قصص و روايات - قصص رومانسية :

رواية حلم السندريلا للكاتبة عليا حمدي الفصل السابع

رواية حلم السندريلا للكاتبة عليا حمدي الفصل السابع

رواية حلم السندريلا للكاتبة عليا حمدي الفصل السابع

بين خيال المرء و ادراكه، مسافه لا يدركها سوى حنينه. (جبران خليل جبران).

جلست جنه بحديقه المنزل، هواء يداعب وجهها، عيناها ترفرف بعذوبيه، يدها تحتضن الورقه كأنها تحتضنهما هما و قلبها يُغرد حزنا و يغنى اشتياقا لان تكون حقا بين ذراعيهما..

سطرت والدتها اكثر الكلمات حبا و اقواها شعورا تصف حبها لوالدها بل و تواسيه فراقها و يا ليتها تعرف انه لحق بها، تمر عينها على الكلمات بنهم، تشعر بكل حرف، يستقر بقلبها كل احساس و تشاركها دموعها في سعادتها و رساله والدتها تصف و بوضوح كم عشقها لوالدها.

حتى قطع الرؤيه عليها جسد صغير فرفعت عينها مُزيله دموعها لترى شذى، تلك الشقيه التى فكرت بعقل الاعداء حتى تتخلص منها، جلست الصغيره و تبع ذلك جلسه اعتذار، بكاء و توضيح بسيط عن سبب الكره؟ مربيه جديده، تعلق شديد، طاعه تامه و بالنهايه زواج و رحيل، لتبقى الصغيره بمفردها ثم سرعان ما تعوضها والدتها بأخرى و تمر بنفس التجربه من جديد و لكن اشد قسوه، تعلق اكبر، و طاعه وصلت لحد الاستسلام و احيانا الخنوع و هى تأمر دون مساعده ثم اكتشاف صادم بأن غايه المربيه السرقه، و كم كانت ذكيه جدا في استغلال الصغيره، و من هنا عقده كبُرت و اصرت بعدها على عدم التعلق بأحد خوفا من الخساره و ابدا لن تسمح باستغلال اخر..

و من جنه حضن يحتويها و كلمات تواسى و اصرار على بدأ صفحه جديده و نسيان الماضى على ان يكون درسا جيدا لحسن التعامل في المستقبل.
اعتدلت جنه ناهضه بحماس و هى تضع الرساله بجيب عبائتها و لكن لم تشعر و هى تسقط منها ارضا بدلا من ان تحتضنها حنايا جيب عبائتها هاتفه بمرح و هى تمد يدها لشذى: ايه رأيك نتمرد!
عقدت شذى حاجبيها ثم مدت يدها لتتعلق بيد جنه و هى تتسائل بتعجب: نتمرد! ازاى؟

حكت اسفل ذقنها تُفكر ثم ضيقت عينها قليلا تُجيبها: انتِ حاليا ممنوعه من الخروج، التليفون مسحوب منك، مفيش نادى و كمان مفيش تليفزيون و لا كمبيوتر، صح!
و جاءت الاجابه برأس منحنيه فمدت جنه يدها لذقن الصغيره ترفعه و لكن شذى لم تفعل فانحنت جنه على ركبتيها ناظره لعينها بعبث افقدته منذ ان كانت بعمر شذى تقريبا هامسه بنبره خبيثه: مفيش خروج و مفيش تليفون بس في تليفزيون، ممكن نتفرج عليه..

ثم راقصت حاجبيها متمتمه بخبث: ايه رأيك...!
و حاولت الصغيره الاعتراض خوفا من غضب الاخ الاكبر: بس عاصم..
و بدون ان تمنحها فرصه لتُكمل او تمنح نفسها فرصه للتفكير اضافت مسرعه: مش هيعرف، و سلمى هتساعدنا، ها!
و اومأت الصغيره بموافقه شغوفه فيبدو ان تلك التى امامها ستمنحها شعورا جديدا و تعلقا جديدا و ربما لا ينتهى هذه المره، ربما.

ضحك و عبث، تمرد جذب سلمى لحد كبير، قلق حقيقى تملك من حنين، اندفاع اثار شذى و حياه جديده حاوطت جنه، احاديث و غناء، لعب و ركض، حتى انتهى الامر بوعاء مملوء بالفشار، الغرفه مظلمه الا من ضوء التلفاز و تجمع صامت امام فيلما مشوقا اندمجوا سريعا بمشاهدته...

سأحيا كما تشتهى لغتى ان اكون، سأحيا بقوه هذا التحدى. (محمود درويش).

كلمات مبعثره، حروف ترفض التجمع، عرق يُظهر توتره و عيناه تهربان من الجالس امامه هنا و هناك حتى صرخ محمود في وجهه بملل: يا بني انطق بقالك ساعه عمال تقول اصل و فصل ادخل في الموضوع عالطول يا معتز.
دفعه خفيفه تلقاها في كتفه من المرتبك امامه و الذى رفع يده يشد على خصلات شعره بضيق من تلعثمه و تمتم بحنق: اسكت بقى و سيبني اجمع كلمتين على بعض.

واجهه الاخر بحل ذراعيه المعقودتين اامام صدره ثم اشاح في وجهه صارخا و قد طفح به الكيل: لا يا راااجل...
ثم اضاف بنفاذ صبر: انا ساكت بقالي ساعه يا معتز في ايه اخلص؟!
صمت دقائق، قطعه همهمه لم تصل لاذنه ثم مفاجأه القى بها معتز مباشره دون اطاله للامر كأنه يحاول التغلب على توتره باندفاع: من الاخر كده انا عايز اتجوز.

حملق به محمود لبرهه ثم قضم شفته السفلى ليكتم ضحكته و لكنه فشل فاندفع يضحك رافعا كفه امام معتز كأنه يعتذر و استقبل الاخر رد فعله بغيظ كتمه رغما حتى هتف محمود من بين ضحكاته يحاول تمالك نفسه: انت عبيط يا بنى، كل ده علشان تقولي عاوز اتجوز، دا انت لو بتخطب اختى مش هتعمل كده.
ثم قطع صوته ضاحكا بقوه مجددا، فما قاله معتز يوما واحدا و سيتنازل عنه.

كازانوفا الجامعه القديم يقيد نفسه الان بامرأه واحده بل و زواج!
الشاب الطائش الذى لا يعرف كيف يُدير الاعمال حتى يريد ان يُدير بيتا و يُنشئ اسره!
عاشق العبث و الجموح و الليالى الحالمه مع من خلق الله من النساء يريد ان يجعل جموحه لامرأه واحده!
ذلك الذى خُلق ليبذر اموال عائلته و يعيش حياته يوما هنا و يوما هناك سيستقر الان ببيت واحد!

و الاهم من هذا كله انه منح قلبه لاحدهم من قبل، خذله او خذلها لا فارق فالنتيجه واحده و مازال حتى هذا اليوم يحبها او هكذا يعتقد بل و يؤلمه ضميره لاجلها حتى بات يلجأ لكل الطرق الممكنه لينساها الان يقول انه سيسمح لاخرى بالتربع على عرش قلبه!
يعلم انه حقا يجاهد نفسه و يحاول الوقوف على بدايه طريق جديد و بالفعل بدأ و لكن الزواج، ربما ابعد ما يكون عنه الان.

قطع ضحكاته عندما شعر انه يتمادى و اعتذر متسائلا بجديه حاول قدر الامكان اصطناعها: انا اسف، اسف، بس قولى المهم مين العروسه؟!
و يستعد لنوبه ضحك جديده و لكن الاجابه جمدت الضحكه على شفتيه بل جمدت جسده كله و هو يحدق به كأنه يُكذب اذنيه عندما تمتم معتز بخفوت كأنه عار و ربما هو كذلك حقا: اختك، هبه!

انتفض جسد محمود دفعه واحده ناهضا بغضب و عيناه تشتعل غيظا هاتفا بدهشه لم تخلو من استنكار و تعجب: مين يا اخويا، انت بتهزر يا معتز؟
ألجمه رد الفعل لحظه حتى رفع عينيه بثقه هاتفا بضيق: و انت شايف ان دى حاجه ينفع فيها هزار يا محمود؟
هاج و ماج و ازداد غضبه اكثر مشيحا بيده بعنف لم يتخيل معتز ان يصل لتلك الدرجه: انت ازاى تفكر في حاجه زى دى؟ ازاى تفكر في هبه يا معتز!

اعتدل معتز مواجها اياه و هو يشعر ان محمود على وشك لكمه بعد ثوانى و كأنه يطالبه بزواج سرى او علاقه غير شرعيه فحاول التحدث بهدوء لا يفضله كثيرا و لكنه ابدا لن يخسر رفيقه مهما كان: ممكن تسمعنى...
و لم يمنحه فرصه الاجابه بل اضاف مباشره كأنه يسابق الوقت معه: محمود انت تعرف كل حاجه عني، اتربيت ازاى؟ كبرت ازاى؟ تقريبا تعرف كل حاجه عن حياتى؟ لانك اقرب واحد ليا فيها ان مكنتش انت الوحيد.

اخذ نفسا عميقا و اردف: انا عارف ايه سبب اعتراضك، سالى اتجوزت يا محمود و خلاص صفحه و اتقفلت بلاش تفكر في الموضوع ده لانه انتهى فعلا، انا معجب بهبه و من فتره بس كنت مستنى اتأكد من مشاعرى ناحيتها.
و هنا لم يعد هناك صبر و ازدادت العين شده و توترت الانفاس ليصيح محمود: تتأكد من مشاعرك! انا عارف كل حاجه عنك فيوم ما تحاول تلعب متعلبش عليا انا يا معتز، دا احنا دفنينه سوا.

احتدت الاعين مواجهه و محمود يهدر مردفا: سالى بقالها اقل من سنه متجوزه، تقدر تقولى نسيتها ازاى بعد ملحمه قيس و ليلى اللى كانت بينكم و لا انت بتحاول تدفن القديم بجديد..
ثم رفع اصبعه محذرا منهيا الحوار بكلماته الاخيره: انا مش هسمح ان اختى تبقي بديل يا معتز، ابداااا.

اضطربت الاعصاب و تلاقت الاعين قليلا حتى تمتم معتز و هو يرى جانب الاخوه في صديقه لاول مره: و انت فاكر اني يوم ما افكر ادور على بديل هتبقى اخت صاحبي و كمان انت بالذات، انت فاكرنى واطى قوى كده؟
و دون ان يسمح لصداقتهم ان تكون عائق بينه و بين حمايته لاخته تسائل بهدوء مدعيا اياه بأقصى ما يملك من قوه: لو انت مكانى هتوافق لاختك بواحد زيك؟
صمت معتز و ما اسوءه من صمت.
مقارنه صغيره و الاجابه لا لن يوافق.

هو بتلاعبه و مغامراته السابقه ليس بعريس مناسب لأى امرأه كانت.
و لكنه يتغير او على اقل تقدير يُحاول، ألا يستحق فرصه!
فرصه يختار و يقرر و ينفذ دون ان يشعر بنقص!
ألن تنتهى عقده حياته من التهميش و الاستنكار و عدم الاهتمام!
ألا يحق له ان يبدأ من جديد، حياه نظيفه مع امرأه راقته و يتمناها؟
انتظره محمود ليُفكر، فإن كانت هى شقيقته فهو ايضا صديقه، لا يستطيع خسارته و لا يستطيع موافقته..

لن يسمح لشقيقته بأن تعيش امرا كهذا، ببساطه لانها لا تستحق.
وصله صوت معتز مهزوزا قليلا و ان حاول هو كبح جماح اضطرابه: معنى كده انى لو حبيت ابدأ صفحه جديده هلاقي الماضي و اقف لي بالمرصاد؟
وضع محمود يده على فخذه يربت عليه كأنه يمنحه قوه: لا يا معتز، تقدر تبدأ صفحه جديده تانى و ثالث و تنجح و تحقق نفسك و تتخطى الماضى بكل اشكاله و تبقى افضل مليون مره..

ثم سحب يده لينظر اليه بقوه كأنه يخبره ألا تراجع في هذا: بس مش اختي يا معتز، انا و انت عارفين كويس انك بتحب التغيير كل فتره، بتمل بسرعه و ممكن بسهوله تزهق، لكن اختى مش كده، اختى عاوزه راجل يفضل دائما معاها، في ظهرها، يصونها و يحافظ عليها مش واحد ماشي جنبها و هيبص على غيرها.

اخذ نفسا عميقا و هو يرى معتز يشرد قليلا فجذب انتباهه مجددا بالربت على ركبته بقوه نسبيه موضحا: معتز علشان ابقى صريح معاك هقولك انى فعلا خايف على اختى منك، خايف تأذيها او تجرحها..

حدق به معتز منتظرا الكماله حتى اكمل هو ناظرا لوجه صديقه يخبره الحقيقه التى يعرفها كلاهما: انت متعبتش علشان تذاكر و اخذت كل سنه بسنتين و بمزاجك، و لا تعبت علشان تكسب فلوس، و لا تعبت علشان تلاقى وظيفه او مكان كويس تشتغل فيه حتى لو مش بشهادتك، و لا تعبت علشان تعيش في مكان محترم او حتى تجيب عربيه، كل حاجه بالنسبه لك كانت جاهزه، فلوسك جاهزه، عربيتك جاهزه، شقتك جاهزه، شغلك جاهز، تقدر تقولى تعبت في ايه علشان تعرف قيمه اللى في ايدك؟

عقد معتز ما بين حاجبيه، صحيح فهو من قيل عنه وُلِدَ و بفمه ملعقه ذهب.
عاش حياته مثلما يحب بلا تعنت اب لم يراه، بلا حنان و ملاحقه ام لا يراها سوى مرات معدوده هذا ان رأها، بلا رقيب او حسيب، كل شئ تحت امره و طوع رغبته و ها هو الان يسمع ذلك من وجهه نظر صديقه الذى عاش حياه تخالف حياته تماما.

اردف محمود بعدها بشرود في ايام حياته السابقه قبل ان يساعده معتز بعمل في شركتهم: اما انا، انت عارف كويس انا عملت ايه علشان اوصل لهنا، السهر و الجرى و الاهانه و المرمطه، كله علشان اقدر اجيب فلوس تساعد ابويا و اختى نفسها بدأت تشتغل قبل ما تبدأ جامعتها، صرفت على نفسها و كانت دائما تساند ماما، لحد ما وصلت للى هى فيه دلوقت، انا اشتريت عربيتى بالتقسيط و اختى كذلك حتى البيت اللى احنا فيه اكلنا التراب علشان نقدر نشتريه بعد كام سنه ايجار و قرف...

ثم انهى حواره بكلمات اصابت معتز في الصميم و ربما بدلا من ان تمنحه خزيا منحته قوه للفوز بتلك المميزه و كم يعشق هو كل مميز: اختى اقوى و اصلب اراده منك، عندها دافع للنجاح و الشغل مش عندك و لا حتى عندى، تعتقد انى ببساطه كده اوافق يتجوزها واحد لسه بيبدأ يعرف يعنى انه شغل و حياه صح!

صمت معتز و عقله يُفكر، محق هو في كل كلمه تفوه بها، محق في خوفه و قلقه و لكن هو ايضا محق في تمسكه بتلك العنيده القويه، ربما اراد محمود ان يبعده عنها و لكنه اخطأ فهو بهذا رسخ القرار في عقله اكثر و سيحاول و بكل الطرق الفوز بها.
تحدى جديد و ابدا ابدا لن يخسره.

حمحم بهدوء ثم نظر لصديقه بثقه ربما يراها محمود لاول مره بهذه القوه: كلامك كله على راسى من فوق، بس مش معني اني كنت مستهتر و واخد الدنيا طناش اني افضل كده..

ثم اضاف بحزم و صدق و ظهر ذلك جليا في صوته و نظراته: انا هاجي اتقدم و اطلبها رسمي، لاني دلوقت اتأكدت كويس قوي انا عاوز ايه؟ و انا اخترت الانسانه اللي نفسي تكون مراتي و تشاركنى حياتى، و مش ناوى اتنازل، و اللي هتطلبه سواء انت او اهلك و هى قبلكم انا هنفذه، و انا متأكد انى هقدر اثبتلك و اثبتلها و اثبت لنفسي اولا اني اقدر افتح بيت و انجح و اني استاهل اتجوز انسانه زي هبه..

ثار محمود و هم بمقاطعته فبادره معتز و اردف: ارجوك يا محمود، فرصه اثبت نفسى، لو اهلك رفضونى او اختك رفضت ان مش هتكلم تانى، لكن بلاش انت تحكم عليا بالماضى و تمنعنى اخذ اهم خطوه في حياتى.
ثم ربت على كتفه و اكمل بصدق ادركه محمود على الفور: انت عارف انك غالى قوى عليا و انى مقدرش اخسر صداقتنا و انا عمرى ما هأذى هبه و لا هجرحها اولا علشانها و ثانيا علشانك و علشان صداقتنا.

و امام توسله لم يستطع محمود ان يُعطى الرد او يحدد القرار.
معتز دخل منزله، يعرفه والديه و تعاملت شقيقته معه مرات قليله جدا من قبل.
يعرف جيدا انه ما عاد كالسابق تماما و لكنه ايضا لم ينجح في تخطيه كاملا.
ربما يستحق الفرصه!
و عند هذا تشتت عقله فربما ما زال هناك وقتا كثيرا على ان يتحمل مسئوليه شقيقته كامله.
سيترك القرار لها ثم لوالديه و ليحدث ما قُدر لهم.

انهى الحوار وهو يغادره فما عاد هناك ما يُقال: اللي فيه الخير يقدمه ربنا..
اجتماع يتلوه اخر، اوراق يطلع عليها، مناقشات هامه مع فارس، حركه هنا و توتر هناك، صفقه جديده و اخرى تنتهى و هو مندمج يبذل اقصى ما يملك من جهد، حتى صرخ جسده طلبا للراحه، مط يديه بقوه ثم نهض يتحرك بهدوء حول المكتب يراقب الطريق من نافذه غرفته.

طيف حزين شغل فكره، ابريقها العسلى الذى انهمرت دموعه حزنا، جسدها النحيل الذى انتفض خوفا من صرخته، شفتاها المرتجفه قلقا من تصرفاته، ارتباكها، و خلف كل هذا يتوارى قوه تسعى للخروج و لكن تعجز، لم يراها سوا ثلاث مرات و في الثلاث تعرفت هى على غضبه او ربما جزء منه فقط، عيناها يسكنها ألم يرفض الخروج، روحها يُرهقها وجع لا يدرى ما سببه، هى...
هى!

تفكير سريع، شرود لحظات ثم سؤال ينتظر ان تُجيبه نفسه عليه، لماذا يفكر بها؟
حزنت أم فرحت، ما شانك؟
تألمت أم ضحكت، ماذا يخصك!
و هى من لتُفكر بها!
من الطبيعى ان يغضب المرء من الاخرين و احيانا قليله يغضب من نفسه اذا اخطأ و لكن ابن الحصرى يغضب من نفسه اذا وجد نفسه يغضب بلا سببا للغضب.
عجبا لتفكيره و سحقا له.
و تبا تبا تبا لها.
و بغضب لا يدرى مصدره ترك غرفته بالشركه متحركا للخارج بعدما قرر و حان وقت التنفيذ.

دقائق تتبعها دقائق حتى توقف امام مبنى أمنى و رغم ان خدمته ليست بالقاهره و لكن له اصدقاء كُثر هنا.
بخطوات هادئه تنافى طاقه الغضب التى تكمن داخله دون سببا يرضيه - فالغضب احيانا ما يكون مرض و ابن الحصرى مريض به مرضا مزمن - تحرك عاصم باتجاه غرفه المقدم طرقات للاستئذان ثم دلف هاتفا باعتياد على الجالس خلف المكتب امامه: جمال باشا..

ترحيب خاص، لوم و عتاب على التقصير في السؤال، حوار صغير، و حديث طويل عن العمل و حديث اطول و اوضح عما يريده عاصم تبعه نقاش حول حياه كلا منهم حتى وصل الحوار للاسره، يعرف عاصم جيدا كم يُحب المقدم زوجته و كم سعى ليتزوجها رغم رفضها في البدايه و لكنه فعل ما بوسعه و اكثر حتى يفوز بها و قد كان، لا يصدق هو شيئا كهذا، نعم يعلم انه سيأتى يوما ما و يتزوج و لكنه متيقن تماما انه لن يقع في الحب او يحاول السعى وراء احداهن مهما كانت الاسباب و استهزاء قاسى من المقدم بمشاعره الجافه و رأسه الصلبه و رهان صريح منه بأنه سيأتى يوما يسقط قلب ابن الحصرى في هوه لن يستطيع الخروج منها مهما اراد و مهما فعل و بابتسامه عابثه واثقه وافق ابن الحصرى على الرهان متأكد تماما انه لن يخسره.

قاطعهم طرقٌ على الباب فانتبه كلاهما و لحظات و دلف صديق له بزيه العسكرى مؤديا التحيه و بعد ترحيب صغير بدأ بسرد ما يملك من اخبار و انتباه كلا من عاصم و جمال معه كاملا..
حادث ارهابى، مجموعه اشخاص يحاولون تفجير مكان ما، تتعقبهم الوحدات الأمنيه و يتم القاء القبض على واحد منهم و ها هو قيد التحقيق حتى يعترف بمكان الاخرين..

يحاولون معه باللين و لم يأتى بنتيجه، فحاولوا بالعنف و إلى الان لا يأتى بنتيجه ايضا، قانونى أم غير قانونى لم يُفكر فقط عرض المساعده فما افضل من العنف ليُفرغ به طاقه غضبه، واجهه اعتراض ثم اصرار و عرض مره اخرى بالتزام و وعد بعدم التهور و قد كان و قبل ان يدلف للمجرم المعتقل هتف بسؤال واحد للصديقه و الذى رحب بمشاركته لما في الامر من عبث: معاك سجاير؟

دلف عاصم للغرفه مغلقا الباب خلفه بهدوء بينما يتابعه صديقه و المقدم من خلف زجاج غرفه المراقبه بفضول و استمتاع..
رفع المجرم رأسه ليرى عاصم تلك الكدمات التى ظهرت متفرقه على وجهه و جسده من اسفل ملابسه الممزقه، ساقه مثبته بسلسله حديده متصله بحلقه مثبته بالحائط و يديه مقيده اسفل ظهره..
و بمجرد ان رأى عاصم ابتسم بسخريه ناظرا اليه من اعلى لاسفل: وجه جديد، هو اللي فات تعب ولا ايه؟

يقولون ان الظباط لابد ان يتحلوا بضبط النفس مهما كان ما يصير، يقال او حتى يُفعل حولهم مجبرون هم على ضبط النفس، و رغم ان عاصم لا يعرف معنى تجاوز غضبه و ضبط النفس في حياته الشخصيه لكن لا يوجد من هو افضل منه في ذلك في عمله و كأنه ينفصل تماما عن الواقع ليُكن العمل و العمل فقط امام ناظريه، تقدم ببرود باتجاه الجالس و تسائل و هو يحل عقده يديه: اسمك ايه!

و ليه شفاه ساخره تبعها تساؤل اكثر سخريه: ليه هتعملي بطاقه؟
دار عاصم حول مقعده و هو يحك جانب فمه ببطء: ممكن..
اشاح المجرم بوجهه في سخط و مازال وجهه يحمل معالم سخريته: عثمان.
حرك عاصم رأسه مرددا ببطء شديد: ع، ث، م، ا، ن حلو، حلو قوى..
لفته ساخره اخرى و ضحكه قصيره تبعها باندهاش يهزأ: مكنتش اعرف ان اسمي حلو!

اخرج عاصم السجائر من جيبه و اشعل واحده و جانب شفتيه يرتفع بابتسامه جانبيه متسائلا باهتمام و هو ينظر للجالس اامامه بترقب للاجابه: بتحب تشرب سجاير؟

قالها و هو يمد يده بها اليه فعقد عثمان حاجبيه تعجبا بدأ يُثير توجسه و لكنه استجاب له و هو يأخذها، بينما نزع عاصم جاكت بذلته بهدوء واضعا اياه على الكرسي المقابل رافعا اكمام قميصه للاعلى ثم رفع قدمه على الطاوله امام عثمان الذى ازداد تعجبه و قام بسحب رباط حذائه مما دفع عثمان لقمه استغرابه فإلي الان لم يسأله عاصم عن شئ يخص العمليه او زملائه.

اخفض عاصم قدمه و رفع الاخري نزع منها رباط الحذاء ايضا ثم امسكهم بيده و وقف ثواني ينظر للرجل ثم تحرك بهدوء واقفا خلفه، ازداد توتر عثمان و ازداد معه سرعه استنشاقه للدخان بيده و قبل ان يخفض السيجاره عن فمه، امسك عاصم ذراعيه واضعا اياها خلف ظهره مره اخرى مقيدا اياها باحدي الاربطه بيده، ثم رفع يده ضاغطا انفه مانعا اياه من التنفس، احتقن وجهه، برزت عروق جبينه، جحظت عيناه و انفاسه يخنقها الدخان بفمه، و لا مجال للتنفس..

حاول الافلات من بين يدى عاصم و لكنه لم يستطع و ازداد احتقان وجهه حتى وصله صوت عاصم و هو يهمس بجانب اذنه بتوضيح بسيط و كأن الذى امامه لا يكاد يختنق: عايز اساميهم واحد واحد و عنوان كل واحد فيهم و الاماكن اللى بتتجمعوا فيها، كل حاجه.

كادت انفاسه تزهق و لم يقو حتى على اجابته حتى عاود همس عاصم و هو يضغط انفه اكثر و بنبره اكثر قوه و قسوه: يا اما نقرأ الفاتحه على روحك، و مات ليه؟، احتقان شديد، يبقى انا عملت حاجه؟!، لا برئ، و زمايلك عايشين و انت الله يرحمك و لا من شاف و لا من دري، ايه رأيك!

صمت عاصم لحظه و عثمان يُخرج اخر انفاسه ثم رفع يده عن انفه و سحب السيجاره من فمه ملقيا اياها على ركبته فسحب عثمان نفسا عميقا و هو يسعل بقوه و لكن ما لبث ان صرخ بألم نتيجه شعوره بسيجارته تحرق جسده تاركةً ندوبا عليه...
تحرك كالمجنون يحاول اسقاطها ارضا ولكن لم يستطع فصاح بصراخ متألم: شيلها من عليا الله يخرب بيتك.
حرك عاصم رأسه يمينا و يسارا قائلا ببرود: مقولتش رأيك ايه؟

ازداد شعوره بالاحتراق حتى اصبح لا يُطاق و لكنه اصر على موقفه رافضا الاعتراف فهتف بحده: مش هقول حاجه، اي
و قبل ان ينطق بحرف اخر رفع عاصم يده برباط حذائه و دار به حول عنقه ساحبا رأسه للخلف بعنف حتى شحب وجه عثمان و اتسعت عيناه بصدمه و هو يرى الموت بعين عاصم المحدقه به و الذى تبعها بهمسه خافته و نبره اقوى من الرعد: يبقى البقاء لله...

كان يقتله حقا، ازرقت شفتى الرجل اسفل يده و مازال عاصم مُصراً على ما يفعله، حتى وصله صوت صديقه من جهاز الصوت المثبت بالغرفه انت اتجننت يا عاصم، الراجل هيموت .
جحظت عين الرجل مدركا ان التهديد هذه المره ليس بتهديد فقط، صمت هو عن الحديث يقينا منه ان الظابط لن يقتله و لكن الان هو يٌقتل حقا..
فحاول الاماء برأسه موافقا هامسا بصوت مختنق: ه، ه، هق، هقول...

لحظه كادت تكون اللحظه الفارقه بين حياه الرجل و موته و بها تحرك صديق عاصم باتجاه الغرفه و لكنه توقف بمجرد ان دفع عاصم عثمان تاركا اياه و عاد للخلف خطوتين، مال الرجل للامام يسعل بشده و يسحب اقصى ما يستطيع من الهواء...
نظر اليه عاصم و تحرك واقفا امامه مستندا على الطاوله ليقول بهدوء قاتل: سمعك..

بدأ عثمان بسرد الاسماء و عنوانهم بينما ازاح عاصم السيجاره عنه و القاها ارضا مطفئا اياها، و عندما انتهي اخذ عاصم نفسا عميقا فاتحا اول زرارين بقميصه و نزع ساعته و اخرج هاتفه و محفظته و وضعهم على الطاوله بجواره دافعا اياها للخلف قليلا، ثم اتجه لعثمان الذى راقبه بذعر وقام بحل وثاق قدمه و يديه مجددا ثم ابتعد عنه خطوتين للخلف متمتما بابتسامه جانبيه مداعبا جانب فمه بطرف اصابعه: اُقف.

وقف عثمان بارهاق جسدى و خوف نفسى و هو يرمقه بنظره حذره و قد كانت في محلها عندما اصطدم جسده بالارض في اللحظه التاليه بعدما ضرب رأسه بالكرسى ليسقط معه اثر لكمه عاصم العنيفه..
بينما رفع عاصم يده يعبث بخصلاته هاتفا: اُقف.
حاول عثمان النهوض حتى وقف و هو يُزيل السائل اللزج الذى غطى فكه و لكنه اصطدم بالارض مره اخري اثر لكمه اكثر عنفا.

بينما اتسعت ابتسامه عاصم و اشار له مجددا متمتما بتلك الكلمه اليتيمه: اُقف.
رفع عثمان كفه يُوقفه متوسلا بارهاق و تعب مضنى: ارحمني ابوس ايدك.
اغلق عاصم عينه رافعا رأسه لاعلي زافرا بقوه، هو جاء ليُنفس عن غضبه و لكنه لا يستطيع بل زاد غضبه اشتعالا، و من ماذا لا يدرى! و ربما هذا ما يغضبه.
فهو لن يغضب لاجل تلك الفتاه ابدا..
لن يفعل، لن!، أهو لن يفعل حقا!

ازداد اشتعال فتيل غضبه فسحب اشياؤه بعنف و وضع الجاكت على كتفه و نظر للزجاج الذي يعلم جيدا ان المقدم و صديقه يقفون خلفه و القي التحيه العسكريه و خرج مسرعا من الغرفه ثم لخارج المكان، دلف لسيارته وصدره يعلو و يهبط باضطراب متحركا بسرعه عاليه باتجاه المنزل فكفى عمل اليوم فعقله و جسده بحاجه للراحه.

انتهى الصراخ حماسا و انتهت المشاهده و اعلن الجميع عن اعجابهم بالفيلم، تثاءبت شذى معلنه رغبتها المُلحه في النوم، و كذلك فرت حنين معلنه هروبها قبل ان يأتى عاصم و أيدتها سلمى بالطبع بينما اتجهت جنه للاسفل لتجلس مع ام على بالمطبخ فلا نوم يداعب اجفانها الان..

دلف عاصم بسيارته للمنزل، جلس بها قليلا، هدأ غضبه و لكنه لم يهدأ، تفكيره ما زال يعبث به، سبب تمسك والدته بها، قرار و الده الصارم لصالحها، دفاع الجميع عنها و الاسوء تعلق الجميع بها، ان كان هذا تصرف معتاد من شقيقاته فهو بالطبع ليس تصرف معتاد من والدته و لكن يبدو انها اطمئنت اخيرا على صغيرتها..

اخذ نفسا عميقا مترجلا من السياره و لكنه لم يدلف للمنزل بل قادته قدماه للحديقه الخلفيه تجول بها قليلا يستمتع بالهواء الذى يداعب وجهه و صدره، لا يدرى كم مر عليه من الوقت و لكنه كان بحاجه لهذا الهدوء ليعزف الهواء مقطوعه من السكون داخل رأسه ليقطع افكاره قليلا، تحرك ليدلف للمنزل و لكنه لمح شيئا على العشب امامه، انخفض، التقطها، قرأها و ليته لم يفعل.

حبيبي اعلم انك اشتقت إلى كثيرا و لكنك تعلم ايضا ان ابتعادى ليس اختيارا بل قدرا، انا في مكان افضل لا تقلق عليّ و لا تُفكر بي، فقط ادعى لىّ كثيرا، لا تحزن حبيبى فأنت رجُلي و حتى و انا بعيده عنك إعلم اني احبك، احبك كثيرا، اعتني بنفسك جيدا لا لاجلك بل لاجلى، اعلم انك افتقدت وجودي، حضني و كذلك قُبلاتي و لكن حبيبي معك ألف ذكرى و ذكرى ألا تكفيك! اعلم ان عشقك لى لا ينتهى و اعلم ان قلبك لن تأخذه غيرى حتى و ان كنتُ بعيده و لكن افرح يا عزيزى، املأ حياتك بالعنفوان و القوه مثلما كنت دائما، لا تستسلم لأى حزن او وجع يصيبك، فأنا اُريدك كما كنت دائما بطلي ، احبك، احبك، احبك كثيرا، فانتبه لنفسك جيدا و اعلم ان قلبى دائما معك مهما لم أكن انا، و ها انا ارسل اليك قُبلاتي فتلمع عيناك بذلك البريق الخاطف الذي لطالما عشقته، امل حياتك.

انكمشت الورقه بين يديه، اصابعه تضغطها بعنف، عيناه تصرخ بالشرر و جسده ينتفض بالغضب...
تفكير سريع، صاحبه تلك الرساله اما احدي اختيه و والله ان كانت ليقتلها، و اما تكون تلك!
اتسعت عيناه و زادت حدتها كازا اسنانه بقوه، اغلق عينه لحظات محاولا التماسك حتى لا يهدم البيت على من فيه الان و تحرك ليصعد لغرفته قبل ان يفعل شيئا ربما يندم عليه و لكنه حتما لن يمرر الامر مرور الكرام.

دلف للمنزل و تحرك مسرعا باتجاه الدرج و لكن قبل صعوده استمع لصوت ضحكات عاليه تصدر من المطبخ و لكن ما الهب عقله و صدره و الاسوء قلبه هو صوتها و هى تهتف بسعاده كعادتها كلما قرأت رسائل والدتها: انا فرحانه قوى، قوى، قوى يا داده..
اقترب خطوه اخرى و هو يسمع صوت ام على تجيبها: الله الله، ربنا يفرحك دائما يا جنه، بس ايه السبب المميز النهارده بقى؟

اصدرت جنه صوتا مستمتعا اشعل اوداج عاصم غضبا اعمى و كلماتها تضغط بقوه على عرقه الاسود: الحب يا داده، الحب.
لم يستمع عاصم لكلمه اخرى بعدما تأكد انها لتلك الحمقاء، تلك التى سطرت يدها كلمات مفعمه بالحب والشغف، كلمات سترسلها لأحدهم ليقرأها فيفرح و ربما بعد ايام ترحل كمتزوجه، ربما هى في ارتباط رسمى و هو لا يعرف، اغلق باب غرفته خلفه و نظر لفراشه غضبا و نارا اكلت من روحه ما شاءت.

دار هنا و هناك عله يهدأ، من هى لتُشغل تفكيره، احبت، تزوجت، حييت او ماتت ما شأنك! و لكن روحه لم تهدأ، ابدل ملابسه بأخرى رياضيه و خرج من الغرفه مره اخرى متجاوزا كل ما يعتل روحه خارجا للحديقه مره اخرى محاولا تفريغ شحنه الغضب - التى يبدو انها بوجود تلك الفتاه حوله - لن تهدأ.
ارتفعت ضحكات ام على لتغمزها بحنان و خبث في مزيج يُذكر جنه بزهره دائما: ايه ده؟ ايه ده؟ دا انتِ بتحبي بقى!

تجهم وجه جنه بحزن فهى لم تفعل و لن تفعل و لن تقع ابدا في فخ الحب، لن تسمح لنفسها بأن تكون لعنه في حياه احدا ما، لن تسمح بأن يحترق قلبها على عزيز لها مره اخرى، لن تحب و هذا قرار لن تعود فيه ابدا..
تمتمت بثقه تعجبتها ام على مع ملامحها التى سطر الالم نفسه عليها بوضوح: انا مينفعش احب يا داده.

ثم استدركت الامر سريعا حتى لا تُسأل عن معنى كلامها و اخبرتها عن رسائل والدتها لوالدها و التى تقرأها باستمرار علها تجدهم بجوارها و ان لم يكونوا حقا، شملتها ام على بنظرات حنونه و هى تستمتع اليها حتى هتفت جنه بشغف: استنى يا داده اوريكِ.

ثم وضعت اصابعها بجيب عبائتها لم تجد الرساله، عقدت ما بين حاجبيها تعجبا، نهضت تبحث حولها لم تجدها، حتى تذكرت انها تركتها بالخارج بعدما نهضت مع شذى فصرخت متذكره: لما شذي جت انا سيبتها على العشب بره..
ثم نهضت متحركه للخارج: ثانيه واحده يا داده هطلع اجيبها..

خرجت جنه لتذهب للمكان الذي كانت تجلس به لتبحث فيه، ظلت تبحث يمينا ويسارا بلا فائده، انخفضت تبحث عنها بين العشب و ايضا لم تجدها، فوقفت واضعه يدها على خصرها تُفكر: يمكن تكون وقعت منى فوق..

استدارت بلهفه لتصعد و لكنها شهقت بحده و هى ترتد للخلف عده خطوات حتى اصطدم ظهرها بالشجره خلفها واضعه يدها على صدرها الذى يعلو ويهبط اثر فجأتها فور رؤيته، ابتسامه جانبيه زينت ثغره جعلتها تضطرب اكثر و هى تعتدل في وقفتها تلتقط انفاسها التى هربت منها، مظهره لم يكن طبيعيا، عيناه حمراء، ملامحه منقبضه رغم ابتسامته، تى شيرت رياضى بأكمام قصيره ابرز عضلات جسده و الاسوء حصونه السوداء التى حاوطتها بغضب جعلها تزدرد ريقها ببطء عندما اقترب هو منها خطوه و صوته الخشن يداعب اذنها: بتدورى على حاجه؟

نفت برأسها و نظرت ارضا محاوله التحرك من امامه، لكنه ضغط اسنانه بمحاوله منه للتماسك معترضا طريقها يتسائل مجددا: بتدوري على ايه!
اخذت نفسا عميقا و رفعت رأسها لتنظر اليها لتفزعها نظرته الحاده و اسهمه تصيب ابريقها العسلى بارتجاف بسيط فأخفضت عينها مسرعه متمتمه: بعد اذنك عدينى مينفعش كده.

داعب جانب فمه ليظهر غضبه واضحا كشمس الظهيره مجيبا اياها بصوت اقوى و نبرته يشملها سخريه تعجبتها: مينفعش! انتِ تعرفي ايه ينفع و ايه مينفعش يا محترمه؟!
عقدت ما بين حاجبيها بقلق اصاب قلبها و لحظات من الماضى تضرب عقلها، هدوء كوثر المتوعد الذى يشابه كثيرا هدوءه هذا.
خوف تملك منها فانتفض جسدها و ارتجف جفنيها لتتحرك مقلتيها يمينا و يسارا تتطلع للمكان من حولهم، فراغ، سكون، صمت، خوفها و غضبه.

و ببطء شديد اخبره عن مدى خوفها رفعت عينها اليه فاختفت ابتسامته تدريجيا و هو يتعجب كم الخوف الذى سكن ابريقها العسلى، شدد قبضته بضيق زاد من غضبه و نظرتها هذه تشعره بعجز غريب عليه، ف القى بأخر اوراقه متسائلا باقتضاب يخفى لهفه غريبه و ترقب اغرب للاجابه: انتِ مخطوبه؟
و نظره الاستغراب بعينيها اخبرته بإجابتها، لا ، اذا من هذا الذى خطت يدها عشقها له فوق اسطر رسالتها؟

من هذا الذى تعشقه بل و يتلذذ بحضنها، ضحكها و قُبلاتها؟
نيران اشعلت صدره و هو يتخيل جسدها يحاوطه اخر.
اخر يغرق في ابريقها العسلى و لمعانه.
اخر يُضحكها و يستمتع بضحكه لم يراها هو حتى الان.
اخر يُزيل دموعها و تلامس اصابعه بشره وجهها.
اخر يفعل ما يعجز عن فعله هو!

و قبل ان يقبض على نفسه متلبسا و قبل ان يحتار لغضبه و جدها تحاول المرور من امامه، فوقف امامها مره اخرى رافعا الرساله امام عينها ناظرا اليها بظلام شمل حصونه السوداء و نبرته تزلزل قلبها خوفا خلف ضلوعها: بتدورى على دى!

توقفت ناظره اليه بتوجس لتتسع عينها بدهشه لم تخلو من اضطراب و توتر و هى ترى الرساله بين يديه مُكرمشه، رفعت يدها لتأخذها بهلع حسبها هو لهفه فعاد خطوه للخلف و رفع يديه بالرساله امامها لحظه بينما هى تتبين نيته فسقط قلبها في هوه ماضيها و هو يمزقها امامها بغضب بينما هى تستعيد ذكرى موت والدها بفزع و مع كل وريقه تسقط ارضا، تهرب انفاسها منها فهو ببساطه منحها نفس الشعور الذى تحاول الهروب منه..

جعلها تشعر للمره الثانيه بموت والديها، اخبرها انها ليست سوى يتيمه لا سعاده تجوز لها، منحها نفس الاحساس الذى منحتها كوثر اياه سنين طوال...
قتل سعادتها، لهفتها بل و كل قوه تدعى انها تملكها...
امتلئت عينها بالدموع و هو يلقى بالورق الصغير على رأسها هاتفا بحده: طول ما انتِ هنا، تحافظى على احترامك، فاهمه؟

تركها و رحل صاعدا لغرفته، جلس لحظات على فراشه و لكنه لم يستطع السكون فخرج لشرفته ليجدها واقفه كما تركها تنظر للارض بصمت و ذهول...

عيناها تتطلع للوريقات الممزقه و قلبها يأن ألما، صور بعيده تداهم عقلها، صفعه كوثر، اغلقت عينها كأنها تهرب من الرؤيه، فارتفعت اصوات صراخ كوثر بها تؤلم اذنها، فرفعت يدها تغطى اذنها تمنع اصوات الماضى عنها، و استنتاج جديد يرسخ ندوب مؤلمه بقلبها عاصم ما هو إلا النسخه الذكوريه من كوثر...
سقطت على ركبتيها امام الوريقات الصغيره بينما هو يعقد ما بين حاجبيه صدمه بما تفعله..

حسنا ربما تحب ذلك الرجل و لكن هى تُبالغ.
راقبها تلملم الوريقات الصغيره لتجمعها بيدها ثم تنهض بعجز غريب لتختفى عن عينيه، دلف لغرفته يُفكر، ماذا بها تلك الفتاه!
و عاتبه ذلك الصوت بداخله بل السؤال الانسب هنا، ما به هو!
اغلق عينه فتشكلت عيناها امامه، حزينه، خائفه و دائما متوجسه.
فتح عينه فلا مهرب منها، لمَ هذا العجز الذى غلف جسدها و روحها؟
لمَ نظرت له و لما فعله بذهول و عدم التصديق؟

لمَ شعر انها سافرت بأفكارها لعالم اخر؟
ماذا يحدث!
شعور غريب اكتنف روحه بالامتلاك، بالسلطه و بالسيطره التامه.
رغم انه لا يملك اى من هذه الامور فهى مجرد خادمه لاخته لا اكثر او اقل..
و هنا عادت افكاره لناصبها الصحيح، هو لا يعرفها و لا يهتم و لن يفعل، لن يُفكر بها بعد الان، و عقله لن ينشغل بها مجددا ابدا.

تكفل اكرم بالبحث مجددا و ابتعد كل البعد عن كل ما يربطه بالعائله و لكن فارس لم يفعل، حدثه اكثر من مره، سأل عنه، ذهب لزيارته حتى نشأت علاقه طيبه بينهما بعيدا عن اى شيئا يخص العائله و التى كان يتجنب فارس اى حديث عنها، طلب منه اكرم ألا يُخبر احد و على هذا الاساس طلب فارس من عاصم ألا يخبر احد و لهذا لم يعرف احد، و اليوم قرر فارس مقابلته مره اخرى، و اجتمع كلاهما في احد المطاعم الهادئه بالقاهره و بدأ فارس في تنفيذ قراره فرغبته تتصاعد باخبار والدته عن ابن شقيقتها، عرض و رفض اكرم رفضا قاطعا فأصر فارس هاتفا بضيق: انا مش فاهم ليه الاعتراض؟ ليه مش عاوز العيله تعرف و لو على الاقل خالتك و عمتك!

بعثر فارس صفحات كتاب قديم دون ان يقصد بل و وقف عند اسوء الصفحات وجعا، و اقساها ألما، و فهم هو ذلك عندما صرح اكرم بهتاف يخفى خلفه صراخ يأن له قلبه: عيله! عيله ايه اللي معرفش عنهم حاجه غير و انا عندي 32 سنه؟ عيله ايه اللي عمري ما سمعت اهلي بيتكلموا عنهم غير بخناق او كره؟ عيله ايه اللى بتتكلم عليها دي؟

راقب فارس تغضن ملامح وجهه و انفاسه التى تسارعت و هو يردف بنبره ساخطه يتوارى خلفها عتاب قاسى: و هي كانت فين العيله لما كنا عيال محتاجين حد معانا؟ كانت فين لما والدتي تعبت و كانت في عز احتياجها لحد جنبها؟ كانت فين العيله لما كان نفسي حد يهتم بيا بدل مراه ابويا؟ فين العيله يا فارس فين ؟
صمت و صمت فارس معه فأى كلام يقال الان؟

اكرم محترف في اخفاء ما يعانيه من ألم، و لكن الجرح الذى اعتقد فارس انه سطحى اكتشف انه اعمق بكثير مما قد يتوقع احد...
زفر اكرم بقوه مشيحا بوجهه مانعا سيل ذكريات الماضى من تشتيت عقله حتى وصله سؤال فارس بتردد: انا نفسى افهم حاجه واحده ليه والدك اتجوز تانى، انا اتفاجأت يوم المؤتمر بالموضوع ده؟

عاد اكرم بوجهه اليه، ورفع كوب قهوته مرتشفا منه بهدوء ينافى احتراق صدره بحكايه الماضى الذى لا يرغب في العوده اليه ابدا ثم رفع نظره لفارس الذى احترم صمته و انتظر حتى تمتم اكرم محذرا: بحكم ان احنا صحاب هحكى لكن بحكم اننا ولاد خاله لو حد عرف الكلام ده يبقى نهايه خط معرفتنا يا فارس..

اومأ فارس موافقا فسرد اكرم باختصار شديد ما يعرفه عن زواج ابيه بكوثر و ان هذه رغبه والدته و ما اخطأها من رغبه، حتى انتهى فهتف فارس بصدمه: انت ليك اخوات؟
و ضغط فارس على الجرح الاكبر و الاعظم و الذى مهما مر من الزمن لن يجد اكرم من يداويه سواها، ضحكتها، عينها، شغبها و طفوليتها التى لا يعلم كيف عاشتها، ارتجافه بسيطه اصابت عيناه و هو يوضح باختصار ما ألت اليه الامور مع جنه الصغيره، و كيف فقدها حتى الان..

ظل فارس يناظره بذهول، فالحِمل ليس بهيناً ابدا، اخبره اكرم عن محاولاته العديده و التى باءت بالفشل دائما، سؤاله عنها في المستشفيات و اقسام الشرطه و محاولته لنشر صورتها بصحفيه او جريده ما و كيف عارضه الجميع حتى قرر ان يصنع لنفسه اسما و مكانه حتى يستطيع المحاوله من جديد، حتى يساعده احد، و لكن الى الان لم يجد!

طالعه فارس بحزن قابله اكرم بقوه تعجبها فارس في شخصا مثله و لكنه احترمها و تمتم بثقه: ان شاء الله هنلاقيها، انا هعمل كل اللى اقدر عليه، و عاصم لم...
قاطعه اكرم بحده و هو يضرب على الطاوله امامه بقبضته و عيناه يلوح بها الغضب: عاصم لأ، اى حد من العيله لأ يا فارس.

ادرك فارس ان عاصم قابله بشخصيته الحجريه و التى لا يعرف الجميع ما يخفيه عاصم خلفها، و لكن اكرم لا يعرف مدى نفوذ عاصم و التى من الممكن ان تجعل وصولهم لطريق شقيقته اسرع، و لكن ربما لا يجب عليه اخباره..!
فأومأ موافقا و داخله نيه اخرى و سينفذها فور ان تُتاح الفرصه لذلك.
جلس معتز على الاريكه بمنزله يُمسك بالهاتف في يديه، يفكر يتصل أم لا؟
يطالبها لاول مره بأمرا يحتاجه أم يتعامل كعادته دون ان يأبه لها؟

هى أمه و لكنها تعامله بجفاء قاسى.
و والده لا يعرف عنه شيئا سوى كنيته.
لم يكن احد بجواره من قبل و لا يوجد الان و لن يكون.
و لكن ليفوز برضا والدىّ هبه و موافقه محمود بل و الاهم اطمئنان هبه له عليه ان يطالب عائلته بالوقوف معه، و كم يكره هذا.

و بقرار حاسم رفع هاتفه، ضغطت اصابعه على اسمها، رنين، رنين ثم صوتها يصله بثباتها المعتاد و نبرتها الجافه، اغلق عينيه يتمالك احساسه الان و هو يعلن بداخله ان هذا اول تنازل يقدمه لاجل الفور بصاحبه العيون الزرقاء.
سلام، ترحيب بابتسامه مصطنعه منه و لزجه منها و كلام لا يقدم او يؤخر شيئا ثم صراحه قال مطالبا اياها بالقيام بدروها كأم لمره واحده: انا عاوز اخطب..

و ضحكه ساخره اصابت قلبه لتُعيد القاء حفنه من الملح على جرحه الذى لا يندمل مهما مر عليه من الزمن: ضحكتنى يا معتز، ايه خلاص خلصت المغامرات و كبرت و عقلت و ناويت تتجوز و تستقر؟
اتسعت ابتسامته المتهكمه و هو يعتدل في جلسته بسخط: دا بدل ما تقولى لى الف مبروك، ربنا يفرحك يا بني؟
تجاوزت نجلاء ما قاله و استندت على المقعد امامها تسأل ما تعتقد انه اهم ما يكون الان: و مين العروسه؟ بنت عيله ميين!؟

زفر بغضب و هو يجيبها بلا مبالاه: مش عيله معروفه يا امى.
لتُصدر صوتا ساخرا تبعته بهتاف حاد و قاطع و بنبره حاسمه: ابن نجلاء الحصري ميتجوزش اي واحده، لازم تكون عيله مرموقه، مستوى اجتماعى عالى و مستوى مادى فوق الممتاز.
ليجيبها ساخرا هو الاخر بنبره اشعلت غضبها: دا على اساس انها هتصرف عليا و لا هتحاول توسع دائره معارفى باجتماعيتها؟

ثم اضاف بانهاء لهذا الجدال السخيف كما يرى، فهو بموافقه والدته او رفضها سيتزوجها، بموافقه اخيها او رفضه سيتزوجها و ليضرب من يعترض سواها رأسه بالحائط : انا هخطبها يا امى سواء وافقتِ تيجى معايا او لأ، انا عايش طول عمرى بمزاجى و لوحدي و قراراتي انا اللي باخدها و دي حياتي و انا اللي هعيشها يبقى مراتي انا اللي اخترها و خلاص اخترتها..

هاجت و ماجت و ارتفع صوتها بالصراخ فابعد الهاتف عن اذنه حتى تنتهى ثم اعاده عندما صاحت بسؤال قطعى: هتتجوزها غصب يعني يا معتز؟
اغلق عينه و هو يشعر انه يقوم بشيئا لم يفعله منذ ان كان بالخامسه عشر من عمره و الان اوشك عمره ان يصل للضعف و ها هو يقوم به، صمت لحظه ثم اجابها بهدوء: مش غصب يا امي بس هى عاجبانى و عاوزها و مش هتخلي عنها، كل اللى بطلبه منك انك تيجى من النجع علشان نروح نخطبها؟

استسلمت اخيرا دون نقاش مره اخرى و هذا اثار تعجبه عندما صرحت بلامبالاه: طيب يا معتز هحاول..
فحاول اشراكها مره اخرى فيما هو مقدم عليه فأولا و اخيرا هى و الدته: طيب يا امي انا هروح مبدأيا اعرفهم بنفسي و اشوف طلباتهم و اخد رأى العروسه، علشان لما تيجي نلبس شبكه عالطول.
و كأنها تعاقبه اضافت بلامبالاه مجددا: اعمل اللى انت عاوزه، انا وقت ما هفضى هاجى.

و هنا عرف انها لن تأتى و انه مجبر ان يقوم بكل ما يريد بمفرده، صمت و هو يرغب في توضيح رغبته بحضور والده، ربما لم يراه طوال حياته، ربما لا يعرف كيف اصبح بعدما اصاب الشيب رأسه، و لكنه يبقى والده.
و لكن مره اخرى كبت اى رغبه داخله و انهى الحديث بكلمتين و اغلق الهاتف متمتما برجاء واحد: امتى هترجعى يا مها؟

تنازها نفسها مرات و مرات ان ترحل و لكن تعلقها بشذى ابقاها، مرت الايام وتتابعت الاسابيع و تعلقها بكل من في المنزل يزداد و تعلقهم بها ايضا، إلا هو، تجنبت التعامل معه تماما، شعور بالكره تجاهه يتشكل، كلما رأته نفرت عروقها و تجسد بعينها بغضها، لم يتحدثا او يتعاملا مطلقا، و هذا كان يمنحها بعضا من سكينه نفسها..

عاد من العمل اليوم، حمام بارد، قهوه ساخنه، و كتاب انجليزيا لكاتب معروف، يجلس في شرفه غرفته، يداعب الهواء وجهه، و تفكيره منصب على ما يقرأه، جذبه صوت باب المنزل يُفتح فانحنى بجذعه ناظرا للاسفل ليجدها تتحرك ببطء و هدوء للخارج شعورا بالتوجس اصابه، و لكنه تجاهل الامر مراقبا اياها قليلا حتى وجدها تجلس اسفل احدى الاشجار و بيدها شيئا ما لم يتبين ما هو، اعتدل مغلقا الكتاب زافرا بضيق، منذ ذلك اليوم و هى لا تتطالعه سوى بكره يقرأه حتى الاعمى بعينها، انفاسها تضطرب وجلا و خوفا لمجرد رؤيته، خطواتها تهرب بعيدا عنه بنفور يضايقه، مرت ايام عده، ذهب و عاد، ذهب و عاد و كلما رأها يجد طنا جديدا من الكره قد اُضيف لرصيده داخلها..

اغلق عينه مستكينا في مقعده رافعا رأسه لاعلى ليسمح للهواء بمداعبه مساحه اكبر من جسده..

استفسر من والدته عنها اخبرته ان زوجه عمه هاله هى من اخبرتها عنها، و ان زوجه عمه هى الضمان الوحيد لتلك الفتاه، و عندما حاول الاستفسار عنها من زوجه عمه رفضت و بشده اخباره، ادى الامر لمشاداه بينه و بين عمه و لكنه لم يستطع الحصول على جواب يرضيه، كيف تكون بشخصيه مبهمه هكذا، ما اصلها؟، من اهلها؟، ما حكايتها؟، و الاهم ما سر هذا الغموض الذى يحيط بها!

نهض نافضا رأسه كأنه يُقصيها عن فكره و تحرك بإتجاه المطبخ في الاسفل ليأتى بشيئا بسيطا يأكله..
كان المنزل هادئا في هذا الوقت من الليل و اثناء مروره بباب المنزل جذبه صوت همهمات تأتى من الخارج، اقترب قليلا ليجدها تبكى بخفوت و لكن يبدو ان صوتها يخونها..

اقترب منها اكثر و اقفا بالقرب منها و هم بسؤالها عن سبب بكائها و لكنه تفاجأ بها تُمسك بصوره ما بين يديها لا تبدو ملامح من بها جيدا و لكن كان واضحا انها لرجلا و امرأه سويا، اشتعل غضبه مره اخرى، و ازداد اكثر عندما وجد انتفاضتها تزداد و هى تتحدث مع الرجل بالصوره..
تشكى ما تعانيه بالبعد عنه، تشكى تعبها من اشتياقها اليه، تشكى ما فعله هو بها، تشكيه لرجلا اخر.

هم بالاقتراب اكثر و لكنه توقف مندهشا من كلماتها المشبعه بحبها و رغبتها بقرب بعد البعد، تخبره انها عاشت به و تتمنى لو يعود ليجاورها مره اخرى، تبكى حبه و فراقه.

تخبره ان حلما ما لم يعد يراودها، تطلعه على شكل حياتها معهم و كيف تفتقد المنزل القديم و الذى جمع ذكرياتهم سويا، تتلعثم و ترتبك ثم تعتذر عن شيئا ما هو لا يعرفه ثم تكرر و تكرر مرارا و تكرارا اعتذارها قبل ان ترفع الصوره لتطبع قبله دافئه عليها ثم تضمها لصدرها لتشهق باكيه.

هاج قلبه و ماج عقله و تسارعت انفاسه بشكل لفت انتباهها و هى تستدير له بجزع لترى بعينيه نظره اسوء مما رأتها ذلك اليوم، ضمت الصوره لصدرها بقوه كأنها تخفيها عنه و هى تشدد بيدها على ملابسها و كانت كمن تهرب من امامه و لكنه للاسف لم يفكر، لم ينتظر و لم يسمع، فقط تسائل بصوت ارعد مفاصلها و جبينها يتصبب عرقا من قوه خوفها و توترها و الليل يحيط بهم من جميع الاتجاهات: ايه اللى مسهرك لحد دلوقت؟ و بتكلمى مين؟

ثم اشار على الاطار بيدها و التى قربته لصدرها اكثر ثم رفع عينيه ليرمى بأسهمه لتحاوطها لتتراجع خطوه خوفا: و ايه اللى في ايدك ده؟!
و دون ان ترفع عينها او تجيبه قررت تجاهله لتمر بجواره متجاوزه اياه و هي ترغب بصراخ و ما شأنك انت و لكنه في لحظه تراجع خطوتين ليكون امامها لتناظره بذهول بينما خرج صوته آمرا: اما اسألك سؤال تردى عليا.

ابعدت الصوره عن صدرها لتنظر اليها و لكن قبل ان تفعل سحبها هو بعنف و دون ان يراها القاها جانبا بلامبالاه متقدما منها خطوه اخرى و دون ان ينتبه دعست قدمه على صورتها لتختفى وسط تراب الارض المبتل قليلا و هو يحاوط ابريقها العسلى بحصونه السوداء بغضب اسود صارخا: لما اكلمك تبصيلى و تردى عليا.

انتفضت جنه بفزع ليس من صوته ولكن لصوت الزجاج المتهشم الصادر عن اطار صورتها بعدما اصطدمت بجذع الشجره التى كانت تجلس اسفلها و مره اخرى يُجبر هو ذكرياتها على تمزيق عقلها و قلبها معا، يدفع بصور الماضى لتلاحقها فتتمنى هى الهرب جزعا، يكسر جزءا اخر داخلها بقصد او دون قصد، يُزيد خدوش روحها خدشا جديدا و مازال القديم لم يلتئم بعد..

و امام نظرتها، انتفاضتها و صوتها الذى ارتفع ببكاءها، صمت و هو يرى عينها تنظر بذهول اكثر من المره السابقه للاطار ارضا و الصوره التى حاوطها التراب اسفل قدمه فتراجع خطوه بينما هى لم تأبه له و لم تمنحه سوى نظره زلزلت كيانه بقوه حزنها لدرجه تعجبها هو، تجاوزته و انخفضت ارضا و مدت اصابعها بارتجاف فعقد ما بين حاجبيه و هو يراها تحاول ابعاد قطع الزجاج الصغيره العالقه بالصوره التى غطى نصفها التراب و النصف الاخر تحاول اخراجه من بين اطارها المتهشم و مع انتفاضه جسدها و ارتجافه اصابعها، لامس الزجاج يدها بعنف لتتراقص قطرات الدماء متساقطه على الصوره لينكمش جسدها وجعا و يتخبط هو.

وافقا قبل ان ينحنى يمنعها لتنهض و لكنها رفعت رأسها اليه لتكن تلك المره الثانيه لها بمثل هذا القوه، و المره الاولى له يرى بعينها قوه تعجبها و بغض اعمى اصاب قلبه فأن، عينها غرقت بدموعها التى كتبت وجعها سطرا بسطر على وجنتيها، اصابعها المرتجفه تحذره بهتاف حاد: متقربش منى، ابعد، ابعد عنى.

و خرجت الاخيره منها بصراخ اجفله فابتعد وافقا بينما هى عادت تحاول اخراج الصوره متغافله عن جرح يدها حتى اخرجتها لتقف ناظره اليه بغضب عاتب و نفور قاسى هامسه بنبره اخبرته انه اخذ اكبر علامات الكره داخل قلبها: انا بكرهك..

ثم تحركت من امامه مسرعه للداخل بخطوات راكضه بينما هو ينظر للاطار ارضا و بقع الدماء التى لونت العشب، و صراع قاسى اطبق روحه و جعله يلفظ اقسى و اسوء الانفاس ندما غلفها شعورا حارق بالغضب..
من السهل جدا جرح مشاعر الاخرين، و من الصعب جدا مداوتها ببساطه، لان الجروح تترك ندوب يصعب ازالتها.

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة