قصص و روايات - قصص رومانسية :

رواية حب في الزمن البائد للكاتبة سارة ح ش الفصل العشرون

رواية حب في الزمن البائد للكاتبة سارة ح ش الفصل العشرون

رواية حب في الزمن البائد للكاتبة سارة ح ش الفصل العشرون

عودة
(لوجين)
نظرت إلى ميس بعدم تصديق وهي تشهق كالبلهاء بينما تصرخ بأعلى صوتها وسط المقهى: - أنتِ لوجين؟!
ضحكت ونظرت فوراً بإحراج نحو العيون التي فزعت من صرختها هذه التي انطلقت وسط كل السكون الذي كان يغطي المكان. من الجيد أن أغلبهم - هذا أن لم يكن جميعهم - لم يفهموا لغتنا...
قلت لها بهمس بينما أُحني جذعي العلوي على الطاولة الفاصلة بيننا لأقترب منها: - أخفضي صوتكِ لقد فضحتنا!

فانحنت بدورها باتجاهي لتقول بهمس مشابه مغلف بكل معالم الدهشة والذهول: - هل هذه مزحة يا لارا؟ هل أنتِ حقاً لوجين؟!
عدت مجدداً لأستند بظهري على ظهر الكرسي وقلت بابتسامة: - بعد صداقة استمرت بيننا لسبع سنوات قررت أن أكشف لكِ عن جزء من الماضي الذي أخفيه!
- أتعنين أن كل ما قرأته الان حقيقة؟ حقيقتكِ؟!
- بكل حرف فيه!

بقيت تقلب عيناها داخل عيناي ولم تنبس بحرف. وضعت الدفتر من يدها بهدوء وقالت: - لارا. كيف. كيف لم تخبريني طوال السنين التي مضت؟!
رفعت كتفاي ببساطة ونهضت من الكرسي بينما أسحب الدفتر من امامها وأقول: - لا أحد من حياتي الجديدة يعرف حياتي القديمة يا ميس. ولا أريدهم أن يعرفوا لو سمحتِ. والان سأذهب للمنزل لقد تعبت اليوم كثيراً!

تحركت اريد الخروج من خلف الطاولة فنهضت فوراً من مكانها وقالت لي بلهفة: - ورسلان؟ ما الذي حصل له؟ الاحداث جرت عام 1999 والان نحن 2008. ماذا حصل خلال كل هذه السنين؟ هل سمعتِ عنه شيء؟!

تنهدت بحسرة وقلت: - لا. لم يعد لدينا أي أحد في العراق. حتى اسرة يزن التي كنت اتأمل أن تمدني بالاخبار أن خرج من السجن قد خرجوا من العراق بعد سنة واحدة من خروجنا ولم تكن الهواتف المحمولة قد دخلت العراق حينها لذلك لم يعد لدينا أي تواصل مع معارفنا.
- ألم تفكري بالعودة اليه؟!
- ميس. أنتِ أكثر من تعرفين ظروف العراق الحالية. أي طريق سيأخذني إليه ولم أسلكهُ؟ كل الأبواب أُغلقت بوجهي أقسم لكِ!

مطت شفتيها بقلة حيلة وكتمت داخل حنجرتها كلمات سمعتها من دون أن تنطقها. أنها الكلمات ذاتها التي أؤنب بها نفسي كل ليلة. كيف بعد كل ما فعله من أجلكِ أن تتركي الموضوع بهذه البساطة؟
تحاشيت النظر اليها وشيء بداخلي اعتصر وخجلَ من عينيها التي تلومني سراً وودعتها وخرجت من المقهى نحو منزلي الذي يبعد عن هذا المكان 20 دقيقة!

نحن منذ تسع سنوات نعيش في لندن منذ هروبنا من العراق. كثير من الاشياء تغيرت بي ولم أعد لوجين الساذجة والمجنونة. نضجت فجأة ولم أعد تلك المراهقة التي يتحمل مسؤوليتها الجميع ولا تفعل هي ذلك. اقتربت أكثر من الله وحتى إني لبست الحجاب بعد سنة من استقرارنا هنا.

بعد صعاب كثيرة ومعاملات رسمية واختبارات مرهقة استطعت أن أقدم على كلية الطب هنا ويقبلوني بها لأباشر الدراسة منذ المرحلة الاولى. لا زلت في مرحلة التدريب ولكن على الاقل حققت الحلم الذي لطالما حلمت به أنا ورنا. وبالنسبة لرنا حققته بدورها فقد قدمت على الطب ايضاً في تركيا ونجحت في الدخول اليها. في النهاية الله قد قسم لها الطبية ولم يحطم لها حلمها ولكنه لم يقسمها لها في العراق، ربما لو فعل كانت سترفض الخالة سعاد خروجها هي ورنا معنا. أدركت حينها لماذا أمرض الله رنا في اخر امتحانين لها!

بقينا أنا وهي على تواصل مستمر أما عن طريق الانترنت أو أنا اذهب اليها أو تأتي الينا هي ويزن وابنيهما التوأم عمر وعلى اللذان اعشق كل شيء بهما. برائتهما، مشاكستهما، ضحكاتهما التي تدفعني للضحك بدوري من غير سبب، لقد ورثا شكل ابيهما وجنون امهما بكل تفاصيله!

وصلت الى المنزل فلفحت انفاسي رائحة طعام العشاء الذي تعده امي. تبسمت بينما أغمض عيناي وأنا أتخيل نفسي في منزلنا الذي في الكاظمية وروائح الطعام في هذا الوقت من المساء تفوح من منزلنا وممن يجاورونا!
- هل عدتِ حبيبتي؟!
وصلني صوت أمي من المطبخ فتبسمت وأنا ارد: - لا، لا زلت في الطريق!
مدت رأسها من المطبخ وقالت لي تدّعي الجدية: - كم مرة أخبرتكِ أن نكتتكِ هذه سخيفة؟!
- وكم مرة أخبرتكِ إني لا أبالي برأيكم؟!

حاولت كتم ضحكتها وفشلت وعادت نحو المطبخ وهي تقول لي:
- حسناً يا ظريفة. راسلتني رنا قبل ساعة وقالت أنها تريد التحدث أليكِ فور عودتكِ.
- حسناً.
ودخلت نحو الصالة لأجد أبي يركز مع التلفاز ربما أكثر من تركيزه معي أن تحدثت. حسناً لنكن واقعيين هو في أغلب الأحيان لا يركز معي أن تحدثت!

قبّلته على خده وأنا اجلس قربه فمنحني قبلة سريعة على جبيني والقى تحية أسرع دون أن يبعد عيناه عن التلفاز. نظرت حيث ينظر فوجدته يتابع اخبار العراق واخر التطورات. لا يزال الى الان يحرق سجائره الواحدة تلو الاخرى من غير أن يستمع لنصيحة أمي بتركها كلما شاهد الاخبار!

كانت الاوضاع في العراق تتحول من السيء الى الاسوأ بعد سقوط النظام. أصبحت اعداد الموتى في تزايد مستمر. كل يوم ترتفع فيه عدد الضحايا عن اليوم الذي مضى لدرجة ان الناس لم يعودوا يبكوا أو حتى أن تقشعر أبدانهم أن سمعوا بوفاة أحدهم.

بدأت الاراء تختلف حول صدام. بعضهم يجد لو أنه بقي على ايام صدام لكان أفضل والبعض الاخر(ممن تجرعوا مرارة صدام أو الذين استفادوا من الحكومة الجديدة) كانوا يقولون ألف يوم أسود الان ولا يوم أبيض واحد من أيام صدام.

أذكر تلك الليلة التي شاهدنا فيها لحظة إعدامه. أذكر أن أمي بكت وترحمت عليه بينما أبي تبسم. وأنا لا أعرف ما الذي اختلجني في لحظتها. أنا واحدة من اولئك الذين تجرعوا سجون صدام. ولكن برغم ذلك قلبي اعتصر بشدة وأنا أجدهم يعدموه. أنه أحد ابناء وطني ويعز على أن تكون نهايته بسبب دولة غريبة. لم ابكي في ليلتها. ولكني بكيت في صباح اليوم التالي حين عرضوا فديو جديد لأحدى المقابر الجماعية التي وجودها. بكيت على منظر إحدى الامهات وهي تحاول التعرف على جثة ابنها من ملابسه التي خرج فيها عام 1987، كل هذه السنوات ولا تزال تذكر حتى الوان قميصه الذي خرج بها!

لم أُعفي صدام من الذنب ولم أُعفي حكومتنا الجديدة. فصدام نهش من لحمنا والحكومة الجديدة اكملت الباقي. سواء ايام صدام او غيره فبالحالتين نحن مظلومين!
تنهدت بضيق وتركت التلفاز لأنهض نحو غرفة المكتب حيث نضع الحاسوب المتصل بالانترنت هناك كي اراسل رنا.
اغلقت الباب وجلست على الكرسي امام الحاسوب وفتحت غرفة الدردشة لأبدأ التحدث اليها:
- مرحباً حضرة الطبيبة الحمقاء رنا.

لم يكن من عادتها الرد على بسرعة ولكني تفاجئت بيومها وهي ترد في الحال وكأنها تنتظر عند الحاسوب لتراسلني:
- مرحباً لوجين. ما هي كلمة السر؟
قطبت حاجباي وبعض القلق يعتريني. فكلمة السر نستخدمها أن كان بجوار إحدانا أحدهم ونريد التكلم بموضوع سري بيننا. فكتبت لها في الحال:
- 1999. تحدثي!
وهذا هو تاريخ خروجنا من العراق والذي جعلناه رمزنا السري. لكي لا ننسى ما عشناه ابداً!

- عرفت الطريقة التي ستوصلكِ لاخبار رسلان
شهقت بلهفة وأنا أكتب لها بأصابع مرتجفة:
- بالله عليكِ؟ كيف؟!
- الشركة التي يعمل بها يزن هي شركة تجارية كما تعلمين، أي يصدرون ويستوردون ولديهم وكلاء. لقد تعاقدوا قبل فترة مع وكيل عراقي لتصدير بضائعهم الى العراق وصادف أن هذا الوكيل يكون أحد معارف يزن القدامى. أنه يذهب ويأتي الى تركيا ويقول أن لديه طريق امن يعبر من خلاله لذلك بإمكان رسلان القدوم معه حتى!

كان صدري ينخفض ويرتفع بقوة مع كل حرف اقرأه وأكاد أنفجر ضاحكة من شدة سعادتي ولهفتي. تلاشى الجزء البسيط من ابتسامتي مع عبارتها الاخيرة لأرد عليها باستنكار:
- يأتي؟ أنا التي سأذهب اليه هذه المرة
لترد على وأنا أتخيل ملامح وجهها المفزوعة:
- تذهبين ألى أين ايتها المجنونة؟ ألا تسمعين ما يحصل في العراق؟!
- هذا الشيء سنتناقش فيه لاحقاً رنا حين آتي إليكم. متى يأتي صديق يزن هذا؟

- أنه الان في تركيا وسيعود الى بغداد بعد ثلاثة ايام
ارتجف قلبي حين قرأت أسم بغداد وانبثقت فوراً بعقلي بلحظة كل ذكرياتي وايامنا هناك. حيث كنا لا نزال شعباً وبلداً واحداً!
اجبتها بعد أن أخذت نفساً عميقاً لأضبط فيه انفاسي المرتجفة من شدة الشوق والارتباك:
- حسناً سأذهب الان وغداً منذ الصباح الباكر سأقدم إجازة من عملي وأحجز تذكرة وآتي الى تركيا
- لا أعلم يا لوجين. ولكن لست مطمئنة لفكرة ذهابك.

- ضعي نفسكِ في مكاني يا رنا. أنا لم يعد بي طاقة لأتحمل أكثر من ذلك. هذه هي الفرصة الوحيدة التي سنحت لي كي أدخل العراق مجدداً مع أحدهم فدعيني استغلها. لا يمكنني الذهاب وحدي فلم يعد البلد امناً لأسلك الطريق الذي ارغبه، ولا يمكنني انتظار اسرتي الى أن تقتنع بفكرة الذهاب. قبل ثلاثة ايام فقط تشاجرنا أنا وأمي حول هذا الموضوع لأني فتحت النقاش ذاته. أنتِ تعرفين رد فعلها جيداً اتجاه هذا الأمر وأنا متأكدة أنها لن تقتنع بفكرة العودة حتى بعد سنوات. لذلك أرجوكِ لا تقفي في طريقي في الوقت الذي احتاج فيه الى مساندتكِ.

- أنا لا أقف في طريقكِ حبيبتي ولكني أخاف عليكِ
- لا تخافي سأتدبر الأمر
- وما الذي ستخبريه للخالة سهير والعم عادل؟ وماذا سأقول أنا لأمي هنا؟ فكما تعلمين ساعة واحدة تجلس لتتحدث مع امكِ وستخبران بعضهما بكل شيء!
- لا تقلقي سأتدبر الأمر هنا وحين آتي سأتحدث للخالة سعاد وسألفق شيئاً ما
- حسناً إذاً. ليسهل الله الأمور في طريقكِ
- امين!

أنهيت المحادثة وحرصت على حذفها كي لا تفتش امي الحاسوب من بعدي وتعرف خطتي التي ستحبسني في الغرفة لو اضطرت كي تمنعني من تنفيذها بعد كل ما شاهدته يحصل في العراق مؤخراً!
خرجت من المكتب وبالطبع سألتني أمي عما كانت رنا تريده بهذه الأهمية فأخبرتها بكذبة بيضاء حول أنها تعرض على الذهاب للأمارات. حسناً لم تكن كذبة بيضاء تماماً. ربما رمادية بعض الشيء!
سألتني امي بتشكيك:
- الأمارات؟!

فقلت بينما أشغل نفسي بقضم قطعة خيار كانت تقطعها أمي كي اخفي ملامحي المرتبكة عن طريق المضغ:
- اجل. أخبرتها قبل فترة إني اتشوق لرؤية الامارات فيُقال أنها أصبحت دولة سياحية جميلة لذلك اخبرتني أن هناك رحلة سياحية سيقيمها المهاجرون في تركيا وبذلك سأنضم إليهم ربما!
بقيت تنظر بجمود في وجهي لثواني ثم قالت:
- وهل أنتِ الان تخبريني أم تأخذين رأي؟!
- وهل ستمانعين أن ذهبت؟!

- برحلة من إنكلترا لتركيا ومن ثم للأمارات؟ ما رأيكِ أنتِ؟!
- هل أنا صغيرة أو ما شابه أمي؟!
وضعت السكين بحدة بجانبها وقالت:
- لوجين لا تجننيني! سمحت لكِ الذهاب وحدكِ الى تركيا لأن أبيكِ يوصلكِ للمطار ويزن ورنا يستقبلوكِ في مطار تركيا. أما فكرة أن تذهبي برحلة سياحية وحدكِ فهذا ليس أمراً وارداً عندنا!
زفرت بضيق وقلت:
- لا تبالغي يا أمي!
فسمعت صوت أبي من الصالة:
- ماذا هناك؟!

فذهبت فوراً لاستنجد به وأمي تتبعني وقلت له:
- ابي! ما المشكلة أن ذهبت في رحلة سياحية كما يفعل باقي الناس؟ ألا أستحق بعض الراحة من العمل الذي يمنعني من عيش حياتي والتخلي عن المسؤولية لفترة من الزمن لأعيش لنفسي وأتمتع؟!

تنهد أبي بحيرة وأنا أدرك أنه لا يرفض لي طلب لذلك شعرت بانتصار من قبل حتى ان يمنح إجابته لأمي التي تنظر له بتحفز، ما بين ابنته المدللة وما بين زوجته. هذا بالفعل أصعب اختيار على الرجل ان يختاره دون أن تقتله إحداهما!
- سهير عزيزتي. ما الذي رأته المسكينة من حياتها؟ دعيها تستمتع بوقتها قليلاً!

تبسمت بزهو وأنا أمنح ابي قبلة سريعة منحت مثلها لأمي وصعدت الى الأعلى بفرحة بينما هما قد دخلا بنقاش حاد من ناحية أمي. أنا اعذرها. أنها تمتلك قلب أم وتعرف أن هنالك شيء ما ليس على ما يرام. فعلى من أكذب أنا؟ ألا أدرك إني سأرتكب مصيبة؟!

أعزائي الركاب. الرجاء ربط أحزمة الامان بينما تهبط الطائرة في المطار الدولي لمدينة اسنطبول
تبسمت براحة وأنا استعد للنزول من الطائرة، لم يتبقى الشيء الكثير وألتقي به!
نزلت الى المطار ووجدت رنا تنتظرني هناك لوحدها مع الصغيرين. ركضا نحوي مسرعين فور عبوري حواجز التفتيش فتلقيتهما بين يداي ورفعتهما لأدور بهما حول نفسي بينما استمع لضحكاتهما التي تمتزج مع ضحكتي
عانقتني رنا بعدها بقوة وهي تقول لي بشوق:.

- وكأني لم أراكِ منذ سنين ايتها الحمقاء!
- وأنا مشتاقة لكِ ايضاً ايتها المؤدبة!
نظرت إلى وهي تضيق عينيها بينما تقول:
- هل تحاولين اشعاري بالخجل من اخلاقكِ؟!
- وهل أملكها من الاساس والعياذ بالله؟!
ضحكت وهي ترد:
- وهذا ما أظنه ايضاً!
خرجنا من المطار لنستقل سيارة رنا نحو منزلها. كان منزلها ذو تصميم فخم وحديث الطراز وتم تصميمه حسب الذوق الشخصي لها وليزن.

لقد تحسنت أحوالهما كثيراً لا سيما بعد قدوم والد يزن الى تركيا وعقد شراكة مع الشركة التي يملكها صديقه ليبدأو العمل سوية. احياناً أشعر أن الله قد عوض رنا كثيراً عن كل شيء حرمه منها منذ طفولتها والى زواجها من غير أن تتذمر أو تشكو من نصيبها في الدنيا. لطالما كانت ترضى بأي شيء وتتقبله على أنه إرادة الله لحياتها ولابد أن لكل هذا معنى وسبب. لابد لكل معاناة نصيب من هدايا الله. فلم يبخل الله عليها بشيء. فقط لأنها رضت بكل شيء منحها لها!

وصلنا الى منزلها فاستقبلتني خادمتها لتحمل عني حقيبتي، رغم أنها كانت حقيبة صغيرة الحجم ولكنها مع ذلك رفضت أن أحملها ولم أكن استطيع معاندتها في الحقيقة فلم أكن أجيد سوى بضع كلمات تركية لذلك سمحت لها بحملها.
تحدثت لها رنا بشيء ما بالتركية لم افهمه ولكن ما ادركته من بضع كلمات اخيرة أنها تسألها عن تجهيز الطعام.

دخلت الى الصالة لأجد الخالة سعاد هناك تمسك مسبحتها بيدها وتتمتم بشيء ما. فور رؤيتها لي قطعت تهليلاتها وتسبيحاتها ونهضت إلى وهي تشهق بشوق وتضمني الى صدرها بقوة...
أتذكرون يا ترى رائحة المسك والعنبر التي كنت أصفها لكم بداخل حضن الخالة سعاد وكم كنت أعشقها؟!
أغمضت عيناي وأعادتني ذكرياتي نحو تلك الصباحيات التي توقظني فيها وتضمني الى صدرها وتمنحني قبلاتها الحنونة فوق خصلات شعري ووجنتاي لأستيقظ!

- آه كم اشتقت لكِ يا طفلتي العزيزة!
قالتها الخالة سعاد وأنا أشعر أنها على وشك البكاء فتبسمت وقبلتها من أعلى رأسها وأنا أقول لها:
- مهما كان مقداره فهو لا يوازي أبداً اشتياقي لكِ يا ست الكل!

ضحكت بسعادة وقبلتني على وجنتي اليمين واليسار ثم أجلستني بالقرب منها وهي تبدأ السؤال عن اسرتي واحوالهم ومن ثم دخلت بمرحلة وصايا وتحذيرات حين أسافر غداً الى الأمارات فأدركت أن أمي قد اتصلت بها فور صعودي الى الطائرة. أو ربما قبل ذلك بكثير. يا لسرعة انتقال الأخبار عند النساء!
مضى الوقت سريعاً معهم وأنا أنشعل بقص أخباري عليهم أو أسمع أخبارهم، واخيراً حانت اللحظة الحاسمة. جاء يزن الى البيت!

ألقيت عليه التحية وجلسنا لنتحدث مطولاً بمواضيع عشوائية لا تمت أي صلة لموضوعنا الأصلي. ألى أن نامت الخالة سعاد!
فور أن سمعت صوت أغلاق باب غرفتها نظرت نحو يزن بلهفة وقلت بهمس:
- إذاً؟!
وضع قدماً فوق أخرى وادّعى انشغاله بالنظر الى أظافره بينما يقول لي باستفزاز متعمد:
- كم ستدفعين لي بالمقابل؟!
كتمت ضحكتي على منظره ورفعت الوسادة من جانبي على الاريكة ورميتها باتجاهه حيث يجلس أمامي وقلت له:.

- تحدث وألا ستكون الزهرية هي الشيء الثاني الذي سألقيه!
فتمتم مدعياً الخوف:
- وأنا أقول لِما رنا متوحشة. يبدو أنها تطبعت منكِ!
رفعت رنا رأسها من فوق يد عمر وهي تعضه وتلاعبه وقالت بنظرات تضيقها بتهديد:
- قلت شيئاً حبيبي؟!
فرد فوراً مدعياً الارتباك:
- أقول لها من أين أتيتِ بكل هذه الوحشية. لِما لا تكونين مثل زوجتي الأليفة؟!
رفعت وسادة اخرى ورمتها نحوه وهي تقول:
- أليفة؟ وهل أنا حيوان؟!

كدت أن أفترس كلاهما في هذه اللحظة ولكن على فاجئني وهو يقفز من خلف اريكتي على ظهري يريد أن يتصارع معي، الحمدلله إني تذكرت في اللحظة الأخيرة أنه طفل ولم أرميه ارضاً!
- هل أنتم جادون؟!
صرختها بنفاذ صبر فعم الهدوء للحظات على المكان قبل أن تقطعه رنا بضحكاتها البلهاء التي دفعتني للضحك بدوري.
نظرت نحو يزن وقلت له:
- تحدث وألا أقسم لك إني سأقوم لأقتلك!
اثناء ذلك سمعت صوت جرس الباب فنظر نحو رنا في الحال وقال:.

- ألبسي حجابكِ. لابد انه هيثم!
نهضت مسرعة نحو غرفتها فنظرت نحوه باستغراب وقلت:
-ومن يكون؟!
- أنه صديقي القادم من العراق!
رفرف قلبي وضاقت انفاسي بتوتر ولهفة بالوقت ذاته. أنه بطاقة دخولي لرؤية رسلان!
لم يكن عقلي معه حين دخل ملقياً السلام علينا ولا حين جلس وجاءت رنا وألقت التحية ولا مع الأحاديث السطحية التي خاضوها في البداية. كل ما كان عقلي معه هو متى سنتحدث بالتفاصيل!
- انسة لوجين.

قالها هيثم الذي سأقيم عمره ربما بالخامسة والاربعين فشددت انتباهي له وأنا أقول بلهفة:
- نعم؟
- أخبرني يزن عن كل التفاصيل وأمر قدومكِ معي. أنا لن أضمن لكِ أن العراق آمن. رأيت أنه عليكِ أن تعرفي ذلك. لاسيما لفتاة تحمل الجنسية البريطانية!
فقلت فوراً:
- لا بأس أعرف ذلك. وكل نتائج دخولي الى هناك سأتحمل مسؤوليتها.

- بالنسبة لدخولنا فلن يكون شرعياً. أنا أسافر من والى تركيا عن طريق الشمال من طرق خارجية. أي من دون الحاجة للمرور بالحكومة أو تقديم جواز. هذا من اجل التهرب من الضربية التي يفرضوها على البضائع.
فقلت بقلق:
- ولكن ماذا لو أمسكتنا الحكومة؟!
تبسم وكأنه يسخر من شيء غبي قلته ونظر نحو يزن الذي منحه ابتسامة مشابهة وعاد ببصره ألي وقال:.

- هل تظنين أن حكومتنا الان مثل الحكومة التي تركتها حين خرجتِ؟ الان يا انستي يمكنهم أن يجدوا معكِ حمولة من السلاح والمخدرات وسيجعلوكِ تمرين من غير عقاب فقط ان كنتِ تمتلكين أحد المعارف في الدولة أو هوية لأنتمائكِ لحزب معين، هل تظنين أن الأمن شديد هناك؟ بمجرد رشوة سخيفة سنخرج منها أن قبضوا علينا. بل وحتى لن يقبضوا أن دفعنا لهم الرشوة فور كشف أمرنا!

رغم أن هذا من المفترض أن يشعرني بالرضا والاطمئنان إلا أنه قبض على روحي بشدة لدرجة إلآمي وأنا أتخيل وضع بلدي ينحدر بهذا الشكل!
- إذاً انسة لوجين. ما هو قراركِ؟!
تنهدت بهدوء وأنا أقول:
- لا يزال كما هو سيدي!
- حسناً إذاً. موعدنا غداً الساعة السادسة صباحاً!

رحل هيثم بعد نصف ساعة تقريباً وجلسنا أنا ويزن ورنا مجدداً بعد أن نام التوأمين. حاولا بكل طريقة أن يثنياني عن رأي أو على الأقل أن يرافقني يزن ولكني رفضت بشدة. لا أريد أن يصيبه مكروه بسببي فلديه أطفال وزوجة ستهدم حياتهم لفراقه!

نمنا ليلتنا كل واحد فيهم بمشاعر مضطربة إلا أنا كنت متشوقة لقدوم الغد. فهذا سيقربني بالزمن والمسافة من رسلان أكثر وأكثر، أنا متشوقة للقائه أكثر مما تشوقت لأي شيء اخر في حياتي. أتمنى فقط أن لا يحصل أي عائق يعكر لي فرحتي هذه أو تتأجل سفرتنا، ويا ليت لو أنها تأجلت. للأبد ربما!

حلّ صباح اليوم التالي فقفزت من فراشي بسعادة مع رفع آذان الفجر الذي اشتقت لسماعه بشدة بهذا الصفاء والكثرة!

أديت صلاتي وأطلت سجودي ودعوت الله كثيراً أن ييسر لي أموري وأن يحفظ حياتي لحين رؤيتي له فقط وليأخذها بعدها لو أراد. فقط ليمنحني فرصة اخيرة أودعه به وأخبره كم أنني أحبه وإني لا أزال الى الان حتى بعد مضي تسع سنوات مخلصة لحبه وحده وإني لم أنساه ولو للحظة واحدة. سأخبره كم إني أسفة لكل ما جعلته يمر ولأني تركته وهاجرت. يا ترى هل سيقبل أعتذاري؟ وهل لا يزال يحبني كما يفعل أم أنه نسي أمري؟!

لا أعلم في لحظتها كيف حشرت فكرة كتلك في عقلي ولكن. ما الذي يضمن لي أنه لا يزال حي ولم تلتهمه تلك المتفجرات الشبه يومية في بغداد؟!
انعصر قلبي بقوة واجهشت بالبكاء في الحال وأن أتوسل الله بصوت مرتجف أن لا يحصل ما تشائمت به فجأة!
قبّلت أسورته الفضية التي لا تزال تحوط معصمي، والتي لا أعلم لليوم كيف نجت من وحشية كامل، ونهضت وأنا أمد نفسي ببعض التفاؤل!

غيرت ملابسي وودعت العائلة وخرجت من المنزل برفقة يزن الذي أخذني الى هيثم الذي كان ينتظرتي قرب سيارته الطويلة المحملة بالبضائع. تجعدت ملامحي ببؤس وأنا أتذكر السيارة المشابهة لها والتي حملتنا من العراق هاربين!
ودعت يزن وركبت في الكرسي الوحيد في السيارة والذي يقع بجوار هيثم.

كان رجلاً محترماً جداً لدرجة أنه لم يفتح معي أي موضوع سوى الرد على أسئلتي أو حين يسألني ما أن كنت محتاجة لشيء. كان هذا سبباً كافياً ليجعلني أطمئن له وأغط بنوم عميق!
بالطبع لم أستيقظ وأجد أننا على حدود بغداد فالطريق الى هناك استغرق منا أكثر من يوم وتوقفنا لمرات عديدة لننزل كي نريح أجسادنا أو نأكل شيء أو نملئ السيارة بالوقود!

دخلنا حدود بغداد حوالي الساعة الثامنة صباحاً. كنت أتلهف لرؤية مدينتي ذاتها. ولكني لم أجدها!
تركوا لي مدينة مشوهة الملامح ومحترقة الروح والجسد. مهدمة ومهملة وكأنها مهجورة من الحياة التي كانت تدب فيها. بعض البنايات لاتزال مهدمة والبعض الاخر لا يزال ملطخ بالأسود.

فور دخولنا سمعت صوت انفجار بعيد جعلني أشهق بفزع ولكن هيثم لم يبدو عليه أنه تأثر به ولو قليلاً. كل ما فعله هو هز رأسه بيأس ولعن الحكومة. واكتفى!
لقد اعتادوا هذه الحياة لدرجة لم يعد تؤثر بهم كما يفترض بها أن تفعل!
نظرت بعيون باكية نحو كل شيء أحاول أن أجد ولو شيء واحد كما تركته. ولكني لم أفعل!

حتى الناس تغيرت. بدت لي وكأنها تسير وملك الموت يسير فوق رؤوسهم فيلتفتوا في كل لحظة يميناً وشمالاً ليتأكدوا أنه ليس هنالك أي متفجرة قريبة أو سيارة ستقف لتأخذهم وتطالب أهاليهم بفدية عالية ربما حتى لو دفعوها سيقتلوهم!
ظننت أننا لو تخلصنا من صدام فسنقضي على الخوف والظلم. لم أدرك أن هناك ألف صدام كان ينتظر في الظلام الفرصة السانحة ليخرج!

أوصلني هيثم بعد ساعتين نحو مدينة الكاظمية بسبب الازدحامات. لقد زادت عدد السيارات وزاد معها الازدحام بالتالي!
لم أصدق نفسي وأنا أودع هيثم وأضع قدماي على أعتاب مدينة الكاظمية. مدينتي. محلتي. جيراني. أنه هوائي انا الذي لم أكن استنشق غيره!
أعترتني رغبة عارمة أنا أقف وسط الشارع وأصرخ أنا لوجين. لقد عدت. وألقي التحية بعدها عليهم الواحد تلو الاخر وأضمهم لأشم رائحة بلدي فيهم!

ولكن في لحظتها لم أكن أهتم بأي شيء سوى رؤيته هو!
أسرعت باتجاه منزلهم من اجل أن أقابله.
وصلت الى هناك لأجده خالي منهم. أصبح مكان لتخزين البضائع لإحدى المتاجر. انقبض قلبي وشعرت إني بدأت أفقد خيط الأمل الذي أتشبث به بقوة. فجأة سمعت صوتاً مألوفاً على مسامعي. التفت لأجده العم أمجد ذو المذياع المعطل دائماَ، كان يتحدث مع صبي المقهى أن يحضر له كوب شاي ساخن
وسط صوت فيروز الذي يعيدني لصباحيات أمي في المطبخ.

اقتربت منه حيث يجلس عند باب محله الجديد وقلت له بابتسامة متلهفة:
- عم أمجد؟!
نظر إلى باستغراب ولكنه مع ذلك قال مرحباً بي:
- اهلاً وسهلاً بكِ يا ابنتي. تفضلي؟!
- ألا تذكرني؟!
بقي يحدق بملامحي يحاول التذكر ويفشل فقلت له فوراً بابتسامة أكثر اتساعاً:
- أنا لوجين. ابنة عادل وسهير!

فنهض فوراً من مكانه وهو يبتسم بلهفة وسعادة وكأنه رأى صديقاً قديماً له. وكأن كل ذكريات ماضيه قد تفجرت بملامحي. قال فوراً بنبرة كانت تبدو لي أنها تمتلك أجنحة سعادة لا تطيق الدنيا حملها:
- يا اهلاً وسهلاً بالغالية العزيزة! كيف حالكِ صغيرتي؟ وكيف حال أسرتكِ؟ والسيدة سعاد وابنتها؟
- جميعنا بخير والحمدلله
- هل عدتم الى بغداد؟
- لا. أنا فقط من فعلت. جئت أبحث عن منزل العم ايمن ولم أجدهم!

- لقد انتقلوا منذ زمن. بعد أن خرج ابنهم من السجن فوراً انتقلوا. ولكن يأتي رسلان أو أيمن بين الحين والاخر ليطمئنوا على اوضاع منزلكم ويلقوا التحية علينا ويذهبوا.
رفرف قلبي مع عبارته التي تتضمن رسلان وذكراه. أردف فوراً وهو يخرج مفتاح من جيبه:
- وعلى ذكر منزلكم. هذه نسخة من مفتاحه وضعها رسلان عندي في حال حصول أي أمر طارئ.
أمسكت المفتاح بيدي المرتجفة والمتوترة وقلت وأنا أشعر بغصة وسط حنجرتي:.

- يا ترى هل تعرف منزلهم الجديد أين يقع؟!
- بالتأكيد. أنه في المنصور. أعطني ورقة لأرسم لكِ موقعه بالضبط كي لا تضيعيه!
فتحت حقيبتي على الفور أفتش فيها بارتباك بسبب سعادتي عن دفتر ملاحظاتي والقلم لأعطيه للعم أمجد على الفور وأنا اراقبه بلهفة بينما يرسم عنوان منزلهم بالضبط!
ودعته وشكرته كثيراً. ربما أكثر مما شكرت أي أحد اخر في حياتي!
أستقللت سيارة أجرة ووهبته العنوان ليأخذني اليه.

كنت طوال الطريق أضع يدي على قلبي وأدعوا بكل ادعية الشكر التي أعرفها. أغمضت عيناي مبتسمة وملامحه ترتسم أمامي. كيف سيبدو الان؟ هل أصبح أكثر طولاً؟ أكثر وسامة؟ هل لا يزال ذاك الذي أعرفه والذي يقطب حاجبيه على الدوام لسبب أو لدونه؟ يا إلهي سأنفجر من السعادة واللهفة. أريد الطريق أن يمضي فقط لأصل بأسرع وقت ممكن!

وضعني السائق أمام باب منزله فوضعت الاجرة على الكرسي الامامي ونزلت بسرعة. لم يعترض على مقدارها لأني لا أعرف كما كان سيطلب ولا أملك أي أموال عراقية حديثة لذلك استخدمت عملة الدولار الذي أرضته كثيراً على ما يبدو وادهشته ايضاً!
حدقت بالمنزل بشوق وانفاس سريعة وأنا اتخيل أن ما يفصلني عنه فقط هذه الجدران والمسافة القصيرة. بعد أن كانت المحيطات والجبال بيننا أصبح الان بضع مترات فقط!

تقدمت بخطوات بطيئة نحو المنزل وأنا استنشق أنفاسي بصعوبة من شدة التوتر. رفعت يدي وضغطت جرس الباب مرة ومرتين ومنعت نفسي بصعوبة من ضغط الثالثة أو إبقاء يدي على الجرس كالطفلة البلهاء لحين خروجهم!
لحظات حتى سمعت صوت امرأة شابة تنادي من خلف الباب:
- قادمة قادمة!
لا أعلم لما قرصني قلبي مع صوتها الانثوي الشاب ولكني منعت أي فكرة أن تتوافد الى عقلي.

لحظات قصيرة حتى فتحت الباب لي فتاة شارفت على بلوغ الثلاثين ذات عيون خضراء واسعة وشعر اشقر طويل وجسد ابيض ممشوق. كانت ترتدي فستان منزلي قطني لا يعلو ركبتيها ولكنه يبرز كل ساقيها وبربع أكمام. كانت تستر جسدها خلف الباب في البداية ولكن حين أدركت إني فتاة فتحت الباب ووقفت باريحية وهي تقول بابتسامة بشوشة:
- اهلاً وسهلاً، تفضلي؟!

يبدو إني أخطأت بالعنوان، هذه هي الفكرة التي حشرتها بعقلي بقوة ورفضت أن أستقبل تلك الاخرى التي خطرت لي!
ازدردت ريقي بصعوبة وقلت وقلبي يزداد انقباضاً:
- عفواً. أليس هذا منزل رسلان؟!
- أجل انه كذلك.
بقيت أحدق بها بذات ملامحي المتفككة والباهتة أحاول أن أتحدث بشيء وأوقف سيل أفكاري السوداء ولكن أفشل. قالت لي بلطف تحثني على الحديث:
- هل أنتِ زميلته في العمل؟!

ازداد انقباض قلبي اكثر وعجزت عن الكلام فاكتفيت بايماءة من رأسي حين قلت لا.
بللت شفتاي بطرف لساني وقلت بصوت مرتجف هامس وكأني اخشى منها أن تسمعني فترد:
- ومن. من أنتِ؟!
كان يبدو سؤالي غبياً ووقحاً ولكنها رغم ذلك تبسمت وقالت لي:
- أنا رهف. زوجته!
فجأة اسودت الدنيا بعيني وشاهدت الظلام يبتلع كل شيء ابيض من حولي ويخفي كل الاصوات ويقص لي اجنحة سعادتي الوهمية.

شعرت بالارض ترتخي من تحتي وتمنيت لحظتها لو انها تنشق وتبتلعني وتخفيني الى الابد. تمنيت لو إني لم اقطع كل هذه المسافة الى هنا لأصدم بهذا الواقع. يا ليتني احتفظت بذكرانا القديمة بدل أن أؤسس حقيقة جديدة الان على تقبلها رغم رفضي لها!
متزوج؟، فكرة كان موتي سيكون أرحم بكثير منها!

لم يقطع على صدمتي وأنا أحدق بتلك الرهف صوتها أو سؤالها لي. بل صوت أكثر رقة وأكثر ملائكية. كان طفل صغير ورث شعر امه وعيناها ظهر فجأة من خلفها يطالبها بالدخول لتعد الكعكة التي وعدته بها!
تنفست بعمق وأنا أغمض عيناي بقوة أحاول أن استعيد رباطة جأشي وافشل فسمعتها تقول حين لاحظت حقيبة سفري ولابد إني قادمة من مكان بعيد عن منزلها:
- سيعود من المكتب في المساء. تفضلي بالدخول لتنتظريه.

اومأت رافضة وقلت بصوت مرتجف:
- لا. شكراً لكِ.
واستدرت اسير خطوات ضعيفة وركيكة فسمعت صوتها مرة اخرى يسألني:
- عفواً. من اخبره أن عاد؟!
نظرت اليها بعيون فارغة خالية من أي روح وقلت لها بصوت هش:
- لا داعي أن تخبريه. فقط أبلغيه سلامي.

ورحلت وسط علامات استغرابها واتجهت نحو الطريق العام متجاهلة كل شيء من حولي. فجأة لم اعد ارى السماء بذلك الصفاء والجمال ولم أعد استمع للأصوات من حولي باستمتاع. فجأة أصبح كل شيء بشع وخالي من أي معنى. فجأة عادت بغداد لتخنقني وأريد الفرار منها فحسب!
استقللت سيارة اجرة نحو الكاظمية مجدداً لأستقر في منزلي.

نزلت من السيارة وشققت سوق الكاظمية مجدداً ومجدداً نحو منزلي. كنت تائهة وسط روحي رغم الازدحام من حولي.
في اخر مرة كنت كذلك حين خطفني كامل فالتجئت نحو بقالة العم ايمن لألتاذ برسلان. ولكن اليوم أنا تائهة من رسلان من الأساس...
أشعر بالغضب والحزن والصدمة والعتاب كلها بوقت واحد!

سمعت صوت العم أمجد يناديني ويستغرب عودتي مبكراً وسؤالي ما أن وجدتهم أم لا. ولكني لم أمتلك القوة على الرد. كنت مهشمة الى اشلاء صغيرة أعجز عن جمعها لأستند عليها!
أدخلت المفتاح في بابنا ودخلت الى المنزل. ظننته سيكون مليء بالغبار والاوساخ ولكني تفاجأت به يلمع من النظافة ويعبق برائحة زكية وكأن أحدهم يسكنه!

أغلقت الباب من بعدي وحركت عيناي بالارجاء ما بين حزن وشوق. لا يزال الاثاث مرتب كما هو وكأننا لا نزال نسكن فيه. شعرت للحظة إني سأسمع صوت أمي والخالة سعاد قادم من المطبخ وسألمح أبي يقطع الصالة نحو الحمام ليتوضئ بينما رنا تنزل من الدرج تركض وهي تحمل بيدها جزرة تقضمها كالبلهاء، شعرت فجأة إني عدت لعام 1999، ولكن فجأة تلاشت اطيافهم وعادت الوحشة تسكن زواياه!

أشعلت الاضواء وجلست على اريكة الصالة أريح جسدي وعقلي من كل ما مررت به اليوم.
مددت يدي نحو الحقيبة وأخرجت هاتفي لأتصل برنا. كنت قد اشتريت خط هاتف جديد ورصيد فور وصولي للعراق من أجل أن أتصل بهم فلا يزال الانترنت هنا محدود الاستخدام ولا تجده في كل مكان.
ثلاث رنات لا أكثر حتى سمعت صوتها:
- الو؟ لوجين؟!
تبسمت وقلت:
- ما هذا؟ كيف عرفتني يا عبقرية الزمان؟!
- أنه رقم دولي فمن عساه سيكون غيركِ!

- يا للعجب! أصبحتِ تفكرين؟!
ضحكت وقالت:
- بالله عليكِ أعفيني اليوم من فلسفتكِ. وكأنه لا تكفيني فلسفة يزن!
ثم أردفت في الحال:
- متى وصلتِ للعراق؟ وهل رأيتِ رسلان؟!
- وصلت صباح اليوم هذا.
- ورسلان؟!
تنهدت بألم وسقطت مني دمعة كنت أكتمها طوال هذا الوقت فقالت رنا بقلق بعد أن طال صمتي:
- ماذا حصل يا لوجين؟
أخذت نفساً عميقاً ومسحت دموعي وقلت:
- لم يحصل شيء يا رنا. ذهبت الى منزله في المنصور ولكني لم أقابله!

- لماذا؟!
مسحت دمعة اخرى سقطت وقلت:
- لقد خرجت لي زوجته. لذلك لم أخبرها حتى إني زوجته الاولى. لقد هربت فحسب!
- لحظة لحظة. من التي خرجت لكِ؟ رسلان متزوج؟!
- أجل. ولديه أبن ايضاً!
- لابد أنكِ تمزحين. كيف يعقل هذا؟!
وقبل أن أرد سمعت صوت يزن بجانبها وهو يقول:
- ولماذا لا يعقل؟ لقد مرت تسع سنوات يا رنا. أنه رجل ويحتاج الى امرأة في حياته وليس أن يعيش وحيداً!
فقلت أنا:.

- يزن محق. لا سبب يدفعه للبقاء عازباً طوال هذه السنين وهو حتى لم يتلقى أي خبر مني ولا يعرف أين مكاني ولا يعلم أن كنت سأعود في يوم أم لا؟ لقد بلغ الثلاثين فمتى سيؤسس لنفسه عائلة؟!
فردت وهي تزفر بحيرة:
- ولكن مع ذلك كان عليكِ رؤيته يا لوجين. بعد كل هذه السنين التي مرت وبعد كل ما فعلهُ من أجلكِ كان يستحق منكِ أن تقابليه وتشكريه.

- وما الذي سيعنيه رؤيتي له يا رنا؟ كل ما سأفعله أني سأهدم الحياة التي بناها بدخولي حياته مجدداً!
فسمعت صوت يزن ينطلق مجدداً ممازحاً:
- تفائلي بالخير. ربما لم يعد يحبكِ ولن تهدمي له شيء!
كتمت ضحكتي المرهقة وقلت:
- اجعلي هذا الذي بجانبكِ يخرس وإلا سأخرج له من الهاتف وأفترسه.
سمعت قهقهته هو ورنا على الطرف الاخر فقلت فوراً:
- كيف يسمع ما اقوله؟ هل تفتحين مكبر الصوت؟!
فقالت رنا من وسط ضحكتها:.

- لا لا. ولكنه يلصق أذنه في السماعة يريد أن يعرف عمّا نتحدث!
ضحكت بقلة حيلة وأنا أهز رأسي بيأس منهما. جميعنا نضجنا عداهما!
قلت بينما أنهض بتعب من الاريكة:
- اذهبي يا رنا أنا متعبة وأريد أن ارتاح وأنتِ وزوجكِ تقتلون اخر الخلايا العصبية المتماسكة لدي!
- حسناً ولكني لا تطيلي غيابك واتصلي بي فور استيقاظك كي لا أقلق!
- حسناً حسناً سأفعل!

أنهيت المكالمة والقيت نظرة سريعة على المنزل. كانت غرفة والداي بأكملها مغطاة بالشراشف البيضاء كي يحافظ عليها، أما المطبخ فكان نظيف بشكل يدل على الاستخدام مؤخراً. هل يعقل أنه يأتي مع زوجته تلك الى هنا؟ يا إلهي يا لعقول النساء. كرهت المسكينة من قبل حتى أن تسيء لي بشيء، لكن بالنسبة لي كان يكفي أن تقترب من رسلان. كنت أرى هذا الذنب الكافي لأتمنى قتلها!

صعدت نحو غرفتي بخطوات متعبة وفتحت الباب لتنفرج شفتاي بذهول. كانت مثلما تركتها بالضبط. أنا اذكرها جيداً فقد تمعنت بتفاصيلها كثيراً في اخر مرة كنت فيها. أذكر إني وضعت فرشاة شعري فوق وسادتي حين خرجت من المنزل. كنت اذكر هذا جيداً فقد تعمدت وضعها هناك، وكأني أترك عبق شعري فوق الوسادة من اجل أمي. لا تزال الفرشاة حيث هي!

كانت الغرفة نظيفة ومرتبة ولكن كل شيء على وضعه. وايضاً لم يتم تغطيتها بأي شراشف بيضاء. هذا يعني أن أحدهم يستخدمها. أيعقل؟!
تبسمت مع الفكرة التي تخاطرت الى عقلي وأنا أتخيل رسلان يدخل الى غرفتي ويرتبها بنفسه ويجلس فيها ربما لبعض الوقت. وألا لو كان يريد أن يتخذها غرفة فحسب اثناء بقائه في المنزل فلما لا يستخدم غرفة والداي في الطابق الأرضي؟ ولِما يترك كل لمسة مني على وضعها من غير أي تغيير؟

حملت الفرشاة بيدي ودموعي تتساقط عليها بقهر، أنا أحبه برغم كل شيء وقطعت كل هذه المسافة وخضت كل هذه المجازفات من أجل رؤيته فقط. فهل سأرحل الان ببساطة دون أن أراه؟ هل حقاً أنا بهذه الأنانية وسأتخلى عنه فقط لأنه تزوج بعد تسع سنوات من غيابي؟ بعد كل ما قدمه من أجلي أتركه هكذا فحسب لأنه أراد الاستقرار بحياته بعد أن هجرته؟ لا. لن أفعل!

زفرت بحسم وقررت أن أذهب لرؤيته مجدداً وسأعتذر له عن كل شيء مر به بسببي وسأتركه هو من يقرر بشأن وجودي في حياته ولن أهرب كالعادة، ولكن ليس الان على الاطلاق. فالان كل ما احتاجه هو نوم عميق لأريح جسدي المنهك!

وضعت فرشاتي جانباً واستلقيت في فراشي بعد أن نزعت حجابي وسترتي مكتفية بقميص قطني من غير أكمام لا سيما وأن الكهرباء بدأت بالانقطاع تارة والعودة تارة اخرى. من الجيد إننا كنا على أبواب الشتاء وكان الجو لطيفاً!

استغرقت بالنوم ودب الخدر في أوصالي ليحملني نحو أحلام من زمنٍ مندثر. أستيقظ على صوت رنا وهي تشاكسني لأترك النوم فيلفح أنفاسي رائحة شاي العصر الذي تعده الخالة سعادة وهي تجلس مع أمي في الصالة يتحدثان ويضحكان. أسمع صوت أبي عاد من مشواره وهو يحمل الأكياس المحملة بمكونات العشاء. نستقبله أنا ورنا فقط لنأخذ ما تبقى من الفكة كي نذهب لنشتري لأنفسنا بعض الحلوى، آه كم كانت الأيام جميلة!

هنالك صوت حركة من الواقع يتخلخل وسط حلمي. شيء ما يلمس لي وجهي بارتجاف. صوت يلفظ أسمي بضعف. أهذا محض حلم؟ أم واقع؟
فتحت عيناي بصعوبة ليقع على جسد طويل يقف قرب سريري يحدق بي بفزع وصدمة، يبدو شكله مألوفاً، ولكن أين آخر مرة رأيته؟ تلك الحواجب المقطوبة ليست غريبة علي، لون عيناه أذكر أنه كان نقطة ضعفي، من هذا؟!
وفجأة نهضت بفزع وأنا أحدق به بذات الصدمة التي يحدق بها بي، رسلان؟!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة