قصص و روايات - قصص رومانسية :

رواية حلم السندريلا للكاتبة عليا حمدي الفصل الثامن

رواية حلم السندريلا للكاتبة عليا حمدي الفصل الثامن

رواية حلم السندريلا للكاتبة عليا حمدي الفصل الثامن

تمت الخطبه، و مرت ايام تتلو ايام يعقبها اسابيع و اشهر، هبه ترقص فرحا، و تغنى سعاده لا تملكها فتاه على وجه الارض الان..
يوم عاد محمود بعد حواره مع معتز، حدثها بهدوء، عريس، جاهزٌ، شاب وسيماً، يملك منزله الخاص، سيارته، وظيفته، مستوى اجتماعى و مادى وثقافى لا بأس به بالمختصر عريس لا يُعوض..

و كان ردها اعتراضا مع زمه شفاه مستنكره و رفضا دون ان تعرف من هو، و لكن فور ان عرفت تبدل الحال لحال اخر، ابتسامه واسعه، اتساع عين بفرحه طاغيه، يكاد يقسم انه استمع لنبضات قلبها التى رقصت بسعاده خلف ضلوعها، موافقه سريعه و اندفاع مبالغ فيه، ثم ارتباك، تلعثم و اعتراف بحقيقه انها كانت تحبه.

تحبه منذ ان صادق اخيها، تحبه منذ ان رأته عينها اول مره، كلام اخيها عنه، مواقفه المسانده و الداعمه و مساعدته المستمره لاخيها، عمل اخيها بسببه، اعجاب ابيها و امها بشخصيته التى لا يعلم الكثير ما يخفيه خلف واجهته الباسمه، و لكن الامر الهام و المُقلق في الوقت ذاته هو ان هبه تحب معتز و دون حديث طويل و كلام لا طائل منه وافقت.

هو صديقه و يمثل جزءا كبيرا لا غنى عنه من حياته و لكنها اخته، توأمه، و النصف الاخر من روحه..

نصحها، شرح، وضح و اخبرها عن صديقه بكلام حيادى لا يظلمه به و لا يظلمها، اخبرها عن استهتاره، لامبالاته، تعنته و حبه لنفسه، طيش الشباب الذى احتكره في كفيه، نزواته القديمه و علاقاته الغراميه و فاجأته هى بردها: هتحمل معاه كل حاجه و هتعدي، هحاول اغيره، هنبني بعض سوا، هقف جنبه لحد ما يبقى احسن، هحبه و دا كفايه يا محمود، كفايه اني هحبه.

قبل رأسها و احتضنها و عبر اكثر عن خوفه، توجسه، رغبته في حمايتها من امرا ربما يكون قاسٍ جدا عليها و لكنها حملته حِمل اكبر عندما زادت من ضمها له و زادت من مسئوليته تجاهها: انت جنبي و انا عمري ما هخاف و انت جنبي، و بإذن الله هعيش مبسوطه و انت عارف اني لا سلبيه و لا ضعيفه و هقدر أواجه اي حاجه هتقابلنا..

و امام فرحتها كان هو مستكينا لرغبتها، لم يستطع منعها، لم يستطع قتل سعادتها، اخبرته انها رددت اسمه - معتز - دائما في صلاتها، حافظت على مشاعرها و كبلتها بقلبها دون البوح بأى منها رغم قوتها و ها هو الله يجازيها بما تمنت و صبرت لاجله فكيف يقتل كل هذا؟
كيف يفعل و معتز ايضا يمنحه صك و عهد بالتغيير و المحاوله و النهوض من الوحل الذى دفن نفسه في طواعيه!

قبل بالامر و حدث والديه و الذى سريعا ما وافقا فكيف بعريس كمعتز السروى، و ابن الابنه الوحيده لعائله الحصرى ان يُرفض، عريس مثله بوسامته، امواله، مكانته، عائلته، حياته و شخصيته كيف يُرفض!

و الان و بعد اشهر من الخطوبه لم تشتكى هبه و لو مره منه، ها هو صديقه يتحدث مع والده برغبته في عقد قرانه على شقيقته، فبرغم حب هبه الشديد له لم تعبر عنه كاملا، لم تتنازل عن مبادئها، دينها و قواعد خطبتها، و بالطبع لم يعتاد معتز على مثل هذه الامور، تشاكسا كثيرا، غضب عليها، طالبها بالقرب و لكنها عارضت و اجبرته و اجبرت نفسها على الالتزام و الايام تمر حتى فاض الكيل به و جلس يطالب والدها بالموافقه على كتب كتاب يعقبه بقليل حفل الزفاف...

و كالمعتاد حوار فجدال فموافقه و تم تحديد الامر بل و التنفيذ.

و هل هناك فرحه للام تعادل فرحه رؤيتها لصغيرها بعد غربه لسنوات طوال، نفى نفسه بها بعيدا عنهم، عمل و درس، نجح و حقق ما يتمناه و اكثر، اسم و مركز و ثقافه لا تُعوض، و الان عاد..
اصرت نهال على عوده فارس مبكرا ليحتفلوا بعوده شقيقه الاصغر، و قد كان.

ارتفعت ضحكاتهم، مزاح الصغير و عبث الكبير، عائله يجمعها حب لم ينقصه غربه، تفاهم الاب و الذى ورثه الكبير كاملا و كان للصغير نصيب لا بأس به، حنان الام و الذى اورثته لولديها بتساوٍ بل تفوق كلاهما فيه عنها، عقل، اتزان و جهد الكبير و اندفاع، دلال و سعى الصغير.

و مع الفرحه قرر فارس اخبارهم بالفرحه الاكبر عندما تمتم بابتسامه واسعه و هو على وشك تحقيق الحلم الذى يسعى اليه منذ زمن: بما ان مازن اخيرا رجع و قلب نوئه ارتاح و قلق كبير البيت انتهى..
رفع رأسه بدراميه لينتبه الجميع له فأشار لصدره مازحا بينما يرمى بمفاجأته: انا عاوز اتجوز.
قهقه مازن و محمد اعتقادا انه يمزح بينما صرخت نهال بفرحه: بجد يا فارس اخيرا قررت تطمن قلبى؟

اومأ موافقا و هو يقبل يدها فنظر كلا من مازن و محمد لبعضهم البعض بتعجب ثم دفعه مازن في كتفه بعنف رجولى صارخا به: دا انت بتتكلم جد بقى؟
ليعيد فارس ضربته اليه هاتفا بحنق و هو يُمسد مكان الضربه: ايدك تقيله يا حيوان.
ارتفعت ضحكات مازن بينما صاح محمد بهما فصمت كلاهما احتراما فوضع يده على كتف فارس هاتفا بموافقه مبدئيه: انت اسست نفسك و تقدر تفتح بيت و انا عارف و متأكد ان ابنى راجل يُعتمد عليه..

ربت مازن على ركبته بود و لكن ظاهره العنف هاتفا بصخب: ايوه بقي يا عم سبقتني بس معلش ملحوقه.
انتبه الجميع لكلمته فضحك فارس بسعاده: انت ناوي انت كمان ولا ايه؟
صمت مازن لحظات يتذكر تلك التى حقق نفسه لأجل الفوز بها، تلك التى اسرته منذ ان كانت معه بالجامعه، بقوتها، باحترامها، باجتهادها و شخصيتها و ظهرت مشاعره واضحه بعينيه عندما تمتم بنبره واثقه: اقابلها بس و هتجوز عالطول.

نظر محمد لنهال التى لمعت عينها بفرحه عارمه و ولديها الاثنين تتملكهم فرحه انتظرتها، فأمسك يدها لتتطالعه بحب لم يختفى من عينها طوال سنوات عمرهما معا فابتسم لها ناظرا لمازن مقررا ممارسه العبث معهم فهتف بدراميه مازحه: بتحب من ورا ابوك يا مازن؟!
ضحك الجميع بينما رفع مازن يديه الاثنتين للاعلى صارخا بمراوغه مدافعا: برئ يا حاج و ربنا، انا محبتهاش هى اللى اجبرتنى احبها.

ازدادت ضحكاتهم و نهال تضربه بكفها على ظهره لتزداد ضحكاته ناظرا لها مردفا بجديه لم تخلو من مزاحه و نبرته المتلاعبه: انتِ عارفه ابنك كويس يا امى، لا بيكلم و لا بيصاحب، خلصت دراستى و سافرت كونت نفسى و رسمت طريقى و مشيت فيه و دلوقت اول ما اقابلها هتقدم عالطول.

نظرت لكلاهما بسعاده حقيقيه و تمتمت بدعاء خالص: ربنا يفرحني بيكم قادر يا كريم، ثم ركزت انظارها على فارس متسائله بشغف: مقولتش ياا فارس مين العروسه؟
حمحم فارس متوقعا ثوره من والده عليه الان و لكنه ابدا لن يتنازل عن حلم عمره مهما كلفه الامر، نقل بصره بينهم ثم نظر لوالده ملقيا قنبلته دون تمهيد: انا عاوز اخطب من بيت عيله الحصرى يا بابا..

اتسعت عين نهال شاهقه بصدمه بينما نظر اليه محمد عاقدا ما بين حاجبيه بحده بينما وضع مازن يده على فمه حزنا فقلب شقيقه سينفطر حتما..
يطلب المستحيل و هو يعلم و لكنه سيحارب لاجلها حتى عائلته، يعلم ان والده لن يعترض عليها لشخصها او عائلتها او اى شئ اخر سوا تقاليد و خلافات قديمه ظلت مستمره معهم حتى الان و عند حياته و حبه لن يستمر بها ابدا و مهما تطلب الامر منه..

نهض محمد واقفا و كأنه لم يسمع ما قيل و اشاح بيده مشيرا على غرفه فارس متمتما بهدوء: واضح انك تعبان و محتاج ترتاح، قوم ادخل اوضتك و انسي الموضوع ده تماما.
نهض فارس واقفا هو الاخر لينظر لوالده بثقه و اصرار موضحا رغبته بشكلا اكبر و بصراحه كما اعتاد مع والديه دائما: يا بابا من فضلك اسمعنى، انا بحبها و مش هقدر اتخلي عنها ابدا، و مش هعرف انسى الموضوع.

ثم اضاف بقوه اخافت والده اكثر مما طمأنته: و انا مستعد اواجه اى حاجه و اى حد علشان تبقى مراتى.
ازداد انعقاد حاجبيه و هو يرى بعين ابنه اصرارا يخشاه، الزمن يعيد نفسه و يا له من قاسى.
ما فعله والده سيفعله هو و ما فعلته اخته سيفعله ولده و تدور العجله لنعود لنفس النقطه.

و لكن لا، هو لن يسمح ببعد احد ولديه عن حضنه، لن يسمح باتحاد يعقبه تفرقه من اسوء ما يكون، لن يسمح بحب يليه وجع لن يتحمله قلبه و هنا رفع اصبعه بوجه فارس هاتفا بحده و عيناه تتطالعه بغضب اخفى خلفه قلق ابوى على طفله: انت بتعصي كلامي يا فارس؟
و انتفض فارس مقتربا من والده مقبلا يده هاتفا بحنان لامس قلب والده: مقدرش يا بابا و الله، بس ارجوك حاول تفهمنى، حاول تسمعنى.

ابتعد محمد ساحبا يده من بين يدى صغيره قائلا بصرامه و قرار حاسم مع تهديد صريح شهقت نهال فور ان سمعته: انا قولت اللى عندى انا مستحيل اوافق على الجوازه دي، و لو عارضتنى يا فارس...
و نظرات الترقب تحيط به و هو عيناه استقرت على عين صغيره و الذى ظهر قلقه واضحا في عينيه ثم صرح بعاقبه معارضته: لا انت ابنى و لا اعرفك.

و ضعت نهال يدها على كتفه و عينها تترجاه ألا يفعل، بينما اقترب مازن امام والده بجوار اخيه ليهدأ والده قليلا: لا طبعا يا بابا فارس مش هيعارض حضرتك.
ثم نظر لفارس ممسكا بيده ليدفعه حتى يتحرك متمتما: خلاص يا فارس دلوقت نتكلم بعدين.
ما هذا! ببساطه هكذا وضع والده النهايه لحلم دام سنوات عمره، لرغبه اشعلت قلبه طوال صغره و مراهقته و شبابه و الان ببساطه يخنقه والده دون السماح له بفرصه ليتنفس..

فلم يشعر بنفسه و هو يدفع مازن بعيدا عنه هاتفا بصوت خانه ليعلو مع بحه مختنقه شملت نبرته لتكن المره الاولى بحياته كلها يرفع صوته امام والده: بتكرر جدي تاني يا بابا و زي ما عمتي اطردت من العيله، حضرتك هتطردني؟!

حاولت نهال ابعاد محمد حتى يهدأ غضبه و لكنها لم تستطع و تخطاها ليقف امام فارس مباشره هادرا بنبره قويه: دا اللي عندي يا فارس، جواز جديد من عيله الحصري مش هيحصل، احنا تقاليدنا كده و كبير او صغير هيمشي عليها سواء بإرادته او غصب عنه..

و هنا فقد فارس نفسه و هدر بجنون جعل الجميع ينظر له بتعجب فهذا خارج تماما عن عادته و طبعه الهادئ: دي تقاليد متخلفه و انا مش همشي عليها و لا هخضع لها و مفيش حاجه هتمنعنى احقق حلم عمرى مهما حصل، كفايه سطحيه بقى انت حتى مفكرتش تسألني مين او بحبها من امتي؟ كل اللي فكرت فيه انها تقاليد وهى اساسا تفاهات ال...

و قبل ان يُكمل حديثه ارتفعت يد والده تطبع صفعه قاسيه على وجهه انحنى على اثرها للجهه الاخرى بصدمه بينما صرخت نهال بجزع و تسمر مازن مكانه ناظرا لوالده بذهول..

نظر محمد لحظه لفارس الذى لم يعتدل و كأنه يحاول استيعاب ما فعله والده فاضطرب صدره مفصحا عن وجع قلبه و لكنه يحمى ابنه و حتى ان كانت الوسيله خطأ فالغايه ساميه، هدر بغضب و هو يواجهه باصبعه محذرا: اذا كان الحب و الغرام علمك قله الادب و البجاحه و انك ترفع صوتك قدامى، ف انا لسه عايش يا فارس و اذا مكنتش علمتك و انت صغير يبقى تتعلم وانت كبير..

و انهى كلماته بعدها بقراره النهائى و هو يعلم جيدا ان فارس لن يُقدم على شيئا كهذا: الجوازه دي مش هتم، و لو مُصر يبقى اتفضل لم هدومك و اتجوز بعيد عنا..

و قبل ان يختل توازنه و يقفد تماسكه تحرك بخطوات حاول جعلها ثابته حتى اغلق باب غرفته خلفه، تحركت نهال و بمجرد ان لامست كتف فارس ابتعد مسرعا متجها لغرفته، فأخبرت مازن ان يتبعه بينما هى دلفت لغرفتها، وجدت محمد يجلس على الفراش و يضع رأسه بين يديه، فزفرت بحنان متجهه اليه جالسه بجواره و لحظات صمت دون كلام حتى امتدت يده تُمسك يدها كأنه يطلب عونها فتمتمت و هى تحاوطه بيدها: ليه عملت كده! ليه قسيت عليه كده يا محمد؟

اخذ نفسا عميقا متذكرا عجزه عن مسانده اخته من قبل عندما تمسكت بابن الحصرى، تذكر ضعفه و كيف نفذ الجميع قرار والده دون المقدره على النطق بحرف واحد، كيف يسمح للماضى بالتسلل بينهم مره اخرى، كيف يفتح نافذه ستجلب عليهم اقسى العواصف برداً و اقواها رعداً!
احترمت هى صمته حتى منحها الاجابه و التى كانت تعرفها جيدا: انا بحاول احميه، عاوز احافظ على ابنى يا نهال، مش عاوز اخسر ولادى و أقف عاجز مش قادر اساعدهم.

ضغطت يده بين يديها تخبره بأنها تفهمه و لكنه يجب ان يفكر في نطاق اوسع، يجب ان يحاول فهم ولده و ان يسمعه، يجب ان يترك احساس الخوف الذى حوله لوالد قاسى ليفهم قليلا شعور صغيره و يوجهه و هى كبرت اولادها بالحنان لا بالقسوه، فتمتمت تخبره بأن هدفه يستحق و لكن طريقه خاطئ و ربما يخسر قبل ان يبدأ فيه حتى: فارس مش صغير يا محمد، مينفعش تزعق له و تضربه و تقوله اسمع الكلام و تستنى يسمعه لان فارس كبر، انت غلطت، كان لازم تسمعه، تقنعه، تفهمه و اخر الحلول انك تجبره، كان لازم نقف في ضهره علشان يواجه و نساعده لكن دلوقت هنخليه يواجهنا احنا الاول.

و ضيق كاد يوقف قلبه فصاح بقلق شعر به قلبها: اعمل ايه يا نهال؟ انتِ عارفه ابويا لو عرف هيعمل ايه؟ ممكن يهد الدنيا على دماغه انا خايف على ابنى و بحاول احميه و بس.
اعتدلت في جلستها لتنظر اليه و همست بقوه رغم نبرتها الهادئه: الظلم وحش يا محمد و هاله اتظلمت من والدك، و دلوقت انت بتظلم ابنك و بتدوس على قلبه و بتهد حلم حياته بزوجه بيتمناها تشاركه..

نظر اليها فحاوطته بحنانها المعتاد و هى تضغط كفه بين كفها اكثر و ثقتها بربها تتجلى بوضوح في كلماتها: المكتوب هنشوفه، لو في أذى هنشوفه و لو خير هنشوفه، من امتى بنعترض!
اخفض عينه قليلا و هو يحاول الهدوء حتى اردفت هى: الماضى هيأذى ولادنا يبقى نحميهم و نقف معاهم و نساعدهم لكن مينفعش نكسرهم يا محمد.

ضرب عقله صدمه فارس بصفعته فقبض يده بقوه لم يكن يريد ان تصل الامور الى ما وصلت اليه ابدا فتنهد بصوت عالى فربتت على كتفه لتشرح له ما سيفعله صغيرها الان و كأنه لا يعرف و لكنه يعرف جيدا: دا فارس يا محمد و احنا مش هنتوه عنه، وانت عارف كويس قوى ان هيحارب و هيسعى علشان يحقق حلمه..
ثم اضافت مازحه تحاول اخفاء القلق الذى ينهش قلبها: ابنك كبر و بيحب و بياخد اهم قرارات حياته دلوقت يا حاج محمد..

و بتوسل خالص نظرت لعينه: خليك جنبه هيحتاجك معاه دائما.
صفعه!
كان الرد على طلبه اهانه و صفعه!
غضب اكتنف روحه و هذا نادرا ما يصيبه، حركه ذهابا و ايابا، جسد منتفض و قلب يكتوى ألما، اختيار بين عائلته و روحه.
مساومه بين ابيه و قلبه.
من يختار؟ من يُفضل؟
و لكن الان لن يختار فقد سيبتعد يوم، يومين، عشره فقط سيبتعد.
يُفكر و يقرر ثم يعود ليختار، ان استطاع ان يفعل!

لملم ملابسه في حقيبته و سحبها خلفه و بمجرد ان فتح الباب وجد مازن امامه فتجاوزه متقدما باتجاه باب المنزل فصاح مازن به بغضب جاذبا الحقيبه من يده ليضعها جانبا: انت اتجننت؟ انت رايح فين!
صمت فارس و تحرك باتجاه الحقيبه مجددا و لكن مازن سبقه ليدفعها بعيدا عنهم صارخا: فارس، انت عارف ان بابا اكيد ميقصدش ث...

قاطعه فارس هادرا بغضب هو الاخر: ميقصدش! ميقصدش ايه؟ ميقصدش يدوس على قلبي! ميقصدش يقتل فرحتي! ميقصدش يضربني و يهين كرامتي! ميقصدش يطردني!
ثم اضاف ساخرا و هو يتألم لحديثه هذا: كل ده و ميقصدش لما يقصد بقى هيعمل ايه!

خرج محمد و نهال من الغرفه على صوتهم فنظرت نهال لمحمد بجزع و هى تتوسله بعينها ان يمنع صغيرها بينما اقتربت هى منه هاتفه بتوجس و عينها تمتلئ بالدموع: بسهوله كده هتمشى يا فارس؟ انا ما صدقت ان اخوك رجع تقوم انت تمشى؟

اغلق فارس عينه فدموع والدته و حزنها هما نقطه ضعفه و تمتم بأسف و هو يقبل رأسها بعمق جعل قلبها ينتفض فولدها اخذ القرار و قُضى الامر: انا آسف يا امي بس بابا عاوز كده، انا مستعد اتخلى عن سعادتى لو ده هيرضيه لكن مش مستعد اتخلى عنها علشان ارضى ناس تانيه مين كان يكونوا، انا اسف.
استدارت نهال تتوسله مره اخرى و هذا المره ترجمت نظراتها هامسه ببكاء: محمد، متحرمنيش من ابنى الله يخليك.

نقل محمد بصره بينهم و صمت لحظات ليجد ان حمايه عائلته واجب لابد ان يقوم به و لكن و هو يحتضنهم و ليس بتفرقتهم و هنا نظر لفارس الذى اخفض بصره ارضا تاركا يد والدته يهم بالخروج و مع صمته لم يستطع مازن او نهال التحدث مره اخرى، حتى هتف بحزم: شايف نفسك راجل كفايه تواجه و تتحمل و تشيل مسئوليه نفسك و مراتك؟
توقف فارس و استدار ناظرا له ثم رفع رأسه واثقا و هتف بثبات: طول ما فيا نفس.

راقب محمد ثقته قليلا ثم قال قراره اخيرا: ماشى يا فارس انا موافق،
ثم رفع اصبعه محذرا و هذه المره ادرك الجميع ان حديثه لا رجوع فيه: بس، لو فشلت او ضعفت او اتخليت عنها، اقسم بالله هتخرج من البيت و من حياتنا و هنسى ان كان ليا ابن اسمه فارس..
نظرت اليه نهال بضيق فلقد اقسم و هذا يعني انه سينفذ كلامه حتما مهما صار و مهما فعلت لن يثنيه شيئا عن هذا.

و لم ينتظر رأى فارس او رده و تركهم دالفا لغرفته مره اخرى بينما ابتسم فارس بثقه: و انا مهما حصل مش هتخلى عنها.
هاتف محمد عز و دار بينهما حوار صغير و اخبره عن قرار فارس و رغبته و اتفق كلاهما على ما يجب فعله، و بهذا وضع فارس قدمه على اول طريق الحلم و الذى من الممكن ان يكون اسوء الكوابيس.

ما بدايته غضب لابد ان نهايته خجل!
بنجامين فرانكلين.

كلما اقترب منها غضب و ابكاها.
و كلما ابتعد عنها سيطرت بشمول على تفكيره.
يتعجب تصرفه معها، غضبه، عدم تفكيره، اندفاعه و شعوره.
عينها المميزه بلون العسل الصافى و لم يرى بها سوى الدموع و دائما ما يكون السبب.
سؤال يداهمه كثيرا، ماذا يريد منها؟
لماذا يتصرف كأنها ملكٍ له و هو مسئول عنها؟
لماذا يشعر انها طوع امره و من حقه فعل و قول ما يشاء لها؟
لماذا يترسخ فكره انها له بداخله!

استند بظهره على كرسيه، ها هو قد انهى الاوراق اللازمه و اعد ملفات الصفقات الضروريه و يجب ان يرحل و لكنه لا يرغب في ذلك..
ينهك نفسه بالعمل حتى يمنع عقله من التفكير و لكن ها هو انهى العمل و حان وقت التفكير.
لا رغبه له بالعوده للمنزل و لكن لا مجال اخر فهو بحاجه لبعض الراحه..

دلف للمنزل و بمجرد ان ترجل من السياره وجد شقيقتيه على وشك الخروج فاقترب منهم متسائلا فأجابته سلمى بمرح: عيد ميلاد جنه بكره و احنا حابين نحتفل بيها خصوصا انها بقالها مده مش طبيعيه كده و دائما زعلانه..
رفع نظره لاعلى ينظر لشرفه غرفتها كأنه ينظر اليها هى و زفر ببطء فعاجلته حنين هامسه بلهفه: فاحنا هنخرج نجيب شويه حاجات علشان نفاجأها..
عاد ببصره اليهم ليتسائل بضيق اخفاه بحدته المعتاده: بابا عارف؟

اومأت حنين موافقه فصمت قليلا يُفكر ثم اشار لسيارته هاتفا بنبره لا تقبل النقاش: تعالوا معايا انا هوديكم طالما السواق مش موجود..
تبادلت الفتاتان النظرات تعجبا و لكن بترحاب شديد ذهبا معه، حوار، مزاح و ضحكات تملأ السياره و يشاركهم عاصم من حين لاخر، حتى قالت حنين متسائله و هى تنظر لسلمى: طيب دلوقت احنا هنجيب ايه بالظبط!

همهمت سلمى تفكر قليلا بينما يبتسم عاصم ابتسامه جانبيه ينتظر ما ستقوله بعد هذا التفكير حتى تحدثت بتوضيح: مبدأيا هنطلب تورته علشان نستلمها بكره، ثانيا بقى هنجيب شويه حاجات كده علشان نظبط المكان بما يناسب مهندسه ديكور شاطره زيى..

ثم ضحكت بغرور فبادلتها حنين الضحكه بأخرى ساخره بينما اتسعت ابتسامه عاصم و هو يتابع شقاوه شقيقته المتمرده و التى من المفترض انها الكبيره حتى هتفت حنين: بس اهم حاجه نجيب برواز جديد مكان اللى اتكسر.
انتبه عاصم لحديثها فاختفت ابتسامته ناظرا اليها بطرف عينه متسائلا بترقب و قد جاءه الجواب على اكثر تساؤلاته اهميه: برواز! و دا اهم حاجه كمان!

نظرت اليه حنين بابتسامه و هي تري بعينه نظرات التساؤل و يصلها بصوته نبره الاهتمام فاجابته بهدوء محاوله استدراجه في الحديث رغم معرفتها بكل ما صار: اللى فهمته من شذى ان جنه كان عندها برواز دائما محتفظه فيه بصوره اهلها و اتكسر تقريبا امبارح و هى زعلت علشان كده شذى حابه تجيب لها واحد مكانه و احنا وافقناها، ود..

قاطعت حنين صوتها بصرخه فزع و هى تسمع صوت احتكاك عجلات السياره بالارض بقسوه اثر توقف عاصم فجأه مما دفع كلاهما ليرتد للامام بعنف..
شهقت سلمى و هى تنظر لعاصم بخضه هاتفه: استرها يارب، في ايه يا عاصم؟
نظر عاصم اليهم متجاهلا خوفهم صائحا: قولتِ صوره مين؟

عقدت سلمى حاجبيها دهشه تبعتها بنظره ادراك و هى تدرك ان عاصم يهتم بل اكثر من مهتم بينما اتسعت ابتسامه حنين و هى تفهم سبب تساؤل عاصم فعندما حاولت جنه الرحيل اكثر من مره و حاول الجميع السؤال عن السبب لم تخبرهم و لكن حنين لم تتركها بعد اصرار شذى لبقاء جنه و سألتها، حتى اخبرتها جنه ما صار من عاصم يوم مزق الرساله و يوم كسر اطارها دافعا بالصوره ارضا ليغطيها الوحل حتى ما عادت واضحه..

عاود عاصم سؤاله مع صمتهم فتنهدت حنين بينما صرحت سلمى عن شكها: بتسأل ليه يا عاصم؟
حاول ادعاء اللامبالاه و لكن المبالاه الصارخه من عينيه اجاباتها عوضا عن رده السخيف: فضول..

رمقته حنين بنظره متفهمه ثم اخبرته عن حقيقه الصوره ثم اضافت قاصده لتخبره بوضوح عن سوء ظنه و الذى ادى لسوء تصرفه مما دفع جنه لكرهه أكثر مما تفعل: عارف يا عاصم من كتر حبها لاهلها الله يرحمهم، دائما بتقرأ رسايل مامتها لباباها و للاسف واحده منهم ضاعت منها او اتقطعت تقريبا مش فاكره و هى زعلت علشانها جدا، علشان كده احنا عاوزين نفرحها.
عبثت الافكار بعقله و كلمات حنين تصفعه بعنف..
هو قاسى يعرف هذا.

قلبه لا يعمل سوى لضخ الدم ايضا يعرف هذا.
و لكن ما يختبره الان ندما من نوعا خاص، ندما لانه بات ليلتين ظالما تلك اليتيمه..
الان فقط تفهم خوفها منه، هروبها منه و كرهها الدائم لوجهه، تفهم سبب انتفاضتها، بكاءها و همساتها المكتومه ليلا، فهم انها لم تكن تتحدث عن حبا او عشقا لاحدهم بل كانت تلجأ لوالدها تبثه اشتياقها.
الان فقط ادرك سبب ذهولها يوم مزق الرساله..

سبب عدم اهتمامها بجرح يدها مقابل اخراج الصوره التى تلطخت بالوحل..
اخطأ هو و لم يمنحها الفرصه لتتحدث، لتخبره، لتمحى سوء ظنه و تُبرر..
لحظه.
لماذا تبرر له؟ لماذا تخبره؟ و لماذا تهتم بمحو سوء ظنه؟ و الاهم لماذا يُسئ هو الظن بل و يعاقبها ايضا؟
افاق من افكاره على يد حنين الملامسه لكتفه تناديه بهدوء و هى تعرف جيدا ما يموج بصدره الان..

عاصم متبلد المشاعر قليلا تعرف و لكنه لم يكن يوما بظالم و هذا اقسى شعور يمكن ان يصيبه، و خاصه لفتاه ضعيفه مثل جنه بل و يتيمه ايضا..
لم ينظر اليها بل تحرك بالسياره دون كلمه اخرى و هو يُفكر ماذا يجب عليه ان يفعل الان؟
توقف عاصم امام احد اكبر المولات بالقاهره ليهبطا معا فحرك عاصم عينه يمينا و يسارا متماسكا ثم نظر لحنين قائلا باقرار بعد تفكير: انا هجيب البرواز..

شهقت سلمى بصدمه مرحه بينما ادركت حنين سببه على الفور و أومات موافقه و جذبت سلمى معها حتى لا تثرثر كثيرا..
بعد حوالى ساعه و ربما اكثر انتهوا مما يرغبون بشرائه و عادوا للمنزل و قبل ان تدلف حنين خلف سلمى امسك عاصم بيدها هامسا: شنطه العربيه فيها حاجات، لها، ابقي اديها لها من غير م تعرف انها مني، اتفقنا؟

ابتسمت حنين تتطلع اليه قليلا و ادرك هو انها تحاول سبر اغوار عقله بل و ربما فعلت ثم همهمت بتساؤل تعرف اجابته او ربما تتوقعها: بتعمل كده ليه يا عاصم؟
نظر اليها عاصم و لا يدري بما يجيبها فهو نفسه لا يدري السبب.
غير مقتنع بما يفعله و لكنه يرغب في رؤيه رده فعلها عندما تفرح و لو لمره.
لماذا لا يدرى و لكنه اقنع نفسه بما حاول اقناع حنين به: علشان يتيمه، قولى يعنى زى شفقه كده.

نظرت حنين لعينه ليشعر برماديه عينها تحاول كشف سرا هو نفسه لا يرغب بمعرفته، فقبلته تاركه اياه يتنهد بقوه متمنيا ان ينام ليلته دون تفكير..

أتعرف أننا اشتقنا؟
أتعرف أن غيث الاحزان
في الاجفانِ قد أمطر
فأنبت في حنايا الروح
ما أضنى، و ما أسهر
غازى القصيبى
يجلس اكرم على الاريكه الموجوده بغرفه مكتبه في الشركه، يغمض عينيه واضعا رأسه على حرف الاريكه، تضرب الذكريات عقله بعنف، سنوات و سنوات مرت و مازال يتذكر هذا اليوم بكل تفاصيله، بدأ اليوم بألام والدته التى لم تنتهى، قلق والده، و برود زوجه ابيه.

بمثل هذا اليوم وُلدت جنه، توفت والدته، انتهى والده و تبعثر قلبه و عاش هو اليتم بأقسى معانيه..

يتذكر عندما صرخ به والده ليطلب من جارهم ان يأتى بسيارته، تذكر صرخات والدته المتألمه، تذكر عودتهم للمنزل لاول مره بدونها، تذكر ملامح والده المتهالكه و ضعفه الواضح، و الاسوء تذكر عندما اقترب والده منه و اجلسه و جلس امامه و قام بوضع تلك الطفله ذات الساعات من عمرها على قدمه قائلا بصوت مختنق و هو ينظر اليهما بينما ينظر هو لشقيقته بين يديه: ماما جابت لينا جنه و مشيت هي، انا و انت من النهارده مسئولين عنها، دى وصيه ماما يا اكرم.

و بعدها القى برأسه على كتف اكرم يبكى كطفل تائه، تذكر نفسه عندما نظر لجنه بحنان جارف و عيناه تذرف دموعا لا قدره له على تحملها، رفعها عن قدمه و احتضنها لامسا كل انشاً من وجهها الصغير حتى تململت بين يديه لتبكى كأنها تشعر بهم..
كل هذا يؤلمه و لكن ما يؤلمه اكثر و اكثر انه إلى الان لم ينفذ وصيه والدته، لم يعتني بشقيقته بل هو حتى لا يعرف اين هى!

ليته لم يسافر للخارج، ليته ظل معهم و بجوارهم دائما، و لكن ما اهميه يا ليت الان؟
ضغط عينه بقوه و هو يتمتم بخفوت شديد كأن صوته يعانده ليخرج: كل سنه و انتِ طيبه يا جنه..
طرقت هبه الباب عده مرات و لكن لم يصلها صوته بالسماح لها بالدخول فدلفت بحذر لتجده بهذا الوضع، فحمحمت بصوت خافت عله ينتبه لها فلم تجد اجابه، رفعت صوتها قليلا تنادى باسمه و لكن ايضا لا فائده يبدو انه لا يسمعها..

اقتربت منه اعتقادا منها انه نائم و لكنها تسمرت مكانها عندما وجدت دموعه تتساقط على جانب وجهه و هو يضغط عينيه بقوه كأنه يمحو شيئا ما من مخيلته، رأته يقبض يديه بعنف و جسده يهتز بانتفاضه خافته و ملامحه تُسطر الالم الذى يعانيه..
اقتربت منه تحاول مجددا ايقاظه: بشمنهدس اكرم.

لا اجابه ايضا فتوترت قليلا خشيه ان يصيبه شيئا ما فاقتربت من كتفه قليلا و لامسته بطرف الملف بيدها بقوه لا تُذكر و كانت اجابته صادمه بالنسبه اليها حيث انتفض واقفا دفعه واحده فتراجعت هبه للخلف بسرعه و هى تطالعه بدهشه..
رفع اكرم يده يُزيل ما علق بأجفانه من دموع و هى يصرخ بها بغضب عاصف لاول مره تراه: انتِ ازاى تدخلى كده بدون استئذان؟

حمحمت هى و ظهر الحرج واضحا على ملامحها و هى تجيبه باعتذار: انا اسفه بس انا فعلا خ..
قاطعها اكرم و هو يتحرك بعصبيه في اتجاه مكتبه: مش عاوز كلام اتفضلي دلوقتى..
شعرت هبه بالضيق فهى لم تُخطئ و لكنها تعطيه عذرا بسبب حالته فهو بمثل هذا اليوم كل عام يكن بوضع غريب لا تفهمه و لكنها هذا العام تمادت و ازعجته، فمدت يدها لتعطيه الملف و لكنه صرخ بها فأجفلها: انا قولت اطلعى برا.

تراجعت مسرعه و خرجت بخطوات متعجله دافعه الباب خلفها بعنف، و بالخارج سمحت لدموعها بالخروج تعبيرا عن الضيق الذى مس روحها...

كانت تنظر للسماء و عينها لامعه بدموع اشتياقها، اليوم ولدت و لكنها ايضا تيتمت، فيا ليتها لم تُولد!

في هذا اليوم كان ترى بعين والدها وجعا كالجحيم، كان يُضحكها، يُخرجها للتنزه، يُهديها بالكثير و لكنها كانت دائما ما ترى بعنيه نظره حزن تعصف بفرحتها بعيدا، صوت بكاؤه و هو يحادث والدتها ليلا، اختناقه و انتفاضه جسده و هو يحتضن صورتها، في هذا اليوم كانت ترى ماجد اخر غير والدها، تراه زوج فقد من تعنى له الحياه، حبيب خسر فرحه عمره و رجلا بات ناقصا دون امرأته..

تساقطت دموعها تدعو اليهما بصوت هامس، و هى تتمنى وجودهم معها لتحتفل، فهى منذ ان كانت بالعاشره من عمرها او بالادق منذ ان خسرت والدها و هى لا تعرف ما معنى ان يكون اليوم يوم مولدها.

سمعت صوت خافت حولها فنهضت تنظر يمينا و يسارا بقلق و لكنها لم تجد احدا، عاد الصوت مجددا فالتفتت لتنظر خلف جذع الشجره الكبيره التى تقف امامها لتُفاجأها سلمى و هى تُفرقع احدى البلالين بيدها امام وجهها لتصرخ جنه بجزع مرتده للخلف بصدمه فتعثرت بعبائتها لتسقط ارضا.

كان عاصم يقف بشرفه غرفته يتابع ما فعلته شقيقته فارتفع جانب شفتيه بابتسامه حانيه تشملها و هى تركض خلف سلمى تعنفها بينما تحاول حنين منعها و شذى تشمت بها..

اتسعت ابتسامته و هو يراها تحتضن شقيقاته بفرحه و كأنها كانت تنتظرها منذ زمن و حديث بينهم ثم ضحكه هزت ارجاء جسده و عصفت بكيانه تائها بين رموشها التى رفرفت بسعاده مع ضحكه عينها لتكن تلك المره الاولى التى يراها تضحك بانطلاق هكذا، تُطالع سلمى بشغب و تقذفها ببعض من العشب الذى جذبته بيدها ثم تميل على حنين بابتسامه واسعه تختبئ خلفها من رد فعل سلمى المتمرد و هى تنهض لتجلس بجوارها تدغدغها فتنطلق ضحكاتها مره اخرى بصوت عالى زلزل قلبه، ثم تحمل شذى لتُجلسها على فخذها و هى تقبلها بقوه حتى صرخت شذى مبتعده عنها و هى تضحك بطفوليه..

من تلك التى يراها! سؤال تردد بعقله في تلك اللحظه.
اسمها جنه و هى جنه بالفعل.
كلما ضحكت اختفت عينها خلف رموشها كأنها خجلى، اسنانها الصغيره المتفرقه قليلا تظهر بوضوح من خلف شفتاها الورديتان التى جذبت انظاره لها بشغف، غمازتها الصغيره التى تداعب وجنتها كلما اتسعت ضحكتها.
كيف تحزن؟ فمن تملك ضحكه هكذه لا يليق بها الحزن ابدا.

اعطتها حنين حقيبه كبيره ففتحها جنه بتعجب و فرحه لتجد بداخلها فستان اسود و معه كل ما يلزمه من اشياء اخرى، شعر بها ترفضها من عقده حاجبيها و لكن تبادلت الفتيات الحديث حتى ابتسمت و احتضنتهم مجددا..
ظل يراقب تعابير وجهها و فرحتها الباديه عليها ثم تمالك نفسه مبتعدا عن كم النعيم الذى وجده في متعه النظر اليها و دلف لغرفته..

اخرج دفتره الخاص، فتح صفحه بيضاء ليخط عليها ما يعتل بصدره الان فالقلم و الورقه هم اعز اصدقائه و اقرب الجميع اليه..
أتسائل حقا اكنت احمقا ام ماذا؟
ابكيتها و لكن من تملك تلك الضحكه لا يجوز لها البكاء.
اخطأت و اعتذر فهل تتفضلى و تقبلى اعتذارى!
ابريقكِ العسلى يُربكنى، ضحكتكِ تزلزلنى، فثار فضولى ان اعرف ماذا ستفعل كامل جنتكِ بى!
اعذريني فمن رآكِ فقد رأي جمال كل الكون فأنتِ امامكِ حتى القبح يصير جمالا.

و مسكين قلبي لقد سقط في بئر عيناكِ و لم يسعي حتى للنجاه فالغرق فيكِ هو النجاه ذاتها
في العاده لا ينظر عاصم لما خطته يداه بعد ان يكتب و لكنه الان خرج عن تلك العاده و ذُهل.
ما هذا الذى كتبه؟ بل كيف فعل!
يعتذر! هى تربكه! تزلزله! و يسعى هو للغرق فيها!
اغلق الدفتر بعنف ضاغطا بكفه عليه ثم القاه بعنف على الفراش ينظر اليه بغضب..

ما الذى يدفعه ليهتم بها! بل كيف اجبرته هكذا على التفكير بها لدرجه ان تخط يداه ما تعجز نفسه عن الاعتراف به!
تحرك غاضبا لمرحاضه ليقف تحت الماء البارد عل تفكيره يهدأ، نار قلبه تُطفأ.
عله ينسى و لكنه فشل..
فقلبه ينبض بهذا العنف لاول مره،
رجولته تشتهى انثى بهذا القدر لاول مره،
عقله ينشغل بأحدهن بهذا الاصرار لاول مره،
و ما اسوءها اول مره!

وصله اتصال من حنين تخبره بضروره مجيئه فهى ترغب بوجود الجميع احتفالا بجنه، جلس بمكتبه رافضا الذهاب فلما يذهب؟
ألأنه يتلهف شوقا لرؤيتها! أم لانه يتمنى رؤيه ابتسامتها مجددا!
أم ربما لانه يريد ان يكون جزءا من فرحتها كما كان سببا لحزنها!
أم ربما لكل هذا بل و يزيد على هذا انه يرغب فقط برؤيتها دون اسباب!
ما الداعى لذهابه؟
ابتسامه ساخره زينت وجهه فيبدو ان ابن الحصرى يدخل صراع جديد و سيفوز به.

صعدت الفتيات لتجعل جنه ترتدى ما اعطوها اياه اعترضت قليلا و لكنها بالنهايه وافقت، تركوها تستعد بينما هم في انتظارها بالاسفل..
انتهت ناظره لنفسها بالمرآه لتبتسم برضا عن مظهرها ثم اخذت نفسا عميقا و خرجت من الغرفه محاوله التحكم في ارتباكها فمهما كان هى بين اشخاص غرباء عنها.

وقفت جنه اعلي الدرج و بدأت في النزول بهدوء ممسكه بفستانها ترفعه قليلا حتى لا تتعثر به و عينها لا تفارق الارض و خاصه عندما صرخت شذى باعجابها بها و أمنت سلمى بخبث بينما عبرت ليلى عن اعجابها متمتمه: بسم الله ما شاء الله.

التفت عاصم لينظر اعلى الدرج حيث كان يستند على سياجه يتحدث مع والده و بمجرد ان وقعت عينه عليها حُبست انفاسه، ترتدى فستان اسود بلون الليل الذى يحيط بهم الان، حجاب بلون العسل احتضن وجهها بانسيابيه، حذاء بكعب صغير يحاوط قدمها الصغيره و وجهها الذى اصطبغ بالحمره ليزيدها جمالا على جمالها الهادئ، لم تكن فاتنه او مميزه فقط كانت كافيه لتخطف انفاسه، نظراته بل و قلبه..

مع اقترابها و تعلق نظر الجميع بها ازداد خجلها و هى تعض على شفتيها من فرط توترها فاعتدل ناظرا امامه فهو ايضا للمره الاولى يشعر بأنه على وشك فقد سيطرته على نفسه و حقا كم يود ان يفعل.

وقفت جنه امام حنين تبتسم لها و هى تتجنب النظر لعاصم او عز فلا قدره لها على هذا، و شعور قوى بأنها تعيش الان حلمها بتفاصيله، هى بفستان و ان اختلف لونه، عدد من الاشخاص يحاوطونها، شعور بالسعاده و ابتسامه عينها و لكن السئ في الامر انه لا وجود لامير ينتظرها و يخبرها انها سندريلته.
اقتربت شذى منها لتقف بينها و بين عاصم ناظره اليها باعجاب صريح و هتفت: عارفه بتفكرينى بمين!

اخفضت جنه عينها اليها تبتسم لها بهدوء بينما يتابعها عاصم عن قرب و تسائلت بعينها منتظره اجابه شذى و لكن تجمدت اطرافها عندما جاءت الاجابه من عاصم بخبث و هو يقترب واضعا يديه على كتفى شذى متلذذا باخجالها اكثر: سندريلا..
و هنا اتسعت عينها و حلمها يكتمل تماما بكلمته و نبرته بل و بابتسامته فرفعت عينها رغما عنها تنظر اليه بدهشه فغرق مجددا في ابريقها العسلى و نظرتها المندهشه تُزيد لمعان عينها ببريق رائع..

حادت بعينها عنه ناظره لسلمى التى رددت خلفه بتعجب: سندريلا!
بينما كتمت حنين ابتسامه كادت تفارق شفتيها و هى تتطلع لنظرات عاصم التى تكاد تجزم انه لا يفهمها، بينما وافقته شذى: فعلا سندريلا.

ازداد خجل جنه و هى تستمتع لتعليقاتهم، ثم اندمجت معهم متناسيه تفكيرها قليلا، المكان المزين من حولها، الاضواء الخافته التى ميزت المكان، البلالين المنتشره هنا و هناك بألوان مختلفه، الكعكه امامها و الشموع المضائه و الجميع حولها.
هل يمكن ان تكون السعاده فغير هذا! هل يمكن ان يكون اليوم اسعد يوما بحياتها!
فكيف تصف او تقول او تعبر عما يختلج قلبها من شعور بالحياه شعرت منذ زمن انها فقدتها للابد؟

و وسط فرحتها جاءت حنين لتقف امامها ممسكه بصندوق كبير فلمعت عين جنه بسعاده لم تستطع اخفائها فابتسم عاصم على رد فعلها الاول منتظرا البقيه بعدما ترى ما بداخله..
دفعته حنين اليها هاتفه بمكر و هي ترمق عاصم بطرف عينها: دي بقى هديه مميزه جدا جدا.
لاحظت جنه نظرتها ولكنها لم تأبه متجاهله اياه تماما فإن كان هناك ما يضايقها فهو فقط وجوده امامها هنا.

دفعتها حنين بين يديها فاخذتها جنه بضحكه و هى تهتف بحرج: بس كده كتير قوى يا حنين!
ابتسمت حنين لتهتف بخبث: دي مش مني اصلا.
نظرت جنه لسلمى و جدتها تبتسم بشغف و انتظار ثم نظرت لحنين مجددا هاتفه باستغراب: طيب من مين؟

نظرت حنين لعاصم الذي القي اليها بنظره ناريه كأنه يقول اياكِ، اياكِ ثم اياكِ و إخبارها و لاحظت جنه نظرتها للمره الثانيه، وجدت بعدها حنين تبتسم ناظره لوالدتها و شقيقتيها ثم تمتمت بمرح و هى تدفعها بشغب: افتحيها بس الاول.

ابتسمت جنه و فتحته لتجد بداخله العديد من الورود التي فاحت رائحتها العبقه بمجرد انفتاح الصندوق، فاتسعت ابتسامتها تلقائيا و هي ترفع احدي الوردات لتستمتع بشذاها مغلقه عينها باستمتاع واضح هامسه بنبره مغويه: الله حلوه قوى قوى.

اختفت ابتسامه عاصم و عيناه تراقب ملامحها و بحه صوتها التى جعلته يقف لحظات لا يقوى على ابداء اى رد فعل على وجهه، بينما شهقت سلمى و هى تختطف احدى الوردات هاتفه بمزاح و هى تنظر لحنين بغيظ على عدم اخبارها: الله الله ورد من غير ما اعرف، فيه ايه تانى كملى يا جنه كملى.

حركت جنه الورد قليلا لتجد اسفله العديد من انواع الشيكولاته المختلفه فانسابت من بين شفتيها شهقه طفوليه لااراديا و ضحكه بريئه تلون وجهها بألوان الحياه هاتفه بفرحه و هى تقفز قفزه بسيطه: وااااو شيكولاته.

انفجر الجميع ضحكا عليها حتى عاصم اتسعت ابتسامته مع ارتفاع حاجبيه بدهشه مرحه من رد فعلها، فحمحمت بخجل و هى تنظر ارضا تضم الصندوق لصدرها بارتباك، و لكن وقع نظرها على شيئا ما يلمع باخر الصندوق فأزاحت الشيكولاته جانبا لتجد برواز زجاجيا فرفعته تنظر اليه بدهشه قليلا و لكن سرعان ما تذكرت ذلك اليوم و تلقائيا رفعت عينها لعاصم لتجد نظره مثبت عليها فارتجفت عينها بضيق جعل وجهه يتجهم ثم اخفضت عينها عنه بزفره قصيره..

فرقعت سلمى اصابعها و هى تستنتج ان كل هذا من فعل عاصم فابتسمت و هى تتأكد من ظنها فيبدو ان شقيقها يبدأ تحدى جديد بحياته و يا له من تحدى غريب، فنظرت اليه و هتفت باندفاع: ااااه هو عاص...
قاطعتها حنين و هى تلكزها بمرفقها لتتألم سلمى ناظره اليها بضجر ثم التفتت لجنه متسائله بابتسامه: ها يا جنه عجبوكِ!

اومأت جنه بسعاده موافقه و عندما اوشكت على غلق الصندوق لفت نظرها شيئا ما يعلو احدى الوردات الحمراء فامتدت يدها لتجده علبه مخمليه حمراء صغيره فتحتها بهدوء لتجد بداخلها سلسال من الفضه - قمر صغير يحيط به عده نجوم مطعمه بفصوص سوداء لامعه -، كانت رائعه و لكنها لا تستطيع القبول بها فهذا كثيرا جدا و سيصعب عليها رده فيما بعد و لكن عندما اعترضت انفجرت فيها سلمى كقنبله موقوته و اجبرتها و لكن بلطف على اخذها ثم غمزت بطرف عينها لعاصم فابتسم لها ابتسامه جانبيه ساخره.

هنأها عز و ليلى و اعطتها هديتها و التى كانت - هاتف حديث و يبدو انه باهظ الثمن - و هنا رفضت جنه رفضا قاطعا ان تأخذه و رغم محاولات الجميع تمسكت هى برأيها و امام اصرارها لم يستطيع احد اقناعها و بالفعل لم تأخذه..

هنأها عاصم بهدوء و اجابته هى باقتضاب نفر عروقه و اشعل غضبه منها، ليكون هذا اليوم من اسعد ايام حياتها ان لم يكن الاسعد على الاطلاق، و لكن ما شغل تفكيرها كثيرا نظرته، كلمته و نبرته و انه منحها شعور اكتمال حلمها و هذا ضايقها اكثر منه و اضاف لبغضها له جزءا جديد.

خرج عاصم من مقر عمله في طريق العوده لمنزله و شعور بالسعاده يغمره فلقد تم نقل محل عمله لادراه القاهره فلن يضطر للسفر بعيدا عن منزله لايام، لقد هاتفه فارس قبل سفره طالبا موعد ليذهب اليهم و لكن لضروره سفره لم يستطع الذهاب، لمح فارس له من قبل عن حبه لاحدى شقيقتيه لا يعرف من هى و لكنه يعرف ان فارس الان قرر فتح باب الماضى و ربما لا يأتى ذلك بخير ابدا...

ها هو يُفاجأ عائلته بعودته اليوم و بقى من الوقت القليل ليصل و كم هو متحمس لهذا!
و لا داعى لان يسأل عن سبب هذا التحمس فهو لا يعرف حقيقةً.
اجتمعت الفتيات في المنزل يجلسون سويا كالعاده حتى استئذنت جنه بحرج: طنط ليلى ممكن اروح ازور داده زهره بقالى كتير ماشوفتهاش!

اعتادت جنه ان تهاتف هاله لتطمئن عليها من هاتف ليلى و لكنها كانت لا تطلب ان تفعل المثل مع زهره قليلا لحرجها الشديد من الامر و خاصه انها رفضت ان تأخذ الهاتف الذى عرضته ليلى كهديه لها..
ابتسمت ليلى ممسكه بيدها موافقه بحنان: اكيد يا حبيبتى بس خلى السواق يوديكِ.
حركت جنه رأسها يمينا و يسارا علامه رفضها و تمتمت باستنكار: لا طبعا يا طنط مينفعش انا بشتغل هنا زيى زيه.

شعرت ليلى بضيق شديد و رغبه تصرخ بها لتخبرها حقيقه انها في بيتها و كل الذى هنا ملكها، يخصها و لها منه مثلهم تماما و لكنها امتنعت متمتمه ببطء: خلاص زى ما تحبى بس اوعى تتأخرى، اتفقنا.

اومأت جنه بفرحه و بالفعل استعدت لتذهب اليها، فلقد عرفت انها تركت العمل لدى كوثر بعد رحيل جنه بحوالى اسبوعين فهى لم تتحمل طباعهم بمفردها، عادت لتسكن بمنزلها القديم و ها هى جنه تذهب لتراها، لتحتضنها، لتتحدث و تخبرها عن كل ما جد في حياتها طوال الفتره الماضيه و ها هو النهار يبدأ و ستقضى اياه معها كاملا...

عاد عاصم للمنزل ليجد حنين تواجهه متجهه للمنزل هى الاخرى بعد يوم طويل بكليتها، اقتربت منه محتضنه اياه متفاجئه ليمزح معها و يدلفا سويا ليتفاجأ الجميع بعودته ليخبرهم عن مفاجأته الاخرى ليسعد الجميع بذلك رغم انه تجاهل شذى تماما و مازال مستمرا بعقابها..
دارت عينه بالمكان متعجبا عدم وجودها و لاحظت حنين نظرته على الفور فتسائلت بهدوء: هى جنه فين يا ماما؟

اجابتها سلمى و هى تعبث بهاتفها تتصفح احدى المواقع الالكترونيه الخاصه ببعض الديكورات و المشاريع الحديثه: بما ان النهارده الخميس راحت تزور واحده قريبتها..
نظر اليها عاصم بتعجب و هو يحاول العثور على خيط جديد يساعده للوصول لكل ما يخصها: واحده مين؟
اجابته ليلى بحذر و هى ترى الفضول بعين ولدها و الذى يبدو انها استهانت بملاحظته: الداده بتاعتها اللى كانت عايشه معاها قبل كده.

عاد عاصم يطالعها بدقه و هو يستفسر اكثر: هى فين الداده دى؟ و هى كانت عايشه فين؟ انتِ قولتِ ليا قبل كده انك متعرفيش حاجه عنها!
ارتبكت ليلى قليلا بينما تابعت كلا من سلمى و حنين الحوار بتعجب و كلتاهما لا تفهم شيئا فأخر شيئا قد يفكروا به من هى جنه؟ فهم احبوها، اعتادوا عليها و هذا كل شئ.

حمحمت ليلى و هى تخفى عينها عنه و هى تدرك جيدا ان حركتها تلك ستجعله ينتبه اكثر: لا ما انا معرفش هى فين او بيتها فين دى اول مره تروح لها اصلا.
في هذا الوقت دلف عز للمنزل فشتت الحوار بينهم و هو يرحب بعاصم الذى صمم على اكمال ما بدأه و هو يحاول امساك الخيط من طرفا اخر: هى اكيد معاها السواق؟
نظر اليه عز بتساؤل و هو لا يعرف ما اصل الحوار او عما يتناقشون و لكنه اجاب بتعجب: السواق كان معايا و حاليا مشى..

و هنا امراً اخر شغل عاصم و هو ينظر لساعته و قد غطى الليل المكان و هتف بحده: افهم من كده انها راحت لوحدها!

حادت عين عز و هو ينظر اليه عندما لاحظ حده صوته و نبرته فأغلق عاصم عينه متحكما بغضبه و ليلى تجيبه بتوتر فهى تعرف ان ولدها لا يحب خروج شقيقتيه بمفردهم و يبدو انه طبق الامر ذاته على جنه و رغم انها فرحت لهذا باعتبارها واحده منهم تعجبت انه اعتبرها كذلك و هذا زاد توترها: اه، هى اصلا ماشيه قبل الضهر و المفروض هتيجى دلوقتى انا متفقه معاها متتأخرش.

لم يستطع التحكم بغضبه و الاسوء قلقه و هتف ناظرا اليها بعصبيه: هتيجى لوحدها و كمان باليل ط!
حدق به عز بتفحص ثم تسائل بنبره خشنه: مالك يا عاصم! و صوتك بيعلى ليه؟
تحركت مقلتيه يمينا و يسارا و هو يداعب جانب فمه بعنف دلاله على غضبه الواضح ناهضا ليصعد للاعلى مجيبا والده بهدوء ينافى ما يعتل صدره من نيران ستحرقها فور ان يراها: ابدا يا بابا ارهاق سفر، انا هطلع ارتاح عن اذنكم.

نظر عز لليلى و كلاهما يرى في عاصم ما كان عليه عز ايام شبابه و خاصه عندما كانت ليلى تُثير جنونه و اعصابه كما يحدث مع عاصم الان فاتسعت ابتسامه ليلى و لكنها اخفضت رأسها بخجل فور ان غمزها عز بشغب..
غضب يعصف بكيانه و هو يتخيل ان يضايقها احد.
يعترض طريقها شخصا ما او ربما يتطاول عليها.
ماذا ان حدث امرا ما و هو هنا لا يعرف!

جلس على طرف فراشه ناظرا للارض بعصبيه مفرطه و هو يتوعدها بالجحيم عندما تأتى، كيف تخرج من المنزل تاركه عملها و الصغيره هنا، هى مربيه لها و ليست حره في تصرفاتها، كيف تسمح والدته بهذا!
تفجر بعقله و الاسوء قلبه شعور بالقلق لا يصيبه سوى على اهل بيته.
شعور بالانزعاج من ان يصيبها مكروه كما لو كانت تمثل اهميه كبيره له،
شعور بالخوف من ان يُصيبها شيئا و هو ليس بموجود معها ليحميها كأنها مسئوله منه،.

تحرر من ملابسه التى شعر بها تخنقه خنقا و دلف ليأخذ حماما دافئا لتستكين نفسه قليلا و كما يُقال لا يطفئ النيران سوى الماء و لكن ما بال الماء لا تزيده سوى اشتعالا، ضرب بيده على الجدار التى انسابت قطرات الماء فوقه حتى شعر بيده تصرخ من شده الالم و لكنه لا يفكر سوى بها، و خاصه و حوله سكون الليل و هى لم تأتى بعد..

اغلق المياه و حاوط جسده بالمنشفه ناظرا لوجهه بالمرآه الواسعه التى تشوشت الرؤيه فيها بفعل بخار الماء الذى غطاها كامله، يمحيه بيده لتظهر له عيناه الحمراء واضحه، ليدرك اخيرا و مهما حاول اخفاء الامر ان تلك الحمقاء صاحبه ابريق العسل تمثل جزءا كبيرا من حياته الان.
خرج ليقف بشرفه غرفته ليداعب الهواء وجهه لتسرى رعشه بسيطه بأطرافه، مرت ساعه تلو الاخرى و هو مكانه لا يتحرك و هى لم تأتى بعد..

تجاوزت الساعه حد الهدوء و هى لم تأتى بعد، هبط للاسفل ليجد والدته في حاله يرثى لها و رغم ملاحظته بل و فضوله عن سبب قلقها كما لو كانت ابنتها و لكنه تجاوز الامر متسائلا بقلق اصابه هو الاخر: انتِ تعرفى بيت الست دى فين؟
نفت ليلى برأسها و عينها تستجديه ليُطمئن قلبها بينما هو زفر بقوه متذكرا رفضها لاخذ الهاتف مما زاد غضبه: و الهانم مش معاها تليفون نطمن عليها حتى، غبيه.

ثم عاد ببصره لوالدته هاتفا بتذكر: ممكن تسألى مراه عمى على بيت الست دى اكيد تعرفه.
و كأن ليلى و جدت الحل الذى لا تدرى كيف غاب عنها فركضت مسرعه لغرفتها لتُحضر هاتفها، بينما اقترب عز من عاصم ناظرا اليه بتفحص فنظر اليه عاصم قليلا ثم اشاح بوجهه فهتف عز بهدوء مستفز و نبره خبيثه: متقلقش عليها ان شاء الله هتبقى كويسه.

لم يجيبه عاصم فهو ابعد ما يكون الان عن مجاراه والده او محاوله نفى او اثبات اى شئ فقط فالتعود تلك الحمقاء و ستنال عقابها منه بالتاكيد فهو لم و لن يسمح بأن يفقده احد اعصابه او يقلقه بهذا الشكل ابدا..
اتت ليلى بالعنوان و صممت على الذهاب معه و لم يعترض هو، رحل تاركا الفتيات في حاله من القلق ربما اوضحت لهم ان جنه اكثر بكثير من مجرد مربيه اختهم فهى باتت كأختهم بالفعل.

وصل للمكان، حى عشوائى بسيط، العديد من المنازل الصغيره و الاكواخ البسيطه، الاطفال الصغار هنا و هناك، و سيارته يصعب حتى المرور بها في هذا الشوارع الضيقه..
توقف امام المنزل الصغير الذى يُعلق بجوار الجرس رقمه المدون في العنوان الذى حصلت عليه ليلى، ضغط الجرس مره، مرتين، ثلاث ثم ضغط و لم يرفع يده و لكن لا اجابه.

شعرت ليلى بقلق عصف بقلبها و مجرد تفكيرها بضرر اصاب جنه يقلتها قتلا و همست بخفوت: شكلهم مش هنا، خلينا نستنى برا شويه يمكن يجوا..
هدر عاصم بغضب و هو يفقد اخر ابراج عقله: راحت فين دى مش المفروض انها جايه تزورها في بيتها!
شعرت ليلى بوجع بسيط في قدمها يصيبها بكثره في الاونه الاخيره فارتكزت على مقدمه المنزل: الغايب حجته معاه يا عاصم، من فضلك اهدى علشان لما تيجى نعرف نفهم منها ايه اللى حصل!

صمت عاصم و لكن عقله لم يرحمه توعدا لها و قلبه لم يعتقه خوفا عليها.
مر الوقت عليهم حتى لفت انتباهه سياره اجره تقف بالقرب من المنزل ليهبط منها سيده عجوز و من الجهه الاخرى جنه التى دفعت للسائق اجرته ثم ركضت لتستند عليها السيده التى حدقت بهم باستغراب لوقوفهم هكذا امام منزلها و لكن جنه بمجرد ان رأته تجهم وجهها بضيق و برزت عروق جبينها محاوله تجاهله تماما فما في نفسها له من نفور امرا ليس بهينا ابدا..

اقتربت جنه ناظره لليلى مع تجاهلها لعاصم و مع كل خطوه تخطوها تتصاعد براكين غضبه و تمتمت بدهشه: طنط ليلي حضرتك هنا من امتى؟
و برد فعل اذهل جنه و اذهل عاصم اكثر انتفضت ليلى تحتضن اياها بقوه و عيناها تجاهد لتخفى دموعها و لكنها لم تستطيع و هتفت بارتياح: الحمد لله انك بخير، الحمد لله،
ثم ابعدتها و سط دهشه الجميع و هدرت بها بغضب و لكن لم يخلو من القلق: كنتِ فين و ايه اللى اخرك كده قلقتينى عليكِ جامد!

ربتت جنه على يدها و مازالت الدهشه تتملكها قائله بهدوء اغضب عاصم اكثر: انا الحمد لله كويسه بس حصل ظروف خلتنى اتأخر، انا اسفه.
نظر اليها عاصم بغضب عاصف و هو يهتف بحده وترتها: ظروف ايه دى اللى تخليكِ تتصرفى باستهتار كده!
و مره اخرى تجاهلته جنه و تحركت باتجاه المنزل لتفتحه هاتفه: اتفضلوا.

اجلست الداده على المقعد و دلفت ليلى خلفها بينما اتجه عاصم للسياره حتى لا يشوه لها وجهها الان فهي ان وقعت تحت يده لن يرحمها، و لا يسأل احد ما السبب فهو لا يعرف.

جلست ليلى معهم دقائق قليله تعرفت فيهم على زهره و ادركت مدى علاقتها القويه بجنه و بالطبع سبب تأخرها و الذى كان بسبب مرض زهره المفاجئ و ذهاب جنه بها للمشفى ثم ودعتها جنه و غادرت مع ليلى على وعد باللقاء عن قريب فلن تستطيع جنه تركها بمفردها هكذا..

و حوار عاتب و توضيح بينهما قبل الوصول للسياره و استفسار من ليلى عن مرض زهره و طلب جنه السماح لها بزيارتها ااكثر من يوما للاطمئنان عليها و موافقه فوريه من ليلى فهى ادركت ان زهره بمثابه ام ثانيه لجنه.
وقفت ليلى امام السياره لتجد عاصم يضع رأسه على عجله القياده فدعت بداخلها ان تمر الليله بسلام..

طلبت من جنه الركوب بجوار عاصم فهى بحاجه لان تمد ساقها قليلا فألامها قد ازدادت، رفضت جنه بضيق و لكن اصرت ليلى و مع اصرارها و وجعها البادى على وجهها لم تستطع جنه الاعتراض و بالفعل صعدت لتركب بجواره دون كلمه تذكر منه او منها بينما اعتدلت ليلى في جلستها مغلقه عينها لترتاح قليلا مما اصابها من ضغط و توتر.

صمت خيم عليهم مع اندفاع عاصم بالسياره بسرعه مهوله كأنه في سباق تتوقف عليه حياته، انتفض قلب جنه خلف ضلوعها و هى تغلق عينها و تفتحها مرات عديده و صورا من الماضى تضرب عقلها بعنف، و صله همسها و هى تُمسك بمقبض الباب جوارها بقوه: هدى السرعه شويه..

لم يعيرها انتباه فعادت همسها و لكن بصوت اكثر خفوت و خوف و لكنه ايضا لم يأبه بل لم يُفكر حتى بالنظر اليها كأنه يتجاهلها عاقبا لها على ما فعلت بل و زاد من سرعته ايضا و هى تنتفض بخفوت بجواره و صور الماضى تتجسد امامها بوضوح، هى تصرخ بوالدها ليُسرع، يرفض فتُصر، يستمع اليها، يداعبها الهواء، تضحك و يضحك معها، تُشتت تركيزه، يصرخ فتصرخ، صوت اطار العجلات يحتك بالارض، دوران السياره بعنف، حضن والدها، اصطدام، همهمات مكتومه، تشويش، ألم، دماء و فقد...

نظر اليها بتعجب و يدها تتشبث بقميصه و اصابعها تكاد تخترق جسده و هى تهتف بانفاس متقطعه كانها تعجز عن اخذها: بابا، سوق بالراحه، بابا انا اسفه، انا اسفه، بابا.

اغلقت عينها بقوه و دموعها تنهمر و جسدها يهتز بعنف و يدها تتمسك به اكثر و تصرخ به ليسير بهدوء و مازالت تفعل رغم انه توقف بالسياره بالفعل، يحدثها و لكنها لا تسمع، حرك يدها بيدها ضاغطا عليها و لكنها لا تشعر، صرخ بها مما ايقظ والدته بفزع و لكنها لا تستجيب..

تساءلت ليلى عما حدث و لكن هو نفسه لا يعرف، حاول اكثر من مره اخراجها مما هى فيه و لكن ذعر اصابه و هى تشهق محاوله التقاط انفاسها بعجز و جسدها يهتز بين يديه بشكلا افقده عقله فأدار السياره مره اخرى مع صراخاتها المتقطعه و همهماتها تنادى والدها، و قاد بها لاقرب مشفى..

حملها و ركض بها للداخل و ليلى خلفه هلعه حتى استقر بها في احدى غرف المشفى و طبيب يفحصها حتى انتهى فقال بهدوء عملى: متقلقوش هى كويسه مفهاش حاجه بس محتاج اعرف ايه اللى وصلها للحاله دى!
اخذ عاصم نفسا عميقا و سرد له باختصار عما صار فتمتم الطبيب باستيعاب: يبدو انها بتخاف من سرعه العربيات ياريت تنتبه لحاجه زى دى بعد كده و هى هتفوق بعد شويه و هتبقى تمام.

و استأذن و خرج تاركا اياه يضرب رأسه بيده غضبا و هو يشد على شعره بلوعه عما فعله و خاصه مع صياح ليلى به و لومها له على عدم استماعه اليها..
خرج من الغرفه واقفا امام احدى النوافذ المغلقه المطله على الطريق التى تركض السيارات فوقه بعضها بجنون و البعض الاخر بحرص و هو يتذكر همسها، اختناقها، انفاسها الهاربه، ندائها لوالدها، اعتذارها، و انتفاضه جسدها العنيفه و حاله اللاوعى التى اصابتها.

ماذا كان سيحدث لو استمع اليها!
ماذا كان سيخسر لو منعها من الدخول في تلك الحاله باستجابه بسيطه منه؟
ماذا يفعل و متى سيتوقف عن اندفاعه معها و كيف يُجبر نفسه على الاستماع اليها!
مر الوقت عليه ببطء كاد يفقده نفسه، كأنه يعانده و يعاقبه على ما فعله.
استكانت هى بفراش المشفى و اكتوى هو بنار انتظار استيقاظها.

و ها هو يجلس بالسياره عائدا للمنزل لم تتحدث معه و لم تنظر اليه فقط احنت رأسها تنظر ليدها بشرود و صمت اشعل روحه بنيران يبدو انها لن تنطفئ ابدا.

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة