قصص و روايات - قصص رومانسية :

رواية حلم السندريلا للكاتبة عليا حمدي الفصل الرابع

رواية حلم السندريلا للكاتبة عليا حمدي الفصل الرابع

رواية حلم السندريلا للكاتبة عليا حمدي الفصل الرابع

قد نسامحهم كثيرا و لكن سيأتى يوم لا نستطيع فيه حتى سماع أعذارهم. (وليم شكسبير).

عادت جنه للمنزل و دلفت لغرفتها، امسكت كل ما وقعت عينها عليه لتدفعه للحائط و تلقيه للارض بغضب و بكاء حاد وصل صوت صراخها و التهشم بغرفتها لفتيات بالاعلى فركضن اليها، اقتربت منها زهره و حاولت تهدئتها و لكن جنه كانت كمن فقد عقله.

وصلت كوثر للمنزل و عندما استمعت للصوت اقتربت من غرفه جنه لتجدها في حاله هياج تام، وعندما لمحتها زهره خشت على جنه كثيرا و حاولت تهدئتها مجددا او بمعني ادق ابلاغها بأن كوثر عادت، و لكن جنه لم تكن تسمع.
وقفت كوثر عاقده ذراعيها امام صدرها تراقب غضب جنه الذي يظهر للمره الاولي و حاولت ان تتماسك حتى لا تُفجر هي الاخري براكين الغضب التي اشعلها ابن الحصري داخلها.

توقفت جنه و مازالت لم تنتبه لكوثر، كانت تأخذ انفاسها بصعوبه عندما تحدثت كوثر ببرود اشعل غضب جنه مجددا: خلصتِ!

التفتت اليها جنه بحده عينها حمراء بشده، وجهها ملئ بالدموع، انفاسها مضطربه و صدرها يعلو و يهبط بعنف و اقتربت منها خطوه هاتفه بهجوم لم يعهده احد بجنه من قبل و لكنه لم يكن هجوم بقدر ما كان وجع شمل روحها و لم تعد تتحمله، صمت قتل خلياها وجعا و قررت الاصفاح عنه: عشر سنين، عشر سنين دايسه عليا و خانقاني و انا ساكته، عشر سنين ذل و مهانه و اقول معلش دي ست كبيره، دي زي امي، عشر سنين كسراني و حانيه ظهري، عشر سنين معيشاني كل يوم على عقاب شكل.

ضربت صدرها بعنف و تصرخ باندفاع شديد جعل زهره تنتفض خوفا و كوثر تشتعل غضبا: كل دا ليييييه! ها؟ ردي عليا، كل دا لييييييه؟!
انكمش وجهها باشمئزاز و اضافت بغضب و هى تبصق كلماتها بوجهه كوثر متجاوزه خوفها فوجعها هذا المره فاق كل احتمالها رغم ما قاسته من قبل: انتِ، انتِ مينفعش يتقال عليكِ ست علشان تبقي ام، انا غلطت في حق امي قوى لما تخيلت ان واحده زيك ممكن تكون مكانها، انتِ و لا حاجه و لا حاجه.

صرخت جنه بها لتنتفض كوثر متذكره همس عاصم لها بنفس الكلمه فازداد غضبها اضعاف مضاعفه و لكن قبل ان تنطق اردفت جنه باحتقار واضح و نبره ساخطه: انتِ شيطان متحرك، ميفرقش معاكِ غير نفسك و بس، بس لحد هنا و كفايه، سامعه يا كوثر هانم! لحد هنا و كفايه.
ثم رفعت يدها لتشير اليها من اعلى لاسفل لتسألها باستنكار متعجب اوضح مدى احتقارها لها: نفسى اعرف ازاى بابا وافق يتجوزك؟ و ليه!

ثم انهت كلماتها الغاضبه بنظره سخريه و نبره حانقه: بس عارفه اى كان السبب هو ارتكب اكبر غلط بحياته لانه اختار واحده مينفعش تبقي بني ادمه، علشان تبقي ست او ام.
كانت زهره تحدق بها بدهشه.
من هذه!
اين جنه الضعيفه الخائفه و المستسلمه دائما؟
من اين واتتها تلك القوه؟!
عندما انهت جنه كلامها اقتربت منها كوثر رافعه يديها بغضب لتسقط على وجنه جنه صارخه بجنون: اخرسي انتِ ازاي تتجرأ...

قطعت كلامها مع رفع جنه ليدها لتُمسك يد كوثر بقوه ضاغطه عليها فتألمت كوثر بينما اكملت جنه بقوه و ثقه رغم ينابيع الخوف التى تفجرت داخلها متوسله اياها للتراجع و لكن لم يعد هناك مجالا للتراجع: لا يا كوثر هانم، دا كان زمن و جبر، انسي انك تقدري تكسريني تاني، عارفه انتِ مظلمتنيش النهارده، بالعكس انتِ فوقتيني، انا كنت معميه او بعمل نفسي هبله و بسكت و اقول المهم انى عايشه و ليا بيت و عائله، دا انا من كتر اللي انتِ عملتيه مبقتش عارفه اتوجع من ايه و لا ايه؟ بس كفايه خلاص يا كوثر هانم و لا اقول يا مراه ابويا؟ انا هعمل بنصيحتك و هخرج، هخرج ادور على شغل و بيت و عائله تانيه، هخرج لكلاب الشوارع بس عارفه ان ربنا هيحمينى، هخرج بس عمرى ما هبقى زيك، عمرى ما هبقى زيك ابدا.

سحبت كوثر يدها بصدمه فمن تكون هذه!
حقا لم تعد تعرفها.
أ كل هذا بسبب تلك الصفعه؟
و ها هى كوثر تتراجع بل وتندم لتقول بداخلها ليتنى لم اصفعها.
و لم تكن بمفردها المندهشه فسؤال واحد يتردد لدي جميعهم الان: من انتِ؟

هدأت جنه او ربما خارت قواها لتنهى هذا الجدال الذى تحدثت هى فيه للمره الاولى و هتفت بصوت بدا ضعيفا رغم قوه كلماتها: انا اتنازلت عن حقى، بس هطالبك بيه، ميراثى من بابا هيرجع، اه مش عارفه ازاى؟ بس هيرجع صدقينى و عاوزاكِ تفتكرى حاجتين كويس قوى، الاولى ان اللى بيجى على حق اليتيم ربنا بيتقم منه اشد انتقام و التانيه ان دعوه المظلوم ليس بينها و بين الله حجاب.

ثم اشارت للباب و هى تشعر بنفسها تكاد تسقط من فرط اعيائها: كله يخرج برا.
و قبل اى يصدر اى رد فعل من احد اقتربت زهره من الباب لتقف بجواره فاندفعت كوثر للخارج بعدما نظرت لجنه بتوعد و لكن للمره الاولي لا ترى نظرات الخوف بعين جنه بل تبدلت الاحوال لترى جنه لمحه من الخوف بعين كوثر.

اغلقت زهره الباب خلفهم و اقتربت من جنه التي سقطت على الارض لتدخل في نوبه بكاء حاد فاحتضنتها زهره قائله بحنان و هى تمسد ظهرها: انتِ صح يا بنتي، سكوتك لها قواها عليكِ، خدي حقك اللي بقالك سنين ساكته عنه، عيشي سنك و حياتك اللي اهلك اتمنوها ليكِ، اوعي تضعفي تاني و انا واثقه ان ربنا هيبقى معاكِ في كل خطوه، امشى في طريقك ومتخافيش.

لم تجب جنه بل ظلت تُخرج ضعفها بالبكاء و رغم كل هذه القوه هى خائفه بل تكاد تموت رعبا و لا تدرى كيف ستسير امور حياتها الان و لكنها حتما لن تستطيع التراجع، ظلت زهره بجوارها لتطمئن عليها حتى غرقت جنه في نوم عميق.

تسير بفستان ابيض كالثلج بجماله و تصميمه الرقيق، حجابها الابيض الذي اضفي على وجهها جمالا رائعا، حذائها اللامع و خطواتها الواثقه، تهبط درجات الدرج ببطء و هدوء و على وجهها ابتسامه اظهرت غمازتها بوضوح، ينتظرها اسفل الدرج شاب ملامحه غير واضحه و حوله العديد من الاشخاص لا تظهر ملامحهم ايضا، كل شئ حولها مُبهم ما عدا شيئا واحد فقط، كتاب اثري مميز للغايه و كبير الحجم.

اقترب منها الشاب بعدما استند على هذا الكتاب متجاوزا اياه، مد يده اليها فوضعت يدها بيده لينظر لعينها بابتسامه بادلته اياها بأخرى واسعه فأنخفض مرددا بهدوء بجوار اذنها: سندريلا!
شهقت جنه مستيقظه، لتنظر لساعتها بجوارها فاذا بها الرابعه فجرا، جلست على فراشها، تفكر في حلمها هذا!
الحلم الذي يغزو نومها يوميا في نفس الوقت،
كل يوم نفس الحلم، نفس التفاصيل و نفس الصوت.

ماذا من الممكن ان يكون تفسير حلمها المجهول هذا؟
حلم يشبه كثيرا حلم سندريلا و التى اتجمعت بأميرها في النهايه.
ابتسمت جنه و هى تتذكر ذاك الفيلم الكرتونى الذى تعشقه ربما لانه يصف حياتها.
هى حقا تخشي معناه و بنفس الوقت تتفائل به،
تشعر ان هناك حياه اخرى تنتظرها، تشعر ان هناك سعاده خفيه ستعيشها، لكن متي او كيف لا تدري!
ما علاقه هذا الكتاب بحياتها ايضا لا تدري!
و ربما بيوم ما تدرى!

في اللحظه الفاصله - بين ما كنت عليه في السابق و ما ستكون عليه في المستقبل - ستتدخل قوانين الحياه..
باربرا دى انجليس
يقولون من اعتاد على الجموح يكُن الروتين بالنسبه اليه مللا ،
فما الحال لمن اعتاد الروتين و يُجبر فجأه على الجموح، الاندفاع و الطيران فوق افاق اعلى ما تخيله حتى!
ما الحال لمن اعتاد السكينه، الهدوء و الخنوع و يدفعه الحاضر للتمرد، الاعتراض بل و قد يتحول الامر لحرب نفسيه مرهقه!

ما الحال لمن اعتاد الدفء حتى و ان كان باهظاا و يُضطر للركض في اقسى الطُرق بردا و ربما يكون الامر اكثر تكلفه!
كيف ستكون الضعيفه قويه؟!
و كيف ستكون الخاضعه آبيه؟!
ستخرج من المنزل لا عوده في ذلك و لكن ماذا تفعل! و كيف ستعيش! واين تذهب!
خيوط الماضى ملتفه حولها لن تستطيع التخلص منها.
و لكن عنكبوتيه الحاضر اكثر التفافا.
و شبكه المستقبل الاسوء تعقيدا.
كيف تتخلى عن شعور الخوف؟

في الحقيقه هى ندمت، ليتها لم تصرخ، ليتها لم تندفع، ليتها صمتت
ولكن الان لا داعى للندم فلا طائل منه.
استعدت للرحيل و لملمت كل اغراضها، متأهبه للخروج من هذا البيت للابد، توقفت في منتصف الغرفه تتطلع اليها و عينها تنبض بالخوف، قضت هنا عشر سنوات من عمرها ولكنها ابدا لم تشعر به بيتها، لا طريق امامها الان سوى العوده، العوده لمنزل ابيها، ستلجأ لصديقه ربما يساعدها، بالتأكيد سيساعدها.

تحركت للخارج متعجبه غياب زهره و التى لم تحضر لايقاظها كالعاده، قلق انتابها بخصوص تلك السيده الطيبه، فوضعت حقيبتها جانبا و تحركت تبحث عنها دلفت لغرفتها وجدتها تصلى وصوت بكائها يعلو تدريجيا استندت على الباب تستمع لها حتى تبينت ما تدعو به زهره، فابتسمت بحزن و هى تسمعها تدعو لها...
زهره كانت و مازالت عائله جنه الوحيده.
هى لا تعرف عائلتها الحقيقيه و حقيقه لا تود ان تعرفها.

والدها كان يكره تلك العائله و هى مثله.
ف اكتفت بزهره عائله لها، هى و كفى.
انتهت زهره جالسه على سجاده الصلاه اقتربت جنه منها لتجلس امامها ثم القت برأسها على صدر زهره لتضمها بقوه متمتمه بوجل: ادعى ليا يا داده، ادعى ليا اقدر اقف على رجلى و اكمل، دائما ادعى ليا.

ضمتها زهره بقوه فالحياه لم تمنحها اغلى من جنه، هى تعتبرها ابنتها الحقيقيه حتى وان لم تكن كذلك، مسدت ظهرها بحنان و قالت بنبره ام قلقه: ربنا يحميكِ و يبعد عنك ولاد الحرام قادر يا كريم و يسعدك و يفرح قلبك و يرزقك من وسع يا جنه يا بنت ماجد.
ابتسمت جنه مبتعده عن حضنها لتزيل تلك الدمعه التى علقت بجفونها و اقتربت مقبله وجنتها هاتفه بود: ربنا ما يحرمنى منك ابدا يا داده.

تنهدت زهره مبتسمه لتمسك بيدها الاثنتين تسألها بقلق: ناويه على ايه؟ طمنينى!
زفرت جنه و هى تنظر اليها بشرود مضطرب و خرجت نبرتها معبره عن قمه خوفها: لسه مش عارفه و الله يا داده، انا هروح اسلم على طنط هاله و عمو اسامه، و بعدين هرجع بيتنا القديم تانى و بعدها مش عارفه، بجد مش عارفه هعمل ايه!
ضغطت زهره يدها تؤازرها متمتمه باستعداد تام: قولى ليا يا بنتى اقدر اساعدك بإيه؟

قبلت جنه يدها بحب لتضغط يدها هى الاخرى تطمئنها و هى في امس الحاجه لمن يطمئنها: ادعى ليا انتِ بس و متقلقيش انا متأكده ان ربنا هيبقى جنبى و معايا دائما.

صمتت زهره بقله حيله فهي تعلم ان جنه لن تقبل المساعده و لكنها ستحاول بكل ما تملك، فاستندت عليها ناهضه لتتجه لخزانتها الصغيره لتفتح احدى ادراجها لتعبث بالاغراض قليلا ثم تُخرج ظرفا ابيض، مدت يدها به لجنه قائله بلهفه: خدى الفلوس دى، هما مش كتير بس ممكن يساعدوكِ مؤقتا.
دفعت جنه يدها بخفه رافضه اخذ ما تمنحها زهره اياه هامسه بشبح ابتسامه: انا شايلاكِ لوقت شِده، انا لسه في اول طريقى.

حاولت زهره الاعتراض و لكن جنه لم تمنحها فرصه هذه المره و هتفت مسرعه و هى تتحرك للخارج: خدى بالك من نفسك، كان نفسى تيجى معايا بس انا عارفه انك مش عاوزه تسيبى القاهره، هبقى اطمن عليكِ دائما.
تحركت زهره خلفها و هى تدرك ان جنه لن تقبل مساعده احد او شفقه احد الان فهى على بعد خطوه او اقل من الانهيار خوفا و بكاءا...

خرجت من المنزل دون ان تفكر مرتين فإن منحها احد حق التفكير و الاختيار مجددا بالتأكيد ستتراجع.
كانت كوثر تتابعها من نافذه غرفتها بالاعلى بغضب، فها هى الضعيفه، تمردت.
تشعر ان ما سعت لحدوثه طوال العشر سنوات الاخيره سينهار بمجرد خروج تلك الفتاه.
جلست طوال الليل تفكر كيف تمنعها؟ كيف تضمن بقائها بجوارها طوال عمرها؟
هل تتنازل و تعتذر!
اذا هل تمنحها حقها و ورثها و تطالبها بالسماح!

و لكنها ابدا لن تعتذر، ابدا لن تتنازل عن الاموال.
هى تخلت عن اسم ماجد الالفى و اسست نفسها بنفسها.
الشركه، رصيد البنوك و كل ما تملك من اموال من حقها هى و لن تمنحه لاحد.
تسب نفسها لانها تطاولت لهذا الحد امام الجميع بالامس، فلحظه تهور منها قد كانت السبب بتدمير كل شئ امام عينها.

ماذا ان عادت للبيت القديم؟ ماذا ان قابلت محامى والدها ان كان مازال على قيد الحياه؟ ماذا ان اخبرته بما حدث و طالبت بحقها و ورثها مجددا؟ ماذا ان استطاعت الوصول لاخيها ان كان قد عاد؟ ماذا ان اكتُشف انها تزوجت مره اخرى بعد طلاقها؟!
ألف سؤال و سؤال يؤرق ليلها و نهارها.
ماذا سيحدث بعد الان؟ و الاجابه واحده، لا تدرى!

كان عاصم بالمكتب يقوم ببعض الاعمال فهو سيسافر في اليوم التالى فلابد من انهاء اعماله العالقه...
طُرق الباب و دلف احد العمال و بيده كوب من القهوه وضعه على الطاوله، فشكره عاصم و بعدما خرج الرجل مط عاصم ذراعيه بارهاق قليلا تاركا ما بيده، و نهض واقفا امام النافذه العريضه خلفه و التى تطل على الشارع الخلفى للشركه و بيده كوب قهوته يتابع السيارات و الماره بعين شارده..

تلك الفتاه التي رآها بالامس اصابته بالارق ليلا بل و تجاوزت ذلك محتله احلامه ايضا، رآها تنظر له بحزن، بألم، بخزى وكأنه اذنب بحقها في شئ ما..
رآها بنفس طلتها بالامس، فتاه في ريعان شبابها و لكن يبدو وجهها كأنها تجاوزت الخمسين عاما، بنفس نظرات الانكسار، الضعف، الحزن و القلق التي سيطرت على عينها و ملامحها بأكملها، بنفس صدمتها عندما صفعتها تلك السيده الحمقاء، و ايضا دموعها التى ذُرفت حزنا و قهرا.

عاود مظهرها بالامس يحتل تفكيره، متذكرا نفسه و هو يشتغل غضبا لمجرد رؤيته لما صار، و رغم انه كان ينوي التعرف على تلك السيده فهى ليست بقليله في مجال الاستيراد و التصدير لكنه وجد نفسه يهينها و يقلل من شأنها..
شعر انه بحاجه ليفرغ غضبه بها و لو كان بيده ان يفعل اكثر من ذلك لفعل، و لكن ما شعر به من غضب لاجل الفتاه تحول لغضب من نفسه، لمَ يفكر بها؟
لمَ حاول الحصول على حقها؟

لمَ اراد ان ينهض خلفها ليقول لها لا تهربي واجهي!
اراد ان يصرخ بها ان كما تعاملكِ عامليها.
غضب من نفسه ربما لانه يفكر بمجرد عامله بالفندق يجب ان يشفق عليها فقط.
قطع تفكيره رنين هاتفه فوجده رقم غريب فتنهد بضيق و هو ينظر لكوب القهوه الذى ثلج بيده، فدفع بالكوب جانبا ملتقطا هاتفه مجيبا بلامبالاه فوصله الطرف الاخر معرفا عنه نفسه: انا اكرم.

عقد عاصم حاجبيه قليلا فهو ليس بمزاج لحوار عائلى ممل الان و لكن اولا و اخيرا هذا ابن خاله فرحب به قائلا بنبره رغما عنه خرجت ضجره: اهلا وسهلا، خير!
و يبدو ان القلوب عند بعضها كما يُقال فأكرم ايضا لم يكن براغب ابدا بهذا الحديث و لكن اسفا هو مضطر لهذا رغم كرهه لعائله ابيه و امه و التى كانت السبب في نفيهم بعيدا، فكز اسنانه بضيق متمتما: محتاجين نتكلم و ياريت في اقرب وقت ممكن.

صمت عاصم قليلا و لم تخطئ اذنه بنبره اكرم الضائقه و لذا واجهها بغرور متناهى و نبره حاول جعلها ثلجيه رغم ما يموج بصدره من ضيق: حقيقه مش فاضى، مسافر بكره و الشغل كتير.

بذل اكرم اقصى جهده ليتمالك نفسه و ذكريات حكايات والدته عن العائله تمنحه سببا كافيا ليثور في ذلك المتفاخر امامه و لكن مهلا لا وجود لتهور الان فقط بحاجه لتعقله المعتاد ليأخذ ما يريد فتمتم بخفوت: معلش يا سياده النقيب محتاج من وقتك نص ساعه بس.
و يبدو ان نبره اكرم الهادئه الان اعادت لعاصم بعضا من هدوءه ففكر قليلا ثم أجابه بموافقه سريعه: تمام، انا في مكتبى، هستناك.

زفر اكرم بارتياح هاتفا برد سريع هو الاخر: يبقى تمام، مسافه السكه.
و بذوق شديد اضاف محاولا كسب هدوء مؤقت حتى يعرف ان كان باستطاعه عاصم بنفوذه الطائله كما عرف عنه ان يساعده في البحث عن شقيقته: شكرا مقدما على وقتك.
وامام هذا الهدوء لم يستطع عاصم سوى الرد بنبره ساكنه هو الاخر: تشرف.

و انتهى الاتصال و امسك اكرم بطرف اخر في خيط الماضى الطويل و تحرك استعدادا للذهاب لعاصم ثم من بعده التوجه لتلك المصيبه كوثر و لن يتركها حتى يعرف مكان شقيقته.

دلفت جنه للمكتبه و خلفها حقيبتها الكبيره، فعقدت هاله حاجبيها و هى تتبين ملامحها الشاحبه و عينها التائهه قليلا و جفنيها المتورمان كأنها قضت ليلتها تبكى.
انتفضت هاله واقفه لتقترب منها هاتفه بقلق بدا بوضوح على ملامحها: جنه، مالك؟ وشك عامل ليه كده!

حاولت جنه الابتسام و لكنها بدت غير قادره على منح احد الطمأنينه بعد فإمتلئت عينها بالدموع هامسه بتشتت: انا خرجت من البيت، ثورت و زعقت، وقفت في وشها و خرجت.
ثم انهمرت دموعها رغما عنها فوضعت هاله يدها على كتفيها تحاوطها و تحركت بها لتجلسها و امسكت بكوب ماء لتمنحها اياه هاتفه بوجل: اهدى يا حبيبتى اهدى...

ارتشف جنه القليل من الماء ثم وضعت الكوب جانبا و اخذت نفسا عميقا محاوله التماسك فليس الان وقت الضعف، ليس الان و تحدثت بخفوت: انا جايه اسلم عليكِ، علشان هرجع لبيتنا القديم، مش عارفه هعرف اشوفك تانى و لا لأ، بس اكيد عمرى ما هنسى اللى عملتيه علشانى.
شهقت هاله بخضه و هى تُمسك بيدها مجيبه اياها بسرعه: ايه الكلام اللى بتقوليه ده؟ الكلام ده مش هيحصل، انا لا يمكن اسيبك تبقى لوحدك ابدا.

ثم جالت برأسها فكره فنهضت و تمسكت بحقيبه جنه واضعه اياها بجوار المكتب وامسكت بحقيبتها متمتمه بسرعه: اسمعى انا عندى ميعاد مهم جدا، لازم امشى دلوقتى، بس اوعى تتحركِ من هنا، استنينى و اوعى تمشى..
امسكت جنه يدها توقفها و هتفت برجاء: طنط هاله علشان خاطرى انا كده هتأخر و انا مينفعش افضل هنا لازم امشى، انا لسه قدامى طريق سفر.

ربتت هاله على وجنتها بدفء و نظرت اليها بحنان قائله باصرار: ارجوكِ، استنينى انا متأكده ان اللى هقوله ليكِ لما ارجع هيساعدك، ساعه بالظبط، علشان خاطرى يا جنه.
نظرت اليها جنه بقله حيله فاردفت هاله بلهفه: اقرأى، علشان حتى لو هتسافرى زى ما بتقولى تبقى قرأتِ اى حاجه النهارده و صدقينى مش هتأخر عليكِ، اتفقنا!

رمقتها هاله بنظره امل و انتظار لموافقتها فأومأت جنه بابتسامه فاتسعت ابتسامه هاله وتركتها راحله، قابلت اسامه في طريقها للخروج فأخبرته باختصار عما تنوى فعله فوافقها مجبرا و وعدها انه لن يترك جنه تغادر قبل عودتها..
وبعد قليل كانت هاله تجلس مع ليلى و نهال بأحد المطاعم يتبادلون اطراف الحديث و هذه مره من المرات القليله التى يجتمع فيها هؤلاء سويا.

ابتسمت نهال متذكره ايام الجامعه و كيف كانوا الاقرب لبعض دائما وتمتمت بفرحه: ياااه لو نرجع لايام زمان تانى، لما كنا دائما سوا.
ثم اضافت بحزن و هى تعود لواقعهم الان، كيف يتقابلون كل عام مره ان تقابلوا: بدون قلق او تفكير.

تنهدت هاله بعمق بينما ابتسمت ليلى باشتياق حتى قطعت هاله سيل افكارهم فما تنويه سيفتح ابواب الماضى على مصرعيها فاستندت على الطاوله بمرفقيها قائله باهتمام: اسمعوا بقى، في موضوع مهم جدا لازم اكلمكم فيه.
انتبهت كلا من نهال و ليلى لها فأخذت نفسا عميقا و نظرت لكلتاهما ثم تحدثت ببطء و هى متوقعه ثورتهم: الموضوع يخص امل و ماجد.
حملقت كلتاهما بها فاندفعت نهال تقول بلهفه: عرفتِ هما فين!

نظرت اليها هاله و ظهر الاستياء على وجهها فتطلعت اليها كل من ليلى ونهال بترقب فهمست هاله بحزن: اه عرفت.
اندفعت ليلى هذه المره لتقول مسرعه منتظره بشوق الاجابه: فين يا هاله!
طأطأت هاله رأسها للحظات عاجزه عن دفع تلك الفجيعه اليهم ولكنها لابد ان تفعل تماسكت محاوله الهدوء حاولت التحدث و لكن خانها صوتها فخرج مهزوزا متردداا: انا اسفه، بس، بس، هما، ماتوا.

شهقت نهال بصدمه بينما اتسعت عين ليلى بعدم تصديق لتهتف بحده: انتِ بتهزرى يا هاله؟ ايه اللى بتقوليه ده!
رفعت هاله عينها اليها بحزن و هى تهمس معتذره: انا اسفه بس انتِ عارفه انى اكيد مش ههزر في موضوع زى ده.

ارتجفت عين نهال و هى تتذكر ايام طفولتها و مراهقتها مع اختها الصغيره - امل -، تتذكر مشاغبتها و ضحكتها، تتذكر كم كانت تغضب منها فور ان تعبث بأشيائها، كم كانت تفرح عندما تضحك لها، لم تكن اختها فقط بل كانت ابنتها.
تساقطت دموعها قهرا و همست بثبات و لكن نبرتها عاكست ذلك لتفصح بوضوح عن ألم قلبها: عرفتِ منين؟

انتقل بصر هاله اليها و كم شعرت بالحزن لحالها و لكنها تعرف ان نهال قويه، تتماسك دائما و كثيرا ما تخفى ألمها ولكنها تعلم ايضا انها اكثر من قاست بغياب امل، فقررت اخبارها بما يعد سلوى لقلبها: بنتهم.
وكأن ليلى لم تصدق الخير الاول بل ابتسمت بسخريه لعدم تصديقها الاخر ايضا و هتفت باستنكار: هما عندهم اولاد غير اكرم؟
اومأت هاله برأسها موافقه فحركت ليلى رأسها يمينا و يسارا برفض تام لتصديق ما تقوله هاله..

كيف تصدق ان اخيها رحل!، كيف تصدق انه ابتعد للابد دون ان تراه!، كيف تصدق انها لن تحتضنه مره اخرى!، كيف تصدق انها لن تستطيع ان تطلب منه مسامحتها على عدم سؤالها عنه كل هذه السنين!
ماااااات!
ما هذا الهراء!
ماذا يحدث!

هى تتذكر يوم رحيله من المنزل منذ اكثر من خمس و عشرين عاما كأنه الغد، تتذكر حزنه لبعده عنهم، تتذكر كيف ودعها و كيف طمأنها انه سيكون بخير، تتذكر انه رفض ان يكون على اتصال بهم ليس كرها بل لانه لن يستطيع تجاوز ما فعله ابيه بزوجته.
رحل و لم يستطيعا الوصول اليه مجددا برغبه منه.
و الان ببساطه تخبرها هاله انه لم يعد موجودا!

وضعت هاله يدها على يد ليلى لتنظر اليها ليلي بذهول فتمتمت هاله بنبره أسى: ممكن تهدوا علشان اعرف اقول لكم كل اللى اعرفه.
تمالكت نهال اعصابها مزيله دموعها بظهر يدها ناظره اليه باهتمام وان كست عينها كسره ربما لن تلتئم ابدا بينما حدقت بها ليلى ومازالت لا تستوعب ما سمعته.
تنهدت هاله وبدأت بسرد ما صار باختصار منذ مقابلتها لجنه حتى معرفتها لحقيقه علاقتها بهم.

لحظات صمت مرت عليهم لا يُسمع سوي صوت انفاسهم فقط.
عقولهم تدور في مطحنه.
تفكيرهم مشتت لا يستوعب ما قيل.
كيف انحدرت الامور لهذا الاتجاه؟
ابتلعت نهال ريقها بتفكير و هى تضرب بأصبعها على الطاوله مع كل كلمه تقولها: ازاى ماجد اتجوز واحده تانيه و ليه؟!
وافقتها ليلي بشرود هى الاخرى و عقلها يعجز عن ايجاد سبب لفعل كهذا: ايوه ازاى ماجد بعد كل اللى عمله علشان امل و بعد كل الحب اللى بينهم يتجوز واحده تانيه؟

ثم هتفت بحنق دون ان تنتبه انها بمكان عام: انا مش فاهمه حاااجه!
انتبه اليها بعض من حولهم فنظرت اليها هاله محاوله تهدأتها قائله بصوت خافت: اهدى يا ليلى الناس حوالينا.

ثم اضافت بشتات هى الاخرى و هى تندم انها لم تفعل: انا معرفش اى حاجه عن جنه اكتر من اللى قولته، البنت صدمتنى بأنها يتيمه و كمان مرأه باباها حرمتها من التعليم، بقيت حاسه انى خايفه أسالها عن اى تفاصيل تانيه، عاملتها كواحده محتاجه مساعده و بس و متدخلتش في حياتها.

وضعت ليلى يدها على رأسها تحاول استيعاب كم المفاجأت اليوم حتى طرقت هاله على الطاوله بخفه لينتبهوا هاتفه بلهفه متذكره انتظار جنه لها في المكتبه: المهم، جنه سابت البيت قالت ليا انها اتخنقت تقريبا مع الست دى و خرجت من البيت و هى حاليا ناويه ترجع بيتهم القديم و تمشى من القاهره.
ثم صمتت ثوانى ناظره لكلتاهما هامسه بقلق من رد فعلهم: انا مش عاوزه جنه تمشى، انا عاوزاها تدخل العيله.

اتسعت عين نهال و ليلى فما تقوله هاله يعنى دعوه صريحه لتيارات الماضى بجرفهم في الطريق...
و لكن لاحظت ليلى حوارهم ينقصه شخصا هاما فتسائلت: ثانيه واحده و فين اكرم من كل ده؟!
حركت هاله رأسها بتذكر حوارها مع جنه عن اخيها فأجابتها: هى قالت ليا انه سافر يكمل دراسته و من يوم ما جت القاهره اتقطعت اخباره عنهم و متعرفش عنه حاجه لحد النهاره.

لحظات صمت اخرى مرت عليهم حتى تنهدت نهال متجاوزه القلق مما قد يحدث و تمتمت بثقه: معاكِ حق، بالحال ده جنه مينفعش تمشى.
رفعت ليلى رأسها بتردد هاتفه بتفكير حانق: انتوا الاتنين معاكوا حق، و انا موافقه، بس لازم نفكر كويس لان لو كبار العيله عرفوا ان جنه بنت ماجد و امل مش بعيد يقتلوها.

وافقتها هاله تفكر هى الاخرى و بدأ القلق يتسرب اليها اكثر تحدثت و بدا كأنها تفكر بصوت عالى: كبار العيله لو عرفوا في رقاب هتطير، و أولهم جنه، ودى بنت و سهل اوعى يدوسوا عليها.
و اكملت نهال التفكير و ايضا بصوت عالى متمتمه: احنا بنفتح باب اتقفل من خمسه و عشرين سنه، بس لازم نفتحه، انا مش هسكت زى ما سكت قبل كده و متأكده ان محمد هيوافقنى.

ثم تنهدت متحدثه بصرامه متخذه قرارها: انا هاخد جنه عندى و اللى يحصل يحصل.
قاطعت هاله حماسها موضحه بصوره صريحه: جنه متعرفش عننا حاجه اللى فهمته من كلامها لما كنت احاول ألمح عن اهلها انا بتكرههم، يعنى جنه ببساطه لو عرفت اننا اهلها مش هتوافق تعيش مع حد فينا.
حدقت بها نهال قليلا ثم قالت بمحاوله منها لفهم ما ترمى اليه هاله: قصدك انها هتعيش معانا بس من غير ما تعرف اننا عائلتها؟

اومأت هاله موافقه فصمت ثلاثتهم مجددا للتفكير في حل حتى هتفت ليلى بحماس: انا عندى فكره.

نظرت اليها هاله و نهال بتركيز فأردفت ليلى بتوضيح لفكرتها: اللى فهمته من كلامك يا هاله اولا ان جنه مش هتقبل مساعده من حد زى ما رفضت مساعداتك قبل كده، ثانيا انها هترجع بيتها القديم بس هتضطر تشتغل علشان تصرف على نفسها، ثالثا انها لازم تبقى وسطنا بس من غير ما تعرف اننا اهلها و لا ولادنا يعرفوا لحد ما تتعود عليهم على الاقل، مظبوط كده!

اومأت هاله موافقه و كذلك نهال و هى تتابعها بعينها فأكملت ليلى بشرح من تنوى فعله: حلو قوى، انا حاليا بدور على مربيه لشذى بنتى، تاخد بالها منها، فلو جنه وافقت هبقى ضربت عصفورين بحجر واحد زى ما بيقولوا، اولا هتبقى وسطنا من غير من حد يعرف حاجه، ثانيا هتقعد معانا في البيت بحكم شغلها، ثالثا هدفع لها مرتب و هى هتقبله لانه في الظاهر دا حق تعبها و شغلها.

لحظات تفكير اخرى حتى قالت نهال وقد اعجبتها الفكره: فكره مش بطاله و بما اننا جيران يا ليلى هيبقى من السهل اطمن على جنه و كده محدش هيشك و لا حتى كبار العيله.
وافقتهم هاله بعد صمت لحظات و قد راقتها الفكره كثيرا: يبقى كده فاضل انى اقنعها و دا مش سهل، بس انا هحاول معاها بكل الطرق و ربنا يهديها و تقتنع.
فنظرت نهال لليلى بعدها مبتسمه هامسه بمزاح: بس يا ليلى واضح ان جنه مش قد ولادك فخليهم يخفوا عليها شويه.

ابتسمت ليلى هى الاخرى فأولادها الاربعه عنوان المشاغبه في الحياه، من كبيرهم عاصم لصغيرهم شذى فهمست: جنه هتتأقلم مع البنات بسرعه، اما عاصم..
ثم زفرت بقوه فضحكت هاله و نهال بينما اردفت ليلى بابتسامه و هى تتحدث عن ابنها البكرى: و المشكله انه نسخه طبق الاصل من ماجد غروره، ثقته اللي ملهاش حد، طموحه، عزه نفسه، اصراره، عناده حتى استقلاله بنفسه جوه البيت، كله ماجد.

لحظات صمت اخرى حتى قطعت هاله شجنهم هذا ونهضت قائله بسرعه: كنت هنسى، جنه مستنيه في المكتبه لازم الحقها قبل ما تمشى.
نهضت ليلى هى الاخرى لتجيبها بنفس اللهفه و ربما اكبر فهى سترى قطعه من ماجد امامها: طيب يلا هاجى معاكِ و تقولى لها و اخدها معايا عالطول.
رمقتها هاله لتتأكد من صحه كلامها ثم تسائلت: مش هتستنى تقولى لاستاذ عز الاول!

نفت ليلى برأسها متمتمه بثقه: انا متأكده ان عز مش هيعترض هبقى افهمه كل حاجه بس مش هينفع اصبر اكتر من كده، مش هقدر.
اومأت هاله وتحركت ثلاثتهم للخارج في طريقهم للمكتبه بعدما اخبرتهم نهال عن رغبتها بالذهاب معهم ليكن هذا اول لقاء لهم مع جنه...

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة