قصص و روايات - قصص رومانسية :

رواية حلم السندريلا للكاتبة عليا حمدي الفصل الثامن والأربعون

رواية حلم السندريلا للكاتبة عليا حمدي الفصل الثامن والأربعون

رواية حلم السندريلا للكاتبة عليا حمدي الفصل الثامن والأربعون

الحقيقه قد تؤلمنا، و لكنها لا تسمح بأن نبقى مغفلين طويلا..

داخل المنزل يجلس الجميع بجو يملؤه التوتر و الترقب فكلمات عاصم المقتضبه لا تمنح احد السكينه او الوضوح الكافى، كان نظر الجميع مُركز على نجلاء التى بدأ التوجس يؤرقها و هى تتخيل اسوء ما يُحتمل ان يصير، نظرات الجميع تخبرها ان الامر اكبر من مجرد توزيع إرث او قراءه وصيه، فلما يلجأ والدها لهذا التجمع و الذى جمع هاله و اسامه ايضا بل و الاربع عائلات جميعا، الامر اكبر مما توقعت بكثير..

كان عاصم يقف بثبات بجوار الدرج مستندا على سياجه بمرفقه يحاول وضع اسوء الاحتمالات لنهايه هذا اليوم، فقط فليأتى اكرم و لن يتأخر اكثر فهذا الانتظار يفقده هدوءه و خاصه و نجلاء هنا في مرمى بصره، يده و مجبرا هو التماسك، حتى انتهى انتظاره بوصول اكرم و مها لهناك و مجرد ان دلفوا للمنزل اصابتهم شحنه التوتر التى ملئت المكان من حولهم...

جلس الجميع و عم الصمت للحظات من الوقت كانت كفيله بزياده الارتباك و التوتر حتى فقدت نجلاء اخر محاولاتها للتمسك بهدوءها و هتفت بضيق و نفاذ صبر: هو في ايه؟

ثم نظرت لابيها الذى كان يتماسك بأعجوبه من قتلها الان و هو يرى بها صورتها المدنسه و شرفه الملطخ بينما يرى بصوره ابنه صوره ذنبه الذى يتلوى به حسره و ندما و ما بين سيف الشرف الذى اعتقد انه حفظه و بين نصل الغدر الذى اصابه تاه هو و تاهت معه قوته بل و كلماته...
افاق على كلماتها التى تقطر قلقا: ليه التأخير ده يا حاج؟ مش احنا متجمعين علشان الوصيه؟

نظر اليها بتعجب ليتمتم باستنكار: وصيه ايه دى..! انتِ رايده تورثينى بالحيا و لا ايه عاد؟
عقدت حاجبيها تعجبا ليصلها الرد بأسرع مما توقعت عندما اقترب عاصم منها عده خطوات قائلا بتمهل قاسى: مستعجله على ايه؟ هتفهمى كل حاجه، و حالا..
حتى توقف امامها ليتسائل بحده و عيناه تخبرها ان الامر ليس الا جحيم اتت اليه بقدمها: عندى سؤال واحد نفسى اعرف اجابته..!

نظرت اليه بترقب لما سيسأل حتى فاجأها بسؤاله الذى استحوذ على دهشه الجميع باستثناء اكرم و مازن الذى ادرك من خلاله ان عاصم قرر التصريح الكامل و الواضح للحقيقه: اتطلقتِ ليه؟
انكمش وجهها بقوه و عينها ترتجف بتوجس خفى من سبب سؤاله و دون اى مقدمات استدارت بعنف لزوجها و الذى ابتسم بسخريه مريره متذكرا ما حدث منذ اعوام مرت لتعقد حاجبيها مدركه ان الامر مجرد مكيده لتحضر..

التجمع للوصيه مجرد عذرٍ لكشف الماضى امام الجميع، و امام صمتها اكتوى عاصم بنار غضبه و الذى يحاول كبته حتى لا يصل به لتصرف لا تحمد عواقبه...
حتى نهضت نجلاء بعنف ممسكه بحقيبه يدها و هى تهتف بغضب و تتحرك للخارج بمحاوله للتهرب: انا مش فاضيه للكلام ده، و انا غلطانه انى جيت اصلا..

و لكن يد عاصم التى قبضت على معصمها بقوه غضبه جعلتها تصرخ ألما و هى تحاول جذب يدها و لكنه لم يمنحها الفرصه و تمتم ببطء: انا عارف انك مش فاضيه و وراكِ حياه ناس لسه عاوزه تدميرها، بس معلش هناخذ من وقتك شويه...
ثم اقترب منها و عينه ترميها بحمم بركانيه مشتعله غضبا و توعد ليهمس بصوت بالكاد يُسمع و لكنه كان كالطنين بأذنها: اما من ناحيه غلطانه فانتِ غلطانه جدا انك جيتِ...!

دفعها لتجلس على مقعدها و ضرب كفيه احدهما بالاخر ناظرا للجميع قائلا بنبرته المسيطره و الثابته رغم ما يموج بنفسه من خوف، قلق و ترقب: انا طلبت نتجمع النهارده علشان الكل يعرف الحقيقه، الحقيقه اللى دمرت حياه اربع اشخاص زمان و كانت السبب في تدمير حياه ولادهم بعدين، الحقيقه اللى معظمنا عارفين قشور عنها و البعض ميعرفش حاجه..

ثم عاد ببصره لنجلاء التى هربت الدماء من وجهها ليشحب بقوه ارتباكها ليهتف بحده شديده: تحبى نبدأ من القديم و لا الجديد؟ تحبى ارجع لثلاثين سنه و لا افضل في دلوقتى احسن؟ تحبى احكى عن جذور الشجره اللى قلعتيها و لا عن اغصانها اللى كسرتيها واحد ورا التانى؟

ازدردت ريقها بصعوبه ليهمس هو بصوت خافت و الالم يكسوه رغما عنه متذكرا فارس الذى ابتعد عنهم قضاءا و قدرا و لكن جعلها الله سببا في ذلك: تحبى نتكلم عن خسارتنا و لا خساره اهالينا لينا؟
ازداد الجو توترا، ارتباكا و رغم توقع الجميع للسئ لم يتخيل احد ما ستؤول اليه الامور و الذى كان اسوء و اسوء...
اقترب عاصم من زوجها حامد السروى ليقول بتساؤل هو اكثر من يملك اجابته تفصيلا: ممكن نسمع منك انت ليه طلقتها؟

اخذ حامد نفسا عميقا و عين الجميع تراقبه حتى تمتتم بهدوء نافى ذكرياته التى عادت لذلك اليوم الذى طلقها فيه بعد صفعه كانت امضاء النهايه لعلاقتهم التى ظلت اعوام متذبذبه و خاصه بعد ولاده مها و نفور نجلاء منها بسبب عجزها رغم طفولتها و جمالها الذى خطف قلوب الجميع ايلاها: بلاش تدور في الماضى يا سياده النقيب محدش هيستفاد حاجه بالعكس الكل هيتأذى..

ضحك عاصم بملئ صوته غضبا و هو يمنح الجميع الخلاصه قائلا باستنكار ساخر: علشان خاينه مثلا!

شهقت هبه بصدمه و خاصه عندما انتفض معتز جوارها ليهم بالصراخ بعاصم و لكن صمت الجميع اوقفه، صمت امين - الرجل الصعيدى الذى لا يسمع لاحد بمس شرفه -، صمت عز - اخيها الذى لم يتحمل ان تخطئ ابنته ليزوجها قسرا كما سمع من والدته من قبل -، صمت والده - الذى ادعى ان الماضى سيؤذيهم -، و اخيرا صمتها هى نفسها - والدته - و الذى اخبره ان ما يُقال حقيقه، فمن اين له بصوت يخرج؟ من اين له بكلمه يدافع بها؟ من اين و هى من خاضت في حياته، عبثت بشرفه و سعادته عندما بعثت بأخرى لحياته فتجمد مكانه امام نظرات عاصم الغاضبه و المؤازره في الوقت ذاته، بالاضافه لان عاصم لا يقول كلمه الا بعدما يتيقن يقينا منها!

بينما تجمدت ملامح مها فنظر اكرم اليها و هو يشعر ببروده مفاجئه في كفها الذى احتضنه بكفه فضغطه بقوه حتى التفتت له بعينين ذاهلتين و ملامح شاحبه شحوب الموتى فبدأ قلبه يقلقه اكثر..
هبت نجلاء واقفه و لكن اقتراب عاصم منها جعلها تسقط جالسه مجددا و هو يهتف بتساؤل: مدام امل عرفت عن خيانتك فاتهمتيها في شرفها لحد ما الحاج مجدى طردها، صح؟

اغلقت نجلاء عينها و هى تعود لذكريات الماضى البعيد فيما استرد هو شارحا ما عرفه بصوت يحمل من الغضب بقدر ما يحمل من الوجع: من ثلاثين سنه كانت صحوبيه الاربع بنات اساسها تجمع الاربع عائلات عمتى، مدام امل، ماما و مدام هاله ، كانوا دائما سوا لحد الثانويه العامه و اللى فرقت بينهم بمجموعاتهم و كانت بذره الغل و الحقد الاولى، ماما قدرت تحقق حلمها و تبقى دكتوره، و مدام هاله قدرت تحقق حلمها و تدخل كليه التربيه، و مدام امل مجموعها كان يساعدها تدخل فنون جميله و اللى كانت حلم حياتها لانها من عشاق الرسم بس عمتى مقدرتش تدخلها و علشان كده اتنازلت مدام امل عن حلمها و فضلت صداقتها مع عمتى و دخلوا سوا أداب بس عمتى مكنش هدفها دراسه فكانت دائما تنجح بالعافيه لكن مدام امل دائما تنجح بامتياز، و دى كانت بذره الغل و الحقد التانيه، بدأت خلافات كبيره تحصل بين مدام هاله و عمتى لان مدام هاله بشخصيتها القويه و المنفرده مصدر تميز لها على عكس عمتى باستسلامها لواقع حياتها فدائما الصدام بينهم كان كبير، و دى بذره الغل و الحقد الثالثه...

صمت عاصم ثوانى و لكن نجلاء مازالت في ذكرياتها و كل كلمه منه يؤمن عليها قلبها صدقا و ربما ربما جزءا طفيفا من الندم و لكن من تغلب عليه شيطان روحه لا حاجه لملاك الندم داخل قلبه...
اردف عاصم و هو يغلق عينيه بقوه و عجز ما يصيبه، صوت ما يخبره ألا يفعل!.
ما الذى سيجنيه الجميع من هذا، هناك قلوب غاليه عليه جدا ستُحطم!

ولكن من حق الجميع معرفه الحقيقه، من حق الجميع معرفه ما مضى و لعلها تكون صفحه جديده في كتاب الحياه، ثم انه لم يعد هناك وقت للتراجع فالرمح انطلق و لم يعد هناك مجال للرجوع: جدى امين و الحاج مدحت اتفقوا على جواز عمى اسامه و مدام هاله و دى كانت رغبه الاتنين بعيدا عن اى مصالح بس بشرط، انه جوازهم يبقى بعد جواز المصلحه اللى كان واجب يتم بين بابا و مااما لمصالح مشتركه بين عيله الالفى و عيله الحصرى و اللى اتفرض نفسه على عمى محمد و مدام نهال علشان المصالح بين عيله الشرقاوى و عيله العسوى، و اللى كان بدون رغبه الاربعه و لكن تحت ضغط الاهل اضطروا يستجيبوا، و على هذا و بعد ما العلاقات اتحسنت و كربط كلام كان في رغبه لجمع خالى ماجد مع عمتى نجلاء، و دا اللى رفضه خالى ماجد بسبب حبه لمدام امل و دى كانت الضربه القاضيه لعمتى و اللى بدأت من عندها تظهر غلها و حقدها عليهم، مش لانها بتحب خالى او كانت عاوزاه لا خالص، لانها اترفضت و دا كبر جواها احساس بنقص، هى كانت عاوزاه يوافق و هى ترفض و لكن للاسف حصل العكس، و في الوقت نفسه اتقدم لها الاستاذ حامد برغبه جباره في عقد الجواز ده لانه رايدها فعلا، و لانها خسرت اللى بتحبه و اللى رخصت نفسها علشانه وفقت...

صمت عاصم لحظات ليُفجر بعدها القنبله الكبرى عندما صرح عن السبب الرئيسى لكره نجلاء: حبها اللى باعت نفسها، كرامتها و عيلتها بأرخص ثمن علشانه، ثم استدار ناظرا للمقصود بكلامه متمتما و هو يكز اسنانه بقوه: الحاج عبد الرحمن العسوى..

انتفضت حياه في جلستها بينما اغلقت زوجته عينها و هى مدركه لما يقول و الذى تعرفه و لكن لا يعرف احد معرفتها للامر، بينما جحظت عين امين و عز و هما يطالعان عبد الرحمن الذى كاد يخفى وجهه بين طيات ملابسه ليبتعد عن نظراتهم...

لم يصمت عاصم عند هذا الحد بل ادرف و روحه تُستنزف بشده: وعد بالجواز، صحوبيه على الماشى، مقابلات في الخفى، لحد ما اتعلقت بيه و اتعلق بيها لكن جوازه كان مانع لعلاقه جديده بتربطه بيها فبعد و ادعى الانشغال عنها طبعا خوف من بطش كباره العيله، ثانيا رغبه مريضه معرفش فكر فيها ازاى! بالحفاظ على مراته و بيته...

فتحت نجلاء عينها اخيرا لتنظر لعبد الرحمن الذى كان في اكثر حالاته خجلا و خزيا و امتلئت عينها بالدموع و التى صاحبها ابتسامه ساخره عبرت بوضوح عن جرح قلبها مما فعله بها ليردف عاصم بنفس النبره المستحقره: و في الفتره دى التفت كل منهم لحياته، هى استسلمت للامر الواقع و وافقت على الاستاذ حامد، وهو اهتم ببيته و مراته، و مرت الشهور كل واحد منهم بيتجنب التانى لحد ما ربنا رزق عمتى بمها، كانت فرحه كبيره للعيله لكن لأمها لا، ليه لانها ببساطه بتحب حد تانى و كارهه يبقى ليها ولاد من حامد و استغلت عجزها ذريعه علشان تتجنب التعامل معاها لا و رفضت رضاعتها و العنايه بيها، و قامت امى بالدور ده لانى وقتها كنت مولود قبل منها بسنه تقريبا، و دا زود كره عمتى ليها و لينا اكتر، مرت بعدها سنين و كل حد مشغول بحياته وجه وقت جواز مدام هاله و عمى اسامه و اللى كانت نجلاء هانم معرضاه بشده للخلافات اللى بينهم بس و للاسف جدى اختار الوقت الغلط علشان يعلن عن رغبته...

اخذ نفسا عميقا مردفا بعتاب مشوب بالغضب: اعلن انه هيكتب اراضيه و املاكه بالنص بين والدى و عمى اسامه، و عمتى تعيش في حمايتهم و يصرفوا عليها لانه كان متأكد ان الاستاذ حامد مش هيقصر في طلباتها لانه بيعتبرها جزء لا يتجزأ منه رغم المشاكل اللى بينهم و اللى كان المعظم عارف عنها و دا اعلن النهايه لطاقه نجلاء هانم، و كانت نقطه الصفر!

نظر عاصم لنجلاء التى كانت تنظر لعبد الرحمن بحزن لاول مره يلون وجهها بهذا الشكل و تمتم بخزى من نفسه لقوله هذا و خزى منها و من الامور التى دفعته لكل هذا: و من هنا فكرت عمتى ازاى تكسب فلوس و ورث ابوها اللى حرمها منه بدون وجه حق و تنفى اخواتها تماما علشان تبقى هى كل حاجه و الكل في الكل، مهو الاحساس بالنقص دائما بيبقى معاه طمع اللى خلاها تفكر في سرقه الكل حتى في ابسط حقوقهم، و في نفس الوقت تقريبا و في انشغالات الفرح و استعداداته حصل قرب تانى بين الحاج عبد الرحمن و عمتى، قرب كانت نهايته علاق..

صمت عاجزا عن اكمال ما ينوى قوله و لكن شكله المنفر و نظراته المستحقره اوصلت للجميع مقصده عندما اردف هو: و للاسف مدام امل عرفت عن الموضوع ده، من ناحيه صاحبتها و من ناحيه اخوها، واجهت عمتى بالذوق مره، بالنصيحه مره و بالقوه مره لحد ما قررت تهددها يمكن تتعظ و تبعد عن الطريق اللى مشيت فيه، لكن للاسف كانت اضعف من انها تواجه اخوها و تمنعه، و بعد الموضوع ده بفتره بسيطه و قبل الفرح بيومين تقريبا عرفت عمتى انها حامل في معتز بس للاسف مكنتش متأكده مين والده!، لكن مدام امل لما عرفت بالحمل خافت يكون ابن اخوها و يتكتب باسم حد تانى و تبقى قضيه نسب، لا شرع و لا قانون هيقبل بكده فا قررت تنصحها تانى و لما عمتى تغاضت عن كل ده و فرحتها بابن من الحب الاول قالها بسخريه لاذعه اعمت عينها عن اى صح او مفروض او حتى حلال و حرام، و زى ما ضربت بكل حاجه عرض الحائط علشان تبقى على العلاقه دى، تجاهلت موضوع الحمل تماما..

ازدرد ريقه و هو ينظر لنقطه وهميه غير قادرا على رفع عينه لوجه احد و خاصه مها و معتز بالاضافه لحياه و اكمل: مدام امل ما تحملتش الموضوع و صممت على ان عمتى تعرف جوزها الحقيقه و تبعد عن الطريق ده و إلا مدام امل مش هتسكت، فعمتى خافت، و لسبب ما مجهول حصل خلاف كبير جدا بين الحاج عبد الرحمن و عمتى، فاتجمعت كل حاجه في نقطه واحده، اولا عدم رغبتها في جواز عمى اسامه و مدام هاله، ثانيا ضغط مدام امل عليها و معرفتها للوضع اللى هى فيه و اللى اهلها لو شموا خبر عنه هيقتلوها بدون تفكير، و ثالثا الخلاف بينها و بين الحاج عبد الرحمن، و علشان تضرب كل ده بجحر واحد، فكرت لحد ما لقت حل استنتجته بعد تفكير من المستنقع اللى هى فيه، مستنقع القرف، فدبرت خطه لطيفه جدا لمدام امل مع عمى اسامه علشان تدمر كل حاجه، اولا الجوازه تبوظ، ثانيا مدام امل محدش يصدقها لانها في وضع لا تُحصد عليه، و ثالثا توجع الحاج عبد الرحمن في اخته و اللى كان متأكد من براءتها، و فعلا نجحت، و بكل بساطه الحاج مجدى صدق في بنته و شكك في نسب اكرم لخالى ماجد، و صدق الحاج امين طيش ابنه و حصل خلاف كبير جدا بين عيله العسوى و عيله الحصرى و اتقطعت العلاقات، بس مدام هاله و خالى ماجد مصدقوش و كل واحد فيهم اتمسك بحقه في شريك حياته، و لما الحاج مدحت رفض جواز بنته من راجل خاين، مدام هاله اعترضت و قرر عمى اسامه يهرب بيها لانه اصلا كان عاقد عليها و من هنا اتقطعت العلاقات كامله مكمله بعد مشاجره كبيره جدا بين عيله الشرقاوى و عيله الحصرى و كانت دى النقطه الفاصله، و لما طلب الحاج عبد الحميد من ابنه يطلق مدام امل و يتخلى عن ابنه او يتأكد من نسبه، خالى رفض و عارض والده و اللى بدوره حرمه من ميراثه و اسمه و منصبه و طرده من بيته و اعتبره هو و اسرته عار عليه، و لما الحاج مجدى حس ان راسه بقت في التراب حاول يقتل بنته و اكرم بدون اى رحمه او تفكير بس خالى عرف ينقذها و هو كمان هرب بيها و سابوا كل امور العيله وراهم بدون تفكير...

زفر عاصم بقوه و صوته يكاد يختفى من حديثه التى ألم روحه اشد الالم ثم تمتم بشرود: قدرت بخطه بسيطه جدا تفرق الكل، بس مدام امل قبل ما تمشى قررت تخلص ضميرها و تنقذ شرف الاستاذ حامد من تعلقه بواحده لا صانته و لا صانت اهلها و لا صانت شرفها فقابلته و قالتله على كل اللى هى تعرفه و من هنا حصلت مواجهه بين عمتى و جوزها و تمسكا بقوتها و لامبالاتها مأنكرتش، لانها لما لقت ان السفينه ممكن تغرق مش هتغرق لوحدها كفايه ان يغرق معاها الحاج عبد الرحمن و لانها كانت واثقه ان الاستاذ حامد بأخلاقه العاليه مش هيحاول يشوه سمعتها او سمعه راجل استحل عرضه، و انتهت المقابله بقلم انهى كل حاجه بعد ما اعترافها أكد ان اللى في بطنها مش ابنه، و دا بيبرر بُعده و سفره المفاجئ و لولا ملامح مها الغربيه اللى ورثتها عن اصوله الاجنبيه كان هيشكك في نسبها كمان...

صمت عاصم صمت اطبق عليهم جميعا، كبار العائلات يعرفون معظم هذه التفاصيل و ليس كليتها و لكن ما واجهته امل معها و ما فعله عبد الرحمن لا يعرفه احد و لم يتخيله احد..

لم يمنح عاصم الفرص لهم بالتفكير او ربما الاستيعاب فألقى بالنصل الجديد: بس بعد كده مدام نجلاء مكتفتش، بعد ثلاثين سنه و لما ظهر اكرم و جنه في حياتنا و بدأت خيوط العيله تتجمع بجواز حنين و فارس، بدأت تحس ان اللى عملته زمان بيتهد قدامها و دا كفيل بأن نارها تولع تانى، فالمرادى قررت تستغل و تدمر حياه ولادهم و كأن عندها مشكله في الفرحه اللى ممكن تلم شمل العيله...

زفر بقوه و هو لا يدرى من اين يبدأ؟! و عند ماذا ينتهى؟! لكن ما يعرفه جيدا ان امر قتلها لماجد الالفى لابد ان يظل مخفيا، فهو لا يدرى تأثير ذلك على جنه و لا يدرى تأثيره على اكرم، و هو لن يتحمل شرخ كبير كهذا بين مها و اكرم...
تحرك بهدوء لغرفه مجاوره ليخرج منها عده اشخاص عزت، شادى، بهجه، سالى، ثلاث رجال لم يعرفهم احد.

تجمدت حياه فور رؤيتها لشادى فأمسك مازن بيدها فهو تقريبا اقل الحضور دهشه لمعرفته بما قاله عاصم من جده من قبل، و لكنها لم تستطع التحمل فنهضت واقفه هاتفه بحده: انا عاوزه امشى؟
اغلق مازن عينه قليلا و تمتم بخفوت و نبره مهتزه بتردد و هو يضم كتفيها اليه: انا اسف بس مضطر!

قاطعه عاصم لكى لا يجعل الامر صعبا على مازن اكثر من مواجهتها بالامر وحقا شكره مازن على هذا عندما تمتم عاصم باشفاق: شادى سمع عن خيانتك له من نجلاء هانم، و اللى عملت كده انتقاما من والدك على اللى عمله زمان اللى محدش يعرفه حتى الان...
اضطربت انفاسها بحده و خطين من الدموع يسيل على وجنتيها بتشتت ثم سقطت جالسه بحاله مغيبه و كأنها انتقلت لعالم اللاوعى...

استدار مازن بتفحص للفتاه الصغيره سنا بين الحضور - بهجه - ثم نظر لحنين التى نظرت اليها بتفحص هى الاخرى ليشير اليها مازن باصبع اتهام فابتسم عاصم بسخريه متابعا نظراتهم مردفا بتهكم مرير: وهى اللى طلبت من بهجه تجمعكم سوا، علشان تدمر حياه حنين و حياتك و حياه حياه اللى بدأت تستقر معاك، و ايه السبب؟ بصراحه معرفش!

قبض مازن يديه بغضب اتضح جليا في عينيه بينما تجمدت حنين للحظات لا تدرى ما شعورها الان تحديدا و لكن هل هناك فرق بين قتلها بخنجر سام ممن يفترض انها من اقرب الاقربين اليها، ام قتلها بنصل خيانه ادت بثقها بكل من حولها بما فيهم والدها الذى كان اول من خذلها، فالموت موت و النتيجه واحده فبما تفيد الطريقه!

التفت عاصم للرجال قائلا بسخريه: اما دول بقى كانوا لعاصم الحصرى نفسه، دول اللى اتسببوا بأنى اتعمى بعد ما نجلاء هانم شعللت غضبى من مراتى علشان اروح لها و للاسف استجبت لها...
شهقت ليلى بلوعه و هى لا تكاد تصدق ما تسمعه، بينما كز عز على اسنانه بغضب و هو يرمقها بأسف و خزى و غضب ملئ روحه من امرأه ليست من بنى الانس و لا حتى الشياطين...

نظر عاصم لمعتز الذى تجسد اشد انواع الالم بعينيه و هبه بجواره تتطالعه بخوف حقيقى مس قلبها واجزعه فتمتم بأسف: انا مش عارف اقول ايه ان...
قاطعته سالى و لاول مره تشعر انها كانت مجرد لعبه بيد امرأه خُلقت لتلعب بقلوب البشر و تمتمت بخزى من نفسها و مما فعلت: معتز عارف عن اللى حصل بسببها له.
صمت عاصم ضاغطا خصلات شعره بعنف و هو يرى حال معتز الذى كان اكثر الحضور تشتتا و وجعا، حتى الان!
أهل ما يمر به الان ألم؟

لا و الله ما يشعر به ليس له وصف و تتجمد الحروف عجزا لتجميع كلمات تمنحه حق شعوره!
شعور اشبه بغريق تجذبه المياه بقوه ليشعر بكل انفاسه تخرج نفسا نفسا،
شعور من يُسلخ جلده حيا و هو يشعر بكل نقطه دماء تقطر منه نقطه نقطه،
شعور من يُحرق حيا و هو يشعر بخلايا جسده تنصهر خليه خليه؟!

اغلق عينه و يا ليته لم يفعل فما احتاجه الان من شعور اشعل نيران صدره و اضنى روحه التى تشبعت بالسواد، كان اكبر من تحمله، اكبر من قدرته على الاستيعاب، تحمل ما يكفيه طوال عمره و لكن تلك هى القشه التى قصمت ظهر البعير و ما اقسى كسر الرجال؟
تمتم عاصم اخيرا بصوت خفيض و كأنه ينهى حديثه الذى ارهق روحه كثيرا: هى اللى بعتت واحد يهدد سلمى علشان جوازها يفشل و امجد يتخلى عنها..

شهقت سلمى بفزع متذكره ذلك اليوم الذى اصابها فيه من الخوف ما لم تعرفه بحياتها مطلقا فضمها امجد لصدره بحنان و هو يخفى غضبه بجدراه و لو تركه احدهم لقتلها الان، ان كان هذا شعوره و هو اقل المتضررين منها ماذا كان سيفعل لو كان او زوجته ضمن خطتها الرخيصه!
و صمت عاصم و صمتت معه الكلمات لم يستطع قتل حنين و والدى فارس و شقيقيه بسر قتله، و لم يستطع قتل جنه و اكرم بسر ابيهم...!

ضعيف! ربما و لكنه لهنا و لم يعد يتحمل كلمه اخرى بوجع اخر لاى فرد من افراد العائله!
رفعت نجلاء عينها لتنظر للجميع بتشفى، روحها المريضه لم ترى من حولها شيئا سوى ما تراه على وجوههم الان و الذى سعت اليه دوما، الالم، الوجع، الحزن و شقاء الروح..

لمعت عينها بعظم انتصارها و لكن مهلا فهناك امرين لم ينطق بها ابن اخيها العزيز، و هى لن تسمح له بالانتصار حتى و ان كان الامر امرا اخرا عليها، فهى غارقه غارقه فلا فارق اذا!..
فنهضت واقفه لتصفق بيدها في حراره شديده و هى تضحك بصوت عالى ساخر لتهتف باعجاب مستنكر: براافو يا سياده النقيب براافو، قدرت تجمع كل المعلومات، و تجيب الحقيقه كامله قدام الكل لكن واضح انك نسيت او عملت ناسى حاجتين مهمين جدا...!

اقترب منها عزت مسرعا متذكرا تحذير عاصم له بعدم البوح بجرائم القتل و التى من شأنها ان تقتل الاحياء بموتاهم و همس بجوار اذنها: اسكتِ متتكلميش كلمه زياده و الا مش هيحصلك طيب!
دفعته عنها لتصرخ بهستيريا غاضبه و هى تقترب من عبد الرحمن مسرعه لتُمسك بياقه قميصه جاذبه اياه بقوه: حسستنى انى فتاه ليل و انك اخدت غرضك منى فرمتنى، يومها قولتلى انى رخيصه و ان اللى عاوزاه حصل و رميت ليا فلوس كأنك كنت شارينى..!

اشارت على نفسها بسبابتها بيدها الحره لتهتم بفخر خالطه دموعها فإن كان في حياتها امرا واحد صادقا - فهو حبها له - و ان كان هناك رغبه واحده ملحه - فهى رغبتها بقربه و بناء حياه معه - و لكن بئس الامرين فلقد دفع بها لاشر امور الدنيا و اعظم كبائر الذنوب: اتفرج عليا!، شوف عملت ايه؟

ثم اشارت على الجميع باصبعها بسخريه و مازالت دموعها تجرى دون توقف و لكن ليس ندما او توبه او حتى شعور بالذنب و لكن لانها خسرت، امتلكت كل شئ بانتقامها و لكن خسرت اغلى ما تمنت، انتصرت بذنبها و افعالها و لكنها خسرت نفسها و رغباتها، منتشيه بلذه الانتصار و مكتويه بنارها ايضا لتهتم بظفر مشوب بالخساره: كلهم شربوا من نفس الكأس اللى انا شربت منه، الكل خسر قدام السمعه و الشرف حتى لو برئ، كله عاش الوجع و الاهمال اللى انا عشته، انا رخيصه، و رخصت الكل معايا!

ثم اتجهت لحنين و مازن واقفه امامهم و هى تبدو في حاله غير طبيعيه لتهتف و هى تشير عليهما بسبابتها: عارفه، انا اللى قتلت فارس، انا اللى لونت فستانك الابيض بدم جوزك يوم فرحكم، انا اللى قتلت فرحته و فرحتك و قصمت ظهر ابوه و امه و كسرت جده و دمرتكم..

ثم ضحكت بصوت عالى مع شهقات الجميع بصدمه تملكت منهم و خاصه نهال التى كادت تفقد وعيها من اثر وقع الكلمه عليها فأكملت نجلاء بانتشاء واضح كمن تعاطى جرعه ممنوعات لتمنحه نشوه سلطانيه: انا نجحت و دمرت كل حاجه، كل حااااجه..
ارتفعت ضحكاتها مجددا وحنين تنهار ارضا بينما اتجهت هى لجنه لتقف امامها بابتسامه ساخره: فاكره لما ماجد مات، يوم ما اخدك في حضنه..

انتفضت جنه بينما اقترب اكرم منهما و جسده يرتعد قلقا على زوجته التى دخلت في حاله صدمه تامه و جنه التى كانت تحدق بها بعينين متسعتين و ملامح جامده، و قبل ان يُظهر اى رد فعل اقترب عاصم من نجلاء بقوه ممسكا عنقها بيده صارخا بصوت هادر: اقسم بالله هموتك..

حاولت تخليص نفسها من يده حتى نجحت لتبتعد عنه و هى تنظر لجنه صارخه بهستريا ضاحكه و هى بالتأكيد بعيده كل البعد عن عقلها: انا اللى دبرت العربيه اللى قتلت ماجد، انا اللى حرمته شبابه و حرمتك منه و بسببى عشتِ يتيمه طول عمرك، انا السبب..
صفعها عز بقوه لتسقط ارضا و مازالت ضحكاتها تملئ المكان بجنون بينما قلب الجميع اصبح في قلب واحد، قلب مدمر تماما...

لوْ كنتَ أنتَ مَعي و النَّاسُ غائِبةٌ
عَنّي لمَا ضَرّْني مَن غابَ أوْ هَجَرا
إنْ كنتَ حوْلي فَكلُّ النَّاسِ حاضِرةٌ
حوْلي وإنْ غِبتَ لمْ أشْعُرْ بمَن حَضَرا
العَيْنُ بَعْدَ حَبيبِ القَلبِ ما عَرفَتْ
إلا الدُّموعَ وإلا الحُزْنَ والسَّهَرا
إنَّ السَّعادةَ في ظِلِّ الحَبيبِ، فإنْ
وَلّى، تَوَلّتْ فلمْ نَلحَظْ لها أثَرا
سعيد يعقوب.

كنت هسامحك، قولت هنسى و هعيش حياتى من اول و جديد و هسامح بس دلوقتى...!
صمتت حياه بعد تلك الكلمات التى وجهتها لوالدها الذى كان يطالع الارض خجلا و جبينه يتصبب عرقا وعيناه تتطلع بنجلاء التى اصابتها حاله من هيستريا الضحك و هى تتحرك بجنون ارضا بعد تلك الصفعه التى ادمت شفتيها من يد عز و لكنها لم تبالى...

رفع عبد الرحمن رأسه لابنته و التى رغم انتفاضه جسدها كانت عيناها تحمل اطنانا من القسوه والاشمئزاز لم يتوقع احد ان يسكنا عينا حياه خاصه فاردفت بنبره حاده: بس دلوقتى انا مش هسامحك، مش هسامحك طول حياتى، لا هسامحك و لا هسمح لك تسامح نفسك و هتفضل دائما عايش بذنب انك كنت السبب بتدمير حياتى..
ثم صرخت و دموعها تنهمر بغزاره: حتى لو مت مش هسامحك، سواء انت او..

قطعت كلماتها مشيره باصبعها على شادى الواقف من اعلى لاسفل بازدراء ثم تمتمت باستحقار: او ده!
ثم بحركه مسرعه تحركت لخارج المنزل في اتجاه منزلهم بينما بالداخل يكاد مازن يجن ما بين ابيه الذى جاهد ليأخد انفاسه واضعا يده على قلبه بضغط عنيف و ألم لا يُحتمل فاجتمع الجميع حوله بفزع، و بين والدته التى انهارت بشكل سئ حتى بدت على حافه الجنون و بين حنين قلبه التى تجمدت تماما و كأنها غابت عن الواقع مره اخرى...

و وسط هذا و بعدما نظر عبد الرحمن لظهر ابنته المنصرف استدار لينظر لزوجته التى اخفت وجهها خجلا منه و اشفاقا على نفسها من رجلا مثله رغم علمها و مصارحتها سابقا بما فعل من نجلاء ذات ليله انتقام ايضا و لكن بتهديد بعدم اخبار احد و ضعيفه مثلها لا تجرؤ على التفوه بكلمه فاعتصر قلبه قبضه من نيران اكلت روحه بنهم...

فرفع عينه لشقيقته المنهاره و التى ضمتها ليلى بشبه انهيار هى الاخرى فامتلئت عينه بدموع ندمه و حسرته على ما زرعه سابقا ليحصده كاملا الان و ما اسوءه من حصاد..

مر بعينه على والده الذى استكان في جانب بعيد و هو يحرك شفتيه بكلمات مبهمه بدت له كدعوات اقتنصت روحه حتى كادت تزهق انفاسه، ليستقر بعينيه على محمد الذى طُلبت الاسعاف له فشعر نيرانه تأجج بغضب شمل روحه و خاصه عندما رأى ملامح معتز التى اصابها جمود قاسى ليفكر لحظات، هل من الممكن ان يكون معتز ولده من صلبه؟! هل من الممكن ان يكون نتيجه خطأ عابر فعله هو بنفس راضيه لينكره بعدها بنفس واهمه بالراحه؟!

اغلق عينه و ضميره يغصه اكثر ثم فتحهما ليعود ببصره لتلك الملقاه على الارض تنظر للجميع بتشفى واضح و نظرات هيستيريه مع ضحكاتها العاليه و التى لم يلتفت اليها احد و الجميع منشغل في صدمته او التجمع حول محمد خشيه ان يُصاب بمكروه ما...
فتذكر على فور ما قرأه يوما في لحظه عابره لم يعيريها انتباه.

يَا بُنَيَّ مَنْ كَشَفَ حِجَابَ غَيْرِهِ انْكَشَفَتْ عَوْرَاتُ بَيْتِهِ، وَمَنْ سَلَّ سَيْفَ الْبَغْيِ قُتِلَ بِهِ، وَمَنِ احْتَفَرَ لِأَخِيهِ بِئْرًا سَقَطَ فِيهَا، وَمَنْ دَاخَلَ السُّفَهَاءَ حُقِّرَ
وعجبا هو فعل كل هذا!
اعتدى على حرمه بيت اخر فاعتدى اخر على حرمه بيته،
حفر بئر لها – نجلاء – و اغرقها فيه و لكنه لم يدرك انه احدهم سيدفعه ليغرق ايضا بل ووجد يدها تجذبه للغرق اكثر،.

استهون بكبيره الكبائر و خاض فيها بعنفوان فخاض احدهم في نفسه و شرفه...!
قطع افكاره المؤلمه صوت سياره الاسعاف تتوقف امام الباب لتستعيد نهال بعض تماسكها وهى تركض لزوجها و صوت بكائها سهم غادر اصاب قلبه فما حدث لشقيقتيه هو السبب به..
ألم الصغيره و التى ماتت قبل ان تسامحه، و الكبيره تكاد تموت امامه و ايضا بالتأكيد لن تسامحه، كل هذا بسببه!

تم نقل محمد للسياره و صعد مازن معه و عاصم بعدما صرف شادى و الاخرين معه و طلب من البواب ان يمنع خروج نجلاء وحتى ان اضطره الامر لتقييدها حتى يعود، بينما لحق بهم بعض افراد العائله، بينما تمسكت ليلى بنهال ومنعتها فهى لن تكون عونا بقدر ما ستكون عله!

نهضت مها واقفه و دموعها تنهمر بصمت و هى تنظر لنجلاء بصدمه شلت عقلها عن الاستيعاب ثم نقلت بصرها لوالدها الذى اخفى عينيه عنها لتنظر ارضا و يدها تبحث عن يد اكرم – كأنها تبحث عن حمايتها الان و قوتها التى كانت في امس الحاجه اليها – الذى شعر بدماؤه تجمدت فور لمستها و عجبا لم يكن يريدها فأبعد يده بسرعه استغربتها لتُصاب روحها بخوف و جزع كاد يفقدها حياتها جزعا عندما نظرت اليه و دموع الحسره و الخوف مما هو قادم تملئ عينيها لتحرك شفتيها بحديثها الصامت انا عاوزه امشى.

و هنا طافت عيناه على وجهها ليداهم عقله سخريه عندما فكر قليلا بنسبها...
زوجته ابنة قاتله ابيه، يا لا سخريه القدر!
شعر بيدها تمتد لتحتضن يده مجددا و كأنها تذكره بمن هى و هاجس تركها ببساطه لذنب غيرها يهاجمها بقوه ولكن هذه المره لن تتحمل، و لكنها عجبا تقدر شعوره، تقدر صمته و التشتت الذى كسا عينيه، تقدر ألم قلبه على ماضٍ ليس لكلاهما يد فيه، و لكن رغم انفها هى ابنه نجلاء!

فانسابت اصابعها على يده المضمومه بقوه لتفتحها ببطء لتزرع اصابعها الهزيله بين فضاء كفه بانتفاضه جسدها الذى جعله ليلتفت اليها و ظل لحظات ينظر لعينها...
لحظات اطول من الدهر و اغلى من العمر، لحظات اخبرتها ان القادم سئ، و ان سئ الحظ دائما سئ الحظ، و ان من حُكم عليه بالعقاب سينفذه لا محاله حتى ان كان بريئا!

امسك يدها بضعف دون ان يمنحها قوته ليقويها، دون ان يضغط كفها ليطمأنها، دون ان يمنحها السكينه او يريح تفكيرها...
فنظرت لوالدتها بخزى رغما عنها ف ازدادت دموعها و هى تستغفر الله بخفوت فتحرك بها اكرم للخارج دون اى حديث و خاصه بعدما ركضت جنه من امامهم لتصعد للاعلى دون انتظار ان يحدثها احد..
و كم سولت نفسه له الان ان يأخذ جنه و يبعد بها عن هنا!
عن حجيم ماضٍ ليته لم ينكشف؟!

عن نفوس مليئه بالحقد حتى نست ماذا تعنى رحمه الله؟!
عن ارواح ماتت رغم وجودها على قيد الحياه؟!
ولكن ماذا يفعل و كيف؟ لا يدرى!
خاصه مع وجود روحا معلقه بروحه، ابتسامه مشتقه منها ابتسامته، و بحر فيروزيتها التى يود الان لو يغرق به غرقا ليس بعده عوده، غرقا يمنحه الخلاص لاحمال كتفه الثقليه و التى اوشكت على احناء ظهره!

و لكنه الان لا يرى حتى خلاصا، و لا غرقا، فقط غدرا، و دماء لوثت الايدى قديما لتبقى اثارها حتى هذا اليوم لتمنع الابيض من النصوع و تمنع القلب من الخضوع!
و عند هذا لم يشعر بنفسه الا وهو ينطلق بسيارته بسرعه خياليه باتجاه منزله...

رفع معتز بصره اخيرا مستجيبا لنداءات هبه بصوتها المبحوح اثر بكائها و يدها التى كانت تمسد يده بسرعه لعلها تمحى تلك البروده التى اصابته لترى بعينه فضاء واسع من ألم مبرح اصاب قلبها في مقتل و هى ترى نظراته تتحرك على وجهها بلا حياه تذكر فيهما..
قبل ان ينظر لبطنها المنتفخ بصدمه و تشتت جعلها تشهق بخفوت و هى ترى عينه تقول أمور كثيره بشأن ابنهما، امور من شانها ان تنهيها فضمت نفسها بقوه وهى تردد اسمه...

ولكنه نهض متجاهلا اياها متحركا باتجاه نجلاء ليجلس على ركبتيه امامها فازدادت ضحكاتها و هى تنظر اليه فاحتضن وجهها يُزيل دموعها التى انهمرت لا تدرى منذ متى، ليهمس بصوت لا يُسمح الا لها: ليه؟ ليه محبتنيش؟
نظرت له لتطلق ضحكه صاخبه قبل ان تهتف برعونه و صفاقه: انا مبحبش حد، بحب نفسى بس، انا و بس...

ثم زمت شفتيها لاسفل في حركه دلت على مدة تيه عقلها و ضياعها المؤقت لتُشير بإصبع مرتجف لعبد الرحمن لتهتف بحزن لا تدعيه و لكنها ايضا لا تشعر به: و حبيته، حبيت نفسى و حبيته، بس
ابتعد معتز عنها لتعاود ضحكاتها تملئ المكان بينما يتابعها معتز بجمود ثم رفع عينه لحامد ليقترب منه ببطء و مد يده مصافحا ببرود: اتشرفت بمعرفتك يا استاذ حامد!

شعر حامد بقبضه تعتصر قلبه و هو يرى نظرات التيه و الشرود بعين معتز و التى احالها عنه لينظر لهبه التى تقدمت منه و بدون كلمه اخرى تحرك بها لخارج المنزل و اتجه بعدها لمنزلهم وصمت مطبق عم عليهم طوال الطريق...


انفض الجمع الا من كبار العائله بالاضافه لليلى التى جلست على كرسى مجاور و نهال التى منعتها ليلى من الذهاب للمشفى على وعد من مازن باخبارها بكل جديد...
نهضت نهال واقفه و هى ترمق حنين التى انكمشت على نفسها بجانب المقعد تنظر لنقطه وهميه وكأن الامر عاد لنقطه الصفر مره اخرى..

فعادت ببصرها لنجلاء مقتربه منها و اوقفتها و نجلاء تطالعها بتوجس مشوب بضحكها الغريب فنفضتها نهال بحركه غير متوقعه و هى تحركها بعنف لتنهار مجددا بصراخ قلب ام ذُبح ذبحا عن طفلها الذى ابعده القدر قسرا عن حضنها: ليه؟ عمل فيكِ ايه؟ ليه تحرمينى منه؟ كنت ءأذيه، اوجعيه بس سيبيه في حضنى، حرمتينى منه ليه؟ ليه؟ حرام عليكِ، حرمتينى منه ليه؟

ظلت تصرخ بها مع رفع يدها لتنهال على وجهها و جسدها بضربات متتاليه بضعف و هى تصرخ باسم الله و روحها تكاد تفارق جسدها، و جاء العون من اخر مما توقع الجميع حيث نهضت حنين بهدوء مُميت تتحرك باتجاه نهال مكبله حركتها و هى تبدو في حاله من الصمت القاسى و فقدان الاحساس بالواقع، فنظرت اليها نهال بانهيار بينما ضحكات نجلاء تجابه صراخاتها فقبلت حنين رأسها و هى تضمها لصدرها و تحركت بها للخارج لتعود لمنزلهم...

بينما رمقت ليلى ظهرهما المنصرف بأسى و هى تنظر لنجلاء باشمئزاز و قلبها يبكى دما على اخيها الذى ربما كانت ستراه مجددا لولا تدابير تلك المرأه التى فاق خبثها خبث الشياطين..
و تحركت بعجز باتجاه غرفتها بينما بقى بالخارج كبار العائله بالاضافه لعبد الرحمن..
نعم انفض الجمع ليعود كلا لحياته و لكن بنقص ما، و ربما باكتمال ما! من يدرى؟!

و وسط كل هذا فقد عبد الرحمن اعصابه التى انهارت تماما حتى نهض بغضب منقضا على نجلاء لتطبع اصابعه عده صفعات متتاليه يا وجهها مستمتعا بصرخاتها لتستقر يده على حجابها ليجذبها منه مندفعا بها باتجاه الحائط و بكل ما اوتى من قوه دفع رأسها بالحائط بغضب اعمى وهى تصرخ و تضحك و تبكى في الوقت ذاته و كأنها تشعر بما فاق تحملها من الالم، ولكنها ايضا لا تشعر بأى شئ!

نهض امين بعنف ليمنعه و لكنه تجمد مكانه عاجزا عن التصرف فماذا يقول او يفعل و هو نفسه يريد ان يفعل بها هذا و ما يزيد ايضا، حتى جاءت الضربه القاصمه عندما دفع عبد الرحمن رأسها بأسوء ما يكون فصرخت صرخه ارتجف لها قلبه قبل الجميع بقلق فتركها مبتعدا بصدمه مما جنته يداه لتسقط هى على حرف الطاوله القريبه لتخسر من نفسها الكثير في مقابل ما جنته لتكون تلك هى نقطه النهايه...

وضع اكرم المفتاح بباب المنزل و لم يتحدث بكلمه واحده فدلفت مها بينما فوجئ هو بقليل من جيرانه يستقبلونه بالتهانى و الكلمات الطيبه التى تدعو له بالسعاده و الذريه الصالحه، و قابل هو كل هذا بابتسامه باهته مصطنعه و كان وقع التهانى عليه كوقع امرا جللا على رأس من نسى الامر..

حتى ابتعدوا من حوله ليدلف للداخل فزفر بقوه و هو يتحرك باتجاه غرفته ليجدها مستلقيه على الفراش رافعه الغطاء حتى رأسها لا يظهر منها شيئا...
فوقف بجوار الباب يطالعها قليلا وهو يشعر بضيق شديد و بالوقت ذاته يشكر لها صنيعها فهو لا يريد احد بجواره الان فرأسه ينفجر حيره و حسره؟!
دلف للمرحاض ليبدل ملابسه بينما هى اخرجت رأسها من تحت الغطاء لتنظر للمرحاض بحزن شديد و عيناها تذرف الدموع بلا توقف..

الى اين ستدور بها عجله الحياه؟
الى متى ستظل تجابه ما فوق قدرات تحملها؟
متى ستنهض النهوض الذى لا سقوط بعده؟
ما ذنبها؟ و لكن، ايضا ما ذنبه؟
هو بكلمات بسيطه اخبرها عن مدى حبه لاهله، و الان هل سيمنعه ماضٍ عنها؟
هل ستقف العقبه التى وضعتها والدتها بجداره في طريقها بين قلبيهما؟
هل سيخبو عشقها من عينيه و يختفى اسمها عن شفتيه و يُمحى اثرها من قلبه؟
هل من شعرت به يقويها، هكذا يكون عندما يضعفها!

هل من منحها كل شئ، قادر على سلبها كل شئ!
و اه، فما اسوء المنح عندما يُتبع بالمنع، ما اسوء الجود عندما يُتبع بالبخل، ما اسوء غنى المشاعر عندما يُتبع بالفقر!
فإن كان حبه – هو – ضعيفا فأين و لمن تكون قوه الحب!
لكن مع كل هذا لن تتخلى و لن تبعد و لن تضعف!
سيرفضها، يهجرها، يبتعد و ليكن؟
هى لن تفعل!
هى من ادركت معنى القوه بعد الخنوع، و ادركت معنى الحياه بعد العجز، و ادركت نفسها بعد التيه!

لن تتخلى عما اختارته بإرادتها، لن تتخلى عمن يعنى لها كل هذا، من دق قلبها حقا اليه، من عزف لحنه الخاص على اوتار حياتها و بدونه، بدونه لا حياه لها!
ابدا لن تتخلى حتى، حتى ان كان رغما عنه!
قطع هدير افكارها خروجه من المرحاض بمنامته السوداء فأخفت رأسها بهدوء مجددا فلم ينتبه لها و لكنه اقترب منها مراقبا حركه صدرها الذى يعلو و يهبط من اسفل الفراش فأدرك انها تدعى و صدقا لم يكن يريد مواجهتها الان...

فكيف يفعل و ماذا يقول؟
فما عرفه اليوم ايقظ كل نيران حزنه دفعه واحده،
فلا هو يدرك حقيقه شعوره الان، و لا يستطيع التجاوز عنه؟
هل هو في قمه سعادته لتحقيق حلمه بفيروزته ام في قاع جحيمه لمعرفته ان والده قُتل عمدا؟
يقولون ماضى و انتهى فلننظر للان و لكن كيف ينسى انه والده و بالاخص عشق والدته!
كيف ينسى بكاء والده على والدته و اللجوء لحضن ابنه ذا العشر سنوات!

كيف ينسى الرجل الذى كانت يستمع لدعاء والدته باسمه ليعيش حياه مديده بعدها لينعم العالم بأنفاس رجلا لن يتكرر مرتين!
كيف ينسى انه كان من الممكن ان يرى شيب والده و يحفظه كصور معه كما وصته والدته؟
كيف يتجاهل كل هذا!
اجل قدر الله و لكن موجع...!
حقيقه كهذه تخفى كل ملامح حياته في طيات وجع لم يعد يتحمله!
تحمل الكثير و لكنه لم يعد يتحمل!

اضناه الوجع و لا يجد حضن والدته ليطمأنه، قُصم ظهره و لا يجد كتف والده ليستند عليه، اماته الالم حقا و ليته يستطيع الصراخ!
و لكن هل للرجال صرخات!
هل للرجال ما يعبر عما يحنى ظهورهم و يُزهق انفاسهم!
اطلق تنهيده مكتومه بأصابعه ثم استدر بعينه التى تشبعت بألمه القاسى لينظر لجسدها المخفى اسفل الغطاء الخفيف ليغلق عينه عاجزا عن الاقتراب منها...
هل يستطيع اللجوء لحضنها!

هل يستطيع البكاء على كتفها كما كان يفعل مع والدته!
هل يستطيع الاعتراف بعشقه المحمل بوجع قلبه!
هل يستطيع لومها على نسبها ثم يقبلها ليصرخ بحبها!
رفع يده ليلامس كتفها و لكنه في هذه اللحظه تحديدا كان اضعف ما يكون فجذب يده بعنف معتصرا ملابسه بقوه و اظافره تكاد تنغرس في لحم جسده...

و ظل على هذا الوضع لا يدرى كم مر من الوقت حتى استدار بعنف مجفلا من انتفاضتها بقوه عن الفراش و هى تكاد تلتقط انفاسها و جبينها يتصبب عرقا مع التصاق خصلاتها الشقراء بجانب وجهها..
فازدرد ريقه قلقا عليها و هو ينظر اليها ليجدها تدور بعينها في الغرفه بلهفه حتى استقرت على وجهه فانطفئت اللهفه ليعود الامان يشغلها بدفء فتمتم بخفوت: انتِ كويسه؟

اومأت برأسها بصمت و قبل ان يسألها عن شئ اخر اعطته ظهرها لتنام مجددا، فاعتدل على الفراش مستندا بظهره على الوساده جوارها عاقدا ساعديه امام صدره ناظرا لظهرها و هو يقاوم رغبته في ضمها لصدره...
فبعد كل شئ و بغض الطرف عن اى شئ، هى فيروزته!
حلمه الذى نام و استيقظ عليه ليالى و سنين، دعوته المستمره و التى كانت هى استجابتها،.

هى التى شاركته في حديثه مع ربه، هى التى نقشت اسمها على صفحه قلبه فأصبح لا يُمحى، هى من سار في دروب عشقها، على اشواك غيرته، لوعه بعدها رغم القرب، نيران الخساره رغم المكسب!
هى صاحبه بحر الفيروز و كفى!
اعتدل بقلق اكثر عندما تحركت جواره بحركات عنيفه لتحرك شفتيها بحديثها الصامت و الذى قرأه هو وساعده على ذلك اعتياده على هذا: لا، اسمعنى بس، بالله عليك افضل جنبى، لااااا.

ثم انتفضت مجددا و انفاسها تكاد تختفى و عرق جبينها يزداد مع احمرار عينيها لتدور عينها في الغرفه بلهفه اكبر قبل ان تستقر على وجهه مجددا ليعود الامان يملأها..
فاستدار لها بكامل جسده ليرفع يده مزيلا خصلاتها عن وجهها مغمغما بتفحص مضطرب و هو يقاوم احساسه بقربها و الذى اجتاحه كنيران نهشت قلبه و عقله معا: اهدى اهدى دا كابوس...

نظرت اليه لتلمع عينها بالدموع و لكنها دون كلمه اخرى اعطته ظهرها مجددا لتنام، و بعد بعض الوقت من الجهاد حتى لا تنام مره اخرى غلبها تعبها و صداع رأسها و خوفها لتسقط في النوم مجددا كأنها تهرب...

بينما هو عقد حاجبيه متفحصا اياها بجزع مشوب بالتعجب من انتفاضتها المتتاليه فظل ينظر لظهرها و يطل عليها من عليائه ليرى جانب وجهها فابتسم بحنان غلب كل مخاوفه و حزنه ليجد ان مجرد شعوره بها قربه يعنى له الدنيا بما فيها...

و لكنها لم تمنحه الفرصه للتفكير بأمر جيد او سئ عندما نهضت بفزع اكثر عنفا هذا المره و دموعها تغرق وجهها بغزاره و رأسها تتحرك يمينا و يسارا بالنفى لتنظر اليه هو هذه المره بلهفه قلقه قبل ان تخفى وجهها بين يديها لينتفض جسدها ببكاءها فشعر بقلبه يهوى بين قدميه فإقترب منها دون تفكير محاوطا اياها بذراعيه ليضمها بقوه زادت مع قوه انتفاضه جسدها ليمسح بيده على شعرها مرددا ايات من القرءان الكريم لعلها تهدأ و لا يدرى كم مر من الوقت حتى هدأت متمالكه احساسها الخائف فأبعد وجهها عن صدره ليهمس امام عينيها و يديه تُزيل دموعها بسرعه و لمساته الدافئه تشمل روحها بمزيج من امان وخجل: اهدى حبيبتى محصلش حاجه!

توقفت عيناها على شفتيه و هو يردد كلمه حبيبتى لتُحرك شفتيها كأنها تتذوقها بحديثها الصامت الذاهل حبيبتى!
فاستقرت عينه على شفتيها هى الاخرى ليميز ترديدها للكلمه فابتسم و شفتاه تطوف على وجهها بعاطفته التى اخبرتها انها اكثر بكثير من حبيبته حتى ابتعد ناظرا لعينيها التى فاضت بدموعها ليغرق فيها ببساطه متمتما بهمس بترقب: ايه اللى قلق نومك كده؟

عادت عينها تلمع بالخوف و هى تتذكر الكابوس الذى راودها ثلاث مرات و التى كانت به تستجدى اكرم ألا يرحل و لكنه غض الطرف عنها راحلا بدون تفكير بها و من مجرد كابوس كهذا شعرت بارتجافه جسدها ترفض، كل ما بها يرفض، كل خليه بها تتمسك به، لن تتخلى عنه، ابدا لن تتخلى!

تعلقت عينها بعينه مجددا ليمنحها نظره مطمئنه لتمنحه السكينه و تخبره عما يؤرق نومها ف حركت شفتيها تخبره فتعلقت عيناه بشفتيها منتظرا ما ستقول و الذى شعر به كسهم غادر نفذ لقلبه ان انت كمان هتسبنى! هتبعد عنى زى الكل، هتعمل زي...
صمتت عنوه عندما قطع كلماتها بين شفتيه فيما يشبه القبله و لكنها لم تكن هكذا ابدا..

كانت اشبه باعصار يعاقبها به، اشبه بفيضان اغرق كلاهما في طريقه، غرقا لا نجاه منه، غرقا يعنى الحياه بالنسبه لكليهما!
كانت قبلته الاولى كارثيه...
فانتفض قلبها بين ضلوعها يأن ندما، على سوء ظنها بتفريطه بها!
فقبلته اخبرتها انها تسكنه، و ما اجمل ان تعيش معه حب يسكنها و تسكنه!
قبلته اعطتها ما فقدته من امان طوال عمرها، اعطتها قوتها بعد ضعف روحها و نفسها!

قبلته اخبرتها ان لا حياه له بدونها، و بدونه لا حياه لها!
حياتهما قطعه بازل هى النصف و هو الاخر و بدون احداهما لن تكتمل ابدا مهما استبدلناها!
قبلته التى اخبرتها بوضوح ان لا مجال للمقارنه بينه و بين غيره، و لا مجال للتفكير بأحد في حضوره و لا في غيابه حتى!
فهى يبدو انها بينها و بين نفسها ستردد اسمه التى اصطبغ العشق بحروفه، و تلون قلبها بألوانه!

و اكد هو تفكيرها عندما ابتعد عنها اخيرا ليستند بجبينه على جبينها محاولا التمسك بأنفاسه اللاهثه ليهمس من بين اسنانه بغضب: اياكِ، تقارنى بينى وبين حد تانى، اياكِ تذكرى اسم حد تانى قدامى او حتى بينك و بين نفسك، مراتى انا، متفكرش غير فينا، انا و هى و بس!

ثم فتح عينيه لينظر لملامحها بنهم قبل ان تستقر عيناه على جفينها المطبقين ليتأوه بخفوت هامسا بانفعال: اتخلى عنك! ازاى اقدر اتخلى عنك؟! انتِ كنتِ كنزى و هديتى بعد طول صبرى، كنتِ حلم و اتأخرت قوى على ما حققته، و دلوقتى بتقولى اتخلى عنك، دا انا اتخلى عن روحى بس انتِ لأ...!
اقترب منها يميل بشفتيه على عينيها المغلقتين مغمغما بتحكم عشقه: بحر الفيروز اتخلق علشانى و مش هسمح لحد تانى يسكنه...

اختلج قلبها بين ضلوعها من تشخيصه لعينيها بهذا الوصف الذى تسمعه لاول مره، لترقص نبضاتها على الحان نبضاته و التى منحتها اعزوفه اتقنت قدماها بخطواتها الرقص عليها..
فعاد يزفر بقوه و هو يتمتم من بين اسنانه متذكرا لوعته السابقه ببعدها عنه: انتِ عارفه انا كام مره اتعذبت بقربك قبل بعدك؟

رفع يده يلامس وجنتها اليمنى ثم منحتها شفتاه باقى اللمسات بشغف عاشق و هو يردف بنفس النبره الهائمه: عارفه كام مره اتمنيت ألمسك، امسح دموعك، و اقولك مبقدرش على زعلك!
ثم لامس وجنتها الاخرى بنفس الشغف الحارق و الذى جعلها تذوب اكثر و اكثر بين يديه ليخرج صوته بعدها مهزوزا و هو يقول بخفوت شديد: كام مره اتمنيت احضنك يمكن تسمعى دقات قلبى و على وجعى تحنى!

فتحت عينها مع بحه صوته الذى اختفى تماما في كلمته الاخيره لترى عيناه المغلقه و هو يعض على شفتيه لتشعر بإرتجافه جسده لتدرك انه كان يطمأنها لكنه يكتوى بنار ما عرفه للتو..
الامر ليس بهين و لكنه لم يتحمل خوفها فداس وجعه بقدميه ليعبر بها لشط الامان!
محى الألم من عينيها بتنازله عن فرحه ضحكته و جرف مشاعره اليها!
بينما هو يتلوى بين نيران ماضيه، و هواجس حاضره..

يشتعل غضبا و يزيده عجزه عن اعاده الماضى و لو قليلا!
لذا لم تشعر سوى به و بوجعه فقط، فأحتوته بين ذراعيها و هى تضمه لصدرها بقوه احساسها به لتتساقط دموعها تؤازره و لاول مره تشكر عجزها عن الكلام فلم يكن هناك ما سيسعفها الان!
و لكن جادت يداها بفيض كلماتها على ظهره و خصلاته و هو كطفل عاد بعد غياب لحضن امه!
ادركت بقلبها عظم شعور هذا اللحظه على اكرم تحديدا،.

ذلك الطفل الذى فقد امه قسرا استجابه للقدر، ليتغرب بعدها طواعيه ثم يفقد والده غدرا فيعيش طوال عمره وحيدا حتى الان!
هذا الحضن الذى منحه ما عجز الدهر ان يمنحه اياه طوال هذا الوقت، و الذى بداخله شكرها شكرا لن يوافيها حقها بما منحته اياه!
لم تتحدث و لكن انفاسها سطرت الف كلمه و كلمه في قاموس قلبه!
لم تعده بشئ و لكن حضنها اعطاه الف وعد و وعد بألا تتخلى عنه و ألا تسمح له بالتخلى عنها!

لا يوجد اثبات لفظى على مشاعرها و لكن قبلاتها المحبه على شعره و جبينه منحته عهد موثق والف اثبات على عهد قلبيهما معا!
عهد لن ينتهى مهما صار و لن يضعف مهما مر عليهما..
وان كان أُلقى بطريقهما عقبات فمعا يد بيد سيتخذانها درجات نحو السعاده، نحو الافضل، نحو عالم جديد يضم كلاهما، هو و هى فقط!

بالرغم من انه لا يمكن ان نعود للوراء لنصنع بدايه جديده، الا انه يمكن ان نبدأ من الان في صناعه نهايه جديده.
ماركوس اوريليوس.

تقدم معتز لداخل المنزل و هبه خلفه بينما لا ترى اى تعابير على وجهه الذى اصابه جمود كاد يُقف قلبها حتى جلس على الاريكه في صاله المنزل الخارجيه ينظر ارضا دون كلمه واحده، فاقتربت منه جالسه بجواره و وضعت يدها على كتفه فلم يبدى انه شعر بها حتى، و تمتمت بأسى واضح: معتز علشان خاطرى، اتكلم، اصرخ، زعق، اعمل أى حاجه بس متفضلش ساكت كده!

ابتسم ابتسامه جانبيه و اطبق عليهم الصمت لمده من الوقت مرت عليها اطول من سنوات حياتها حتى نظر اليها قليلا بنظرات جعلت قلبها يهوى بين قدميها ثم نهض و امسك بيدها حتى انهضها و تحرك بها باتجاه غرفه نومهم حتى اوقفها امام المرآه و نظر لانعكاس كليهما بها ثم نطق اخيرا بعد طول صمت بنبره ذبحتها ذبحا: فاكره لما سألتينى عن صورتنا اللى جمعتها المرآه دى يا هبه!

نظرت لملامحه بصدمه و خوف حقيقى و هى تتذكر ما يحكى عنه و الكلمات لا تختفى من عقلها كأنماا اراد الزمن حفرها..
تعتقد هتفضل المرايه دائما جامعه صورتنا كده، هتفضل محوطانا جواها كأنها بتقول مكانكم سوا و بس، تعتقد المرايه مش هيجى يوم و تتكسر يا معتز؟
وضعت يدها على شفتيها و هى تنظر لعينه التى تنظر لانعكاسهما بنظرات خاليه من الحياه، لتتذكر رده وقتها..

يوم ما المرآه هتتكسر انا هتكسر معاها يا هبه، وانا يوم ما هتكسر مش هفضل في حياتك ابدا...
شهقت بعنف و هو يرفع يده ليضعها على حافه المرآه من الاعلى ليجذبها بقوه ارضا فسقطت مهشمه لقطع صغيره تناثرت حولهما، تناثر معها نبضات قلبها هلعا من فكره يأسه، ابتعاده، او تخليه عنهما...

فتساقطت دموعها و هى تستدير له مقتربه منه لتدفع كتفه باتجاهها لينظر لها بدلا من النظر لقطع الزجاج المهشمه و هى تحاوط وجهه بيديها و تندفع متحدثه بلهفه: معتز، متفكرش في حاجه، كل حاجه هتبقى تمام، كل حاجه كانت كذب مفيش اثبات...

ازداد انهمار دموعها مع اضطراب انفاسها و امواج عينها تدعوه ليسكنها، ليغرق بها، لينجرف معها في تيار حبهم دون التفكير بما هو فات او ما هو أتٍ و عادت تهتف بانفعال: علاقتنا بس حقيقه، انا و انت و حمزه، حبنا بس حقيقه، علاقتك الجديده معايا و صفحتنا سوا مع ربنا بس حقيقه...

ابتلعت ريقها بسرعه و هى تحرك رأسها نفيا لتردف بنبره سطر عشقها له حروفها فامتزجت لهفتها بخوفها، ثقتها بيأسها، و ما اقساه من مزيج: انت مش هتفكر في حاجه، هنرمى كل حاجه ورانا و نعيش لبكره و بس، ماشى يا معتز، مش هنفكر..

قطعت كلماتها بشقهه عنيفه عندما همس بخفوت و بطئ شديد امام عينها مقاطعا اياها: انا ابن حرام، جيت على الدنيا بغلطه و عشت طول حياتى غلط، انا مليش نسب! انا ابن حرام يا هبه!
نبرته المهتزه قتلت روحها فاقتربت منه محتضنه اياه علها تمنحه بعضا من حنانها ليعوضه فراغ روحه الذى اهلكه و اضنى قلبه الذى يترنح كالذبيح بين جنبات صدره و همست باحتواء لا يقدر عليه سواها: انا مقدره و فاهمه اللى انت...

و لكنه يبدو انه كان ابعد ما يكون عن استيعابه الان فأبعدها عنه بحده ليصيح مقاطعا اياها و هو يضحك بشده مع لمعان عينه بدموعها: لا انتِ مش فاهمه، و مش عارفه انا حاسس بإيه؟
اخفت ضحكته تدريجيا و هو يضرب صدره بقوه على موضع قلبه قائلا بشعور مجروح ذاهل: انا مُت، قتلونى بإيديهم، ابويا و امى قتلونى بدم بارد، و سكينه بارده، ابويا...

قطع كلامه بضحكه سخريه لاذعه ليهتف و هو يشيح بيده بعشوائيه فاندفعت دموعها تؤازره دون حول لها و لا قوه: ابويا؟! مين ابويا؟ مين اهلى؟

نظر اليها ثم رفع يديه يحاوط كتفيها بكفيه يضغط عليهما بقوه و عيناه تستقر على امواج عينيها التى غامت بأمواجها المنهمره دون توقف بنظرات تشتت و ضياع خالص كأنه طفل صغير يستجدى وجود امه، و شعوره يشابه شعور اليتيم الذى تاه عن صاحبه فلا هو عاش بأهله و لا هنأ بتبنى، فقط يقف في العراء دون كسوه يتلقى ضربات الهواء و لسعات البرد المؤلمه دون توقف، حتى انفرجت شفتاه يهمس بتوسل امام عينها عاجزا عن منح نفسه الرد الذى يتمناه و لكن يخشاه: انا مين يا هبه؟

هربت الكلمات منها و لكن لم تفارق قلبها لتترجمها شفتاها بعشقها الخالص له: انت راجلى، سندى و ابو ابنى، انت حياتى، انت بكل تفاصيلك – بحزنى منك قبل فرحى، و بوجعى منك قبل سعادتى – نبض قلبى، انت سيد القلب يا معتز!

اطلق آه طويله و هو يجلس على طرف الفراش ليواجه بطنها المنتفخ و يهتف بحده ولدها انفعاله و تفكيره الممزق: وعدتك مش هخذلك بس خذلتك، لانى مش عارف ايه نسبى علشان اعرف نسبك، مش عارف مصيرى ايه؟ علشان..
قاطعته هبه و جلست امامه لتنظر اليه و هى تحتضن وجهه بكفيها لتهمس بقوه شعورها به و صدق مشاعرها نحوه: مصيرك مصيرى، دائما سوا.

لاحظت تحركه و خطواته التى لم تأبه بقطع الزجاج المتناثره فأسرعت للمطبخ و عادت تلملمها بعيدا عنه، حتى انتهت و التفتت اليه لتجده يطالعها بسخريه و تسائل أتخشى عليه جرح الزجاج و كل ما به قد تمزق فعليا نظر اليها قليلا قبل ان ينهض ليرفع مرتبه الفراش ليُخرج حقيبه كبيره من اسفلها ليضعها ارضا و يجلس على ركبتيه امامها فاتحا اياه لترى هبه عده العاب طفوليه، طائرات ورقيه، دفاتر مدرسيه و الكثير من الرسائل المطويه، و صناديق زجاجيه صغيره فاق عددها العشرين...

عقدت حاجبيها تطالع ما امامها بدهشه حتى ابتسم هو بانكسار و هو يرفع عينه لها و همس بخفوت: اقعدى!

جلست امامه في الجهه المقابله للحقيبه و دموعها ترفض التوقف فرفع بعض الدفاتر المدرسيه امام عينه ينظر اليها قليلا ثم اعطاها لها بأصابع مرتجفه و هو يوضح لها بضياع: دفاترى في المدرسه، كنت بجمعهم علشان لما بابا يرجع يوقع ليا عليهم، كنت بحتفظ باللى درجاتى فيها عاليه علشان يفتخر بيا، كل سنه او تقريبا كل يوم ميئستش على يقين انه هيرجع، في يوم من الايام هيرجع...
صمت لحظات ليهمس ببحه مذبوح: بس مرجعش!

آنه خافته فارقت شفتاها و هى تتطالع خطه الطفولى، علاماته العاليه و كلماته العابثه على سطور الدفتر بالاضافه لغلطاته الاملائيه الكثيره فأغلقت الدفتر و ضمت اياه لصدرها لتتساقط دموعها بانهمار عجزت عن التحكم فيه..
فنهض جالسا بجوارها رابتا على رأسها بحنان قلبه حُرم من اختباره فمنحه لها بسخاء متمتما بنبره مواسيه كأنه يواسى روحه لا هى: متعيطيش، و متزعليش، عادى انا وقتها مكنتش يئست...

لم تستطع النظر اليه لانها تعلم انها ان فعلت سيقتلها حيه بنظراته المكسوره فرفع الطائرات الورقيه ليبتسم مع ازدياد روحه بخدشا جديدا: كل اول يوم عيد كنت بشترى طياره و اطلع اقعد على سطح بيتنا استناه يجى يقولى كل سنه و انت طيب، استنى يجى نلعب بيها و نطيرها سوا، لحد ما كنت بنام و هى في حضنى، لا هو كان بيجى و لا انا كنت بطيرها...
انتفض جسدها ببكاء عنيف فاحتضنها بذراعه مهدئا اياها و هو يصرخ ألما بداخله...

نفسه تائهه و عاجز هو عن ايجادها، روحه ممزقه و لا يستطيع جبرها، و لكنه يرغب بمشاركتها هى شخصيا صندوق ذكرياته، الصندوق الذى ضم حياته كلها ليجدها الان مجرد سراب...

ابتعد عنها و حمل الرسائل بعشوائيه ليضعها على امامها بهدوء و هو ينظر اليها بعينين مشتتين و صوته يختنق بذكرياته و وقعها القاسى على روحه: من صغرى و انا طريقتى في الشكر او الاعتذار او طلب هى الرسايل، زى ما عملت معاكِ، كنت كل يوم بكتب له رساله و ارميها من الشباك و انا نفسى انها تطير توصله، بس كانت دائما تقع على الارض فانزل اجيبها و انا مضايق انى مش قادر اوصله رسالتى بس وقتها مفهمتش ان انا مصيرى دائما اقع على الارض، فاحتفظت بيهم يمكن يرجع و يسهر يقراهم، في جواب بطلب منه طلب مش قادر عليه، جواب تانى بعتذر على غلط عملته و جواب ثالث بحكيله عن نجاح حققته، بس كلها موصلتش..

وضعت يدها على صدرها تجاهد لتلتقط انفاسها، مدركه ان معتز يحاكيها ليمحى اثار قديمه بأخرى جديده و لكنها لم تكن بالقويه التى عهدها الان، ان لم يمنح نفسه القوه فستخذله هى ايضا، و لكن ربما وجودها بجواره وحده قوه!

رفع لعبه صغيره على شكل طائره و ادار محركها فأصدرت صوتا مميزا قبل ان تُحلق حولهم حتى اصطدمت بالجدار المقابل لتسقط ارضا فابتسم بسخريه مريره و انفاسه تكاد تفارق جسده ليهمس باختناق: احتفظت بكل لعبى علشان اثبتله انى مش مستهتر، و علشان العب معاه لما يرجع بس مكنتش فاهم ان زى ما الطياره بتصطدم بالجدار و تقع انا كمان هقع، و وقعت!

حركت رأسها نفيا بقوه و هى تجاهد لتتحدث و لكن شفتاها انطبقا على بعضهما فلم تعد تميز من الحروف او الكلمات سوا حروف اسمه فهمست به بخفوت: معتز!

نهض واقفا و مال على الحقيبه حاملا الصناديق الزجاجيه بيديه ليطالعها بدهشه لحظات قبل ان تخونه دمعه ساذجه لتسيل على وجنته فأزاحها بيده بعنف مائلا على هبه بجذعه مظهرا الصناديق لعينها لتتبين هى الوريقه الصغيره بداخلها فتمتم بلوعه: الصناديق دى بعدد سنين عمرى، كتبت في كل واحده امنيه نفسى يحققها ليا، لحد الان كان عندى امل يقرأها، كبرت و الامل جوايا بيموت بس انا كنت بحارب علشان اسيبه يعيش، بس النهارده...

صرخت بحده و هو يدفع بالصناديق ارضا و جسده ينتفض بعجزه و وجعه و صاح بانفعال تام، انفعال لم يخفى نبره الموت من صوته: بس مات الامل و انا مت معاه، كل حاجه انتهت، انتهت..

صرخ بالاخيره بأقصى ما يملك من صوت و هو يفقد اخر اعصابه و تماسكه الواهم و يده تمزق ما طالته من دفاتره و رسائله و تدفع بالصناديق ارضا و هو يكاد يتنفس حتى سقط ارضا على ركبتيه ليهمس بضياع لم يشعر به من قبل في روحه رغم ما مر به من ضعف: دلوقتى انا مش عارف مين هو علشان اقوله يا بابا...!، مش عارف مين هو علشان اشاركه ذكرياتى اللى عشت سنين عمرى اجمع فيها له، ...!، مش عارف مين هو علشان اعرف مين انا؟!

ما اسوء شعوره و ما اقساه من قدر!
ربما كان مدركا و متحملا الفراق و الابتعاد عن ابيه – او من كان يظن انه ابيه – لكن ما يشعر به الان من ضياع فاق ما تستطيع نفسه تحمله..
فما اسوء من الغربه، النفى!
سلبه الماضى هويه الحاضر و حياه المستقبل!
لم يتمسك اهله به و لم يسعه حضن احد بعدهم بعيدا كان او قريبا!
و دائما خلف كل ضحكه دمعه صامته، و خلف استهتاره روحا ممزقه!
يا لشقائك يا معتز القلب يا لشقائك!

جلست هبه بجواره فألقى برأسه على ساقيها ليضم جسده بقوه و نبرته شقت قلبها شقا و هو يهمس بتيه: انا تعبان يا هبه، قلبى وجعنى و مش عارف افكر، حاسس بنفسى تايه في طريق ضلمه لوحدى، حاسس انى بغرق و مش قادر اخذ نفسى.
بللت دموعه ملابسها و هى تضم جسده اليها عاجزه تماما عن التصرف..
ماذا من الممكن ان يفعل المرء في موقف كهذا!
الطفل الذى يعيش طوال عمره في العراء ثم بعد حين يلقى الدفء، يا لسعده!

الطفل الذى يتلوى من اليأس و يضنيه الوجع ثم ينير الامل حياته، يا لفرحه!
و لكن الطفل الذى يتجرع كأس الألم مرتين احداهما طواعيه و الاخر قسرا، يا لشقاؤه!
الرجل الذى عن موطنه يتغرب لينفى بعدها اجبارا، يا لوجعه!
ماذا تفعل؟
هل هناك كلمات تواسيه؟
هل سيُمحى ما مر به من تفاؤل ليحطم على صخره الواقع بدون مرعاه لشعوره، ببساطه!
هل تسعفها كلمات لتنير قلبه من غمامته و تُزيح عنه ظلمات نفسه!

لا والله فلقد تاهت الكلمات من قاموسها و الحروف تقف خزيا امام ضعفها!
و على ساقيها كان هو كمن يحتضر..
انفاسه بالكاد تخرج من صدره و صدقا لم يعد يرغب بها!
عقله فقد قدرته على التفكير سواء بالسئ او الحسن!
قلبه مبعثر تماما لا هو سليما و لا هو قتيلا فقط بين الحاليتين يتلوى!
ما بين حرائق ماضيه، براكين حاضره، و مجهول مستقبله!
يشعر بنفسه كحرف جر داخل جمله طويله لا محل له من الاعراب!

كمعادله حسابيه هو بها مجرد صفر على اليسار!
ما قيمته و قد سلبه الجميع ما يميزه!
سُلب حتى اسمه!
هو معتز فقط، لا اكثر من هذا او اقل!
فأى نسبا يمنحه لطفله!
و اى عار هذا الذى نُسب اليه!
اهناك اسوء او اقسى مما يشعر به!
ماذا يفعل؟ و هو فقط في حاله مزريه من التشتت اللامسمى..!

شعر بيدها تربت على شعره برفق و صوتها الهادئ و الذى ما زال يحتفظ بإختناقه مع كلماتها التى حملت قوتها المعهوده: معتز اللى قدر يتغلب على شيطان نفسه بفطرته السليمه هيقدر يتغلب على شيطان ماضيه اللى بيحاول يخرب حياته و مستقبله، معتز اللى قدر على سلطان الاستهتار و البزخ و حياه الحرام و فتح صفحه بيضاء مع ربنا و تاب من قلبه بجد هيقدر على رسم مستقبل واضح له و ليا و لابننا اللى دائما هيفتخر بأبوه و قوته، معتز اللى ادرك غلطه و مكابرش لا و عاتب نفسه و جلدها قبل فوات الاوان هيقدر ينسى غلط غيره و يصلحه لنفسه قبل فوات الاوان، خصوصا ان مفيش اثبات على تيه نسبك و بإيديك تتأكد منه!

مالت عليه تنظر لملامحه بحالميه لم تعرفها في نفسها من قبل و لم تراه في نفسها سوا معه، معه، له و من اجله، و همست بقوه ثقتها من عشقه لها و قوه احساسها بعشقها له: معتز اللى قدر يفوز بقلبى بعد ما انا فكرت انه خسره هيقدر يفوز بنفسه بعد ما فكر انه خسرها، عارف ليه!
اغلق عينه بقوه اكبر لتميل هى على اذنه بهمس اعاد ايقاظ ثقته بنفسه، كلمه واحده كانت له الدواء لكل وجع و الطيب لكل جرح: لانك معتزى!

ثم تركت قبلتين على وجنته كانت خير دليل على ثقتها به...
رغم حزنها على ضعفها و ان هذا فقط ما استطاعت قوله لكنها لم تدرك انها كانت ببساطه تخبره ان الطريق امامهما ما زال مفتوحا...
لتعاود عباره عاصم اختراق سمعه بس للاسف مكنتش متأكده مين والده!
هذا يعنى انه ربما يكون ابن حامد لا عبد الرحمن! ربما يكون ابنا من الحلال!
شعر بنبضاته تتواثب بسرعه كبيره معلنه عن امل جديد ينبض في قلبه!

هو لم يعد بحاجه لابيه بعد كل هذه السنوات التى قضاها بمفرده و لكنه صدقا بحاجه لنسبه..
بحاجه لان يرى نفسه يستحق طفلا و حياه شريفه دون ماضى عفن سيدمر مستقبله و مستقبل عائلته..

يا الله صدق – عز و جل – عندما قال أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1) وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ (2) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (3) وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ (4) فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (6) فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7) وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَب (8(
ان مع العسر يسرا!

و مع كل عسرات حياته جاء اليسر فيها هى – فلته الثمينه – الذى كل يوم عن سابقه يدرك قيمتها!
وسط كل هذا الالم يبرق وجهها ك فله ناصعه البياض في حديقه حياته شديده السواد..
هى في حياته كدعوه مستجابه في عز الاحتياج ليأتيه العون بها بعد التيه..
هى انقى، اجمل، اغلى ما في حياته، بل هى حياته نفسها!
هى المبتدأ، و الخبر، هى الفاعل، و المفعول بل هى الجمله كلها!
لم يجد ام تمنحه حنانها، و لكنها فعلت!

لم يجد اب يسند ظهره و يلصب طوله، و لكنها كانت!
لم يجد دربا يسير به بعيدا عن ضياعه، و لكنها لاجله آلاف الدروب رسمت!
و وسط ضياع كل شئ كانت هى المكسب، و وسط كل حزن كانت هى للسعاده مهرب!
رفع رأسه ناظرا اليها ليضم وجهها بيده ليُزيل دموعها متمتما بحسره: قولتلك قبل كده بلاش تبكى عليا دموعك اغلى منى!
رمقته بنظره عاتبه تلومه بها، ليمنحه طوفان مشاعرها المتفجر بعينها ما كان يبغاه الان..

طوفان اخبره انه لها اغلى ما تملك!
و حبها له اثمن هدايا القدر!
و عشقه لها اغنى ما ورثه قلبها!
فنهض مريحا رأسها على صدره متمتما بصدق عاطفته الذى مس قلبها: انتِ اغلى حاجه في عمرى، لا انتِ عمرى كله!
فرفعت نفسها قليلا لتقبل جبينه مهمهمه بارهاق فصد العرق على ملامحها خاصه من وجع ظهرها الذى ازداد بشناعه كأنها تذكره بواجباته ان فكر التخلى عنها: حمزه بيحبك يا ابو حمزه...

فجاهد هو ليتحمل ألم معدته الذى تجاوز الحد المعتاد و خاصه مع عدم تناوله لدواءه هذا الصباح انشغالا بتحضيرات الزفاف و نظر اليها نظره لم تفهمها و تمتم بضعف ضاغطا شفتيه بقوه: و انا بحبه، و بحب ام حمزه، لكن لأبو حمزه نواقص لازم يكملها..
تمتم بها بثقه عاقدا العزم على تنفيذ ما انتواه!

و رغم غموض كلماته لكنها اطمئنت لها، رغم شعورها بالخوف من رد فعله او ما يعقد العزم على فعله لكنها كانت واثقه انه ابدا لن يتخلى عنها، ليس فقط لانها بحاجه اليه، و لكن لانه يدرك انا كلاهما يحتاج صاحبه اكثر...
و مع ألمه الذى ازداد بقوه شعر بيدها توضع على وجهه تمحى عرقه بخفه متمتمه باهتمام حزين: الالم شديد؟
كان سؤالها اقرب لاجابه منه كسؤال فنظر لعينها دون كلمه فساعدته ليقف او بالادق ساعدها هو..

وكأن كلا منهما يخبر الاخر انه يستند عليه!
ان كل منهما عون لصاحبه لا يستطيع التخلى عنه!
انه حان الوقت لكى يتحرر العصفور مكسور الجناحين من قفصه، ليفضى في سماء الحياه بانطلاق!
و لكن لابد من جبر، و اصلاح ما افسدته الايام في النفوس؟!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة