه صراخ حازم المستغيث: الحقنا ياسيد كمال، المخزن يحترق.
أجفل كمال واقفاً في لحظة صارخاً بهلع: ماذا تقول؟
سكت لثانية يستمع إلى حازم ليعقب من فوره بلهفة: أنا آتٍ فوراً.

ماكاد يغلق هاتفه حتى سارع إلى خزانته ليسحب سترته السميكة يرتديها فوق بيجامة نومه، في حين تابعته سعاد متسائلة بجزع: مالذي جرى؟
أجابها بإيجاز سريع: المخزن يحترق.
ضربت على صدرها صارخة بهلع: يا ويلي! كيف حدث هذا؟
تابعته أثناء سيره إلى آخر الغرفة ليتناول حذاءه قائلا بصبر نافذ: لا أعلم ياسعاد لا أعلم شيئاً.

غادر عقبها من فوره فلاحقته سعاد حتى بلغ الباب، شيعته بمقلٍ دامعة حتى رأته يستقلّ سيارته فيطير بها، وفي نفسها قلقاً جماً عليه...

كطفلٍ وعدته أمه بحلوى العيد ونسيت وعدها، ظلّ أويس يلاحق مياس بأسئلته الفضولية حتى يعلم كل شيء، نفخت بضجر وهي تسير ناحية سيارات فريق رائد حتى وجدت ردينة قابعة في إحداها، ماإن رأتها حتى فتحت الباب لتسألها تباعاً: مياس هل أنتِ بخير؟ مالذي حصل؟و أين أمي وشقيقي؟
قبضت مياس على ذراعيها لتحاول تهدأتها قائلة ببسمة صغيرة: لاتقلقي ردينة الجميع بخير، وعائلتك في مأمن فلا تخافي.

ازدردت الأخرى ريقها بتوتر وقد شعرت ببعض الراحة تتسلل إلى شرايينها، تطلعت إلى أويس الذي وقف خلف مياس، رغم مرور اقل من عشرين يوماً على محاولة قتلها على يده لكنها كانت تشعر نحوه بالامتنان، فقالت بودّ: أشكرك حضرة النقيب على تحذيري.

طالعها الآخر باستغراب مالبث أن أشار لها بلا مبالاة حين توجهت أنظار مياس صوبه، ودعتها الأخيرة لتتوجه إلى سيارتها يتبعها أويس بكل مااعتراه من فضول، قبل أن تصعد استدارت لتقابله وكانت على وشك الحديث حينما تحدث هو يستبقها: لديّ آلاف الأسئلة فلا تحاولي التهرب مياس.
بسمة صغيرة ارتسمت على طرف شفتيها وقد عقدت حاجبيها، حركت رأسها بيأس ثم أشارت له بأن يصعد لتتحرك بسيارتها، سألها أولاً: والآن إلى أين ستذهبين؟

أجابت بلا تأخير: سأذهب لجلب هاتفي.
زوى مابين حاجبيه وهو يستدير ليقابلها مستفهماً باستهجان: وأين هو هاتفك؟
طالعته من زاوية عينها وبسمة ماكرة تتراقص على ملامحها، بطريقة ما شعرت مياس بالتسلية وهي تعبث بأعصاب أويس، والذي زفر بضيق وهو يسألها مجدداً: بالمناسبة مياس، لم تخبريني متى جندتِ ردينة لصالحك؟ وكيف عرفتِ بانكشاف الغطاء عنها؟

تنهيدة مرتاحة أطلقتها مياس لنجاحها في إنقتذ ردينة وعائلتها في الاحظة الأخيرة، أخذت نفساً عميقاً ثم طفقت تحكي لأويس علها ترضي فضوله وتتخلص من ملاحقته وأسئلته...

عقب خروج أويس بأمرٍ من مياس، تطلعت الأخيرة صوب ردينة التي كانت تكفكف دمعاتها بيدها، حدجتها مياس بنظرات فاحصة ثم استندت بذراعيها إلى قدميها وتحدثت بجدية: اسمعيني ردينة، كل ماقلته لا يفيدنا بشيء.
لم تلبث الأخرى أن أجابتها بنشيج: أخبرتك حضرة النقيب، ليس لديّ مايفيدك.
ضيقت عينيها لتردف بنبرة ذات مغزى: لكنك تستطيعين مساعدتي بالتأكيد.
انخطف لون وجهها وتهدج صدرها برعب قائلة بهمس متوجس: ماذا تقصدين؟

ابتسمت مياس بمكر أزاد رهبة الأخرى لتهتف برهبة وقد أمالت رأسها إلى الجانب: إن كنتِ تقصدين أن أكون عيناً لكِ في المطعم فلا تحاولي سيدتي.
ارتعشت شفتيها قبل أن تعقب بارتياع: رقبتي تحت قدمهم، إنهم يعرفون عنوان منزلي وكل شيء عن عائلتي، سيؤذونهم.

تفهمت مياس خوفها فهي أكثر من يعرف حرصهم من هذه الناحية، لكنها تابعت بتوضيح: اسمعيني ردينة، أنا أكثر من يعرف طريقتهم في إرهاب موظفيهم والعاملين عندهم، لذى أعطيكِ كلمتي بحماية عائلتك، شرط أن تساعديني.
بنظرات تائهة ونبرة مترجية توسلتها ردينة: أرجوك سيدتي لا تضغطي عليّ لن استطيع...

امتدت يد مياس لتمسك بكفّ ردينة ضاغطة عليه بدعم قائلة بنبرة مؤازرة: لن أرغمك على شيء ردينة، لكن كوني على ثقة إن قبلتِ بمساعدتي فإني أضمن لك حماية كاملة لعائلتك، أيضاً سأتشفع لك في حال قبضنا على الخفاش ولن تحاكمي.
ناظرتها ردينة بضياع كأنما تتحقق من صدق مقالها ثم همست بقلة حيلة: كيف أستطيع مساعدتك؟

ابتسمت مياس بخفة لتعقب بسرعة: الأمر بسيط، سأعطيكِ أجهزة تنصت صغيرة تضعنيها تحت طاولة المدير حيث تتم الاجتماعات السرية.
تفكرت الأخرى للحظات قليلة وللحق فإنّ عرض مياس قد أغراها، هذه فرصة ذهبية لها للتخلص من الوحل الذي غرقت فيه مرغمة، أجابت بعد هنيهة بتردد: أنا موافقة.

ابتسامة نصر ماكر ارتسمت على ثغر مياس، أعادت ظهرها للخلف وكلتا ذراعيهما معقودتان أمامها وقد نالت مبتغاها، ودقت أول مسمار في نعش الخفاش ومنظمته الخارجة عن القانون، تحدثت بعد حين: سأخبرهم بأن يطلقوا سراحك الآن، وسأرسل بعض العناصر ليحرصوا على تأمين عائلتك بدءاً من اليوم.
وقفت في اللحظة التالية لتتابع حديثها: في الغد سأرسل شاباً يدعى رائد إلى منزلك بصفته السمكري، وهو سيخبرك التفاصيل.

أماءت ردينة بتعابير حيرى فاقتربت مياس لتضغط على كتفها بدعم مضيفة برفق: أعدك ألا يلحق مكروهاً ما بك ولا بعائلتك ردينة، لاتقلقي.
شعرت ردينة بصدق مقال مياس ودعمها الصادق، أشارت موافقة لتخرج مياس عقبها وكلها ثقة انّ أيام الوطواط باتت معدودة...

عادت مياس من ذكراها القريبة تلك لتزفر مطولاً قائلة: في اليوم ذاته أرسلت رجالاً إلى منزل عائلة ردينة ليقوموا بحراستهم، وفي اليوم التالي بعثتُ رائد إليها مع أجهزة التنصت لتقوم بزرعهم في المطعم حال عودتها إلى العمل، وأيضاً أعطاها رقم هاتفي وهاتفه كذلك للاحتياط.

سكتت للحظات ثم عقبت: منذ بضعة ساعات هاتفني أحد الحراس المنوّط بحراسة المنزل، أخبرني بأن الخفاش أرسل عدداً من رجاله ليأخذوا والدة ردينة وشقيقها الصغير، إلا أن رجالي منعوهم وأمسكوهم، وهكذا علمتُ أنهم شككوا بردينة، ولو أنني تركتها لبعض الوقت لكانوا أمسكوها.

كان يستمع إليها بعينين جاحظتين وفم مفتوح عن آخره ولم ينبس بحرف، طال صمته على غير العادة فتطلعت مياس صوبه لتجده على هذه الحالة من الاذبهلال المندهش فسخرت: أغلق فمك أويس قبل أن تدخل فيه ذبابة.
أجفل بخفة عندما تواردت الى مسامعه نبرتها الساخرة فابتلع ريقه ثم حدجها بنظرة ممتعضة، تساءل بعض برهة: وكيف تأكدتِ من أنهم سيقبلون إعادتها إلى العمل في المطعم؟ لربما رفضوها؟

تعابير ساخرة بانتصار غزت محياها وهي تجيبه بثقة: على العكس تماماً، شكك الخفاش بردينة منذ اليوم الاول لعودتها، لذى كلفوها بخدمة القسم الأوسط من المطعم، هناك لايجتمع أشخاص مهمين ولن توصل إليّ سوى مايريدني الخفاش أن أعرفه.
رفعت كتفيها بلا اكتراث مضيفة بجمود: ببساطة ظنّ أنني بيدق في لعبته، لكنه لم يستوعب أن العكس صحيح.

أوقفت السيارة أمام عربة العم درويش، صاحب سيارة القهوة المتنقلة قرب مبنى المكافحة، انعقد حاجبي أويس بغرابة وهو يرى العم درويش يقترب من سيارة مياس ملقياً عليها تحية سريعة ثم ناولها هاتفها القديم، شكرته مياس ببسمة رائقة ثم عادت لتنطلق من جديد، كل هذا تحت نظرات أويس التائهة، طالعته بنظرة مستفهمة ليرفع يديه باستسلام: لن أسأل!

قهقهت بتسلية خافتة وهي تحرك رأسها بيأس، عمّ الصمت للحظات قبل ان يسألها مجدداً بهدوء: والآن؟ مالذي ستفعلينه؟
أتته إجابتها الباردة: سأوصلك إلى منزلك أولاً، ثم إلى منزلي لأرتاح.

ماإن أنهت حديثها حتى صدح رنين هاتفها، التقطته من فورها معتقدةً أنه الخفاش، لكنها زوت مابين حاجبيها وهي ترى رقم ابنة خالها، للحظة لعنت غباءها لأنها نسيت أن تخبرهم بشأن تغييرها للرقم، لا مشكلة ستخبرهم الليلة فهاتفها هذا تحت المراقبة، أجابت الاتصال بنبرة سؤال: أروى؟ مالأمر؟
أتاها صراخ المقصودة المستغيث: مياس أرجوك الحقي أبي.

قطبت جبينها وهي توقف السيارة إلى جانب الطريق لتسألها باستغراب: خالي كمال؟ مابه؟
كانت سعاد جالسة في صالة المنزل الكبيرة تبكي بصوت مسموع وتضرب على قدميها، وبجوارها قبعت الحاجة رائدة تحاول تهدأتها رفقة عليا، تحدثت أروى بنبرة مرتجفة وعينين دامعتين: أخبروه العمال باحتراق مخزن الحبوب، ومنذ ذهابه لم نستطع الوصول إليه، وأمي هنا تبكي قلقة تريد الاطمئنان عليه.

زادت عقدة حاجبيها حين استمعت لحديث ابنة خالها، وقد وصل إلى مسامعها نواح سعاد، أجابت بعد برهة: لاتقلقي أنا ذاهبة إليه.
أغلقت أروى الاتصال بعد أن شكرتها لتجري إلى والدتها، ركعت قبالتها قائلة بنبرة متعاطفة: مياس في طريقها إلى المخزن أمي لا داعي للقلق.
لم تهدئ كلماتها سعاد الباكية والتي رفعت كفيها تبتهل إلى السماء: احفظه لنا ياآلهي، ليس لنا سواه...

ذلك الخبر لم يكن هيّناً عليها البتة، شردت أمامها للحظات قبل أن تسمع سؤال أويس المستفسر: مالأمر مياس؟
نطقت ومازالت على شرودها: احترق مخزن الحبوب الخاص بخالي كمال.
انعكس الخبر صدمةً على وجه أويس الذي رفرف بعينيه مرات عدة قبل أن يتساءل: أيعقل أنه...
قاطعته مياس بتفكير قبل أن يكمل سؤاله: لا، ليس الخفاش، هذا ليس أسلوبه.
عاود سؤالها باستهجان: من فعلها إذاً؟
رمت الهاتف أمامها قائلة: سنعرف قريباً.

استدارت نحوه لتعقب باعتذار: للأسف أويس لن أستطيع إيصالك إلى المنزل، خذ سيارة أجرة على حسابي.
قطب جبينه باستهجان من مقالها لكنه عقد ذراعيه أمامه قائلا بعناد: أنا ذاهب معك.
زفرت بضيق متحدثة يصبر نافذ: أويس لستَ مضطراً للذهاب معي، لو سمحت تفضل يجب أن أذهب إلى خالي.
رفع كتفيه بلا اكتراث قائلا: لن أنزل، إما أن أذهب معك او فلنبقى واقفين مكاننا.

اتسعت عيناها بامتعاض لكنها ليست في حال جيدة لتجادله، أدارت المفتاح بعصبية وأنفاس ملتهبة وهي تدمدم مع نفسها: لم تكفيني ابتلاءاتي ليكملها البلاء الأعظم!
رغم سماعه للنعت الغريب الذي رمته به لكنه لم يتحرك عن موقفه قيد أنملة، التفت إلى الأمام محدثاً نفسه: سأجعل أيامك سوداء أيتها الخفاش الأسود!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة