قصص و روايات - قصص رومانسية :

رواية حلم السندريلا للكاتبة عليا حمدي الفصل الثاني

رواية حلم السندريلا للكاتبة عليا حمدي الفصل الثاني

رواية حلم السندريلا للكاتبة عليا حمدي الفصل الثاني

في صباح يوم جديد تتسلل الشمس المشرقه من نافذه غرفه تلك الصغيره ذات احد عشر عاما نائمه على فراشها الصغير، خصلاتها البندقيه تغطي وجهها بعشوائيه، تحتضن وسادتها وعلي وجهها سكون طفولى يمنحها براءه مميزه.

تعمدت اشعه الشمس مضايقتها فعقدت الطفله حاجبيها في ضيق محاوله النوم مجددا لكن صوت الباب يُفتح منعها، اقترب ماجد من فراشها يرفع الوساده مقبلا وجنتها، فتململت الصغيره لتفتح عيناها ذات لون العسل و بمجرد رؤيتها لوالدها اتسعت شفتيها عن ابتسامه طفوليه جميله لتظهر تلك الغمازه الصغيره متمتمه بصوت ناعس: بابا صباح الخير.
داعب وجنتها بحنانه المعهود معها قائلا: صباح النور يا حبيبه بابا، مش كفايه نوم بقى؟

عقدت حاجبيها بطفوليه و اجابته بدلال طفولي تُدرك تأثيره عليه جيدا: يا بابا يا حبيبى، هو انا نمت حاجه!
ضربها ماجد بخفه على رأسها و هو يضحك مردفا بصوت حاول مزج الضحك فيه بالحزم: بلاش دلع على الصبح و يلا علشان تروحي المدرسه.
نهضت جنه بحماس و وقفت امامه على الفراش واضعه كلتا يديها على خصرهاا قائله بتذمر: كل يوم مدرسه، مدرسه! انا زهقت من المدرسه دي.

امسك يدها ساحبا اياها لتجلس على قدميه ماسحا على شعرها بدفء موضحا: السنه دي اخر سنه في المدرسه الرخمه دى فنخلصها بتفوق و بعدين ندخل مدرسه جديده، و المره دى مش هتقعدى فيها 6 سنين، لا هيبقى 3 بس، وجنه حبيبه بابا تكبر بقى لحد ما تدخل الجامعه.
ضحكت جنه بحماس اكبر و هى تردد خلفه بسعاده: لحد ما اكبر و ادخل الجامعه، ثم صرخت بوداعه طفوليه: وااااووووو..

ضحك ماجد معها ملاحظا مدى شغفها لترشد و يا ليتها تدرك ان الرشد ليس بشئ يستحق الفرحه قائلا بحسم و هو يدفعها عن الفراش لتقف ارضا: يلا بقى علشان منتأخرش.
صفقت بيدها قائله وهى تحرك رأسها بإيجاب: حاضر، ثم صمتت ثوانى تفكر لتقف امامه قائله بحزن: أكرم واحشني قوي يا بابا من يوم ما سافر و انا نفسي اشوفه.

ضمها ماجد بحنان لصدره رابتا على ظهرها كاتما غصه ألم تصيبه كلما رأى حزن صغيرته بسبب بعد اكرم عنهم: هينزل اجازه قريب حبيبتى و بعدين هانت و ينزل و يبقى جنبك عالطول و المفروض انتِ بتكلميه كتير تطمنى عليه.
عبس وجهها وهى تجيبه بغيظ: مش كتير يا بابا، دائما يقولي مشغول، يعني مثلا انا بقالي اسبوع مسمعتش صوته.

ابتسم ماجد لتذمرها رافعا شعرها عن وجهها متمتما بهدوء: معلش يا حبيبتي نستحمل و هو اكيد هيكلمك لما يفضى ثم انه ممكن ينزل اخر السنه.

نظرت اليه بطرف عينها مخبره اياه انها تتفهم جيدا هروبه المعتاد من اخبارها ان اخيها لن يكون بجوارهم الان حتى ينهى دراسته و ربما يظل هناك بعدما يجد عملا مناسبا كما سمعته يخبر والدها ذات مره و قالت بتوضيح صريح لشكوكها: يا بابا انت كل سنه بتقول هينزل و مش بينزل و لا حاجه، و كمان انا عارفه يا بابا ان اكرم مش عاوز يرجع هنا تانى انا سمعتكم مره بتتكلموا.

زفر ماجد بضيق ثم هتف بحده خفيفه ليمنع استرسالها في هذا الحوار العقيم: انا قولت ان شاء الله السنه دي ينزل، خلاص بقي قومي يلا هتتأخرى على مدرستك، يلاا...
نهضت جنه و هى تمتم بكلمات غير مفهومه دلت على غضبها من والدها و ايضا اخيها و دلفت للمرحاض بينما جلس ماجد على الفراش يتطلع لصوره امل على المكتب امامه و يسترجع ما حدث بحياته طوال الاحد عشر عاما الماضيه..

من بعد ولاده جنه كان ماجد محطما و لكنه نفذ كل طلب طلبته منه امل في رسائلها اليه و كل وعد اعطاها اياه و بالفعل بدأ يُحسن عمله بجهد كبير حتى استطاع انشاء عمله الخاص مكبرا اياه ربما لم يعود كسابق عهده و لكنه على اقل تقدير نجح بإعلاء شأنه و تغير حالهم من حال إلى حال، و مع ذلك اهتم بأولاده جيدا فكان كل شئ بالنسبه اليهم كما كانوا هم بالنسبه اليه ثروته الحقيقيه..

اما كوثر كانت تعيش معهم تحصيل حاصل لا يهمها سوي مظهرها و الاموال التى تُوضع بيدها اول كل شهر، اجل كانت تهتم بالاولاد الاربعه و لكن لم يشعر ماجد يوما انه اهتماما صادقا و لكنها لم تكن بذلك الغباء الذى يجعله يُمسك خطأَ عليها.

بعد تقدم وضعهم المادى طالبته كوثر مرارا ان ينتقلوا لبيت اكبر بمدينه او محافظه اخرى و يتركوا ذلك البيت الصغير و لكن ماجد رفض رفضا قاطعا و اخبرها انه لن يترك البيت الذي شهد على حبه لامل و على احلامهم سويا.
ذلك البيت كان له حياته، لا يستطيع التخلي عنه و اضطرت هى مجبره ان تطيع رغبته.

عندما كانت جنه في الخامسه من عمرها سافر أكرم ليكمل دراسته بالخارج و مضت السنوات و لم تراه جنه سوى عن طريق صور يرسلها اليها كل حين و حين و لم تحدثه سوى مرات قليله كلما اُتيح له هذا في وقت فراغه ما بين دراسته و عمله.
ارتفع رنين الهاتف فقطع شريط ذكرياته ليأخذ نفسا عميقا ناهضا ليستعد هو الاخر للذهاب لعمله و لكن قبل هذا اجاب المتصل والذى لم يكن سوى مدير الحسابات بشركته..

بدأ في ترتيب اغراضه بحقيبه العمل و جمع ما يلزمه من اوراق و هو يجيبه: صباح الخير يا درش ايه الاخبار! وصلت لحاجه جديده؟
حمحم مصطفي بصوت واضح اخبر ماجد بأن هناك خطب ما و اردف بعدها: مش هعرف اشرح لحضرتك على التليفون يا فندم، منتظر حضرتك في السكرتاريه الموضوع مهم و كبير!

اخذ ماجد نفسا عميقا مستندا على طرف مكتبه متوقعا ان ما هو قادم سيسوءه و لكن هو ما اراد ذلك متمتما: تمام يا مصطفى نص ساعه و هكون في الشركه.
و اغلق الخط متنفسا بعمق فشعر وقتها بكوثر تدلف للغرفه و كم كان يكره وجودها بغرفته.
يكره تطفلها و محاولتها المستمره لتكون بمكان امل، يكره مجرد فكره ان اسمها مترتبط باسمه و لكنه لا يستطيع سلبها اياه، كل ذلك الوقت و لكنه لم و لا و لن يستطيع الاعتياد عليها.

يظلمها ربما، يحرمها حقها به و بأن تكون شريكه لحياته محتمل.
و لكن ما يمنحه بعض السكينه انه كان صريح معها منذ البدايه.
اخبرها ان لا يشغله شئ بها، لا جسد، لا اسم، و لا حتى خدمتها له.
كل ما يعينه و يشكره لها هو اعتنائها بأولاده حتى و ان كانت تكره وجودهم كما يعتقد.
حوار معتاد منها عن جنه و سؤال معتاد منه على بناتها ثم ابتسامه بسيطه و كلمتين، توديع و رحيل من المنزل..

مرت الايام كصفحات كتاب، جنه تنعم بحضن والدها و دلاله الكبير لها، تتعرف على والدتها من خلال رسائلها التي اخذت تقرأ واحد منهم كل يوم تقريبا، كثيرا ما اخبرها والدها انها تشبه والدتها كثيرا و ربما لهذا السبب كانت تحب جمالها الهادئ لانها تشعر انها بهذا جزء من امرأه لم ترها ابدا و لكن حديث والدها عنها و عن حبه لها جعلها تحبها كثيرا.

في احدي الامسيات، جلست جنه مع بنات كوثر سهر و سحر يشاهدون التلفاز بعدما انهت جنه اخر امتحان لها لتكون بهذا قد انهت المدرسه الابتدائيه تماما.
استدارت جنه للفتيات بجوارها و صرخت بفرحه عارمه: يااااااه انا فرحانه قوى.
نظرت اليها سحر بسخريه ثم عادت تقلم اظافرها و هي تتمتم باستهزاء واضح: فرحانه ليه بقي ان شاء الله؟
بينما انفعلت سهر اثر صوتها العالي و صرخت بالمقابل: اييييه في ايه وطي صوتك شويه!

نقلت جنه بصرها بينهم ثم عقدت ذراعيها امام صدرها لتقول بضيق: اوففف مش هقول لكم حاجه اصلا.
ردت الاثنتان معا بسخريه زادت من ضيق جنه: ال يعني عاوزين نعرف.
ثم ضحكت كلتاهما ضاربه كفها بكف الاخري و اكملا ما يفعلانه دون الالتفات لضيق جنه
جاءت كوثر على صراخهم قائله ببرود لا يفارقها ابدا: صوتك عالي ليه يا جنه!
وقفت جنه امامها لتقول بحماس كأنها ستنال حقها بعد قليل: اصل يا طنط كنت...

مسدت كوثر جانب كتفها لتقول بتأفأف منهيه الحوار: مش مهم مش مهم، وطي صوتك او قومي ادخلي على اوضتك، مش عاوزه صداع.
اومأت جنه برأسها ثم تحركت بغضب باتجاه غرفتها جلست على الفراش تعقد ذراعيها امام صدرها عاقده ما بين حاجبيها بضيق ثم امسكت صوره والدتها، صمتت قليلا تنظر اليها و دون سابق انذار تساقطت دموعها بحزن هامسه لوالدتها تشكو لها: انتِ هتسمعيني يا ماما، صح؟

ثم رفعت يدها تزيل دموعها و اعتدلت بانفعال فرح و وضعت صوره والدتها امامها لتقول بفرحه متناسيه ما اصابها من ضيق: انا خلصت امتحاناتي و كمان مش هروح المدرسه دي تاني و الاهم ان السنه خلصت و احتمال اكرم ينزل اجازه قريب، انا فرحانه جدا يا ماما.
و كانت كمن تنتظر ان تجيبها الصوره ولكن بالطبع لم يحدث فنظرت اليها بابتسامه عجز و رفعت الصوره لتضمها لصدرها هامسه بصوت بالكاد يُسمع: كان نفسي تبقي جنبي يا ماما.

اغلقت عينها و هي تستلقي على الفراش و لم تدري متي غرقت بالنوم حتى سمعت صوت كوثر تنادي عليها فنهضت بتثاقل و خرجت اليها، اشارت لها كوثر على الهاتف لتقول و هي تتجه للمطبخ بلامبالاه: كلمي باباكِ عاوزك.
ركضت جنه و هي تضحك و اخذت الهاتف بسرعه لترد صارخه: بابا حبيبي وحشتنى.

ابعد ماجد الهاتف عن اذنه متجنبا صراخها العالي و هو يضحك مدركا سر سعادتها اليوم ليقول بالمقابل بعدما انهت صراخها: حبيبه بابا انتِ وحشتيني اكتر رجعتِ امتي!
صمتت جنه قليلا تفكر ثم اجابته بضحكه بريئه: ياااااه انا رجعت من بدري و كمان نمت كتير و لسه صاحيه دلوقت.
ثم صرخت مجددا و هي تقفز مكانها بسعاده: بابا انت عارف النهارده ايه؟
تصنع ماجد عدم الادراك ليقول بمزاح: اوعي يكون عيد ميلادك وانا ناسى!

ذمت شفتيها بضيق نافيه: لا..
ضحك عندما تبين الضيق بصوتها و قال بهمس ضاحك: خلاص بما ان النهارده اخر يوم و اخدنا الاجازه، فحبيبه بابا تستحق فسحه حلوه، ايه رأيك؟
شهقت جنه بفرحه لتردد بانفعال طفولي: يعيش بابا ماجد يعيش يعيش.
ضحك ماجد ليقول و هو ينهي المكالمه معها: قدامك نص ساعه تجهزى نفسك لو وصلت و انتِ لسه مش جاهزه مفيش خروج.

و لم تنتظر ان تجيبه فلقد تركت الهاتف وتحركت ركضا لغرفتها لتستعد لبدايه الاجازه بيوم مميز كما حال كل ايامها مع والدها، اخذت حماما سريعا و ارتدت ملابسها و حملت حقيبتها الصغيره و جلست امام الباب الخارجي بانتظار والدها.

امسكت بصوره والدتها التي دائما ما تحملها معها ظلت تنظر اليها قليلا و على وجهها ابتسامه ناعمه و هي تتمني بقلبها الصغير لو كانت امها معها لتنعم بالسعاده و الدلال كما تنعم بهم هي و هي في حضن والدها.
ماجد هو كل ما تملكه جنه في الحياه، تحبه بجنون و تحب كل ما له علاقه به، هي لم تري امها مطلقا و لكن كلام والدها عنها و وصفه لحبه لها، جعلها تعشقها دون اسباب فقط لان والدها كان يعشقها.

كانت جنه مثال للطفله المدلله بسخاء بل هي الدلال ذاته برقتها و جمالها الطفولي الذي يدل انها ستصبح نسخه مصغره عن والدتها، تجملت هي بحب والدها لها و اهتمامه بها، وجوده في حياتها عوضها الام و الاخ، عوضها عن كل ما تحتاجه طفله في سنها، كانت تشعر انها ابنته، زوجته، اخته، امه، حبيبته و هو كان كل شئ بالنسبه اليها.

كان يشاركها كل تفاصيل حياته، عندما يفرح تكون هي اول من يُفرحها معه اما بهديه او بالتنزه سويا او بشراء كل ما تحبه من حلويات و شيكولاته و غيرها فيمنحها شعور بدورها الحقيقي بأنها ابنته،.

عندما يحزن يريح رأسه على فخذها او يحتضنها ليشعر بالدفئ و الامان كما كان يفعل مع والدتها دائما كما اخبرها بينما هي تظل تروي له قصص قرأتها من اجله حتى يخلد للنوم بجوارها فتنام معه و هي تشعر بالراحه و الحنان تجاهه ليمنحها شعور بأنه طفلها،.

عندما يغضب يشتكي اليها و بالتأكيد لا تفهم مشكلته و لكنها بطفولتها و برائتها كانت تستطيع اخراجه من غضبه بحلول بسيطه و رغم سذاجتها الا انها كانت مع والدها تنجح بشده ليمنحها شعور بالمسئوليه تجاهه و هي مازالت لا تعرف ما معني المسئوليه حتى،.

عندما يكون في مزاج شاعرى يصطحبها لاحد المطاعم في موعد غرامي لتتدلل او يسير معها متشابكي الايدي على كورنيش النيل او يدلفا سويا لتستمتع بأحد الافلام الكرتونيه بالسينما و بالطبع لابد من وجود كل انواع المسليات،
بالفعل كانت له كل شئ و هو لها اغلى من روحها.

افاقت من تفكيرها عندما استمعت لصوت بوق السياره الخاصه بوالدها فوضعت صوره والدتها بحقيبتها و ركضت مسرعه اليه و بمجرد ركوبها بجواره احتضنته بقوه طابعه قبله على وجنته بادلها اياها ماجد و هو يضحك على لهفتها لما ينتظرها هذا اليوم.
انطلق ماجد بالسياره و خوفا عليها كان يسير بسرعه متوسطه حتى لا تفزع و لكنها فاجئته عندما قالت بحماس: يا بابا سوق بسرعه شويه.

نظر اليها بطرف عينه غامزا اياها وهو يقول: مش عاوزك تخافى.
ضحكت جنه بشغف و هو ترفع قدميها على المقعد و تضع يديها على التابلوه امامها لتقول بمرح: اخاف ايه بس يا بابا! انا دايما بقول لعمو بتاع الباص يسوق بسرعه، انا بحب نجري على الطريق، سوق بسرعه بقى.
انطلق ماجد بالسياره ضاحكا على شغف طفلته و من هنا بدأ يومهم و كم كان يوما مميزا و كم كانت بدايه موفقه لاجازه الصغيره.

قضوا اليوم سويا في فرح و سعاده و كانت جنه سعيده للغايه و من وقت لاخر تُخرج صوره والدتها و تضحك لها بينما ماجد يراقبها بحنان جارف و يري فيها روح امل التي افتقدها بشده.

بينما في المنزل تجلس كوثر و بناتها، تململت سهر لتقول بضيق و عصبيه: اوفففف بقي يا ماما هو لازم يعنى نهايه كل سنه يبقى ليها خروجه لوحدها؟
وافقتها سحر بحقد هى الاخرى لتلقى ما بيدها جانبا متمتمه: مهو مفيش غير الست جنه دي، هو عنده غيرها! اما احنا ولاد شوارع.
صرخت كوثر بكلتاهما فهى بداخلها ما يكفى من غضب تجاه تلك الفتاه: بس بقي متنرفزنيش اكتر و كفايه كلام و قوموا ناموا يلا.

تذمرت سهر و هى تنظر لوالدتها بغضب: كل اما نتكلم معاكِ تقولى بس بقى، هو احنا يعنى ملناش نفس نخرج؟
نهضت سحر واقفه لتشير لاركان المنزل من حولها لتقول باستحقار: و بعدين نفسي افهم لما احنا معانا فلوس ليه منعزلش و نعيش في بيت كبير او حتى فيلا في مكان تانى؟
اغلقت كوثر عينها تحاول التحكم في اعصابها فهى على وشك قتل بناتها الاتنتين بينما اجابت سهر بتهكم: معلش اصله بيفكره بالسنيوره مراته اللي ربنا خدها.

فاق الامر قدره تحملها فنهضت واقفه هى الاخرى و لقد كانت كوثر الان اشبه بقنبله موقوته وصرخت بهم: خلاااااااااص بقى مش عاوزه اسمع نفس، قوموا من قدامى، يلااااااااااا
نهضت الفتيات على مضض بينما ألقت كوثر بجسدها على الاريكه واضعه يديها على جانب رأسها تحاول كبت ألمه ولكن داهمتها أفكارها مجددا.
طوال السنوات الماضيه و هى تحاول معه، تتقرب اليه، تحاول جعله يحبها، و لكن لم تستطع.

لم تستطع فعل شئ، لم تستطع حتى جعله يتعلق بها و لو كصديقه.
هي تعيش هنا فقط كخادمه تهتم بالمنزل و الاولاد و تذهب لعملها و فقط.
حتى بعد ان تحسن وضعهم المادى قليلا لم تستطع ابعاده عن المنزل الذي يجمعه بذكريات زوجته الراحله.
وصل بها الامر ان تسائلت لماذا أحب امل هكذا؟
فيما تختلف عنها؟
وما الذى يميزها بعينيه؟
حسنا امل كانت اكثر جمالا منها و لكن الجمال ليس كل شئ!

و زاد على ذلك دلاله لابنته، ابنته التي تعتبر نسخه مصغره عن والدتها في جمالها و شقاوتها و روحها المرحه، و رغم صغر سنها الا ان عقلها كبير و يستوعب امورا كثيره لدرجه ان ماجد يلجأ لصغيرته وقت ازماته وليس لها.
زفرت كوثر و هى تضغط خصلات شعرها بقوه ألمتها محدثه نفسها بتفكير و توعد: اما نشوف اخرتها معاك يا ماجد انت و بنتك؟

جلس ماجد واجلس جنه على قدميه و قال ناظرا لصوره زوجته بين يديها: ايه رايك في الحجاب يا جنه؟
ظلت تنظر لصوره والدتها قليلا ثم ابتسمت بسعاده قائله: جميل اوي يا بابا، و ماما كانت حلوه قوى بيه.
ابتسم ماجد بالمقابل و هو يمسح على خصلاتها الناعمه ناظرا اليها بتساؤل: يعني تحبي تلبسيه؟!
صمتت ثانيه لكي تتخيل نفسها كنسخه اخري من والدتها، ثم رفعت يدها على خصلاتها لتهمس بثقه: اه طبعا...

قبل ماجد اعلي رأسها و احتضنها لصدره قائلا: عاوزه تلبسيه ليه؟!
و هذه المره بدون تفكير اجابته بتلقائيه وهي تهرب لحضنه اكثر: علشان ابقي شبه ماما و ربنا يحبني اكتر!
اغلق ماجد عينيه متذكرا وصيه امل له.
كم كانت تحلم بشكل طفلتها، كم كانت تتمني ان تراها تكبر امامها، كم كانت ترغب في الاحتفال بكل ما يخص صغيرتها و كم كانت ستحبها!

وضعت جنه يدها على صدره متمتمه بحيره: لما هبقي شبه ماما انت هتحبني اكتر يا بابا، صح! انا نفسي تحبني زي ما كنت بتحب ماما.
فتح عينيه باستغراب لتساؤلها، كم غريب هو القدر.
اكرم يعشق والدته لدرجه اصراره على السفر بل و البقاء هناك دون عوده لتحقيق حلمها له، و قال لابيه صراحهً من قبل انه يغار من حبه والدته، كان يغار من حب والدته له، كان يغار من ابيه على والدته!

و اليوم يري عشق ابنته له، ابنته التي احبت والدتها لحبه هو لها و الان يري انها تريد ان تكون مثلها لتنال اعجابه اكثر، ليحبها اكثر! و لقد اخبرته صراحهً هي الاخري، انها تتمني ان تكون محل والدتها بقلبه.
الا يدرك هذان الطفلان ان ما يجمع ماجد و امل اكبر بكثير من الحب!
الا يدرك اكرم ان عشق امل لماجد لا يُنقص من حبها له مقدار ذره فهو طفلها و فلذه كبدها!

الا تدرك جنه ان عشقه هو لامل لا يُنقص من حبه لها فهي صغيرته ومدللته!
الا يدرك كلاهما انهما جزء لا يتجزء من امل و ماجد معا؟
ضم جنه لحضنه اكثر ليهمس بثقه و هو يبتسم لها: اقولك على سر!
اومأت برأسها ليكمل هو بجوار اذنها كأنه يخبرها بسر كبير و ربما يكذب و لكن حبه لطفلته الان يفوق حبه لاى شخص كان: بابا بيحب جنه اكتر ما بيحب مامتها.
ضحكت بسعاده و هو تضربه بكفها الصغير بكتفه قائله بخبث: الكدب حرام يا بابا.

نظر اليها ماجد قليلا و اخذ يضحك حتى اغرورقت عيناه بالدموع لا يدري من كثره ضحكه ام من كِبر همه الذي لم يقل قيد انمله رغم مرور سنوات و سنوات و قال و هو يشاكسها: ربنا يحميكِ يا قرده.
مرت لمحه حزن بعين جنه عقب نوبه ضحكها قائله بخزي: انا كنت السبب في بعد ماما عننا يا بابا؟!

نظر اليها ماجد بصدمه و امسك وجهها بين كفيه ماسحا على وجنتها بدفئ ليهتف بنفي: لا يا حبيبه بابا، دا قدر يا جنه، قدر ربنا و لازم نؤمن بيه يا جنتى.
ثم عقد حاجبيه بتساؤل حذر رغم توقعه للاجابه: ثم مين قالك كده؟
صمتت جنه لحظات ثم تمتمت بحزن: سمعت طنط كوثر و هي بتتكلم مع سهر مره و قالت...

قاطعها ماجد ماسحا دمعه كادت تفر من عينها و هو يتوعد كوثر في نفسه: ماما كانت بتحبك قوي يا جنه و ربنا كمان بيحبك قوي فإوعي تزعلي و دائما قولي الحمد لله لكل قدر ربنا.
نظرت اليه وأومأت برأسها موافقه مع شبح ابتسامه كاد يزين وجهها: حاضر يا بابا.
استمرت سهرتهم سويا حتى قاربت الساعه على الثانيه عشر منتصف الليل فحملها ماجد على ظهره عائدين للمنزل و ضحكاتها تملئ المكان..

كان الطريق خاليا تقريبا لذلك قاد ماجد بسرعه عاليه بناءا على طلبها و هى تضحك بسعاده و الهواء يلفح وجهها و يعبث بخصلاتها الثائره لتدغدغها فتضحك بقوه اكبر و هي تلتفت لماجد لتداعب ركبتيه ثم عنقه فينهرها بضحكه واسعه فهو يتحسس من عنقه و هي استغلت نقطه ضعفه هذه و عندما تمادت و لم تتوقف التفت اليها ليدغدغها هو الاخر فاعتدلت على مقعدها تقهقه بشده.

و فجأه سطع ضوء سياره تأتي من الطريق المعاكس في دوران لم ينتبه له لينظر ماجد امامه بسرعه لتتسع عيناه بفزع و هو يحاول تفاديها مع صرخه جنه التي اصطدم جسدها بالباب جوارها فازداد توتر ماجد فدعس بقوه على مكابح السياره و لكن لم يستطع التحكم بعجله القياده، فدوران سريع، صراخ حاد ثم اصطدام قوى بالسياره الاخرى لتنقلب سياره ماجد عده مرات قبل ان تستقر ارضا.

في غرفه مضيئه اصوات تجئ و تختفي، رؤيه غير واضحه، وجوه كثيره تظهر و تتلاشى.
فتحت جنه عينها ببطء لتبدأ الرؤيه تتضح رويدا رويدا، رأت كوثر تجلس على مقعد مجاور و تنظر للارض بصمت و بجوارها سهر و سحر يجلسون بحزن.

بمجرد ان فتحت عينها نظرت حولها باستغراب و في اقل من ثانيه بدأت تسترجع ما حدث عندما كانوا بالسياره يضحكون و يتسابقون مع الرياح ثم فجأه تجهم وجه ماجد و ضغط بقوه على المكابح، تذكرت جنه وقتها كيف انحني عليها ليحتضن جسدها الصغير بين ذراعيه ليخفيها تماما لتشعر فقط بنبضات قلبه المتسارعه و صوته المكتوم بتوجع، شعرت انها تدور عده مرات و لم تكن تقوي وقتها على الحركه فقط تصرخ بهلع و هي تتمسك بملابسه اكثر ليكن اخر ما تتذكره هو ينظر اليها بابتسامه باهته و وجهه مغطي بالدماء تماما.

عادت للواقع بصرخه ألم: بااااااااابا.
التفتوا اليها جميعا و اقتربت الممرضه منها و حاولت تهدأتها ولكن فشلت فاعطتها مهدأ فسقطت نائمه.
استيقظت بعد قليل لتنظر حولها بخوف حتى وقعت عينها على كوثر فنظرت اليها برجاء و هي تسألها بترقب قاسي على طفله مثلها: بابا فين يا طنط؟
نهضت كوثر بضيق لتقترب من فراشها و لم تأبه لاصابه الصغيره الجسديه و لا صغر سنها و صرخت بها: انتِ، انتِ تخرسي خالص، انتِ السبب انتِ.

اضطرب قلب جنه ليس بسبب منظر كوثر المخيف الذي يدل انها على وشك الانقضاض على جنه لتضربها و لكن بسبب خوفها من كون ان مكروهاً ما اصاب والدها.
فعاودت جنه سؤالها بحذر و نبره صوتها تختنق بدموعها التى تراقصت بعينها: بابا فين؟
لتهتف كوثر بغضب متجاهله المُدمره التى تضم نفسها امامها: ابوكِ مات، مات بسببك، انتِ السبب في موته، لو مكنش خرج معاكِ كان زمانه لسه وسطنا دلوقت.

تجمدت جنه مكانها و دموعها تنهمر دون صوت مع ارتجافه عينها فهربت لتكن اول مره منذ بدايه حياتها تهرب و اغلقت عينها بعيدا عن نظرات كوثر المتهمه و هي تشعر بقلبها يُطعن بقلب ميت.
الم تمكن منها، ألم!
لا ما تشعر به فاق الألم، هي تحطمت.
لطالما عرفت شعور الفقد بوفاه والدتها و لكن لم تكن تعرف ما يعنينه حقا الا عندما عاشته الان.
و وسط صدمتها و وجعها صدع صوت بداخلها يلومها.
هي السبب.

اجل، هي من طلبت منه القياده بسرعه عاليه.
هي من كانت تلهيه عن الطريق بشغبها.
لو لم تكن معه ربما كان انقذ نفسه بدلا منها.
هي قتلته.
هي السبب.
و هنا ادركت انه لكي تعيش حياتها على احدهم ان يضحي بحياته.
ادركت انها لعنه من يقترب منها يحترق.
من يحبها تخسره و من تحبه تفقده.
ادركت و يا ليتها ما عرفت يوما معنى هذا الادراك..

مرت اسابيع تتلوها اسابيع و جنه ملازمه لفراشها، لا تأكل سوى لقيمات صغيره، كانت تلازم فراشها و لا تنهض سوى لاداء فريضتها فقط ثم تعود لتجلس على الفراش امام صوره والدتها يجوارها صورهلوالدها تحدثهم كل يوم.
حديث يتكون من كلمتين فقط، انا اسفه
و تيقنت تماما انه كلما احبها احدا خسر حياته،
فوالدتها خسرت حياتها لاجلها.
ووالدها خسر حياته لاجلها.
هي لا تستحق الحب بل لا تستحق الحياه.

و كيف تستحقها بعدما كانت السبب في سلب من تحب حياتهم!
في احدي الايام دلفت كوثر لغرفتها جلست امامها و قالت بصرامه: جهزي حاجاتك و هدومك علشان هنسافر.
نهضت جنه جالسه بضعف لتهمس بخفوت: هنسافر فين؟
اشاحت كوثر بوجهها بعيدا عنها لتردف بقوه: انا اشتريت بيت جديد في القاهره و هنسافر نسكن هناك.
رمشت جنه بعينها عده مرات و خوف جديد يصيب قلبها قائله بصوت حاولت جعله قويا: بس انا عاوزه اعيش هنا.

نظرت اليها كوثر بحده و هي ترفع احدي حاجبيها ضاغطه على حروف كلماتها بحده اشبه للتهديد: و انا قولت هنسافر.
تهدل كتفي جنه قائله برجاء و ربما بعناد: و انا هفضل هنا، عاوزه افضل في بيت بابا و ماما، مش عاوزه امشى.
صمتت كوثر ثواني ثم رمقتها بقسوه لتلقي بأكثر الكلمات وجعا على مسامع جنه و التى لا تمرر يوما دون ان تذكرها بها: باباكِ و مامتك اللي ماتوا بسببك؟

شهقت جنه و ارتجفت عينها لتنهمر دموعها دون توقف و هى تنظر لها بضعف طفله لا تقوى على ما مجابهه ما تتهمها به و الاسوء انها تتهم نفسها بينما اكملت كوثر بجبروت دون ان تأبه بها: انتِ اكتر واحده لازم تخرج من هنا، لانك متستهليش تعيشي في مكان جمع ناس كنتِ انتِ السبب في موتهم.
انتفض جسد جنه و حاولت رفع وجهها لتهمس بتقطع و ذل احاط ملامحها مما اشفى غليل كوثر قليلا: انتِ، ليه، ليه، بتقولي كده؟ انا مكنش ق...

قاطعتها كوثر بحده و هي تنهض واقفه لتهتف بعنف ارعد مفاصل جنه: مكنش ايه! مكنش قصدك! بس في الاول و الاخر انتِ السبب و لازم نمشي من هنا و لو لسه بتحبيهم فعلا يبقى لازم توافقي..
نظرت جنه لصوره والداها بين يديها و مسحت عليها بعجز ثم أومأت برأسها موافقه و هي تكاد تري من دموعها مطأطأه رأسها بخنوع فابتسمت كوثر بخبث و نهضت قائله بلامبالاه و كأن شيئا لم يكن: قومي جهزي حاجاتك هنمشي كمان ساعتين كده، انجزي!

نهضت جنه تلملم اشيائها بجسد بلا روح حتى انتهت وقد اخذت كل ما يخص والديها بهذا المنزل معها..
خرجت جنه فوجدت الفتيات بانتظارها و على وجه كلا منهما سعاده لا تدري مصدرها..

فاتجهت اليهم لتجد محامي والدها عبد المنعم يقف مع كوثر امام المنزل يتناقشون في امر ما، فركضت مسرعه وعندما لمحها جلس على ركبتيه ليستقبلها بين ذراعيه لتبكي بقوه كتمانها لدموعها ليربت على ظهرها بحزن حتى ابتعدت عنه لتهمس بصوت مذبوح: انا همشي يا عمو، مش هعرف اعيش هنا تاني!
مسح دموعها ثم حاوط وجهها بيديه ليقول بحنان: لا، ازاي بقي! انتِ اكيد هتيجي تاني..
ثم ابتسم مردفا: اقولك على حاجه تفرحك!

نظرت اليه بتهكم فما هذا الذي سيجلب الفرح لحياتها..
وشعر هو بتهكمها ولكنه اردف و ابتسامته تتسع: البيت ده مكتوب باسمك انتي و اكرم، يعني البيت هيفضل دائما بتاعك!
ربما كان محقا فلقد افرحها الامر كثيرا فهمست بلهفه: يعني محدش تاني هيعيش في البيت بتاعنا!
حرك رأسه نفيا وهو يربت على رأسها: لا، البيت بتاعك انتِ و بس..
احتضنته باكيه، بالطبع افرحها ربما قليلا و لكن تكفي فتمتمت: شكرا يا عمو..

اتجهت اليها كوثر ممسكه بيدها قائله بتأفأف: يلا هنتأخر..
وقف عبد المنعم ناظرا اليها بقوه هاتفا بتحذير: خدي بالك منها، انتِ وصيه على ورثها لحد ما تبقي 21 سنه بعدها البت مسئوله عن ورثها.
ثم نظر لجنه قليلا ثم عاد بنظره لكوثر متسائلا: اكرم عرف!
اشاحت بوجهها بترفع مجيبه بسخط: مش عارفه اوصله، هو كده لما يحب يكلمنا بيكلمنا لكن لو احنا عاوزين نكمله منعرفش..

زفر بقوه فهمت هي بالتحرك فوقف امامها مره اخري متسائلا مجددا: هتعملي ايه بأسهم الشركه؟
زفرت بالمقابل و هي تتحدث بضيق: هبيعها و هبدأ شغل جديد..
نظر اليها بترقب ليعاود سؤالها: شغل ايه؟
رفعت احدي حاجبيها لتنهره بقوه: الله، هو تحقيق!
ثم اصدرت صوت بسخريه لتقول بخبث: ممكن تديني الكارت بتاعك لما استقر سواء في السكن او الشغل هبقي أكلمك أطمنك!

صمت قليلا فليس امامه حلا اخر فلقد اوصي ماجد بأن تكن هي المتحكم الاول و الاخير بكل شئ حتى بلوغ طفلته و عوده ولده و لكنه لن يترك لها الحبل على الغارب فهو لا يستطيع الوثوق بها فقال و هو يأخذ واحدا من الملفات بيدها: نصيب اكرم هيفضل معايا لحد ما يرجع، لانه بالتأكيد هيجي هنا الاول، و هو خلاص عدي السن القانوني اللي يسمحله بالتصرف في ورثه..

عقدت حاجبيها غضبا و لكن حتى لا تُظهر جشعها لم تعترض و اومأت ببساطه موافقه: زي ما تحب..
اعطاها الكارت الخاص به حتى تخبره بتفاصيل سكنهم هناك فابتسمت بتكلف واخذته وغادرت..
وبمجرد ان تجاوزت المنزل بل و حدود قريتهم الصغيره، ألقت بالكارت من النافذه و هي تبتسم بخبث ضامه الملف الذي يحتوي على كل ورثها وبناتها بالاضافه لنصيب جنه الاكبر من ورث والدها..
و الان فقط ستبدا الحياه الجديده.

المرأه مثل الزهره ان اقتلعت من مكانها توقفت عن الحياه.
وليم شكسبير
وصلوا اخيرا للمنزل، تطلعوا حولهم كان موقعه رائعا، الاشجار و الخضره من حوله بألوانها الخلابه، تصميمه الممتاز، حقا كان جميلا، فانطلقوا يكتشفون داخله..
بينما كانت جنه تشعر انها في مكان ليس لها، تشعر بالغربه، تشعر بالوحده تقتلها.
دلفت بخطوات بطيئه و كلما تقدمت خطوه تعودها مجددا.

لكم رغبت ان تنطلق ركضا في اتجاه منزلها الريفي الصغير و لكن ها هي هنا امام واقع لا ترغب به و ما يُخيفها حقا انها تشعر ان هذا ليس بواقع يناسبها.
ظلت تدور داخل منزلهم الجديد، اجل كان جميلا و لكنها لم تشعر بجماله.
اجتمع الجميع و جلسوا بصاله الاستقبال فقالت كوثر بحده و هي تنظر لجنه: من النهارده كلمتي اللي هتمشي و اللي هيعارضني هيتعاقب و العقاب مش هيبقى هين، أظن كلامي واضح.

اشارت لجنه لتتقدم اليها فاتجهت جنه لتقف امامها فقالت كوثر بقسوه: مبدأيا كده انتِ متعرفيش حاجه هنا و انا معنديش استعداد اجيب سواق ليكِ و مليش نفس اشترك في باص خاص و الكلام ده، فا انتِ هتفضلي في البيت و انسي بقي التعليم والدراسه و غيره..

حدقت جنه بها بصدمه و لم تستطع النطق بينما اكملت كوثر كأنها تنتقم منها، كأنها تفرغ كل حقدها من امها و ابيها بها: الخروج بحساب و البيت لو لقيت فيه اي غلطه هتزعلي مني و هجيب واحده تاخد بالها من البيت و انتِ تبقي معاها عالطول مفهوم!
ثم اردفت و هي تتلذذ بملامح الصدمه على وجه جنه: و تليفونات و تليفزيون و غيره دا كلام فارغ، انا عاوزاكِ تبقي ست بيت شاطره.

حاولت جنه اخراج صوتها فهي فتاه لم تبلغ سن الرشد بعد.
فتاه انهت دراستها الابتدائيه فقط.
فتاه في الحاديه عشر من عمرها.
كيف لها ان تفعل كل هذا؟
كيف تطلب تلك المرأه كل هذا منها؟
استجمعت جنه نفسها و نهضت بتمرد كما كانت تفعل دائما صارخه بصوت عالي: لا انا مش هعمل كده، انا هروح المدرسه، و هكلم اكرم و عمو عبد المنعم في التليفون، و هلعب وهتفرج على التليفزيون طول الوقت و كمان مش هعمل حاجه في البيت.

ثم اشاحت بوجهها صارخه بغضب: انا لسه صغيره.
وكانت الاجابه صفعه.
صفعه اسقطت جنه ارضا من قوتها.
صفعه كانت بدايه لقتل طفولتها.
بل البدايه لكل سئ بحياتها.
وصلها صوت كوثر رغم طنين اذنها اثر الصفعه بغضب ربما كان مكتوما عشر اعوام ليتفجر الان: انا قولت محدش يخالف اوامري و كل مره هتقولي على حاجه لا هتلاقي مني حاجه هتوجعك قوي، ثم صاحت بأعلي ما تملك من صوت بها: سامعه؟

انتفضت جنه و انهمرت دموعها رغما عنها فلم يضربها احد من قبل مطلقا.
الان فقط ادركت انها بقيت بلا اهل.
ادركت انها بلا حضن يحتويها.
ادركت انها لن تستطيع التدلل بعد الان.
ادركت اخيرا معني ان تكون يتيمه.
و ما اقساه من معنى.
كل شئ تدمر، بدايه من طفولتها، حلم والدتها الذي عبرت عنه في رسائلها بأن تصبح جنه طبيبه.
لا تدري ان كانت ستري اخيها مجددا او لا؟
لا تدري هل ستتواصل مع صديق ابيها ام لا؟

فقط تدري انها خسرت، خسرت كل شئ.
و
الاسوء انها خسرت نفسها.

بعد مرور عشر اعوام
تتسلل الشمس بهدوء كفتاه خجوله لتبدأ بنشر اشعتها ببطء لتنير كل المكان، كان يتابعها من النافذه عيون صافيه باسمه، عيون بقدر جمالها يغزوها حزن أليم و لكن على وجهها ابتسامه هادئه و هي تراقب تلك المتسلله لتغزو وجهها و هي تطلق تنهيده حاره فهي تعشق مراقبه الشمس صباحا كما كانت تفعل دائما مع والدها بعد صلاه الفجر.

ابتسمت لتلك الذكري الجميله التي مرت بخاطرها و همست: صباح الخير يا بابا، صباح الخير يا ماما صمتت ثواني قبل ان تهمس: وحشتوني قوى.

تنهدت بابتسامه خفيفه و اغلقت النافذه عائده لغرفتها رتبت فراشها و ابدلت ملابس النوم و عندها استمعت لصوت طرق على باب غرفتها فزعت قليلا و لكنها تذكرت انها عاده تلك السيده الطيبه التي تعدي عمرها الخمسين عاما ليترك الزمن اثاره بوضوح على ملامحها و ترسم كل تجربه مرت بها خطوطها ببراعه على وجهها المنكمش.
فتحت جنه الباب لتبتسم في وجه الداده زهره قائله بتحيه صادقه: صباح الخير يا ست الكل.

لتبادلها زهره الابتسامه بابتسامه اوسع و هي تجيب التحيه: صباح الفل يا ست البنات معلش صحيتك بس انتِ عارفه النظام يا بنتي غصب عني.
ابتسمت جنه بهدوء و هي تجلس على جانب الفراش لتُجلسها بجوارها: على فكره بقي انتِ بتقولى لي الكلمتين دول كل يوم، و انا اقولك اني مبنمش بعد الفجر اصلا بحب اشوف الشروق..
ثم اقتربت منها هامسه: وبعدين احنا اتعودنا عليهم ولا لسه هنتجدد يعنى!

غمزتها زهره بضحكه و هي تهتف باستهزاء: قصدك ثلاثي الغجر!
لتنطلق ضحكات جنه برقه و هي تمسك بيد زهره لتنطلقا لداخل المطبخ متمتمه: يلا بدل ما نسمع كلمتين ملهمش لازمه.
دلفا سويا وبدأوا باعداد الافطار وهم يتناقشون بهدوء، بينما جنه تستعيد ذكريات حياتها طوال ما مر من اعوام.

كانت تقرأ رسائل والدتها باستمرار فلقد كانت تطمئنها و تمنحها القوه فهي نصائح امرأه مكلومه واجهت الموت وجه لوجه، و الجديد و الذي منحها شعورا و لو بسيطا بوجود والداها معها هو قراءتها لرسائل والدتها لابيها و التي منحتها معني جميلا للحب، معني جميلا للحياه بقرب من نحب، فكانت تسرق لحظات من يومها لتقرأ فلم يكن هناك اغلي من تلك اللحظات على روحها.

احضرت كوثر زهره تلك السيده الطيبه التي اهتمت بالمنزل و كانت جنه معها منذ وجودها في هذا المنزل فكانت بمثابه ام لها، هي من ربتها و اعتنت بها حتى اصبحت فتاه في ريعان شبابها، نعم تفتقد والداها كثيرا و لكن وجود زهره هون عليها الكثير و الكثير.

لم تكن على علاقه وطيده ببنات كوثر فهي اكتفت بزهره عائله لها و لم تفكر في غيرها، اما عن دراستها فاللاسف لم تستطع اكمالها و ذلك ما حاولت تغيره عده مرات او بالاصح الاف المرات ولكن كان تنتهي كل مناقشه في ذلك الامر بعقاب حاد لها.
مرت العشر اعوام على جنه و رغم خسارتها لكثير من الامور - اهمها دراستها اذا استطعنا غض الطرف عن طفولتها - لم تستلم بل سلكت طريقا اخر ربما منحها مكسبا و ان كان ضئيلا.

حاولت الهرب من ذلك المنزل عده مرات و لكنها خوفا تتراجع حتى استجمعت كل شجاعتها و خرجت من المنزل و كان هدفها بلا رجعه و لكنها توقفت امام مكتبه عامه بالشارع المقابل لمنزلهم، اخذت تتأملها بانبهار حتى وجدت من يضع يده على كتفها فاستدارت بفزع مع شهقه خوف فارقت شفتيها لتجدها سيده تبدو في اوائل الثلاثينات من عمرها تقريبا، يبدو على ملامحها الحنان والهدوء و دار بينهم حوار غير من حياه جنه تماما.
Flash back.

نظرت اليها السيده بأسف قائله بصوت حاني: انا اسفه خضيتك، بس انتِ واقفه ليه كده! بتعملي ايه هنا؟
نظرت اليها جنه بخوف و صمتت ناظره للارض فرفعت السيده وجهها و انخفضت بجسدها لمستوي جنه ماسحه على رأسها بهدوء متمتمه: متخافيش، انتِ تايهه؟

هزت جنه رأسها بهدوء يمينا و يسارا بمعني لا و هي ترمق السيده بنظره حذره، فابتسمت السيده و هي تجلس على مدخل المكتبه لتجعل جنه تقف امامها لتردف و هي تشملها بنظرات طيبه: قوليلي طيب انتِ اسمك ايه؟
نظرت اليها جنه قليلا ثم تمتمت بخفوت: جنه.
اتسعت ابتسامه السيده لتهتف باعجاب واضح: الله اسمك جميل قوي يا جنه..
ثم مدت يدها مصافحه معرفه هي الاخري عن نفسها: انا اسمي هاله.

بدأت جنه تشعر بالارتياح قليلا لها فرفعت رأسها لها و قالت بابتسامه باهته: و انتِ كمان اسمك جميل..
ضحكت هاله ثم اشارت على زجاج المكتبه الذي تظهر الكتب من خلفه مستفسره: بتتفرجي على الكتب ليه! انتِ بتحبي تقرأى؟
نظرت جنه للكتب قليلا قم نظرت للارض قائله بنبره منكسره: لا، بس بابا كان بيحب يقرأ.
رمقتها هاله بتعجب هامسه: كان! ليه كان؟
نظرت جنه للارض مجددا و اغرورقت عيناها بالدموع هامسه ببطء: لان بابا مات..

عقدت هاله حاجبيها بحزن و قالت: انا اسفه ربنا يرحمه.
ثم اضافت بحسم و مازالت على تعجبها: طيب ليه واقفه لوحدك فين ماما؟
هنا تساقطت دموعها وهي تهمس بصوت بالكاد سمعته هاله: ماما كمان ماتت، انا عايشه مع مراه بابا.
شهقه صغيره خرجت من فم هاله رغما عنها و هي تنظر لجنه بشفقه و لم تقاوم رغبتها فاحتضنتها قائله بأسي: حبيبتي، انا اسفه و الله اسفه..

ثم ابتعدت عنها و مسحت دموعها بخفه و حاولت تغيير الموضوع قائله و هي تحاول التغلب على الالم الذي احست بيه من اجلها: طيب كنتِ بتبصي على الكتب الكبيره دي ليه؟
اشارت جنه على مجلد كبير يحتوي غلافه على صوره لاجهزه جسم الانسان و بجواره طبيب يرتدي المعطف الابيض و السماعه الطبيه حول عنقه و تمتمت بشبح ابتسامه: علشان كان نفسي ابقي دكتوره.

فقالت هاله بحنان و هي ايضا تتعجب يأس الطفله بهذا الشكل: و ليه كان! طيب ما تجتهدي و تبقي دكتوره ايه المشكله؟
ابتسمت جنه بألم ظهر جليا على وجهها و هتفت بسخط: انا كنت هتفوق فعلا بس لو بروح المدرسه.
حدقت بها هاله بدهشه و عقد لسانها من الصدمه و هي ترمقها بنظرات مشفقه.
كيف لطفله مثلها ان تحمل عينها كل هذا الالم و الوجع!

و عندما لاحظت جنه اشفاقها ابتسمت لها بهدوء هاتفه و هى تتحرك لتغادر المكان ذاهبه للامكان: بعد اذنك انا لازم امشى.
امسكت هاله بيدها و اخذت وعد على نفسها تساعدها بما تستطيع و لكنها اخذت وعد اخر بألا تسألها عن اي شئ يخص حياتها فهي لا تريد ان تصدمها طفله بواقع اخر مرير.
غمزتها هاله بشغب و صاحت و هي تشير على مدخل المكتبه: تحبي تدخلي تشوفي المكتبه من جوه؟

نظرت اليها جنه بدهشه و لكن سرعان ما تحولت نظراتها لسعاده مطلقه و هزت رأسها بنعم
Back.

و من هنا بدأت جنه رحله تعليمها، اكتشفت ان هاله تدير المكتبه هي و زوجها اسامه ، وقد كانا نعم العون لها، ساعدها لتتعلم، ربما لم تصل و لن تصل لحلم والدتها و لكنها فعلت كل ما تستطيع لتثقف نفسها، و الان و بعد عشر اعوام تكاد تجزم ان ما تعلمته يفوق بكثير ما كانت ستتعلمه بالمدرسه، لم تترك مجالا من المجالات لم تقرأ به حتى وصلت الان لشئ ربما ان اكملت دراستها لم تكن لتصل اليه..

اما اكرم فا للاسف لم تعرف شيئا عنه، لا مكانه الان و لا هاتفه و لا حتى كيف اصبح مظهره، و كذلك صلتها بصديق والدها و محاميه انقطعت تماما، حاولت اكثر من مره الوصول اليه بالخارج و لكنها فشلت فما كان بيدها إلا ان تنتظره و ان تأخر مائه عام.

و لكن ما يقلقها و بنفس الوقت يطمئنها، يخيفها و في الوقت ذاته يمنحها الامان، ذلك الحلم الذي يراودها منذ 10 سنوات، 10 سنوات تنهض يوميا الساعه الرابعه فجرا على حلم غريب لا تستطيع تفسيره، حلم تعبت هي من كثره تفكيرها، حلم يشبه كثير حلم سندريلا بل كل فتاه و لكن لما يلازمها طوال هذه الاعوام لا تدرى!

اما ميراثها فلقد تنازلت عنه طواعيه، ربما اُجبرت و لكنها لم تفكر مرتين، فلقد خيرتها كوثر هانم كما تناديها مؤخرا اما تمنحها التنازل لتستمر حياتها على نفس المنوال و اما ستدمرها و تمنع مجرد خروجها من غرفتها، فلم تكن جنه بحاجه للتفكير فهى اعتادت الخضوع و فعلت، تنازلت مجبره او طواعيه لا فارق فهي في حياتها من هم افضل و اغلي زهره و هاله و زوجها يكفي ان تكون و تظل بجوارهم فقط.

و امام ذلك المنزل الريفي يقف شاب قد تجاوز الثلاثين من عمره، يمتلك عين والده البنيه الداكنه، شعره الاسود، ملامحه رجوليه بحته، نظراته حنونه و لكن يغزوها ألم كبير. يتطلع لمنزل والداه كما يفعل باستمرار منذ عده اعوام.

عاد اكرم من الخارج و هو لا يعلم عن وفاه والده بعدما انهي دراسته متخليا عن فكره عمله و استقراره بالخارج، ليُصدم بالواقع الذي غاب عنه فتره طويله جدا، كان اول من لجأ اليه صديق و محامي والده الذي اخبره كل ما يعرف بدايه من وفاه ابيه حتى انقطاع اخبار زوجه ابيه عنه، اخبره ان زوجه ابيه باعت اسهم والده و بدأت بعمل جديد لا يعرف ماهيته و لم تخبره عن مسكنهم او حتى تهاتفه و لو لمره و رغم كل محاولاته ليعرف عنهم اي شئ لم يستطع.

شعر اكرم بتأنيب الضمير يكاد يقتله، هو لم يقصر في حق والده فقط بل في حق شقيقته و الاسوء في حق والدته، و الدته التي كانت تأمنه على شقيقته في نهايه كل خطاب له.
قرر البحث عنها بكل ما أوتي من قوه و لكنه فشل، القاهره ليست بمكان صغير يسهل البحث فيه.
سنوات و سنوات و هو يبحث لم يترك شركه في مجال الهندسه الا و بحث عنها المكاتب الهندسيه! المعماريه! و الديكور! و غيرها..

بحث كثيرا و لكن لا اثر لشركه والده كأن اسم الالفي مُحي تماما من مجال الهندسه و حتى اسم كوثر الحديدي لم يكن له وجودا بمجال الهندسه.
هو كان صغير بالسن يصل عمره لمنتصف العشرينات فلم يجد من يأبه له او يساعده.
لم يجد احد بجواره ليسانده، لم يجد حضن امه ليحتويه، لم يجد ذراع ابيه ليستمد منه قوه و لم يجد شغب شقيقته ليستمد منه حياه.

مرت سنوات و لم يستطع حتى الاطمئنان عليها فكان يأتي باستمرار لمنزل والده لعله في يوم يراها فيه و لكن لم يحدث هذا.

بالطبع لم تكف محاولاته إلى الان لمعرفه مكانها حتى انه استقر بالقاهره و بدأ بانشاء عمله الخاص فميراثه من والده ساعده كثيرا فبدأ من الصفر وساعده انه كان نسخه مصغره من والده يحمل نفس اصراره و عزيمته القويه بالاضافه لدراسته بالخارج و التي منحته ميزه اضافيه حتى استطاع النهوض بنفسه و حياته مع كامل محاولاته للوصول لشقيقته لعله في يوم يجتمع معها مره اخرى.

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة