قصص و روايات - قصص بوليسية :

رواية حي الورد للكاتب علي اليوسفي الفصل الأول

رواية حي الورد للكاتب علي اليوسفي الفصل الأول

رواية حي الورد للكاتب علي اليوسفي الفصل الأول

منظمة كبيرة لسرقة والمتاجرة بالآثار، مقسومة إلى عدة مجموعات لا تعرف بعضها البعض، إلا أنها تتبع كلها لقيادة واحدة، أتعبت السلطات وأرهقتها، كلما اعتقدوا أنهم امسكوا بالرأس الكبير يخيب ظنهم، ليعود جهاز مكافحة الجريمة الإقتصادية إلى نقطة البداية من جديد.

بعد أشهر مضنية من البحث والتدقيق، تم الوصول إلى أحد عناصر هذه المجموعات، أرسل اللواء (جلال ساجد ) أحد جواسيسه مجهولي الهوية متخفيا في مهمة سرية، والذي اشتهر بلقب الذئب، للكشف عن الأعضاء الباقين، ساعد هذا الجاسوس في القبض على العديد من المتورطين في هذه المجموعة الخارجة عن القانون، والذين كانوا يعملون في فندق مشهور، استطاع أيضا أن يصل إلى رأس هذه المجموعة، استدعى عددا من العناصر معه لمداهمة شقة المتهم، والتي كانت تقع في مبنى قديم.

مع أولى ساعات نهار جديد، صعد أربعة عناصر مدججين بالسلاح، يتقدمهم شاب يبدو أنه قائدهم إلى الطابق الذي تقبع فيه شقة المتهم، إلا أن الأخير كان قد شعر بهم عندما توقفوا أمام بابه، ربما بسبب التدريبات القاسية التي يلقونها قبل تجنيدهم.

وفيما كان أفراد الشرطة يتعاونون على دفع الباب باجسادهم لخلعه، كان هو قد استلّ مسدسه من تحت وسادته، ثم خرج إلى شرفته، والتي كانت تطلّ على مدخل المبنى الخلفي، والمختفي عن الأنظار، نظر إلى شرفة الشقة أسفله، ليبتسم بمكر وهو يرى الفارق القصير بينهما، من المؤكد أنه اختار هذا المبنى سكناً له بسبب هذا القرب.

لم يتردد في رمي نفسه إلى الشرفة القريبة عندما شعر بالعناصر الأمنية تقتحم شقته بعد كسرهم الباب، اقتحم نديم بدوره منزل الجار من باب الشرفة الغير مغلق، كان الرجل نائماً بسلام بجوار زوجته، عندما شعر بأحدهم يدلف إلى غرفة نومه، صرخ به لينهره، إلا أنه ابتلع كلماته عندما رأى مسدس نديم المصوب ناحيته، مع إشارة واضحة من الأخير بأن يلتزم الصمت، ويبقى هادئاً مكانه، فاحتضن زوجته التي استيقظت بفزع على صراخه، وهو يرتجف بخوف من هيئة هذا الرجل، والتي لا تبشر بخير.

تابع نديم مسيره فورا إلى باب المنزل، فتح الباب بداية ليتأكد من خلوّ الممر من أية عناصر، ثم جرى مسرعاً أثناء تعالي ضجيج رجال الأمن خلفه، إلا انهم كانوا بعيدين، تابع ركضه نزولاً إلى مدخل المبنى الخلفي، وابتسامة ساخرة اقتحمت قسماته عندما لمح اللوح المعدني الصدئ، ولا عناصر بجانبه، لكن وما إن خطا بقدمه خارج الباب، حتى شعر بمطرقة عظيمة تضرب وجهه، أردته طريحاً إلى الخلف.

نفض رأسه بتآوهٍ متألم فيما هو يحاول رفع نصفه الأعلى بمرفقه، قطب جبينه متلمساً أنفه بيده الأخرى، ليستشعر ملمس قطرات دمائه التي نفرت من أنفه إثر الضربة، طغى عليه ظل طويل لتصطدم نظراته بفتاة ترتدي قميصاً أسود، مع بنطالٍ من قماش الجينز بذات اللون، كانت ذات ملامح جادة مقرونة بكبرياء وثقة واضحين، قوامها ممشوق مع وجه قمحي وعيون سوداء معتمة، خصلاتها سوداء غزيرة كليلة حالكة افتقدت بدرها، ربطته على شكل جديلة طويلة، طوت كميها للأعلى وقد حدجته بنظرة نارية، متحدثة بصوت قوي رزين: إلى أين تظن نفسك ذاهبا، نديم؟

وضعت يديها على خصرها، أطلّ من خلفها شاب ماثلها طولاً، ذو شعر أشقر حسن الخِلقة، كان ينظر إلى وجه نديم بدهشة اعتلت ملامحه، اقترب رائد منها ليهمس بجوار أذنها: ياآلهي مياس! لقد أدميتِ الرجل من ضربة واحدة!
ابتسامة جانبية رسمتها على تقاسيمها الواثقة، في حين كان نديم يطالعها بنظرات حارقة مغلولة، شعر بأحدهم يرفعه من مؤخرة قميصه، بينما تحدثت مياس إلى الرجال الذين وصلوا لتوهم: خذوا هذا القذر من هنا.

أشار الرجال لها باحترام، فعلى مايبدو هي ذات مقام عالٍ ومركز قيادي بلاشك، سارت عائدة إلى سيارتها الخاصة، يتبعها رائد الذي يلازمها كظلها، رن هاتفها قبل أن تستقل مكانها، أخرجت الجهاز من جيب بنطالها الخلفي، أجابت اتصال اللواء جلال ساجد بنبرة طغى عليها الاحترام: نعم سيدي؟
أتاها صوته الأبوي من الطرف الآخر: لا شك عندي أنكِ ألقيتي القبض على نديم، صحيح؟

ابتسمت باقتضاب دون حديث، وكان صمتها أبلغ إجابة لجلال الذي استطرد بلهجة شبه آمرة: مياس، انتهت مهمتك، عودي إلى هنا سريعا.
تحت امرك سيدي.
بجملتها المختصرة اجابته، ولم يستغرب كلا من جلال أو رائد أسلوبها الصارم المقتضب، لطالما كانت هذه معاملتها مع الجميع، احترمْ تُحترمْ.

نظرت أمامها بعد إغلاقها الهاتف، تنهدت براحة وابتسامة صغيرة على ثغرها، لقد اشتاقت حقاً لوالدتها وعائلتها، أخيرا، بعد غياب عام كامل قد حان وقت العودة...

خرج شاب تجاوز الخمس وعشرين ربيعا من غرفة ذات باب اسود قاتم، مرتدياً قميصاً قطنياً مبللاً، كما كان جسده المعضل غارقاً بعرقه، فيما صدره يصعد ويهبط بلهاث كمن عدا لألف ميل، من يراه يعتقد أنه خرج لتوه من تمرين رياضي صارم، اتجه أويس من فوره إلى الحمام، ينفض عن جسده آثار هذه الجلسة الصعبة.

كان أويس يملك جسدا صخرياً، عريض الكتفين وذو هامة ضخمة، يُخيل إلى الناظر إليه بأنه مصارع خارج من إحدى حلبات المصارعة العالمية، وسيم الخِلقة إلا أن تقاسيمه متجهمة معظم الوقت، عدواني بشكل عجيب مع الغرباء، يداه دائما ماتسبق عقله، متسرع بحماقة غريبة، إلا أن هذا كله لا ينفي مستوى ذكائه العالي.

وقف أمام المرآة يسرح خصلاته الرمادية القصيرة، تفحص هيئته بملامح مقتضبة، داخل عينيه العسلية لمعة غريبة، شرد في انعكاس مقلتيه، ليرى طفلا لم يتجاوز التسعة أعوام، يدفن رأسه بين ركبتيه الصغيرتين كما جسده، تقرفص في زاوية غرفة ما ينتحب بصمت، وجسده الطفولي ينتفض كل حين بقهر لا يحتمل.

تلاقى حاجباه بغضب وقد زفر من أنفه بقوة، قست نظراته فجأة ليرتدي قناعه القاسي، مخفياً تحته ندوباً في أعماق روحه الجريحة، ويغطي أسفل جلده تشوهات ما استطاع الزمن يوما ترميمها، حمل علبة سجائره ومفاتيحه، رفع هاتفه يحادث حارس العقار، أثناء إشعاله لسيجارة يضعها في فمه، أخبر الحارس بضرورة الصعود إلى شقته للتنظيف بعد مغادرته، ولم ينسى إهداؤه بضع جمل تحذيرية، أو أنها تهديدات مبطنة بمعنى أدق.

خرج من منزله غير آبهاً بتلك الروح التي أزهقها منذ قليل بداخل تلك الغرفة المريبة، ولا يدخلها سوى ذلك الحارس المسكين، والذي ابتلاه الله برجل مثل أويس يوكل إليه مهمة تنظيف قذاراته كل مرة، كان أويس يعمل مقدماً في قسم مكافحة تهريب الآثار.
ربما هو ضابط، إلا أنه في الحقيقة بلا ضابط!

دلف رجل أربعيني بخطى سريعة إلى المشفى القريب من مدرسة الحي، بعد أن هاتفه مدير المدرسة ليبلغه بتعرض ابنه الوحيد ورد لأزمة جديدة.
لمح كمال أثناء سيره طبيب ابنه داخل إحدى الغرف، انشلت حواسه لثانية قبل أن يعود قلبه للعمل من جديد، ليدفع الدم داخل شريانه تماما كاندفاع جسده لداخل الغرفة، أثناء ندائه بلهفة الوالد المكلوم: ورد.

التفت الطبيب نحوه وعلى وجهه أمارات لوم، لم يكترث لها كمال كثيرا فكل همه في هذه اللحظة هو رؤية محيا فلذة كبده؛ امسك بيد ورد والذي ابتسم بهشاشة محدثا والده: لا تقلق أبي، أنا بخير.
نبرته المتعبة زادت من تعب فؤاده، فهتف يلومه بشبح عصبية بانت في نبرته: لماذا ذهبت إلى المدرسة ورد؟

كانت بسمته الضعيفة هي أبلغ جواب له، زفر من أنفه بقوة، حسناً، إنه ولده في النهاية، ويحمل جينات آل( الحكيم)، والتي كان العناد والرأس المتحجر أبرزها، لمسة الطبيب على كتفه جذبت انتباهه ليلتفت صوبه، محمحماً باعتذار، كتف الطبيب كلتا ذراعيه أمامه وهو يخبر الوالد وابنه بعد سؤال الأول عن حال ورد، بنبرة لم تخلو من الصرامة: سيد كمال، لقد أخبرتك من قبل، يجب أن يسافر ورد لإجراء العملية في أسرع وقت ممكن.

تهدلت ملامح كمال بيأس، فيما صدح صوت ورد رافضا بقوة: لا أيها الطبيب، يستحيل أن أسافر واترك دراستي.
انقبضت ملامح الأخير بغضب ليهدر به موبخاً: لا يجب أن تكون عنيداً هكذا ورد، قلبك الضعيف لم يعد يحتمل أي تعب.
استدار ورد على ظهره ناظراً إلى السقف، ليهتف بعناد الصخر: لديّ شهادة ثانوية لأقدمها هذه السنة أيها الطبيب، ولن اضيعها.
لم يستطع الطبيب تصديق مايتفوه به هذا الأحمق، يفضل دراسته وشهادته على صحته؟

لا، بل الأصح إنه يقايض حياته مقابل الشهادة!
شعر كمال بنظرات الطبيب نحوه كأنه يطلب العون منه، أغمض عينيه لثانية مستعيداً ثباته الذي اشتهر به، ليحدث ابنه بعد لحظة، بلهجة جمعت حنان الدنيا لكنها لا تخلو من الحزم: ورد يا ولدي، أعد التفكير في قرارك أرجوك، بإمكانك إعادة هذه السنة العام القادم.

حرك ورد رأسه بخفة حتى التقت عيناهما المتشابهتين، مجيباً بأدب وهدوء يُحسدُ عليهما: أبي أرجوك، لا تضغط عليّ، لقد احتمل قلبي ثمانية عشر عاما، فهل سيبخل عليّ ببضعة أشهر أخرى؟
لانت ملامح كمال وقبل أن يتحدث، استبقه ورد متابعا باقتناع نابع من أعماقه: (( قل لن يصيبنا إلا ماكتب الله لنا))، أليست هذه الآية التي دائما ما ترددها في قيامك ومنامك يا أبي؟

أغمض عينيه وأشاح برأسه إلى الجانب يائساً من إقناع ولده، تململ في وقفته زافراً باختناق، أعاد نظره إلى الطبيب الذي تابع، وقد ملّ من الجدال العقيم الذي يجري كل مرة: بإمكانك إخراجه بعد قليل، سأصفُ له أدوية جديدة، اعرج إلى مكتبي لتأخذها.

أشار له كمال متفهماً، شكره بامتنان ليخرج الطبيب من الغرفة، بعد أن سدّد إلى ورد نظرة مغتاظة، دائما ما كان يسمع عن طيش الشباب، إلا أن أفعال هذا الرجل الصغير ليست طيشاً، إنما هو جنون خالص...

هو يعرف ورد منذ أن بلغ الست سنوات، حينها كان قد عاد لتوّه من الخارج، بعد حصوله على شهادة الدكتوراة في أمراض القلب، وورد الراقد على سرير المشفى لم يكن شاباً عادياً، إذ أنّ سنوات حياته الأولى كانت ملأى بالصعوبات، فقد عانى ورد من عيبٍ خُلُقي في عضلة قلبه، تسبب له نوبات ضيق تنفس متفرقة وإغماء، كان الحل الأمثل هو العملية، لكن سنه الصغير حينها لم يسمح لهم بالسفر خارجا وعملها، فاعتمد ورد في سنوات عمره التالية على الأدوية التي ساهمت فقط في تمديد عمره، دون المساعدة في شفائه، وحين أكمل ورد الثامنة عشر وأخبره الطبيب بإمكانية إجراء العملية له خارجا، كان الرفض التام هو جوابه الصريح، منذ اشهر عديدة وهو يحاول إقناعه، الا أن محاولاته دائما ما كانت تبوء بالفشل، كان يتعذر ً بدراسته وشهادته الثانوية، وكأنها درةٌ نفيسة لا يمكنه التفريط بها!

اجتمع أعضاء عائلة( الشافي) على مائدة الغداء، كالعادة كان يستقر كبيرهم، الحاج عثمان الشافي، على رأس الطاولة، رجل قد عصره الزمن وطحنه، و خطّ الدهر آثره على وجهه الصارم، حتى بانت تجاعيد سنه الذي قارب الستين، إلا أن كبرياءه وعنفوانه مازالا شابين، هالة غريبة من القوة مسيطرة عليه أثناء تناوله لطعامه برفقة عائلته، والتي كانت تنقص فرداً واحداً كالعادة.

على يمينه جلست الحاجة ميادة، زوجته وام أولاده، شخصية سَمِحة معطاءة لأبعد حد، بشوشة الوجه مُبتسمة معظم الأحيان، إلا أنها تتحول إلى ذئب مفترس حينما يتعلق الأمر بأحد أولادها الخمسة، كانت تصغره بعشر سنوات على الأقل، إلا أن السنين لم تنلْ منها مانالته من زوجها( ابا مازن)، وعلى ذكر الأخير، فقد اتخذ مكانه على يسار والده، مازن طبيب نفسي ناجح تعدى الخمس وثلاثين عاما من عمره بأشهر قليلة، إلا أنه مازال عازباً برغبته الحرة، وهو بكرهما والآحب إلى قلب والده، صحيح أنه يوماً لم يفرق في المعاملة بين أولاده، إلا أن مازن دائماً ماامتاز بمكانة خاصة لديه.

وعلى مقربة من مازن كانت جهينة، معلمة في مدرسة الحي، بلغت الثانية والعشرين حديثا، مخطوبة لأحد أقارب والدتها، إلا أن خطيبها الآن مسافر لمتابعة دراسته في الخارج، وهناك على آخر الطاولة كانت منى، آخر العنقود والمدللة، لا تستطيع لجم لسانها الثرثار، وفمها الكبير ( الذي لا تُبلُ فيه فولة) كما يقال.

انتبه عثمان إلى شرود ابنه الأصغر( رامي)، ذو الثمانية عشر ربيعا، فتساءل بصوت رجولي خشن: مابك رامي؟ لمَ لا تأكل يا بني؟
أجفل المقصود واستحال وجهه إلى اللون الأصفر تلقائياً، مع سماعه لنبرة والده، رغم أنها كانت نبرة عادية، إلا أن رامي تخيلها غاضبة، ربما لأن سبب شروده لن يُسعد والده البتة، نظرة حذرة من جهينة صوبتها نحو رامي، الذي حمحم ليجد صوته الذي خانه واختفى، مجيباً ببسمة متوترة: لا، لا شيء أبي.

ضيق عثمان عيناه بعدم تصديق، فأضاف رامي بثبات مصطنع، بعد أن لعق شفتيه: لديّ امتحان في مادة الرياضيات غداً، وأشعر ببعض القلق منه.
ابتسمت ميادة وهي تقطع بعض اللحم لوضعها في طبق زوجها، موجهة حديثها إلى رامي: لا تقلق بني، فأنت ولله الحمد ذكي ولن تخاف من امتحان كهذا.

صيّقت منى عيناها بعدم رضا، وهي ترى ميل أفراد عائلتها لتصديق كذبة رامي المكشوفة، فتطلعت ناحيته بمقلٍ ماكرة، اصطنعت ملامح بريئة بمهارة، وهي تنطق بلهجة حاولت جعلها تلقائية: إذاً رامي، أخبرني ما سبب حضور الإسعاف اليوم إلى صفكم؟

انسحبت الدماء من وجه رامي، حاله حال الجميع حالما سمعوا سؤالها، شعرت بالنظرات المستفهمة موجهة إليها، إلا أنها حافظت على عفوية ملامحها، لتضيف ناظرة إلى رامي المرتعب والذي نهرها بعيناه: كنت أجلب دفتراً خاصاً للمعلمة من غرفة الإدارة، عندما رأيت طاقم الإسعاف مع حمالتهم يخرجون من غرفة صفكم، وقد رأيتك تجري خلفهم باكيا.

انتفض قلب رامي هلعا مع تسبيلة بريئة من عينيّ تلك الماكرة، وجهت جهينة ناحيتها نظرات قاتلة مستعرة بتهديد غليظ، فيما شعر رامي بنظرات والده المستريبة مصوبة على وجهه مباشرة، وهذا أقل فعل يتوقعه بعد سؤال ( محراك الشر) الخبيث، تلقائياً تحولت مقلتاه إلى جهينة، فيما كان الحاج عثمان يضيق عيناه بشك، رمى ملعقته على الطاولة يحول أنظاره بين جهينة التي ضغطت على فكيها غضباً، وبين رامي ذي الوجه الشاحب والعيون الزائغة، شعر أن هناك ( إنّ) في الأمر، فسأل بلهجة بدت لسامعها بأنها تهديدية، رغم أنها لم تكن: ما الأمر يا رامي؟ مالذي تتحدث عنه أختك؟

ارتجف فك الأخير بهلع، ونظرات والده كانت كالمحقق الذي ينتوي سحب اعترافٍ بالجريمة من بريء!
شعر بأن ( الإيوان) المفتوح من ثلاث جهات قد نفذ من الهواء فجأة، حتى انقذته جهينة بجملتها المنتقاة بعناية: لقد شعر أحد أصدقائه بالإعياء فجأة ياابي، فاستدعى المدير الإسعاف لنقله إلى المستشفى.

كانت لهجتها دبلوماسية حيادية إلى أبعد حد، إلا أن منى القردة لن ترتاح حتى تقلب جلستهم الهادئة، تصنعت صدمة كاذبة لتنطق: يا آلهي حقا؟ من يكون صديقك هذا؟
خُيِل إلى رامي أنه يطحن ( كثيرة الغلبة تلك) تحت أسنانه، فضغط على فكه حتى صرّت نواجذه مستغيثة، لم تفقد بسمتها فتابعت ببساطة ماكرة: أعني، يجب أن نعرف ابن من يكون، علّ أبي يذهب لزيارة عائلته.

التفتت بملامح ذئب وديع ناحية أباها، والذي لم تفته نظراتها الخبيثة، حينما تابعت: فعيادة المريض واجبة، ووالدي كبير هذا الحي، صحيح؟
دهاء ابنته الصغرى آثار مقته، وعلم من نبرتها أنها فقط تحاول الإيقاع بشقيقها، لم يعجبه الأمر، إلا أن صمت الآخر دفع بالريبة في ثنايا عقله، تجاهلها عمداً ليشبك كلتا كفيه فوق الطاولة، متابعا جهود الأولى: كلام شقيقتك صحيح تماما، من يكون صديقك هذا يا رامي؟؟

تابع مازن مايحدث بين أفراد عائلته بعين المشاهد، إلا أنه، وبمهارة الطبيب العارف، شعر بأن زوبعة مدمرة في طريقها، من الهدوء المريب المختلط بمشاعر مختلطة كثيرة، وقد صدق حدسه تماما.

فنظراً إلى أن الحاج عثمان والذي يعرف، حرفياً، جميع عائلات الحي وحتى الأحياء المجاورة أيضا، كان الكذب عليه في هذه اللحظة مخاطرة غير مأمونة العواقب، فلم يكن أمام رامي بُدّاً من قول الحقيقة، كونه أساسا فاشل في الكذب، طأطأ رأسه بخزي، وهمس بخفوت كمن يعترف بالخطيئة: إنه، إنه ورد الحكيم.
هل تذكرون تلك الزوبعة التي كان مازن يتوقعها؟
ها هي قد وصلت.

اشتعلت عينا عثمان بحقدٍ قديم، تجهمت قسماته بغضب صاعق، فارتدت آثاره على جسده الذي تصلب، ويده التي تكورت، ثم ضرب بها على الطاولة ليشهق الجمع بصوت مكتوم، توسعت فتحتا أنفه من تسارع وتيرة نفسه الحار لينطق أخيرا بنبرة غائمة، لكنها مخيفة أكثر، : أما زلت تحافظ على صداقتك مع ذاك الولد؟
لم يجب رامي مباشرة، فضرب عثمان بقبضته من جديد صارخا: أجنبي.

انتفض الأول بهلعٍ، رفع رأسه إلى والده لمدة لا تزيد عن ثانيةٍ واحدة، ثم عاد ليُخفضه احتراماً ووجلاً، وحتى خوفاً...

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة