قصص و روايات - قصص بوليسية :

رواية حي الورد للكاتب علي اليوسفي الفصل التاسع

رواية حي الورد للكاتب علي اليوسفي الفصل التاسع

رواية حي الورد للكاتب علي اليوسفي الفصل التاسع

(((التجاهل كالفتنة الصماء، يجعل المشاعر كقنبلة موقوتة تهدد بالانفجار بين لحظة وأخرى، لذا عندما يصبح ماتقدمه من حب واهتمام لا يكفيان، غادر، و عدْ غريباً كما كنت))).

ترجل طارق من سيارته الخاصة وهو يتثاءبُ بنعاس، فليلة أمس خرج مع خطيبته وشقيقته الأرملة كما وعدهما تماماً رغم تضايقه لأجل مياس وورد، وقد استشعرت داليا ضيقه فتجادلا لينتهي بهما المطاف متخاصمين، لكنه لم يستطع النوم وهما على هذه الحال فحاول مصالحتها على الهاتف حتى اقترب الفجر، ولولا خوفه من غضب أويس لما حضر أساساً.

مرّ بجانب سيارة رفيقه فظنّه قد حضر قبله، لاحت منه نظرة ناحية النافذة المغلقة مالبث أن توقف وقد اتسعت عيناه عن آخرهما وهو يرى أويس داخلها، وعلى مايبدو فقد نام هنا، مسنداً ظهره على الكرسي وعاقداً كلا ذراعيه سوياً ومازالت عيناه مغلقة، ساوره القلق فتقدم ليطرق على الزجاج المحاذي لأويس حتى أجفل الأخير، تطلع الى رفيقه بمقلٍ ناعسة ثم تطلع حوله كمن فقد الذاكرة، أدرك وضعه الآن فمسح على وجهه بكفه ليمحو عن وجهه آثار النوم، ثم أنزل الزجاج ليرتاح من طرق طارق المزعج، والذي حادثه باستفهام من فوره: مالذي تفعله هنا أويس؟

نفخ الأخير بغيظ وهو لايعرف بما سيجيب هذا الفضولي، فعقد طارق حاجبيه وهو يسأله بدهشة: هل نمتَ هنا؟

تطلع أويس إليه بانزعاج لم يبذل جهداً في إخفائه، ثم نقل نظره إلى الأمام ليتأكد من وجود سيارة مياس فلم يخبْ ظنه، فتح الباب تالياً ليخرج دون إجابة سؤال صديقه، والذي تبع خطاه وقد زادت هيئة أويس الفوضوية من دهشته، وقف أويس في منتصف الدرج متحدثاً الى طارق: سأدخل إلى الحمام وأغسل وجهي، وأنت اطلبْ لي فنجاناً من القهوة لأصحو جيداً.

رفرف طارق بغرابة ودهشته المرتابة في ازدياد، لكنه لم يطلْ الانتظار وقد ارتسمت على وجهه ابتسامة خبيثة، فتوجه إلى العم درويش صاحب عربة القهوة المرابط في أول الشارع ليجلب كأسين كبيرين من القهوة السادة، بعد فترةٍ قصيرة صعد إلى المكتب المشترك وعلى وجهه ابتسامة بلهاء، يتخيل ردة فعل أويس الغاضبة عندما يعلم أن القهوة من عند العم درويش، فالأول يكره قهوة العربات المتنقلة.

القهوة كانت مجرد حجة فقط ليصرف طارق عن اللحاق به، فتح أويس باب المكتب على مهل، لينظر إلى مياس النائمة على الطاولة تتوسد يدها، فبعد رحيلها ليلة أمس من الصالة الرياضية منزعجة منه لام نفسه، وبعد عدة تجاذبات بينه وبين نفسه قرر الاعتذار منها، فبحث عنها ليجدها قد غفت فوق المكتب من شدة تعبها، ويبدو أنها حاولت إلهاء نفسها في مراجعة ملف القضية حتى نامت فوقه.

لم يعرف لماذا وقف يتأملها، لكنه استحسن نومها على الأقل الآن يستطيع تبيان ملامحها والتي شابهت ملامح طفلة بريئة، عكس حالتها في صحوها دوماً غاضبة وصارمة، لم يشعر أويس بتلك الابتسامة التي ارتسمت على وجهه فتغضن جبينه لينهر نفسه، ثم حثَّ خطاه ليتقدم نحوها محاولاً إفاقتها فناداها بصوتٍ أجش: حضرة النقيب؟

لم تجبه لاستغراقها في النوم بعمق، لانت ملامحه وأخفض صوته ليناديها هذه المرة بلطف استغربه هو من نفسه: حضرة النقيب مياس؟

تململت في نومها بانزعاج فأدرك عقلها الغافي الصوت الغريب والمالوف في آن، قطبت جبينها وهي تفتح مقلتيها لترفع رأسها إليه ومازالت عينيها نصف مغلقة، بعد عدة محاولات استفاقت مياس وأدركت أنه أويس، جالت بنظرها لتستوعب مكانها الآن فهتفت تحدثه بنبرة ناعسة وهي تمسح على شعرها بحركة عفوية: صباح الخير حضرة النقيب.

تلك المياس مليئة بالمفاجآت حقاً، لم تقاطعه كما كان متوقعاً بعد حديثه المزعج ليلة أمس، أخرجه من شروده صوت طارق المرح وهو يدخل إلى الغرفة، محدثاً أويس وبيده كوبي القهوة: لقد جلبتُ لك ألذّ قهو...
قطع جملته عندما وقعت عيناه على مياس التي كانت تدلك رقبتها و التي تخشبتْ نتيجة النوم بشكل غير مريح، تحدث أويس عندما لاحظ شرود طارق: سأذهب إلى حمام مكتبي القديم.

كاد يخرج قبل أن يتفطن لأمر فعاد إليها يحدثها برفق استغربه طارق للغاية: أتودين أن تستخدمي الحمام أولاً؟

طالعت حال ثيابها المجعد وشعرها الفوضوي فزفرت بملل وأشارت له بالإيجاب، ثم تحركت من مكانها تحت أنظار طارق، والذي شعر بمقلتيه تكادان تخرجا من مكانهما وهو يراها بملابس الأمس ذاتها كما هو الحال مع أويس، حوّل مقلتيه المندهشة الى أويس الذي حاول تخطي تحقيقاً ينتظره فآخذ كوبه الخاص من يد طارق هامساً بأمر: لا تسأل.
لا يسأل!
فعلاً؟
هناك الكثير من الأسئلة التي تدور في ذهن طارق ولن يجيبه سواه عليها...

هذا الصباح لم يكن كسائره من الأيام، المدينة الساحرة لم تعد مُبهجةً كما المعتاد، حيّ الورد والذي كان ينبض بالحياة وصوت الباعة الجائلين يتداخل في أذنيك التزم الصمت هذا اليوم حداداً على فقدان زهرةٍ نضرة لا تُعوّض، سرادق عزاءٍ كبير نُصِبَ في ساحة الحيّ الواسعة وقد امتلأ عن آخره، جلس كمال في مدخل السرادق يستقبل المعزين الوافدين، وآيات الذكر الحكيم تصدر عن شيخ الحيّ بصوتٍ عذب، كأنها تواسي كمالاً وتخبره بالصبر واحتساب الأجر عند الخالق عز وجل، لكن كمال كان حاضراً بجسده فقط، أما عقله وإدراكه فقد أودعهما عند قبر طفله تحرسه، يقف ويجلس ويرفع يده بحركة روتينية كالآلة، حتى عندما حضر ابن الشيخ رمضان نائباً عن والده مع عدة رجال من قريتهم لم يعرفهم كمال، تطلع إليهم كأن تلك الوجوه لم يرها قبل الآن، باختصار كان أقرب للفاقد الأهلية، وفي رأسه تدور آلاف الأفكار والوعود...

أُقيم عزاء النساء في منزل آل الحكيم، العديد من النسوة حضر، كذلك حضرت الحاجة منال وبعض النسوة معها، رغم اكتظاظ الغرفة والمنزل لكن سعاد تخيلت أنها لوحدها، جالسة على كرسيها في صدر الغرفة شاردةً في الفراغ، كانت الحاجة رائدة تتطلع صوبها كل حين ومقلتيها تتلألأ بالدمع، وفي نفسها بعض الخوف من تقلب حالتها الغريب من الثوران إلى السكون المفاجئ، ولولا عبراتها التي تنساب على وجهها بهدوء لظنها الآخرون تمثالاً لاحياة فيه.

في حين اتخذت أروى من غرفتها مخبأً لتختفي فيه عن أعين الجميع، وتبكي بحرية على شباب أخيها الوحيد، ولم يكن بها من طاقة لرؤية أمها في حالة الركود الغريب تلك...

.

طلب اللواء جلال مقابلة كلٍ من أويس ومياس في مكتبه، في سابقة هي الأولى من نوعها منذ توليها قيادة الفريق، خرجت مياس أولاً ليتبعها أويس، عبرا الردهة الطويلة ومياس لا تأبه به وكأنه خيال، بينما كان هو يسترق النظرات نحوها كل حين، عاوده ذلك النزاع الداخلي مطالباً إياه بالاعتذار فيرفض بكبرياء، حتى انهزم كبرياؤه أخيراً فضغط على شفتيه وهو يمشي بمحاذاتها، خلّل شعره بين أصابعه فنطق أخيرا بعجالة كالمغصوب: اسمعي حضرة النقيب أنا آسف.

لم تتوقف عن المشي وهي تجيبه بلا مبالاة: آسف على ماذا؟
رفرف بعينيه مستغرباً تجاوزها الموقف برمته فهتف قائلاً بنبرة سؤال: على حديثي معك أمس؟
توقفت أمام مكتب اللواء لتقابله فوقف بدوره مقابلاً بسمتها الواثقة، طالعها بقَلق وهو يسمعها تجيبه ببرود مختلق: لا داعي للاعتذار حضرة النقيب.

توقع أنها لم تغضب بسبب كلماته والتي فهمتها بشكل خاطئ، فتبسم بحبور سرعان مادحرته مياس حين أضافت باحتقار: ليس لشيء، فقط لإنك لستَ ذي قيمة لأغضب من حديثك.
سقطت نظرة الاطمئنان من عينيه ليحلّ محلها صدمة كاملة، هذه الفتاة سليطة اللسان تتفنن في إبهاره كل مرة و، في استحقاره أيضاً!

لم تبقَ واقفةً لتقابل زوابع غضب عاصف ثارت داخل مقلتيه فسبقته إلى الداخل، ليظلّ هو يلعن نفسه لإنه استمع إلى تأنيب ضميره، مياس وقحة وجوابها دائماً يقبع على رأس لسانها، وهو مضطرٌ لتحملها فليلزم حدّه إذاً...

وقف أمام مكتب اللواء كحالها ويبدو أنه فوّت على نفسه الجملة الافتتاحية، فعقد جبينه بعدم فهم وهو يسمعها تحادث اللواء جلال: لكن سيدي لماذا؟
طالعها باستغراب لينقل بصره في اللحظة التالية إلى جلال الذي أجابها برصانة تلائم سنواته الأربعين: لا أريد أن أضغطَ عليكِ يا مياس، فأنا مقدرٌ لوضعكِ الحالي وظروف عائلتك...

قاطعته هي باحترام وقد تأهبت في وقفتها: أعذرني سيدي، أنا الأدرى بوضعي وظروف عائلتي، تماماً كيقيني بأنّ نديم لن يعترف بأيّ شيء إن تولى أحد آخر سواي مهمة التحقيق معه.

الآن وقد فطن لمغزى الحديث الدائر ارتخت تعابير وجهه، فعلى مايبدو بأنّ اللواء طلب منها التنحي مؤقتاً عن القضية وترك استجواب نديم إلى ضابط آخر، وعلى الأغلب كان هو من وقع عليه الاختيار، التفت إلى جلال الذي التزم الصمت لمدة قصيرة، حتى لانت ملامحه فقال بقلة حيلة: كما تشائين مياس، الأمر لك، لكني لن أسمح لك بالذهاب بنفسك لإحضار نديم، سأرسل صلاح وطارق ليجلباه مع دورية شرطة مخصصة تحسباً.

فتحت فمها لتعترض إلا أنه قاطعها بتحذير حازم: لن تعترضي مياس ولن ترفضي الأمر، لن أخاطر بإرسالك لجلب نديم وهويتك مكشوفة لدى الخفاش.
احتلت الخيبة ملامحها ليراضيها بنبرة أبوية حانية: لن أخاطر بحياة أفضل المتدربين وأفضل الضباط عندي، أنت جوهرتي النفيسة مياس.

لم تجدْ ماتردّ به عليه فأذعنت حالاً مما أثار غرابة أويس، والذي لم ينبس ببنت شفة ويبدو أن وجوده بجوارها كعدمه بالنسبة لجلال، سرح للحظات في ابتسامتها الهادئة والتي يراها للمرة الأولى تزين ثغرها، فزاد ذهوله ودهشته...
عاد إلى رشده عندما صرفهما اللواء جلال سوياً وكانت هي أول من خرج دون انتظاره حتى...

شابٌ لم يتخطَ بعد سنّ العشرين، دلف بشكل أقرب للركض إلى منزله ليرى من سلبت لبه، خطيبته وزوجته في شرع الإسلام منذ عهد قريب، لكن في شرع والديهما لم ولن يكونا كذلك حتى تبلغ الفتاة الخامسة عشر من عمرها، استأذن بصوتٍ عالٍ ليسمع صوت والدته تدعوه لضحكة حملت معها بعض السخرية: تعال تعال ياعثمان، منذ متى وأنت تستأذن بهذا الأدب؟

قطب جبينه بانزعاج وهو ينظر ناحية أمه التي قهقهت بصخبٍ على منظر ابنها الحانق، في حين اعتلت حمرة كثيفة وجه العروس المنتظرة حتى خُيل إليه أن وجنتيها ستطرح ورداً حالاً، حوّل أنظاره جبراً إلى زوجة عمه هاتفاً بنبرة سعيدة: كيف حالك يا زوجة عمي؟
أجابته زوجة عمه بابتسامة عريضة: أنا بخير ياولدي، كيف حالك أنت؟

تأمل عروسه من مكان وقوفه في مدخل الإيوان الواسع وقد أخفضت رأسها بخجل فطري فأكسبها ذلك رقة وجمالاً، حرك رأسه ليردد بنبرة ذات مغزى: كنتُ بخير، اما الآن فأنا في أحسن أحوالي.

لم يكن الأمر يحتاج للكثير من التوضيح، فمشاعر عثمان لابنة عمه الوحيدة يعرفها الجميع، وفي عرف ذلك الحي الفتاة الجميلة لابن عمها وهو الأولى بها، عمه ذاته هو رجل له ثقله وكلمته لاتصبح اثنتين في الحيّ، حي الورد، يوم أن كان أهله يداً واحدة في وجه الغريب، قبل أن يتفرقوا ويتباغضوا...

حركة خفيفة خلفه قطعت له شروده في صورةٍ كبيرة لوالده الراحل، تنهد عثمان بعمق جرح الذكريات البعيدة مغمضاً عينيه، لم يلتفت للخلف وهو يخاطب زوجته بهدوء غاضب: لا أريد أن أحادث أحداً ميادة.

تجمدت قدمي ميادة عند الباب وكسرةُ خاطرها بانت في مقلتيها، اهتزت يديها التي تحمل طبقاً كبيراً فيه صحون الإفطار لتراضي زوجها، لكنه وكالعادة يحملها هي المسؤولية كاملة ويلومها، ثم يظلّ غاضباً منها إلى ماشاء الله، ضغطت على نفسها لتكبح عبراتها الحزينة ثم استدارت خارجةً تجرجر أذيال خيبتها وكسرة نفسها خلفها، ليعود ذلك الصوت الملعون يهتف داخلها بعنف: لا تحاولي ياميادة، لا تحاولي واقطعي الأمل، سيبقى بعيداً كحلم يستحيل تحقيقه...

في غرفة المكتب المشترك.
كانت مياس ماتزال تعمل على تحليل البيانات والمعلومات التي جمعها فريق أويس منذ استلامهم لقضية الخفاش، منتظرةً اتصال اللواء جلال ليعلمها بوصول نديم لتحقق معه، عدم مبالاتها تلك أثارت ريبة طارق والذي كان يسترق النظر إليها بين الفينة والأخرى، في حين كان أويس منكباً بدوره على دراسة الأوراق التي كلفته بها مياس أمس.

في هذه الأثناء حضر اللواء جلال بتقاسيم ثقيلة مرتدياً بذلته الرسمية، انتبه الجميع من بينهم مياس إلى دخوله فوقفوا احتراما له، طالعهم جلال بنظرات تقييمية ثم أغلق الباب خلفه مما أثار الريبة في نفوسهم، وقف في منتصف الغرفة وهو يجول بنظره عليهم فتحركت مياس من خلف مكتبها حتى قابلته لتسأله باحترام: هل حدث شيءٌ ما سيدي؟
ناظرها بحزنٍ طفيف فأضافت بحذر وقد استبدّ بها الشك: ألم يصلْ صلاح وإيهاب برفقة نديم بعد؟

نفخ جلال من فمه بقوة مجيباً إياها: بلى، لقد وصلوا منذ قليل.
زادت عقدة حاجبيها عندما قطع جلال حديثه للحظات ثم أردف: لكن نديم وصل جثةً هامدة.
تبادل الرجلان خلفها نظرات ذات مغزى فيما تجهمت ملامحها بغضب، سألته بعد ثانية بنبرة غائمة: كيف اغتالوه هذه المرة؟
ضغط على شفتيه بقوة قبل أن ينطق بجمود: هذه المرة استخدموا السيانيد.

ارتخت ملامحها بذهول فتململت في وقفتها لتطرق أرضاً، قبل أن تسمع سؤال طارق بسذاجة: ماهو السيانيد؟
كمدافع رشاشة توجهت نحوه ثلاثة أزواج من العيون المستنكرة لسؤاله، رفرف بعينيه وقد استنبط دهشتهم من سؤاله، الغبي من وجهة نظرهم، فتحدث بابتسامة ساذجة ونظرات بريئة وعيناه تحول على وجوههم الحانقة: دروس الكيمياء كانت تصيبني بالنعاس.
همس أويس من بين اسنانه المتلاحمة بغيظ: لن أستغرب درجة غبائك أبدا بعد سؤالك هذا.

طالعه اللواء جلال بغضب لتفاهته في هكذا مواقف جدية، ثم تطلع إلى مياس يخبرها بنزق وهو يطالع طارق بنظرات مغلولة: تعالي إلى مكتبي قبل مغادرتك.

ضغطت مياس على نفسها فعلا لتخنق غيظها من سخافة طارق حتى خرج جلال حانقاً، فالتفتت صوبه وأجابته بتوضيح غاضب مستعجل: سم السيانيد ياحضرة النقيب من أسرع السموم وأشدّها فتكاً بجسم الإنسان، والكمية الكافية منه قد تقتلك خلال ثوان معدودة، وفي حال نجوتَ منه وهذا أمر مستبعد طبعاً فقد يؤثر على جهازك العصبي على المدى الطويل.

رغم أنه لم يفهم نصف حديثها إلا أنه أشار لها بالإيجاب، ظلّا حاجبيه مرفوعين ببلاهة فضيقت مياس عينيها وسألته بهدوء حذر: لم تفهم حديثي حضرة النقيب، صحيح؟
حاول الإنكار فرسم ملامح جادة على وجهه ورفع يده، فتح فمه لينطق لكنه لم يجد حديثاً، رفرف بأهدابه بسرعة لتسقط يده بجانبه مع ملامحه الجادة مجيباً إياها بقلة حيلة: صراحة لا، لم أفهم.
تهدل كتفاها بذهول أي جزء من حديثها لم يفهمه بالضبط؟

لم تشعر بنفسها إلا وهي تضحك على سذاجته حتى أدمعت وتحرك رأسها بيأس، كالأبله شاركها ضحكتها كأنها تضحك على شخص آخر، هدأت بعد لحظةٍ لتحادث طارق بامتنان وهي تمسح عبرتها: شكرا لك حضرة النقيب، لقد أضحكتني فعلاً.
رفع طارق ياقة قميصه الوهمية مجيبا بنبرة درامية: لا داعي لشكري سيدتي، طارق في الخدمة.
استغلّ الموقف ليضيف قائلاً بلهفة مصطنعة: مارأيك بهذه المناسبة أن نلغي الألقاب بيننا، أنا طارق وأنتِ مياس.

تابع وهو يشير ناحية أويس: وهذا أويس.
تلقائياً انتقلت نظراتها إلى أويس الذي كان يكتم غيظه من طارق جبراً، وهو يطالعه بعيون ضيقة كذئبٍ يستعدّ للانقضاض على فريسته، لوهلة ظنت أنه لايريد إلغاء الألقاب بينهم فأغرتها فكرة إغاظته لتفعلها، عاودت النظر إلى طارق قائلة ببسمة ذات مغزى: وأنا موافقة، طارق.

استدار أويس ناحيتها بوجهٍ متعجب، المزاح وتبادل أحاديث لاصلة لها بالقضية ليس أسلوبها عادة، تلاقت عيناها بمقلتيه لثانية ثم تحركت من فورها لتتناول مفاتيحها وجهاز هاتفها ومعهم سترتها وهي تحادث طارق بتقرير: سأذهب إلى المشرحة بنفسي ثم سأقابل اللواء جلال، بإمكانكم الانصراف.
خرجت بثقة لاتليق سوى بصاحبة الأسود، شيعها طارق بابتسامة متسعة حتى خرجت فهتف خلفها وهو يرفع يده بوداع: مع السلامة مياس.

لم تجبه او ربما لم تسمع، لم يدرك طارق الحقيقة فهو عندما التفت إلى رفيقه الواقف بجانبه قرأ نظراتٍ مخيفة لاتبشر بخير، سقطت ابتسامته ومعها ملامحه البلهاء وهو يزدرد ريقه بهلع، تلجلج في كلماته فلم يخرج صوته إلا همسا وهو يخاطب أويس: أظنني سأرحل أيضا...

فرّ كالفأر من أمامه، رافقته نظرات أويس الحانقة حتى شعر بأن أنفه وأذناه ينفثان ناراً، استند بيديه على ظهر المكتب لينفخ بضيق عظيم وقد احتقنت أوداجه، ثم هتف بصياح خلف طارق، ولحسن الحظ لم يسمعه أحد: احتمالان فقط لإصابتي بنوبة قلبية، إما غباؤك أو لسانها الطويل...

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة