قصص و روايات - قصص بوليسية :

رواية حي الورد للكاتب علي اليوسفي الفصل التاسع والعشرون

رواية حي الورد للكاتب علي اليوسفي الفصل التاسع والعشرون

رواية حي الورد للكاتب علي اليوسفي الفصل التاسع والعشرون

(((الثقة هبةٌ مبجلة، تريث عندما تقرر منحها لأحدهم، لربما رأيتَ صورته بعينٍ واحدة، افتح عينك الثانية لترى الصورة كاملة، قبل أن تسقط في وحل الخذلان))).

أنا شخصياً أؤمن بأنّ الإنسان يولد مرتين، مرة من رحم أمه، ومرة من رحم الأيام والكوارث التي تقلب حياته رأساً على عقب، فيولد إنساناً جديداً بكيان جديد.
نحن لا نملك سلطة لتغيير جلودنا، إنما تتغير القلوب والسلوك وحتى المبادئ.

بعض الأزمات التي تمرّ فينا تكن قاسية جداً، لكنا على الأغلب نخرج منها أقوى وأشدّ، وأكثر نضوجاً، ومعظم النوائب التي تلمّ بنا تجعلنا أمام خيارين، إما أن تهزمك فتندثر، وإما أن تبني منك شخصاً جديداً على أنقاض نفسك القديمة، وأحياناً بعض الظروف المتعبة تترك أثراً في النفس عميقاً، تُخرج منك شخصيةً متوغلة داخلك حتى لو أنكرتها.

هذا الإعصار غير الطبيعي الذي مرت فيه مياس لن يمرّ مرور الكرام، بل ستخرج منه بشخصية جديدة كلياً، هذا مافكرت فيه أروى وهي تطالع ظهر مياس، حيث وقفت تكتف ذراعيها أمام نافذتها بعد أن ارتدت سترتها، قطرات المطر تطرق القلوب قبل الزجاج، مقلتيها السود ثبتتها على القطرات الصغيرة ورائحة المطر تحمل إليها رائحة حنين غريب، تناظر الليل الذي زحف ببطء على حي الورد، أيقنت أروى أن مامرت به مياس دمّر داخلها مشاعراً وليدة ومعانٍ جميلة لن تعوض أبداً، سيخلق فيها وحشاً عتيّاً لن يرحم، غرورها المتأصل فيها زادت حدّته وقد يمحي كل مايعترض طريقها دون أدنى شفقة، كبرياؤها لم يتحطم وعنفوانها لم ينكسر، بل باتا أقوى وأمتن، تراها الآن كمحاربة أسطورية، أبيةً قوية الشكيمة.

أما مياس، فآلاف الأفكار والنوايا غير البريئة تزدحم داخل عقلها، وهي تجاهد بكل قوتها لإعادة ترتيبها حسب الأولوية القصوى، ربما أفضل ما قامت به هو أن شاركت أروى بجراحها فخفف ذاك من مرارها، وسدّ نزيفها الدامي، لكن يظل طعمها كالحنظل، يُجترع بألف غصة.
تعبت أروى من الصمت هكذا فتساءلت بهدوء: مالذي تنتوين فعله الآن مياس؟

تنبهت الأخيرة إلى سؤالها فالتفتت نصف التفاتة لتناظرها من فوق كتفيها متسائلة بحيرة: علامَ أنتوي؟
وقفت أروى من مكانها لتخطو ناحيتها بتهادٍ حتى باتت خلفها، كتفت يديها أمامها وهي تتمتم بهمس متسائل: أقصد ماذا ستفعلين الآن؟
استدارت مياس لتقابلها وقد تجعد جبينها بعدم فهم فتابعت أروى بتوضيح: هل ستقدمين استقالتك من القضية لتبتعدي عن أويس؟

في الثواني الأولى لم تجب، بدت كما لو أنها تفكر، مرّت لحظة ظنت أروى أنها خمنت إجابتها إلا أن مياس فاجأتها عندما قالت بنبرة ماكرة، وابتسامة خبيثة شقت ثغرها: ومن قال أنني سأقدم استقالتي؟
فتحت أروى عينيها بصدمة ثم أردفت بريبة: إذاً، ستطلبين من اللواء تنحيته هو، صحيح؟

كل معاني الخبث والقسوة ارتسمت على محيا مياس أثناء استماعها لسؤال أروى فكانت تقاسيمها أبلغ إجابة قد تحصل عليها الأخرى، سقطت ملامحها بدهشة وهي تطالع وجه ابنة عمتها وتقاسيمه الغريبة، حركت رأسها بنفي ضعيف لتعاود سؤالها
بشُبهة مُشككة: إذاً مالذي ستفعلينه مياس؟
ارتفع صدرها بكبرياء مغرور وهي تستدير لتعود إلى وضعها الأول، قائلة بنبرة حوَت بين طياتها الشر: سأفعل كل خير يا أروى، كل خير...

خير؟ بنبرتها تلك والخبث الذي طفى على تقاسيمها تشكك أروى بحصول خير من أساسه!
المشكلة أنّ مياس لم تدرك بعد رغم كل ماحدث بأنها مهما فعلت مع أويس أو والدها، فهي ستؤذي نفسها قبل الجميع...

اصطفّت سيارة مازن أمام المبنى الذي يقطن فيه أويس، رمق الاخير بنظرات جانبية فيما أويس لم يلحظ بعد أنهما قد توقفا أصلا، كان شارداً تماماً ووجهه صفحة بيضاء لا تُقرأ، صحيح أن أويس لم يتحدث رغم كل محاولات مازن، إلا أن الأخير راضٍ بطريقة ما عن مرافقته له طيلة اليوم، إنها المرة الوحيدة التي يبقى أويس برفقته كل هذا الوقت.

كان الليل قد ارتدى حلّته المعتمة فقمر السماء قد اختفى خلف غيوم غرة الشتاء، ورشات خفيفة من المطر تتقاطر على زجاج السيارة الأمامي، لبث مازن بضع لحظات فتفطن إلى أمر مفاتيح شقة أويس، فمدّ يده ليخرجها من صندوق السيارة أمام أويس ومدها أمامه ثم همس له بصوت مسموع: لقد وصلنا..

تنبه الأخير إلى همسه فتطلع حوله ليدرك توقف السيارة أمام مبناه ثم لاحظ المفاتيح بيد شقيقه، رمقها بنظرة غريبة فأخذها منه وأشار بضعف ثم همّ بفتح الباب، لكن يد مازن منعته حين أمسكه الأخير من ذراعه هاتفاً باسمه، عاد لينظر إليه بحاجبين منعقدين فقال مازن: أويس، فكّر فيما حدث بتعقل يا أخي، لا تجلدْ ذاتك كثيراً فقط فكر كيف ستصلح ما أفسدته، و تذكر إن احتجتَ لتتكلم فأنا موجود.

زفر أويس نفساً عميقاً وقد لامست كلمات مازن في داخله جرحاً ينزف، حرك رأسه بإيجاب ضعيف ثم ترجل من السيارة بثوبه الأبيض وسار إلى داخل العقار بتعب دون الالتفات للخلف، لم يعبأ بنظرات حارس العقار الذي طالعه بدهشةٍ عظيمة من نافذة المحرس، في حين ظلّ مازن يراقب خطواته المنهكة بمزيج من المشاعر المختلطة، لم يندم للحظة لأنه لم يلحّ عليه في البقاء في منزل العائلة هذه الليلة، ربما بقاء أويس وحده سيساعده على تصفية عقله والتفكير بشكل أنقى وأسلم...

وصل أويس إلى شقته وهو يشعر بالتعب يتسلل إليه، لاحظ أمام باب شقته باقة من الورد تشابه تلك التي وصلت إليه قبلاً، كان عقله منهكٌ لدرجة لم يكلف نفسه التفكير فيمن جلبها، مرّ فوقها ليفتح باب الشقة، تجعدت ملامحه بقرف حين دلف وإحساس غير مريح سيطر عليه حين بات في الصالة، عصير الغدر الذي تجرعته مياس مايزال مكانه، تحركت عينيه إلى الغرفة المغلقة بالخطيئة، شعر بمعدته قد انقلبت كأنه سيفرغ مافي بطنه، لفحه هواء النذالة وهو يطالع منزله الغارق بالوحدة، أغمض عينيه بقوة وسار حتى ألقى بجسده فوق المقعد العريض، كمن تنبه للتوّ إلى مايرتديه تعلقت نظراته على ثوب مازن الذي مايزال يلبسه، عادت كلمات مازن لترنّ في أذنيه محدثةً داخله أعاصير غامضة أنهكت قلبه المثقل بالخطايا، ربما لم يكن سكيّراً ولا فاجراً، لكنه أمام روحه العارية أبشع من هذا وأنذل من ذاك، دفن وجهه بين يديه يفركه بقوة ومئات الأفكار والتحليلات لمعت في رأسه تباعاً، غداً يوم عمل وسيضطر للقاء اللواء جلال ورائد وسواهما، وللحق هؤلاءجميعهم لا يهمونه بقدرها هي، من المؤكد أنّ مياس لن تعود للعمل قريباً، وربما ستترك القضية برمتها، إما هذا أو أنها ستطلب تنحيته هو، ومن المحتمل كذلك ستخبر اللواء جلال وتطلب معاقبته على مافعل، كل هذه الاحتمالات طرأت على عقل أويس ولا يعرف أيها أقرب، مايعرفه أنه سيرضى بأي ماتطلب فقط لتسمعه مرة، مرة واحدة فقط!

ظلّ أويس يتخبط في بحر التيه حتى سقط نائماً مكانه، في الواقع عيناه فقط من غفلت، إنّما فؤاده المتعب ظلّ واعياً يتخبط كجبان هرب من واقعه المر إلى أحلامه الوردية المستحيلة، ربما حسناً فعل، فعندما يصبح واقعك موجعاً اهرب إلى أحلامك، علّها تكون أرحم وأقلّ ألماً...

لم تكن يوماً جبانة، لم تهرب ولم تمثل، لن تكون الذئب إن فعلت على أية حال.
استفاقت مياس هذا الصباح وقد عزمت أمرها، ارتدت ثيابها العملية وتركت شعرها الليليّ منسدلاً على غير عادتها، حرصت على تناول دواءها تحسباً لأي موجة ضعف غير محسوبة، وقفت أمام المرآة لتقيّم مظهرها الجديد، وتتأكد من ارتدائها قناعاً قاسياً أخفت تحته ندوباً وتشوهات تأصلت في أعماق روحها المتألمة.

رفعت ذقنها بعناد ثم حثت خطاها لتهبط الدرج بخطوات سريعة، لم تأبه بعائلتها التي اجتمعت على طاولة الإفطار، نادتها جدتها باستغراب: مياس؟ إلى أين تذهبين يا ابنتي؟ تعالي شاركينا الطعام؟
توقفت لثانية ترمق المتواجدين بنظرات خاوية لا مشاعر فيها، استقامت والدتها ببطء وهي تطالعها بمقلٍ تلألأ فيها الدمع إلا أن مياس لم تعرها أي اهتمام، أجابت جدتها ببرود: لا شهية لي جدتي.

تابعت مسيرها دون اهتمام فهبت أروى لتتبعها، فيما اغرورقت مقلتي عليا بالدموع تلقائياً حين تجاهلتها مياس كأنها شفافة لا تُرى، غصة مريرة خنقتها خاصة عندما تطلعت إليها رائدة بتساؤل فاعتذرت بضعف لتصعد إلى غرفتها، نقلت رائدة نظرها إلى كمال الواجم يتناول طعامه بصمت دون أن يعير ماحدث أدنى اعتبار.

نادت أروى عليها فتوقفت مياس مجبرة وهي تقلب عينيها بملل، وقفت قبالتها لتطالعها باستغراب متسائلة بحيرة: مياس؟ إلى أين؟
زفرت بضيق محاولةً التحلي بالصبر أثناء إجابتها الغامضة: إلى عملي.
فتحت عينيها على وسعهما غير مصدقةٍ لما سمعت فأردفت باستهجان: إلى عملك؟ وأنتِ بهذه الحال؟
فردت كتفيها لتسأل بتهكم: مابها حالتي أروى؟ هل ترينني مضمدة من أعلى إلى أسفل؟

تلجلجت أروى أثناء إجابتها المتقطعة: لا أبدا أنتِ بأفضل حال ولكن..
قاطعتها حين ربتت على كتفها بخفة قائلة بلا اكتراث: ما الذي يمنع ذهابي إذاً؟
طالعتها أروى بدهشة حقيقية وقد سقط فكها حرفياً وهي ترى ابتسامة باردة تشكلت على محيا مياس، ثم تحركت الأخيرة لتخرج تحت أنظار أروى التي تكاد تخرج من مكانها، أجفلت بخفة مع إغلاقها الباب ثم حركت رأسها بنفي مستغرب، إذاً مياس لاتنتوي على أي خير بحالتها هذه.

تأوهت أروى بتعب أثناء مسحهاا على وجهها بهدوء، لا تعرف حقاً هم من تحمل، والدتها التي ستجري عملية اليوم؟ أم والدها ذو الحالة الغريبة؟ أم عليا المظلومة في كل ماحدث؟ أم مياس التي تنوي على حرب دمار شامل، هذا تماماً ما استشفته من منظرها...

دلف أويس بخطوات متثاقلة ووجه متجهم إلى مركز المكافحة، ليجد في انتظاره أمر اللواء جلال بالحضور إليه فوراً، لايعرف حقا العقوبة التي ستناله منه لكنه زهد في كلّ شيء، طرق على باب مكتب اللواء ليفتحه بعد سماعه الإذن، تقدم بوجهٍ جامد حتى وقف أمام طاولة اللواء الذي استند بظهره إلى كرسيه، وشبك كلتا يديه أمامه يطالع أويس بنظرات قوية، تنحنح الأخير مؤدياً التحية العسكرية بأدب: تحت أمرك سيدي.

زفر اللواء نفساً مثقلاً بالهموم وهو يعتدل جالساً، أشار لأويس بالجلوس ففعل دون اعتراض، بدى على وجهه معرفته بكل ماحدث فأحبّ أويس أن يصرف الإحراج عنه فقال بهدوء مفتعل: سيدي، أعلم أنني قد تسرعتُ في حكمي على مياس، ولكن...
قاطعته جلال بجفاء لائم: أنت لم تتسرع فقط هذه المرة أويس، أنت ارتكبتَ خطأً لا يُغتفر، والخيارات كثيرة أمام مياس، قد تطلب تنحيتك عن القضية، وربما تقدم استقالتها.

صمت للحظة ثم تابع بنبرة شبه تهديدية وهو يشبك يديه أمامه: أما إن رفعت مياس دعوة ضدك فلا أظنّ أنّ المجلس التأديبي قد يتهاون معك البتة.
من لهجته لايبدو عليه التفهم مما جعل أويس يسرط ريقه بوجل، وعلى مايبدو فإنّ مسيرته المهنية قد انتهت مبكراً جداً، حرك رأسه بضعف ليردف بنبرة حاسمة رغم تردده: سأتقبل أي عقوبة قد تصدر في حقي سيدي، سأتحمل نتيجة أخطائي.

ابتسامة صغيرة تشكلت على محيا جلال قبل أن يغتالها ليعيد ملامحه الصارمة، ثم حادث أويس بنفس الحزم: جيد، هذا ماكنتُ أتوقعه منك، على أية حال ننتظر قرار مياس وبناءً عليه ستختار، بإمكانك الانصراف الآن.

قال جملته الأخيرة وهو يشير بيده، فاستقام الآخر مؤديا التحية من جديد لينصرف بعدها، في حين ظلّ جلال يناظره بتعابير متجهمة حتى أغلق الباب خلفه، فقهقه بخفة لتصديق أويس تهديده، المشكلة أنّ لا أحد يعرف مياس مثله هو، مياس لا تستردّ حقها بالطريقة المألوفة، لن تشتكي عليه ولن تتنحى أو تطلب تنحيته هو، مياس أذكى من ذلك بكثير.

وقف خارج مكتب اللواء وهو يسندُ رأسه على اللوح الخشبي الأبيض، زفر بهمّ بالغ ضاغطاً على جفنيه، يبدو أنّ الأمر أصعب بكثير مما تخيل، مجرد سماعه لتهديد اللواء المبطن حتى شعر بغصة مريرة اعتلت حلقه، فكيف الحال إن أصبحت واقعاً؟

بقي هكذا لحظات عدة حتى نفخ أخيراً، ليتحرك متجهاً إلى المكتب المشترك، لاحظ حركة عدد من العمال في أحد المكاتب القريبة إلا أنه لم يعبئ بهم، دلف إلى المكتب حيث كان طارق وإيهاب يتهامسان بخفوت وانتفضا مبتعدين حين دخل أويس، زادت العقدة في جبينه حين لاحظ توترهما فقال باستغراب: مابكما؟ هل حدث شيء ما؟

أشار إيهاب بخفة نافياً، في حين رمقه طارق بنظرة غريبة ثم تحرك ليقف أمام النافذة، استغرب أويس فعلته لكنه ليس في مزاج رائق للتفكير فما لديه من مصائب تكفيه وتفيض، ألقى بنفسه فوق مقعده وتحركت عينيه تلقائياً إلى طاولتها القديمة، لم يحبذ إيهاب ذلك الصمت المشحون فتحدث بعد أن أجلى حلقه: بالمناسبة أويس، لم نتمكن من إمساك صلاح الوغد، لقد هرب منذ لحظة انكشاف أمره.

مازالت عينيه معلقة على طاولتها بحنين خفيّ أثناء تحريكه رأسه بتفهم، جلبة طفيفة خارجاً جذبت انتباهه، كان أحد العاملين في المكتب القريب قد أوقع صندوقاً صغيراً مليئاً بالأوراق قبالة بابهم، تطلع أويس ناحيته مستغرباً لما يفعله فتساءل: ماذا يفعل هؤلاء العمال هنا؟

ارتبك كلا الآخرين وهما يطالعان بعضهما بحيرة متوترة، رفع طارق حاجبيه كدلالة للنفي فناظرهما أويس باستغراب، استراب في أمرهما فهتف بنزق: ما بالكما أنتما الإثنان؟ هل هناك ماتخفيانه عني؟
حاول إيهاب مغالبة توتره لكنه فشل، مسح على رقبته من الخلف وتصنع عدم الانتباه، لكنه في النهاية رضخ تحت نظرات أويس المسلطة عليه فقال بنبرة سريعة: مياس عادت وطلبت تنظيف مكتب خاص بها لتنتقل إليه.

تجمدت ملامحه كلها ما إن طرأ اسمها في معرض الحديث، في حين زجر طارق رفيقه المخبول بصرامة: إيهاب.
التفت الأخير ناحيته قائلاً باستهجان: ماذا؟ ألم يكن سيدري؟ مالفرق إذاً إن علم الآن أو لاحقاً؟
استفاق من جموده على جملة إيهاب الغريبة فقطب جبينه سائلاً طارق باستغراب: لحظة واحدة، هل أوصيته ألا يخبرني؟

لم يجبه بل ظلّ يرمقه بنظرات غاضبة، تجهم وجه أويس من جديد حين هبّ واقفاً ومقلتيه تتعلقان بالباب، سرعان ما اعترض طارق طريقه حين قرأ نيته بالذهاب إليها قائلا بنبرة زاجرة: إياك وأن تفكر بالذهاب إليها أويس.
شمله بنظرة استحقارية وكاد يتجاوزه، إلا أن طارق صدمه حين قبض على ذراعه فيوقفه، هاتفاً بعصبية بانت في نبرته: يكفي مافعلته بها أويس.

وقف الأخير في وجهه بوجهٍ غائم التعابير، لم يخفْ طارق كالعادة بل تابع بإصرار: علمتُ من الطبيب حسام أنها انهارت بعد زيارتك لها في المشفى، كفاك أذيةً لها، اتركها وشأنها.

رغم ماقاله طارق إلا أن أويس لم يتراجع، نفض ذراع طارق بقوة وهمّ بالخروج، لكن طارق كان أعند من أن يتركه بسهولة فعاد ليمسكه محاولاً منعه، غلتِ الدماء في عروقه فروحه العليلة تهفو لمرآها علّها تشفي جراحه، لم يقبل بأن يمنعه أحد عنها فماكان منه إلا أن سدّد إلى رفيقه لكمةً أردته طريح الأرض، هبّ إيهاب من مكانه ليرفع رأس طارق الذي نزف أنفه من قوة اللكمة، كان يعلم بمدى عصبية أويس لكنها المرة الأولى حيث يمدّ يده على أحد رفاقه، طالعه طارق بنظرات مصدومة تحولت إلى مغلولة وهو ينفض يد إيهاب عنه ليعتدل جالساً وحده، يتفقد الضرر الذي ألمّ بأنفه، بينما كان أويس يقف مكانه ويده ترتجف، وصدره يعلو ويهبط وسط صدمة من فعلته، بالكاد تمالك نفسه ليأمر إيهاب بصوت جافّ: اجلبْ له بعض الثلج قبل أن يتورم أنفه.

تحرك عقبها بخطوات سريعة وفؤاده يسبقه إليها حتى وقف أمام بابها المغلق بعد رحيل العاملين، لم يمهلْ نفسه حتى يتمالك أنفاسه فدلف دون حتى أن يطرق الباب، وقف أمام مكتبها بأنفاس متلاحقة، وملامح مترددة، لتقابله بأخرى جامدة، باردة لا تظهر حقيقة مايعتمل داخلها من حرب ضروس، عقدت كفيها لتخفي رجفةً طفيفة فيهما حتى استجمعت شجاعتها لتقول بوجوم: ماذا تريد؟

انتبه إلى نبرتها القاسية فازدرد ريقه مجيباً بحسم: أريد أن أتحدث معك.
بداية لم تتبدل ملامحها الجامدة حين أجابت بصوت بارد: أولاً، أظنّ أنني أخبرتك من قبل ألا حديث لك معي.
ابتسمت ساخرة لتردف بنبرة ذات مغزى: ثانياً، وهل سبق وأن تحدثت إلى الأموات؟
ظل يطالعها بثبات، وهو على أتم الاستعداد لأي هجوم منها، فيما تحولت ملامحها إلى القسوة قائلة: لم تفعل صحيح؟ إذاً فلا حديث لك معي.

وقفت فجأة لتحمل هاتفها بغية المغادرة، ابتسم ببساطة حين ظنها تهرب فتساءل بعبث: هل أنتي خائفة؟
تعالت صوت قهقهتها الساخرة حتى سعلت، مما جعله يشكك بسلامة عقلها بعد الحادث، لكن ماقالته تالياً أخبره بالنقيض تماما، تحدثت بخفوت وهي تتحرك ناحيته: عندما يموت الإنسان فإنه يفقد إحساسه بكل شيء.
باتت أمام وجهه عند هذه النقطة، لتتحول إلى همس مرعب مضيفة بفراغ وملامح متجهمه: حتى الخوف.

اتسع ظلام عينيها بشكل مخيف، أجبره على قطع اتصالهما البصري، وإخفاض نظره لتتعلق بالأرضية بخزي، ابتسمت بمرار لتتخطاه باتجاه الباب، زجره عقله ليجبره على الاعتراف، يكفي ما حدث، ربما تسامحه، صاح خلفها بهدوء مقلق، ويدها معلقة بمقبض اللوح الخشبي: أن أتحدث أخيراً خير من ألا أتحدث أبداً.

استدار ليقابل ظهرها وليلها الطويل المنسدل بسلاسة عليه، ليتابع بنبرة مختنقة: أنا آسف جداً مياس، أعلم لا كلمات أعرفها قد تعبر عن مدى آسفي وندمي، لكن صدقيني أنا أحبك.
سكت لثانية ليبتلع غصة خنقته، ثم تابع بتوسل وشفتين ترتعدان وجلاً: أعلم أنني آذيتك فعلا، لكنني أحبك.

رعشة مخيفة سرت في بدنها، جعلت يدها الممسكة بمقبض الباب تهتز تأثراً حين سمعت اعترافه، كزت على شفتيها بقسوة مجيبة بثبات أرعبه: المشاعر التي تأتي بعد وقتها، لا تكون ذات أهمية أو تأثير.
خرجت عقبها مغالبةً دموعها عكسه، حيث حرر عبراته بندم، بجزع، وإحساس آخر حاول إلغاؤه كثيرا، إلا أنه لم يفلح، شعور الخوف!
صرخ من جديد قبل أن تبتعد عنه أكثر: هل تتخلين عني بهذه البساطة؟

وقفت للحظة، وبنبرتها القاسية والعنيدة أجابته: أنا عندما تؤلمني يدي، اقطعها بلا تردد.
لطالما كانت أجوبتها قاسية عليه، لكنها هذه المرة لم تقسو فقط، بل أردته قتيلا...
سقط على ركبتيه وعينيه تدمع وصدره يحترق حرفياً، وهو يطالع خيالها يختفي عن مدى نظراته بيأس تمكن منه...
ربما الأمر فعلاً كما قالت، اعترافه جاء متأخراً جداً عن وقته، والذنب ذنبه، هو وحده فقط...

بعض الاختيارات المتاحة أمامنا تكن بطعم الحنظل، مرة ولا تُجترع بسهولة، لكنها الأسلم في الواقع.
كما طلبت هويدا تماماً عاد كمال يصطحب زوجته وأروى إلى المشفى، لم يكن راضياً تمام الرضى عن اختيارها إلا أنه أوكل أمره إلى الله، حتى أنه لم يحدثها من جديد في هذا الأمر مما بعث بعض الراحة الممتزجة بالهواجس في نفس سعاد، بداية طلبت هويدا منها إجراء بعض التحاليل والفحوصات.

بعد ساعتين كانت سعاد ترتاح فوق السرير الطبي استعداداً للجراحة، مرتديةً ثوب المستشفى الفضفاض وعلى رأسها غطاء بلاستيكي أزرق، في حين كانت أروى تقف بقربها تتأملها بقلق، رغم ذلك حاولت رسم بسمة رقيقة على محياها وهي تمسك بكفّ والدتها تحدثها برفق: سأنتظرك خارجاً أمي، أرجوك فقط كوني قوية ولا تخافي.

لم تعرف أكانت تواسي والدتها بهذا الحديث أم تواسي نفسها، هزت سعاد رأسها برفق لتحرك رأسها ناحية كمال الذي دخل للتوّ، نظرات خاوية اختصّها بها ولوهلة أصاب القلق قلبها الرهيف، إلا أنها طردت تلك المشاعر السلبية أثناء تقدم كمال منها حتى بات واقفاً بجانب ابنته، أمسك بكفّ زوجته ليربت عليها فارتجف كفها بين يديه، كمال هذا الصباح هادئٌ للغاية على غير العادة، تراكم القلق حتى كتم على صدرها فجعل تنفسها صعباً، تلألأت العبرات في مقلتيها وكادت تحررها لولا دخول هويدا فأنقذتها في اللحظة الأخيرة.

تطلع الجميع الى الطبيبة الثلاثينية بملامحها اللطيفة الهادئة، وقفت تدوّن شيئاً ما على الدفتر الطبي الخاص بمريضتها، ثم وزعت نظرها بينهم ما إن انتهت و خاطبت سعاد: هل أنتِ جاهزة؟
بالكاد استطاعت تحريك رأسها بضعف فتابعت هويدا بعملية: أريدك أن تطردي جميع المشاعر السلبية بعيداً سيدة سعاد، أنا سأكون معك في غرفة العمليات، والطبيبة التي ستجري لكِ عملية الاستئصال إحدى اللامعات في هذا المجال فلا تقلقي.

عادت لتحرك رأسها بتفهم وهي بالكاد قد فهمت من حديثها حرفاً، في حين بدى التردد جليّاً على محيّا هويدا قبل أن تضيف بتذبذب: فقط هناك أمر وحيد يجب أن أخبرك به.
لوهلة استبدّ القلق بكمال وأروى ما إن سمعا جملتها، أما سعاد فلم يبدُ عليها أية علامة واضحة، فتساءل كمال بشك: هل هناك ما تخفينه عنا حضرة الطبيبة؟

قابلته بملامح عملية أثناء تحريكها لرأسها بالنفي لتردف بتقرير: لا داعي للقلق سيد كمال، إنما هي فقط جزئيةٌ صغيرة يجب أن أخبركم بها قبل البدء بالعملية.
تطلعت إلى سعاد لتضيف تالياً: آخذين بعين الاعتبار كونك حاملاً في الأشهر الأولى، فإننا لن نتمكن من تخديرك كلياً، بل ستحظين بتخدير موضعي فقط.

سيطرت الدهشة المختلطة بالجزع على كمال وأروى اللذان طالعا سعاد باستنكار، هل ستراهم وهم يقتطعون جزءاً هاماً من أنوثتها؟

لاريب أنه أمر صعب، ورغم اللذعة التي استشعرتها من صعوبة ماتتفوّه به هويدا، إلا أنها حركت رأسها موافقةً مما صعق كمال حرفياً، كاد يهدر رفضاً إلا أنه تراجع حين رأى جدية زوجته في الخوض في هكذا امتحان، صكّ على فكه بغيظ قبل أن يطلب من هويدا بنبرة خشنة: هل أستطيع التواجد معها أثناء العملية حضرة الطبيبة؟

رمقته مدهوشةً بقراره وللحق لم تكن هويدا بأقلّ منها دهشة، خاصة وهو يضيف بحسم: لن أزعجكم صدقيني، فقط أريد أن أكون بجانبها.
نقلت هويدا نظرها بين سعاد التي تطالع زوجها بمفاجأة، وبين كمال الذي نطقت ملامحه بصدق رغبته فقالت بعد هنيهة: لا بأس سيد كمال، ستأتي الممرضات بعد لحظة لتصطحب السيدة سعاد إلى غرفة العمليات، وستحرص إحداهنّ على إرتداءك ملابساً مناسبة.

غادرت هويدا من فورها بعد ماقالت، فاعترضت سعاد باستياء: لستَ مضطراً للدخول معي ياكمال، أنا لستُ صغيرة.
رمقها بنظرة جانبية ولم يجبْ ففاض بها الكيل من تجنبه لها فصاحت باستهجان: أنا أكلمك ياكمال فلا تتجاهلني.
قابلها بملامح جامدة ليجيب بصوت بارد: لم أطلب رأيك بالمناسبة.
كادت تعترض مجدداً لولا أنه أوقفها بجدّ واضح لا أثر للمزاح فيه: ولا أريد سماع صوتكِ لو سمحتِ، لقد حققتُ كل رغباتك فلتنفذي رغبتي بمرافقتك.

لم تجد ماتجيبه به بعد مقاله الحازم فزفرت بامتعاض وهي تلتفت إلى الأمام، في حين كانت أروى توزع أنظارها الخائفة بين والديها العنيدين، وهي لا تستطيع فعل شيء لأيٍّ منهما، ظلّ كمال مصوّباً عينيه المحتقنة فوقها حتى حضرت الممرضات لتسحب سرير سعاد متجهين إلى غرفة العمليات، وتكفلت إحداهنَّ بأخذ كمال إلى غرفة خاصة لارتداء ثياباً معينة، بينما بقيت أروى وحيدة في الرواق الفارغ، تجلس على أحد المقاعد ولسانها يلهج بالدعاء المتواصل لسلامة أمها وشقيقها القادم...

لم تظنّ أنّ إيذاءه بالكلام سيؤذيها هي الأخرى، إلا أنها غالبت مشاعرها هذه بقسوة وهي تدبّ الأرض بخطوات غاضبة متجهة إلى مكتب اللواء جلال، ناقمةً على كل شيء في حياتها وهو في المقدمة.
حاولت تهدئة نيرانها وهي تطرق باب اللواء لتدلف عقبها بوجهٍ جامد، ملامح مرتاحة اقتحمت وجه اللواء جلال وهو يراها تدخل بإباء عتيٍّ، استقام من مكانه متحدثاً أثناء تحركه حول الطاولة بتباهٍ: كنتُ متأكداً من عودتك مياس.

وقف قبالتها في هذه اللحظة ليربت بكلتا كفيه على عضديها بمشاعر أبوية صادقة مضيفاً بفخر واضح في نبرته: أنتِ أقوى من أن تحطمكِ أزمةٌ كهذه، وأنا لم أسميكِ ذئباً عن فراغ، لقد استحقيتِ اللقب عن جدارة.
بالكاد ارتسمت بسمةٌ ممتنة على محياها وهي تحرك رأسها بخفة، زفرت نفساً طويلاً لتجيب بنبرة رسمية: تربيتكَ سيدي.

اتسعت ابتسامته وهو يتراجع عنها مشيراً لها بالجلوس فيما يهمّ بأن يجلس بدوره، إلا أنها هزت رأسعا نافية باحترام: شكرا لك سيدي لكني على عجلةٍ من أمري، أنا فقط رغبتُ بأن أخبرك بما أودّ فعله بشأن قضيتي.
عاد ليستقيم قبل أن يريح نفسه على الكرسي وقد تلاقى حاجبيه وهو يحثها على المتابعة قائلاً، مع يقينه المسبق بإجابتها: قولي مابدا لكِ مياس، أنتِ صاحبة القرار.

فردت ظهرها لتتابع بتقرير: بعد إذنكَ سيدي، أريد أن يبقى كل شيء كما هو دون تغيير.
برغم أنه فهم جملتها المتوارية إلا أنه تساءل: ماالذي تقصدينه مياس؟
لم تتأخر بالإجابة الواضحة برسمية بحتة: لا أريد تنحية النقيب أويس الشافي عن قضية الخفاش، لن أطلب نقلي ولن أرفع عليه أية دعوة.
بينما في نفسها تابعت جملتها التهديدية: وحقي أعرف كيف سأخذه من بين عينيه وحدي.

عَلَتِ التعابير المزهوّة وجه اللواء جلال حين صدق ظنه تماماً، ربت على كتفها بخفة مردفاً بصدق: أخبرتكِ مياس القرار قرارك، وأنا معك وفي ظهرك.
رسمت بسمة مجاملة على محياها لتخرج بعد استئذانها، فيما جلس جلال على المقعد خلفه بأريحية وهو يحادث نفسه باعتزاز: شجاعتكِ مثيرة للاهتمام يامياس، أرجو لك كل التوفيق.
صمت للحظة قبل أن يتابع بقهقهة ساخرة: كان الله في عونك أويس، سترى معها أياماً لا تُنسى!

كانت تخرج هاتفها أثناء تحركها في الممر لتطلب رائد، إلا أن الأخير ظهر أمامها من العدم وبدت علامات الدهشة جليةً عليه وهو يهتف باسمها، وقفت أمامه ببسمةٍ مغترة وهي ترى ذات التعابير في وجه كل من صادفها، شملها بنظرة تقييمية ثم سألها باستهجان: مياس؟ مالذي تفعلينه هنا؟
بسخافة علقت على سؤاله: مابال الجميع يسألني السؤال نفسه؟ مالغريب في قدومي؟

فتح عينيه على وسعهما بعدم استيعاب لسخريتها المبطنة، كاد يتحدث لولا تحركها ليتبعها بعدم راحة لتصرفاتها الغريبة، مستشعراً أمراً مريباً خلفها حتى فاجأته بتوقفها بشكل مفاجئ، لتباغته بسؤالها مباشرة: بالمناسبة رائد، حين طلبتُ منك التحري عن عمار يونس لم أخبركَ باسمه الثلاثي، فكيف تمكنتَ من معرفة الشخص الذي قصدته؟

مناورتها المفاجئة لم تمنح رائد الفرصة لترتيب إجابةٍ مسبقة، توتر أمام أنظارها القوية وتلجلج في إجابته فابتسمت بسخرية وهي تتحرك من أمامه تهز رأسها بخيبة من فعلته، لم يكن رائد بأفضل من البقية فهو قد قرر أيضاً استغباءها لكنها لم تظهر له يقينها بما فعل، تبعها وهو يحاول التحدث معها ليبرر خدعته إلا أنها قاطعته بجفاء: أين هو الآن؟
تجعدت كلامحه باستغراب فتساءل بريبة: لماذا؟

وجهها حمل تعابير كثيرة حين توقفت لتخبره بنبرة محايدة لا يُعرف ماخلفها: أريد أن أراه.
حاول رائد استنباط ماتفكر فيه مياس إلا أنه لم يُفلح، سلطت نظراتها فوقه فسرط ريقه بتوتر حاول مغالبته وهو يجيبها بتقطع: إنه، إنه في مشفى الأورام السرطانية.
تحركت مجدداً وهي تردف بلا مبالاة: جيد، هيا بنا إلى هناك.

حركاتها، تعابيرها، حديثها ونبراتها لم تكنْ مريحةً لرائد البتة، رغم أنها لم تعرف بعد فهي تخمن فقط، للحظة لعن غباءه فهو ماأوصله إلى هنا، نظرة خاطفة ألقتها مياس نحو مكتبها الجديد الذي تركته قبل لحظات، وجدته مغلقاً إذاً فقط خرج أويس بعد رحيلها، رغماً عنها وجدت نفسها تفكر فيه لكنها زجرت عقلها بحدة، استقلت سيارة رائد الذي ركب مكانه، أدار السيارة لتتحرك بهما السيارة وفي عقله آلاف التخيلات للقاء بعد سنوات الفراق، ترى كيف سيكون شكله؟ ماهي ردة فعلها؟ وكيف سيتصرف عمار أمامها؟ هل ستعذره وتسامحه أم سترفض؟

لا يعلم رائد إجابةً لأي سؤال من تلك الأسئلة فأقلع عن التخمين، بنظرة جانبية رمق تلك الجالسة جواره بهدوء مخيف، قلق غير مبرر سيطر عليه لمنظرها المريب، أن تطلب رؤية والدها أمرٌ يدفع للشك، لا يعلم ما تنتويه لكنه يدرك مهما كان ماتفكر فيه، فإنه لن يكون مريحاً البتة، دون أن تنتبه مياس أخرج هاتفه وعبث فيه ليرسل رسالة إلى عمار.

إنها من أغرب العمليات التي حضرتها، بغيرة أنثوية رغماً عنها حسدت سعاد على مافعل ويفعله كمال لأجلها، هذا الرجل الذي قلّ مثيله في هذا الزمن، لم تصدق الطبيبة التي أجرت العملية وجود أمثاله في هذه الحياة الواقعية، تكاد تجزم أنه هرب من إحدى الروايات الخيالية.

كان يوماً متعباً للغاية لها، خرجت هويدا من الغرفة التي تمّ نقل سعاد إليها بعد أن اطمأنت عليها، ورغم أنها تستطيع العودة إلى المنزل هذا اليوم لكنها آثرت إبقاءها تحت المراقبة الليلة للاطمئنان على وضعها، كم كانت معجبة بقوتها وإصرارها على مواصلة المقاومة لأجل جنينها، حملتْ مهمةً سامية وحرصتْ على تأديتها على أكمل وجه.

أبدلتْ هويدا ثيابها ثم علقت حقيبتها على كتفها، خرجت وهي تمسّد رقبتها من الخلف بأرهاق حين تجمدت قدماها إثر نداء مازن باسمها، توقف قلبها عن الخفقان لثانية ماإن سمعت نبرته المميزة، نسيت نفسها فلم تعِ أنها تبتسم عندما وقف مازن أمامها ليسألها بصوت رخيم: هل أنهيتِ دوامكِ حضرة الطبيبة؟

أجلت حلقها مشيرةً له إيجاباً وقد أجبرت وجهها على التجهم، في حين لم تتبدل ملامحه وهو يضيف بمرح موارب: هذا من حظي، فأنا أيضاً أنهيتُ دوامي.
عقب بعدها وقد لاحظ تهربها من نظراته قائلاً بلطف: هل أنتِ بخير؟ لأني أرى وجهكِ شاحباً؟
اخفضت أنظارها عنه مجيبة برسمية: بالفعل، كان يومي حافلاً.

حرك رأسه بتفهم، ليتحرك ماشياً في الممر فتحركت معه محافظةً على مسافة معقولة بينهما، تتطلع حولها كل حين حرصاً من تواجد أحدٍ يراقبها، وقرع قلبها يتعالى رغم محاولاتها العديدة بالسيطرة عليها، احمرارٌ ظريف غطى وجنتيها وهو يحاول تجاذب أطراف الحديث معها، هي ليست بصغيرة وتدرك حقيقة المشاعر التي تعصف بها، إلا أن هويدا تحاول وسعها لوأد تلك المشاعر الوليدة رغم صعوبة الأمر، فمن هي في مكانها وظروفها لايحقّ له التفكير في منح نفسه فرصة أخرى لاستقبال أي نوع من المشاعر من شاب بمثل عمر ومكانة مازن.

في حين كان الآخر ولإدراكه وضع هويدا وتصرفاتها، فهو يعمل على تذويب الحواجز الوهمية التي تضعها بينهما، يفهم حقيقة ماتمرّ به من تخبط ويعذرها فعلاً، لكن هذا لن يمنعه من مواصلة المحاولة رغم كل شيء.
تعالى رنين هاتفه فجأة فاستأذنت هويدا لتفرّ هاربةً، حاملةً معها شكوكاً في تصرفات مازن وقد عكف عقلها على تحليل أحاديثه القصيرة معها، هل حقاً يكنّ لها مشاعراً كما تفعل هي؟ أم أنّ الأمر لا يتعدى كونهما زميلان؟

لاحقها بنظراته المدهوشة حتى ابتعدت، في بداية تعاملهما لم تكن تتهرب هكذا إذاً فهي تدرك حقيقة مشاعره، كما أنه متأكدٌ من شعورها ناحيته، وهو لايُدرك حقاً إن كان هذا الأمر جيداً أم سيئاً؟
رنين هاتفه المتواصل أفاقه فأخرجه من جيب سترته الشبابية ليرى رقم أويس، تلاقى حاجبيه بغرابة وقد أجاب المكالمة هاتفاً: نعم أويس؟

للوهلة الأولى لم تصله سوى أنفاس أويس الساخنة، أعاد مازن هتافه وقد تسلل إليه الشك: أويس؟ هل أنت بخير أخي؟
زفر بحرارة مجيباً بنبرة مختنقة: لا، لستُ بخير.
بلع ريقاً حارقاً مردفاً بتأثر بائن: احتاج إلى أن أتحدث معك مازن، أين أنت؟

رغم أنه لم يعرف ماحدث معه ليصل إلى هذه الحال، لكنّ مازن استشفّ من خلال نبرته حدوث أمرٍ جلل، لم يتأخر عليه في الردّ الحاسم وهو يحثّ خطاه نحو بوابة الخروج: تعال إلى عيادتي أويس، أنا في طريقي إليها الآن.

بعد يوم طويل ومتعب، ومشحون بالكثير من الهواجس والشكوك، عادت هويدا إلى منزل عائلة زوجها المتوفي حيث تعيش مع ابنها منذ وفاة زوجها.
فريد، ذلك الشاب من عائلة مرموقة ومعروفة اختار ابنة العائلة البسيطة لتكون زوجةً له رغم كل العوائق، كانت سعيدة معه باستثناء بعض المنغصات والتي تتمثل في والدته.

السيدة كاريمان، سيدة ارستقراطية من المستوى الرفيع جدا، أصولها الروسية ومكانة عائلتها العريقة ومكانة زوجها الراحل الذي كان يعمل سفيراً للبلاد في روسيا، كلها ميزات جعلت كاريمان ترى من هم أقل منها في الغنى والمستوى مجرد حشرات تستحق الدهس، زوجها وأولادها جميعهم كانوا تحت سيطرتها باستثناء المدلل فريد، والفتاة الوحيدة في العائلة داليا، وحدهما من كسر قاعدة السيدة الشقراء، فكلاهما انتقى شريكاً دون المستوى المطلوب بمراحل، رغم رفضها لزواج فريد من هويدا لكن ابنها لم يأبه برأيها فتزوج ممن اختار، عاش مع زوجته في منزلهما المنفرد أجمل أيام حياتهما حتى رُزِقا بهمام، ثمرة حبهما المتفرد، لكن شاء القدر أن يفرقهما حين خطف الموت فريد بعد أشهر من إصابته بمرضٍ عضال.

منذ وفاة فريد وعلى الرغم من عدم تقبلها لها، لكن طلبت كاريمان من هويدا جلب ابنها همام للعيش في القصر ذاته الذي عاش فيه والده، لم تكن الأيام القادمة هيّنةً على هويدا فهي على علمٍ بمكانة ونفوذ هذه العائلة، خاصة وأن جميعهم باستثناء داليا يكرهونها فهي اختارت السلم ووافقت على المجيء للعيش معهم...

كان القصر هادئاً للغاية على غير العادة في هذا الوقت من النهار، خلعت هويدا غطاء رأسها وهي في طريقها لتبحث عن السيدة سُكينة، مدبرة المنزل، دلفت إلى المطبخ فوجدتها، سيدةٌ تجاوزت الخمسين من عمرها بقليل، إلا أنها مازالت محتفظةً بنشاطها ولهجتها القروية، كانت تتحرك بجسدها الممتلئ والذي غطته بزيٍّ رسمي مازالت لم تعتدْ عليه رغم سنوات خدمتها التي تجاوزت الثلاثين عاماً، استندت هويدا بكتفها على باب المطبخ الفخم تراقب حركات سُكينة العصبية وهمسها الغريب بلهجة عجيبة، غضبها وصياحها على الفتيات اللواتي كنّ يساعدنها، قهقهت هويدا بتسلية فعلى مايبدو هناك من أفسد مزاجها، تقدمت بضع خطوات وهي تقول بصوت مسموع تخاطب الفتيات: من منكن أزعجتْ السيدة سُكينة؟

انتبهت الأخيرة إلى صوت هويدا فشحب لون وجهها، رمت السكين الذي تحمله فوق الطاولة الرخامية بقوة وخطت صوبها وهي تضرب على وجنتيها بحركة خفيفة، باتت أمام هويدا فهمست بخفوت: اصمتي اصمتي، أنتِ ٠لا تعرفين بعد مالذي حدث.
تجعد جببنها بعدم فهم فتساءلت بقلق: مالذي حدث سُكينة؟ تكلمي؟
لوت الأخرى شفتيها وقالت بلهجة قروية مضحكة ناقمة: لقد عادت الساحرة السوداء ( شمقرين).

للوهلة الأولى لم يتفطن ذهنها لتفسير كلماتها المبطنة فعادت تسألها بغرابة: من تقصدين سُكينة؟

أشاحت بيدها بلا مبالاة قبل أن تتجمد مكانها وقد ثبتت نظراتها خلف هويدا، بالكاد تمكنت من بلع ريقها الذي جفّ حين وقعت عيناها عليها، بينما استرابت هويدا بمنظر سُكينة وقبل أن تردف بسؤال جديد استمعت لوقع كعب حذاء عالٍ على الأرضية الرخامية اللامعة، سيطرت الدهشة عليها وقد أدركت لتوّها مقصد سُكينة فاستدارت ببطء لتقابل السيدة الشقراء، ذات الأنف المدبب والوجه الشبابي، وثيابها الفخمة من أغلى الماركات العالمية، كانت تشمل هويدا بنظرات استحقارية غير راضية أثناء تقدمها نحوها حتى باتت أمامها، بالكاد تمكنت هويدا من السيطرة على دهشتها فرسمت ابتسامة صغيرة على ثغرها لتقول باحترام واضح: سيدة كاريمان! حمداً لله على سلامتك، سعيدة لرؤيتك مجدداً.

تجاوزتها بفظاظة لترمق سُكينة بنظرة مخيفة ثم أمرتها بصوت رخيم: حضري لي قهوتي المعتادة سُكينة، وعندما تنتهين اجلبيها بنفسك ولا ترسليها مع إحدى هؤلاء.
قالت جملتها الأخيرة وهي تشير إلى الفتيات الأخريات باستحقار، اكتفت سُكينة بأن حركت رأسها بأدب، عادت كاريمان لتطالع هويدا مخاطبةً إياها بتكبرٍ مُستفز: وأنتِ، اتبعيني.

تحركت تدبّ الأرض بتكبر طغى عليها في أبسط سلوكياتها، أغمضت هويدا عينيها للحظات وهي تستدعي هدوءاً ليس فيها حالياً، يا الله!
ألم تكن قد قررت البقاء مع ابنها رئيس البعثة الدبلوماسية في فرنسا حتى الصيف؟
فلماذا عادت الآن إذاً؟
استفاقت على لمسة سُكينة المشفقة لتذكرها بضرورة التنفيذ، فهمست بلهجتها الغريبة: اسمعي الكلام واتبعيها ياابنتي، قبل أن تلقي عليك إحدى تعاويذها المخيفة.

لم يكن ماقالته سُكينة مجرد مجاز، حرفياً حين تغضب كاريمان فإن اللعنات الثلاث تسقط على رأس من أغضبها، هي لا ترحم ولا تُشفق، لذلك الجميع يطيعها رغبة ورهبة تلافياً لظلمها...

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة