قصص و روايات - قصص بوليسية :

رواية حي الورد للكاتب علي اليوسفي الفصل التاسع عشر

رواية حي الورد للكاتب علي اليوسفي الفصل التاسع عشر

رواية حي الورد للكاتب علي اليوسفي الفصل التاسع عشر

(((ليت الماضي يمرّ بي كسحابة صيفية، خفيفة كحلمٍ وردي، لو أن الذكريات تمرّ بين مسامات عقلي بهدوء دون أن تخدش أحلامي، دون أن تترك أثراً لقطرة دمع أو لحظة آسى))).

كسعيرٍ جائع أتت النيران على جزءٍ كبير من المخزن ومافيه، إلا أنهم أخمدوها ليظلّ فقط دخانها والرماد، سيارات الإطفاء رحلت للتوّ وعدد من العمال والسكان القريبين من المخزن تحلقوا حول كمال الذي جلس على حجر قريب، يطالع بتعابير مرهقة جنى عمره وقد أضحى مجرد بقايا سوداء، حتى كفيه وثيابه اتسخا بالرماد الأسود، ومن حوله تحلق جيرانه وعماله يحاولون مواساته، فيما عقله لم يهدأ للحظة باحثاً عن المتسبب فيها، فالنار لم تشتعل لوحدها، لابدّ من شخص ما أشعل جذوتها لكن السؤال اللولبي هنا من هو؟

أسدل جفنيه يعتصرهما بقوة عندما سمع حفيف سيارة ما توقفت قريباً منه، ترجلت مياس راكضةً صوب خالها هاتفة باسمه، التفت نصف التفاتة نحوها لكنها كانت بالفعل قد وقفت جواره، قالت تسأله: خالي هل أنت بخير؟ مالذي حدث؟
تنهد ببطئ ليجيبها بعد لحظة متطلعاً صوب المخزن: لاأعرف يامياس، لازلنا بانتظار تقرير رجال الإطفاء الأوليّ.
قطب جبينه بشدة ليضيف وعينيه تعلقت بما تبقى من المخزن: ولو أنني أشكّ أنها بفعل فاعل.

استدارت مياس بدورها تطالع المخزن الكبير، لولا أنها تعرف الخفاش وأسلوبه لكانت اتهمته، لكنها لاتعتقد أنه خلف هذا الأمر، المعضلة الكبيرة تكمن في أنّ خالها لايملك عداوات إن لم نحتسب العداوة القديمة مع عائلة الشافي طبعا لكنها في ذات الوقت لاتستطيع اتهامهم فهم لن يفعلوها ببساطة، إذا من فعلها؟

سؤال تردد صداه في عقل مياس عاضدها أويس تلقائياً، تفحص المكان بنظرة سريعة من حيث وقف أمام سيارة مياس مستنداً على جزئها الأمامي، ربما الأمر لا يدعو للتفكر كل هذا الوقت، لربما هو مجرد ماسٍ كهربائي!
فيما هم كذلك تعالت أصوات مُستنجدة من داخل المخزن، تراكض الجمع من بينهم كان كمال ومياس حتى أويس، صاح حازم مستغيثاً: اطلبوا الاسعاف فوراً، الرجل سيموت بين أيدينا.

جرى أحد العمال ليحادث الإسعاف من فوره، وصل كمال إلى حيث تجمع عدد من العمال ليجدوا شاباً ربما كان في منتصف العشرينات من عمره وقد أغمي عليه، و احترقت أجزاء من جسده كذلك تضرر قسم كبير من وجهه، كان حقاً في حال يرثى لها، تناقل المتواجدون همهمات جانبية متفرقة متسائلة عن هوية الرجل وعما كان يفعله هنا، في حين أجاب أحدهم: لربما كان يحاول إخماد النيران معنا.

طالعه كمال بامتنان ثم هتف عازماً: لن ننتظر حضور الإسعاف، احملوه معي.
تعاون مع عماله ليخرجوا الرجل إلى سيارة كمال، استقلّ حازم مقعد السائق بناء على أوامر الأخير، في حين تبعته مياس رفقة أويس.

في المستشفى.

أدخل الشاب إلى غرفة الإنعاش على الفور، ويبدو أنه استنشق كمية لا بأس بها من الدخان جعلته يقع مغشياً عليه، كذلك الحروق المتفاوتة في جسده تحتاج إلى علاج فوري، مرّ بعض الوقت كان أويس يأتي ويروح في ردهة الانتظار وحازم يقف مستنداً على الحائط، وكانت مياس تحادث أروى من هاتفها الجديد وتطمئنهم عن خالها، والذي جلس في الردهة ينتظر خروج أحد الأطباء، ورهبة كبيرة سيطرت عليه وهو يعود مرة أخرى إلى المكان الذي فقد فيه ابنه ووحيده، لم يكن الأمر سهلاً عليه البتة إلا أنه مضطر.

خرج الطبيب المناوب ولحسن الحظ كان حسام، وقف كمال أمامه متسائلاً بجزع: طمئني ياولدي؟ هل أنقذتم الرجل؟
خلع حسام كمامته الطبية ليجيب كمال المتلهف باحترام: اطمئن سيد كمال لقد تمّ إنقاذه مبدئياً.
تهدج صدر كمال بذعر ليعاود سؤاله لحظة إغلاق مياس للمكالمة وتقدمت لتقف بجانب خالها: ماذا تعني ب( مبدئياً)؟
بعملية بحتة أجابه حسام: لقد دخل في غيبوبة إجبارية، على مايبدو فالرجل قد انزلق ووقع على رأسه.

هز الآخر رأسه بتفهم ثم عاد حسام ليضيف: الرجل بحاجة لعدة عمليات جراحية لترميم وجهه سيد كمال، أين عائلته؟ يجب أن نأخذ موافقتهم حالاً؟
تبادل كمال مع مياس نظرات تائهة كأنهما تفطنا للتوّ إلى مسألة تحديد هويته، ثم تطلع في اللحظة التالية صوب حازم بنظرة استفهامية فأجاب رافعاً كتفيه: لم يكن معه أي أوراق ثبوتية.

بدى على كمال الحيرة في حين تحدثت مياس نيابة عنه: حضرة الطبيب نحن لانعرف هذا الشاب، لقد وجدناه في المخزن بعد أن أخمدوا النيران، نعتقد ربما كان يساعد في إخماد النار وعلق في الداخل.
هز حسام رأسه باقتناع ثم عقب: لامشكلة حضرة النقيب، كما أخبرتكم الرجل حالياً في غيبوبة، لكن يجب أن تجدوا عائلته لنأخذ موافقتهم على عمليات ترميم الوجه.

في هذه اللحظة تقدم أويس متحدثاً: لماذا لانأخذ بصمات يده؟ أعتقد أنّ ذلك أسرع، مارأيك مياس؟
وجه سؤاله نحوها فحركت رأسها باستحسان إلا أن حسام أجاب: للأسف لن تتمكنوا من فعل هذا حضرة النقيب، فكلتا يديه تضررتا بشكل كبير، على الأرجح أنّ بصماته قد اختفت تماماً.
تبادلوا نظرات مستغربة ليعقب كمال في محاولة للمساعدة: لمَ لا تأخذون عيّنةً منه لتقوموا بذلك الفحص المخبري الذي يحدد هويته...

قطع كلماته عندما لم يعرف اسم هذا الاختبار في حين عقب أويس ببسمة صغيرة: تقصد تحليل DNA؟ هناك الآلاف من السكان في هذه المدينة ياسيد كمال، ومن الصعب أن نأخذ عينة من الجميع..
قطبت مياس جبينها بتفكير ثم حادثت أويس: لن نأخذ عينة من الجميع في المدينة، فقط من يقطن حول المخزن، ربما هو احتمال ضعيف لكن لابدّ لنا من تجربته.
استدارت تالياً صوب حسام لتعقب: قم بالإجراءات اللازمة حضرة الطبيب، ونحن سنقوم بالباقي.

استأذن حسام للمغادرة بعد أن شكره الجميع، ثم التفتت مياس صوب كمال لتضيف بلطف: وأنت خالي عليك الذهاب إلى المنزل، فالجميع بانتظارك.
زفر كمال مطولاً ثم التفت صوب حازم قائلا: سأوصل حازم إلى بيته أولاً.
حركت رأسها بالإيجاب ثم التفتت صوب أويس لتتابع: دعني أوصلك إلى منزلك أنت أيضاً.
شعر بالإحراج خاصة أمام كمال ليحمحم بتوتر طفيف: لا لا داعي، سآخذ سيارة أجرة.

طالعته بنظرة غير راضية مجيبة باستنكار: لقد تعدت الساعة الثانية بعد منتصف الليل، من الصعب أن تجد سيارة أجرة في هذا الوقت، هيا تعال.
تحركت في اللحظة التالية دون انتظار جوابه فمسح على رقبته بحرج ثم حثّ خطاه ليتبعها وقد امتعض من طريقتها المتعالية، ربما ستتسبب له بالشلل قريبا!

استقلت مياس مكانها ثم رمت الهاتف أمامها منتظرةً قدوم أويس، جذب انتباهها سيارة ما كانت تقف خلفها، سوداء ذات نوافذ مظللة ومن دون لوحة أرقام، عقدت حاجبيها بريبة لكن قاطعها قدوم أويس ليستقرّ بجانبها ثم أدار جسده إليها هاتفاً بامتعاض: أتحبين إحراجي دائماً؟!
ناظرته بعدم فهم ليضيف مشيراً بيديه: أكان من الضروري أن تحادثيني بهذا الشكل المتعالي أمام خالك؟

أدارت جسدها لتقابله متحدثة باندفاع مستغرب: ضايقك حديثي؟ مالذي قلته ليستدعي غضبك هذا؟
زمجر من بين أسنانه بسخط: مياس لا تفقديني عقلي!
تبسمت بتهكم مجيبة: لن أفقدك مالا تملكه أصلاً.
استدارت تالياً لتدير سيارتها وتنطلق بها، فيما جحظت عينيه بصدمة قبل أن يتفطن لإهانتها المستترة، فهمس بغيظ ووجهه اصطبغ بألوان الطيف: فمك هذا يطلق حجارة لا كلمات أتعلمين هذا؟

زفرت بضيق وهي تطالعه بنصف عين ثم همست: الذنب ذنبي أصلاً، لماذا لم أتركك تذهب ماشياً لا أعلم!

لم يحبذ الرد عليها فكلاهما منهكان، يكفي إلى هذا الحدّ، عقد ذراعيه أمامه وزفر بصوت مسموع تعبيراً عن غيظه المتنامي، فالتزمت مياس بدورها الصمت لبضع دقائق، في أثناء هذا جذب انتباهها تلك السيارة التي تحركت خلفها مذ أن كانت أمام المشفى، زادت مياس سرعة سيارتها وهي عاقدة حاجبيها وتنظر بتركيز في مرآتها الأمامية والجانبية على حدّ سواء، لاحظ أويس هذا فتطلع صوبها بجبين مقطب بتفكير فتساءل: مالأمر؟

همست تجيبه بإيجاز أثناء توزيعها نظراتها بين الطريق والمرآة: أحدهم يتبعنا.
التفت للخلف ليرى تلك السيارة فتوسعت عيناه خاصة عندما لم يجد لوحة التسجيل، حاول قائد تلك السيارة جعل سيارته بمحاذاة سيارة مياس، فهتف أويس قائلاً وهو يسحب سلاحه: تخلصي منهم مياس، إنهم يحاولون الاصطفاف بجانبك.

لم تكد تسمع جملته حتى أدارت المقود بحركة خفيفة إلى الجانب لتدلف إلى زقاق ضيق يتسع لسيارة واحدة، كان أويس يتابعهم فلاحظ توقفهم أول الزقاق لكنهم لم يلحقوا بهم بل تابعوا السير في الطريق المستقيم، انعقدت ملامحه محدثاً رفيقته: لم يلحقوا بنا!
تطلع ناحيتها عندما لم تجب ليجدها تضغط على فكها بقوة فأضاف بتعجب: أيعقل أنهم تراجعوا؟

حركت رأسها بالسلب قائلة بسخط: لم يتراجعوا، لقد نصبوا لنا فخاً ووقعنا فيه بسهولة.

لم يفهم مغزى كلماتها إلا عندما خرجوا من ذلك الزقاق ليجدوا السيارة ذاتها تلاحقهم، المشكلة هنا أنهم أصبحوا على الطريق السريع وباتجاه واحد، لحسن أو ربما لسوء الحظ أن الطريق كان خالياً تقريبا من السيارات، زادت مياس ضغطها على دوّاسة الوقود علّها تبتعد عنهم، إلا أنّ قائد السيارة الثانية كان أبرع منها فاستطاع جعل سيارته تمشي بمحاذاتها وحصرها، في هذه اللحظة أخرج شخص ما سلاحاً رشاشاً من نافذة السيارة الخلفية فصرخ أويس بذعر: سلاح...

حاولت المراوغة علها تتخلص منهم لكن جهودها راحت أدراج الرياح حين مالت عليهم السيارة الثانية لتضرب سيارتهم فيختلّ توازنها وتحاصرهم، الغريب في الأمر أنه فقط تعمّد إخافتهم لا أن يجعل سيارتهم تنقلب وهذا جعلها تشكك في خلفية الأمر، على مايبدو فهو مدرب لفعل هذا، لم تكد تستغرق في التفكير حتى لقّم أويس سلاحه يريد تصويبه ناحيتهم فصاحت به تمنعه: إياك أن تفعل أويس.

طالعها بريبة فأضافت وهي تتطلع إلى مرآتها الجانبية: انتظر قليلا لنرى مالأمر.
صاح باستهجان: ننتظر ماذا مياس؟ أن يقتلونا؟
أجابت دون أن تتطلع نحوه: ذخيرتنا محدودة، يجب ألا نستخدمها إلا للضرورة.
ربما هي محقة، فكر بهذه الجملة أثناء تطلعه إلى سلاحه، لاحظ تالياً تهدأتها للسرعة فسأل بغيظ: مالذي تفعلينه بحق الله؟!
لم يكمل كلمته إلا وسمعها تهتف من بين أسنانها بحنق: لقد حاصرونا!

لم يفطن لمقصدها فطالع ما أمامهم بمقلٍ مُتسعة، ليجد الطريق أمامهم مغلق بكتلٍ إسمنتية كبيرة ولوحة كبيرة لم تكن هنا نهاراً كُتِبَ عليها: احذر، حفريات، والرصيف عبارة عن جدار عالٍ من الإسمنت.
همس بسبةٍ بذيئة تواردت إلى مسمعها فأوقفت السيارة بغتة ليفعل قائد السيارة الثانية المثل فتساءل أويس بريبة: والآن ماذا؟

قبل أن ينهي سؤاله كان الرشاش قد انطلق برشقات رصاص متتابعة، سيطر عليه الذعر وبحركة غريزية امتدت يده ليجبرها على الانحناء هاتفاً بوجل: حاذري!
استمرّ إطلاق الرصاص فحاولت مياس سحب سلاحها ونجحت بعد عدة محاولات، ثم مدت يدها إلى جانب كرسيها لينفتح عن آخره فصار أشبه بالأريكة، ثم دفعت جسدها للخلف فيما صاح بها أويس: مالذي تفعلينه؟

لم تجبه فكانت منشغلةً بالزحف على ظهرها حتى أصبحت في الجزء الخلفي للسيارة، حاولت إنزال الزجاج قليلا لتجيبه حينها بصراخ غاضب: لن أقف وأتفرج دون فعل شيء.
رفعت رأسها إليه وقد مدت يدها قائلة: ناولني هاتفي على مقدمة السيارة.
جزّ على أسنانه بضيق لكنه رفع يده بحذر يتلمس مقدمة السيارة ليجد الهاتف وناولها إياه، ثم مدّد كرسيه ليوازيها هو الآخر سائلاً إياها: والآن ماذا ستفعلين؟

نجحت بفتح هاتفها لترفعه للأعلى قليلاً وقد وضعته على تطبيق الكاميرا ليظهر انعكاس السيارة فيه، ولحسن الحظ كانت كشافات الشارع مضيئة فتسلل بعض الضوء منها إلى السيارة، دققت مياس النظر في الانعكاس وحاولت رؤية أي شيء قد ينفعها، فيما حاول أويس فتح الباب الآخر لكنه فشل لالتصاق السيارة من الناحية الأخرى بجدار الرصيف فهمس بكلمات سريعة لم تقفه منها حرفاً، رفع سلاحه ليضرب عشوائياً من فتحة النافذة الصغيرة كردّ على مصادر النار عدة مرات حتى نفذ مخزنه، في الوقت الذي كانت فيه مياس منعقدة الملامح تراقب انعكاس الرجل حامل السلاح ولاحظت أمراً غريباً، ناظر أويس جانب وجهها فرأى تقطيبة حاجبيها فتساءل: ما الأمر الآن؟

أدارت رأسها ناحيته قائلة بهمس: سيارتي ليست مضادة للرصاص، رغم هذا لم تخترقها أية رصاصة بعد، ألا يبدو الأمر غريباً؟

رمش عدة مرات دون إجابة، وفجأة ضرب أحدهم طلقة على النافذة التي قبعوا تحتها ليتناثر زجاجها فوقهم، أوقعت الهاتف و صرخت بهلع وقد أجفلت ليغطيها بيده يحمي وجهها من الزجاج الذي غطاهما، و قد توقف عن التنفس للحظة لمجرد تخيله أن يصيبها مكروه ما، ساد الصمت المختلط بأنفاس مذعورة، كان كلاهما يتنفس بصعوبة وحين أنزل ذراعه عن رأسها تطلع كلاهما إلى بعضهما، لأول مرة يلاحظ أويس لون مقلتيها السود، وتقرأ مياس في حدقتيه خوفاً واضحاً عليها ولمعة دافئة اختصها بها وحدها، كان لقاء العيون سحرياً خاصة مع تقاربهما إلى هذا الحدّ غير المسبوق...

حفيف إطارات السيارة الثانية على الطريق الإسفلتي أنقذهما من شرودهما فهمست مياس: لقد رحلوا؟
هز رأسه موافقاً إياها لتضيف بذات الهمس، ولمحة طفيفة من التوتر: أبعد يدك.
قطب جبينه بعدم فهم لينتبه لتوّه إلى يده التي حاصرت خصرها بحماية فأجفل بخفة وانتزع ذراعه، ثم حمحم بحرج قائلا وهو يتهرب من نظراتها: أنا أسف.

شهقت نفساً عميقاً أثناء إسدالها أجفانها و تعود لتفتحهما، فتحت الباب بهدوء لتتأكد من خلوّ الطريق ثم ترجلت ليتبعها أويس، كان الطريق في هذا الوقت فارغاً تماماً، وقف بجانبها يطالعان إطارات السيارة التي تمّ ثقبها بأكثر من رصاصة، الغريب في كل ماحدث أنّ حامل السلاح تقصد تصويب سلاحه إلى الإطارات والطريق تحت السيارة كأنه لم يرد أذيتهما، تحدث أويس بغضب مكتوم: الخفاش، أيها الحقير!؟

تطلع ناحيتها وماتزال على هدوئها متابعاً: لقد حاول قتلنا مياس، الرجل لايمزح.
هزت رأسها بنفي قائلة بهدوء جاد: لم يكن يريد قتلنا، بل هي رسالة تحذير.
صاح بسخط غاضب: تحذير يا مياس؟ كل هذه الرصاصات مجرد تحذير؟

أنهى حديثه مشيراً إلى كمّ الفوارغ التي بقيت مكان السيارة الهاربة، فتطلعت إليه قائلة بتوضيح بارد: لو أنه أراد قتلنا حقاً لصوّب إلى الأعلى قليلاً عن الإطارات، فسيارتي ليست مضادة للرصاص وعلى الاغلب سيقتلنا كلانا برصاصة واحدة، لكنه لم يفعل فما تفسيرك لهذا؟
تعالى صدره وهبط لكنه بطريقة ما اقتنع بقولها، فيما همست هي بتفكير كأنها تحادث نفسها: علامَ تنوي ياخفاش؟ ومالذي تخطط له؟

الليل مهرب المحبين، وراحة للمتعبين، لكن ليس للجميع، فطارق الذي يتعب في عمله يعود ليلاً ليساهر خطيبته التي لاتحرره بسهولة.
كالعادة، كانت داليا مستلقية على بطنها فوق سريرها المريح، وأمامها طبق كبير من التسالي المالحة المختلطة تأكلها باستمتاع كبير، وعلى أذنها تضع هاتفها غارقة في محادثة لطيفة مع طارق، ذاك الشاب الأخرق لكنها تحبه، ربما صدق المثل القائل: وافق شنٌّ طبقة!

تمدّد طارق على سريره واضعاً ذراعه تحت رأسه، قال بابتسامة لطيفة: أتعلمين داليا؟ لا أشبع من سماع صوتك أبدا فماذا أفعل؟
ابتسمت بمكر لتجيبه بسماجة مميتة: كلْ معه رغيف خبز.
قهقه بخفة على ردّها الأبله ثم أردف بنبرة جادة: في حضرتكِ أصبح شاعراً، تعرفين هذا؟
ضحكت ساخرة على الناحية الأخرى فأضاف بتذمر: صدقيني أنا جاد في حديثي.
خفتت ضحكتها معقبة كأنها تمتحنه: حقاً؟ اسمعني إذاً.

اعتدل جالساً وهو يقول: اسمعي هذا، لقد قرأته ذات مرة في صفحة أحدهم على الفيس بوك.
همهمت باستمتاع فأخذ طارق نفساً عميقاً وركز نظره في اللامكان، تبسم بودّ كأنه يراها ثم أردف بنبرة عاشقة: يا أيتها الأنثى التي احتلت قلبي، لقد سرقتِ أنفاسي فأعيديها.
كلماته اللطيفة دغدغت مشاعرها بإحساس عذب نقي، لكنها ردت ساخرة ويكاد يجزم أنه يرى ضحكتها المتهكمة: لماذا هل نسيت أنفك عندي؟

قاوم سبّة بذيئة تكاد تقفز من فمه وتنهد مطولا، ثم عقب بعد لحظة: حبيبتي تفهميني أرجوك، ليس لي سواكِ.
رغم فهمها لغزله الصريح إلا أنها أبت إلا أن تقتله بحماقتها فأجابت بتهكم بجدية: اشتري معجون أسنان عزيزي.
أخذ به الغضب مأخذه فقال بهسيس من بين أسنانه: أتعلمين ماهي المشكلة؟
عقبت بلا مبالاة وهي تحرك قدميها في الهواء: ماذا؟
جزّ على فكه بضيق مردداً: أنّ استيعابك لحديثي بطيء للغاية.

رمت حبة اللوز التي كانت في يدها في الطبق وقد جحظت عيناها لتتساءل بشهقة عالية: أتقصد أنني غبية؟
استنكر بصدمة نافياً: أنا؟ لم أقلّ هذا.
أشارت بيدها قائلة بتصميم: بلى، عندما تقول أن استيعابي بطيء يعني أنني غبية، لكن بطريقة متحضرة!
أمسك طارق بمكان قلبه يفركه بقوة هامساً وهو يسقط بظهره للخلف: آهٍ قلبي، ستقتليني يوماً ما لا محالة..
صاحت ببلاهة: لن تموت قبل أن تحادثني طارق، أليس هذا ماقصدته؟

أغمض عينيه بإرهاق وهو يجيبها بهمس مستسلم:
تعلمين داليا، أحياناً أجلس وأخطط لمستقبلنا معاً فأشعر أن حماقتك تجلس في الزاوية تطالعني ببسمة منتصرة، حقاً أنا قلق على مستقبلي معك...
رمشت بعينيها ببراءة ثم قالت بسماجة ثقيلة: لماذا القلق عزيزي طارق؟ أليس من الوارد أن تموت في الغد،؟ تفاءل!

توسعت عيناه عن آخرهما بذهول معجون بالصدمة، هذا المرة حماقتها تخطت المعقول، صرّ على فكه بكمد قائلاً بجدية غاضبة: الذنب ذنبي أنا حقا، اغربي عني داليا.
أغلق الهاتف في وجهها وقد اصطبغ وجهه بالأحمرّ لشدة غضبه منها، في جزئية منه يلوم نفسه لوقوعه في حبّ فتاة مدللة مثلها لاتعرف للاحترام حدوداً، بينما على الجانب الآخر، دُهشت داليا لفعلة طارق فقالت بتعجب ساخط: أقفل الخط في وجهي؟ حسابك عندي أيها الأحمق!

طلبت رقمه وجسدها كله يرتعش من فرط الغضب، مرّت لحظات عدة لم يجب فيها الاتصال حتى رفض المكالمة من أصلها ورمى الهاتف بإهمال على الفراش جواره، اعتدلت جالسة على السرير وقد استنفرت حواسها كلها، وغريزة حواء داخلها تناديها لردّ اعتبارها فقامت بإرسال رسالة مقتضبة إليه كان فحواها: بالمناسبة كنتُ أريد أن أخبرك بأمر هام.
صدح هاتفه بإشعارٍ لرسالة، سارع ليقرأها فتغضن جبينه بقلق، أيعقل أنها ستنهي علاقتهما؟

حرك رأسه بنفي مواسياً نفسه: لربما تريد الاعتذار فقط!
بقلقٍ داهم خلاياه طلب طارق رقمها، لحظات قليلة وأجابته ببرود مقلق أتقنته: نعم؟ ماذا تريد؟
زادت حيرته فتساءل بجمود مختلق: مامعنى رسالتك؟

أتته إجابتها عندما أغلقت الهاتف في وجهه تاركةً إياه يحادث الفراغ وعادت إلى سابق جلستها وهي تتنفس بارتياح جمّ، رفعت حبة فستق مقشر تسقطها في فمها وابتسامة لئيمة ارتسمت على ثغرها أثناء تخيلها لتعابير طارق المصدومة بعد قصف الجبهة الصامت هذا، همست تحادث نفسها وهي تطالع نقطة فارغة أمامها: عزيزي طارق، في حياتك لا تناطح حواء!

أسقط طارق جسده للخلف متنهداً بسأم، حادث نفسه بكمد: على مايبدو يجب أن أكتب وصيتي قريباً، سأموت على يدك لامحالة...

تعالى رنين هاتفه مجدداً فظنّها داليا من جديد، التقطه على عجل ليدهش عندما رأى رقم أويس يطلبه، زاد استغرابه حين رأى الساعة التي قاربت الثالثة فجراً، لم يطلْ الانتظار ليجيب من فوره، لحظات قليلة وبكلمات موجزة أمره أويس أن يحضر فوراً إلى عنوان مقطوع- تقريباً- ليأخذه، خلال أقل من نصف ساعة كان طارق يصطفّ بسيارته أمام سيارة مياس وعينيه متسعة عن آخرهما للمنظر المريب أمامه، تطلع نحوهما بتساؤل فقالت مياس بإرهاق وهي تفتح الباب الخلفي: لا تسأل..

حقاً! لايجب أن يسأل!
صعد أويس بجانب طارق لينطلق الأخير يشقّ عباب الظلام، ويوزع نظراته الفضولية بين أويس حيناً وبين مياس حيناً أخرى، حاصرهما بنظرات متسائلة ومستريبة في بعضها حتى زفر أويس بملل متعب ثم استدار إليه هاتفاً: ابزق سؤالك قبل أن تختنق به طارق.

أولته مياس اهتمامها حين نطقه لتلك الكلمات، فيما صاح طارق بتذمر: مالذي حدث معكما أويس؟ أفهمني أرجوك؟ الساعة الثالثة آتي لأخذكما من منطقة شبه مقطوعة ومنظركما كمن تعرض لمحاولة اغتيال، وسيارة مياس في حالٍ يرثى لها.
أوقف سيارته إلى جانب الطريق ثم واجه الآخر بجسده باستهجان مصرّ: لن أتحرك من مكاني قبل أن أفهم والآن كل شيء.

تبادل أويس ومياس نظرات مترددة، ثم اقتربت منه مياس لتسأله بتفهم: مالذي تريد معرفته طارق؟
طالعها بنظرة متفحصة مجيبا: كل شيء مياس، أريد أن أعرف كل شيء، لكن دعينا نبدأ بأين كنتما أنتما الاثنين؟
ناظرته بدورها بنظرة قوية لتسأله مباشرة: كيف أتأكد أنك محل ثقة طارق؟
صدمه ردها حقا، كادت عيناه تخرجان من مكانهما لذهوله فيما تابعت هي بجمود: للخفاش جاسوس ما بيننا، كيف اتأكد أنك لستَ هو؟

كانت جادة في حديثها لأبعد الحدود، ولايدري طارق لم شعر بالإهانة فنقل نظراته في اللحظة التالية إلى أويس الذي كان يطالعه بالنظرات ذاتها، نظرات مشككة مستريبة، صَعُبَت عليه نفسه أن يراه كليهما بهذا الشكل فهتف بلهجة غير مازحة مثبتاً نظراته على وجه أويس: اسألي أويس إن كنتُ محلّ ثقة، أم أن لديك رأياً آخر أويس؟

ثم أضاف بنبرة مبحوحة كجريح مخذول: ليس معنى أنني أحب الضحك والمزاح أني جاسوس، أنا فقط لا أحب النكد، هذا كل شيء، مع ذلك إن كنتما لا تريدان أن تخبراني فأنتما أحرار.
استدار تالياً ليدير سيارته فينطلق بها، فيما تطلع أويس ناحية مياس ليجدها تطالع طارق بنظرات متفحصة كأنها تحاول الولوج إلى عقله، بادلته نظراته ثم أشارت بعينيها موافقة لتقول بهدوء جاد: لقد تعرضنا لمحاولة اغتيال بالفعل طارق، مرتين.

أصدرت المكابح صريراً عالياً حين أوقفها الأخير فجأة فهتف أويس بتذمر: وهذه المرة الثالثة!
بينما ثبت طارق عينيه على وجه مياس التي لم تتزحزح عما قالت لتضيف: داهمنا المطعم الذي تعمل فيه ردينة، قتلنا البعض والبعض الآخر تمّ إسعافه للعلاج، على مايبدو فإنّنا أصبنا الخفاش في مقتل فأرسل لنا رسالة تحذيرية كما رأيت، هذه القصة باختصار..

لم يرمش ولم يزحزح حدقتيه عنها، مرت لحظات على جندكوده هذا وفمه مفتوح فحرك أويس يده أمام وجه صديقه هاتفاً بسخرية: هي طارق، أغلق فمك قبل أن تدخل فيه ذبابة!
ردت مياس بتهكم: الذباب نائم الآن، سيدخل فيه صرصاراً..
قهقه كلاهما باستهزاء على تعابير طارق التي زادت صدمته، رمش بذهول وهو يحادث نفسه: إنهما يتمازحان؟ الخفاش الأسود والبلاء الأعظم يتمازحان؟ ياحبيبي!

أثناء تفكيره بهذه الجملة ارتسمت على وجهه ابتسامة مصدومة سرعان مااستفاق منها ممثلاً الضيق ثم عقب بتهكم متذمر وهو يدير المقود لينطلق بالسيارة من جديد: هه هها، دمكما خفيف أنتما الاثنين!

ناظرها أويس ببسمة متسعة ولمعة حنون في مقلتيه، بادلته بأخرى صغيرة ثم أدارت وجهها صوب النافذة والتزم الجميع الصمت حتى أوصلها طارق إلى زقاق قريب من منزلها، راقبها أويس حتى اختفت في داخل الزقاق وتنهد مطولاً، لاحظ طارق كل هذا لكنه لم يسأل لعلمه أن أويس سينكر ببساطة، لكنه لن يكذب عينيه ويصدق ترهات أويس وحججه غير الصادقة!

وقت شروق الشمس في المدينة الساحرة لا يُفوّت، مع بحرها وجبلها وغابتها الصغيرة يشكل لوحة ندر أن رأتها عين إنسان، إنها باختصار بضع لحظات سعادة مجانية.
وقف أويس على سطح المبنى الذي يقطنه ليشهد ولادة يوم جديد، مازال بملابسه ذاتها فهو لم يدخل إلى المنزل أساساً، رفع إحدى قدميه مستنداً على الحائط القصير، وكلتا يديه حاصرهما في جيبه، وتعابيره مرهقة بوضوح.

تنهد بقوة مستذكراً كل لحظة من هذه الليلة الطويلة للغاية، مشاعر كثيرة اختبرها للمرة الأولى في حياته، حتى شعور الخوف الذي جاهد في دفنه داخل أعماقه طويلاً طفى هذه الليلة على قسماته، ولأجل من؟ لأجل مياس؟ هي ذاتها التي لم يكن يكره أكثر منها قبل أسبوع خلا؟!

لكن ماحقيقة شعوره ناحيتها الآن؟ مسح على وجهه بإرهاق زافراً بقوة ربما لقلة نومه منذ يومين لم يعد يميز بين أحاسيسه، تطلع ناحية أمواج البحر التي تلألأت بأناقة تحت أشعة الشمس البرتقالية، وشبح ابتسامة لطيفة غزت محياه عندما ارتسمت صورتها على صفحة الموج الرائق، لمقلتيها السوداء سطوة تخضع أعتى الرجال، مياس، هذه الفتاة المقاتلة التي لاتنضب خزائن الدهشة معها أبداً...

على الجانب الآخر، عقدت مياس كلتا يديها أمام صدرها بعد أن أبدلت ملابسها، بقوامها الممشوق وبذلتها الرياضية السوداء، تراقب الشمس الذهبية التي بدأت ترتفع لتوّها لتملأ الكون بضياها، تستذكر تلك اللحظة الحرجة التي جمعتها بأكثر شخص لديه نزعة ذكورية كرهتها في حياتها، إلا أنها اليوم شعرت حياله بشيء غريب، ارتسمت ابتسامة نقية على ثغرها أثناء تخيلها لذلك المشهد من جديد، كم كانت قريبة منه!

أخفضت أنظارها بخجل وهي تستشعر طرقات قوية تطرق أضلاع قفصها الصدري، شعور جديد كلياً عليها ولا تجد له اسم، حواراتهما القصيرة بدأت تأخذ منحىً غريباً في حياتها حتى باتت تشعر بأنه جزء لا يتجزء من يومها.

تجهم وجهها فجأة حينما داهمتها ذكرى تحمل اسم والدها المختفي، ذاك الشخص الذي لم تراه بحياتها ولن تفعل، الرجل الذي جعلها تكره جنس الرجال قاطبةً، أسدلت أجفانها تضغط عليهما بقوة لتؤكد لنفسها أنها تثق بأويس تماما كما تفعل مع رائد، كررت تلك الكلمة في سرها لأكثر من مرة: ثقة فقط...

دلفت إلى غرفتها لتستريح لتفكر بطريقة أوضح، هذا ليس الوقت الملائم لتشتيت الانتباه، عليها أن تكون حذرة أكثر في قضية الخفاش خاصة مع الموقف الذي عايشته اليوم، لقد أرسل لها رسالة خفية لكنها للآن لم تفكك رموزها المبهمة.
ماكادت تستلقي على فراشها حتى تعالى رنين هاتفها ليجبرها على النهوض مجدداً، التقطته فوراً لتقرأ رقماً خاصاً على الشاشة، قطبت جبينها بتفكير لربما هو الخفاش!

لم تطل الانتظار فأجابت من فورها: نعم!
لم يجبْ أحدٌ على الجانب الآخر، فصاحت من جديد: ألو! من معي؟
أتتها الإجابة على شكل أنفاس عالية متلاحقة حملت إليها حنيناً غريباًمن نوعه، اشتياق وتلهف، لكنها لم تعرف من صاحب الرقم حتى أغلق بطريقة مفاجئة، طالعت الشاشة بحاجبين منعقدين وجبين متغضن بغرابة، من هذا؟

عادت لتستلقي على ظهرها واضعة يدها القابضة على الهاتف فوق جبينها، سبحت بتفكير حائر وألف احتمال واسم طرق على ذهنها، لكنها لم تقترب من هوية صاحب الرقم ولا حتى من بعيد، ظلت على هذه الحال حتى سحبتها دوامة النوم لتغرق في الأحلام، تسحبها موجة ما لتتلقفها أخرى كما واقعها تماماً...

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة