رواية حب في الزمن البائد للكاتبة سارة ح ش الفصل السابع عشر
بداية النهاية
(لوجين)
- لوجين؟ لوجين؟ حبيبتي؟!
فتحت عيناي التي بالكاد اغمضتهما حين بزغ الفجر على صوت رنا الثقيل الذي تصارع لأخارجه متماسكاً من غير ان تصرخ.
ما ان تعانقت عيناي بعيناها الباكية حتى اجهشت بالبكاء بدوري فضمتني فوراً اليها ونحن بالكاد قد توقفنا من البكاء ليلة البارحة.
كانت ليلة من اسوأ الليالي. لم يغمض لأحدنا جفن ولم تجف له دمعة ولم يسكن انيننا. انها ليلة الوداع حيث لا يعلمون ما الذي يحضر لهم القدر تالياً. وهل ساخرج من البلاد وانجو أم اعود لهم جثة مقطعة ان حصل اي خطأ؟
نحن فقط سلمنا انفسنا لخطة تم وضعها خلال ساعة ولم يتم دراسة سلبياتها. ليس لأننا لم ندرك سلبياتها بل لأننا مضطرون لتقبلها. فنحن لا نملك خيار اخر!
مسحت رنا على شعري برفق وهي تقول:.
- هيا. سنذهب الى الصالون.
اغمضت عيناي وضممت جسدي بعضه الى بعض وانا ارتجف بما تحويه الكلمة من معنى. لا اريد الخروج من المنزل، فخروجي بلا عودة اليه الى ابد غير معلوم. ففي النهاية لم اكن تلك الفتاة المحظوظة التي تحقق لها كل شيء وعاشت بسعادة الى الابد. هنالك دوماً حياة بعد الابد لم يرويها لنا المخرج ولم يصورها لنا. حياة حيث تغدو الاحلام ليست كما تخيلناها، والسعادة ليست كما نرغب!
انهضتني رنا بصعوبة واسندت جسدي المتراخي لتصحبني نحو الحمام لتغسل لي وجهي وتمشط لي شعري. انا بلا حول ولا قوة. كل ما افعله هو ان استمر بالبكاء فقط.
قالت لي بترجي وهي تجفف لي وجهي:
- صلّ ركعتين قبل خروجكِ.
نظرت اليها باستغراب من طلبها هذا. اصلي؟ لا اذكر إني صليت ذات مرة سوى مرات معدودة في صغري حين علمنا ابي انا ورنا الصلاة وبعدها هجرتها. كنت ارى الصلاة شيء اكبر من ان اتحمله بهذا العمر الصغير. كنت ارى انها مخصصة فقط للكبار والموشكين على الموت. تلك الخمس دقائق التي اقضيها على سجادتي اتحدث الى الله كنت اجدها ستأخذ من وقتي الكثير. وايضاً شابة مثلي ما الذي بينها وبين الله؟ أليس من المفترض ان اخصص هذه الخمس دقائق للتحدث الى صديقاتي؟ استمتع والهو بها؟ لا تزال الحياة امامي طويلة وسأتحدث لاحقاً الى الله.
ولكن الان فجأة تغير كل شيء. شعرت بحاجتي الملحة للحديث اليه بدلاً من اي احد اخر. فجميعهم تركوني بين يديه. ألا يفعلون ذلك دوماً؟ ألا يتخلون عني في محنتي لأنهم اضعف من ان يتحملوها معي؟ ألم تكن مصلاتي دوماً في احدى زوايا الغرفة تنتظر مني ان افترشها واتحدث الى الله ولم افعل؟ لما عساه ان يسمعني الان؟ لقد انتظرني وقتاً طويلاً. ربما سأم انتظاري واغلق باب السمع بيني وبينه. هجرني كما هجرته. تجاهلني كما تجاهلته. ربما لهذا السبب يحصل ما يحصل. لأن الله غض بصره عني حين غضضت بصري عنه وتناسيت وجوده فتناسى وجودي بدوره...
وكأن رنا قرأت ما يدور بداخلي من نظراتي الضائعة بعد جملتها هذه فتبسمت بلطف وقالت:
- توسلي اليه يا لوجين لينقذكِ مما ستخوضيه.
فقلت بتشتت:
- أسيسمعني يا رنا؟ بعد هذه الفترة الطويلة من الهجران. أسيسمح لي بالتكلم؟
- انه الله يا لوجين. لا تظني انه سيتصرف معكِ كما تتصرفين أنتِ مع الذين تغضبين منهم!
لامست عبارتها شيء بداخلي فدفعتني للنهوض من مكاني والشروع بالوضوء الذي لا ادرك ان كان على الطريقة الصحيحة ام انه تغير مع تغير الزمن ايضاً.
توجهت نحو غرفتي وافترشت مصلاتي وشرعت بصلاتي. كبّرت وتشاهدت وتلوت اياتي بسلام تام، نعم كنت ابكي ولكن قلبي لم ينقبض. مُنحت بلحظتها شعور انه يسمعني.
سجدت فاطلت سجودي وانا ادعوه بدعاء لطالما سمعت الخالة سعاد تتمته اواخر الليل:.
- اناجيك يا موجود في كل مكان علّك تسمع ندائي. فقد عظم جرمي وقلّ حيائي. مولاي يا مولاي اي الذنوب اذكر واياها انسى. وأن كان ألا الموت لكفى، فكيف وما بعد الموت اعظم وادهى؟!
لا اعلم ان قلت كلماته الصحيحة ولكنها كانت بالضبط الكلمات التي اردت قولها قبل ان اشرع ببكاء متوسل ان يجعل كل شيء يمر على خير وان يحفظ لي رسلان. ان كان سينزل عقابه فلينزله على فرسلان لا ذنب له بكل هذا سوى انه احبني!
- حان الوقت يا لوجين!
اخترق صوت رنا روحي وليس طبلة اذني. انها لحظة الرحيل.
طويت مصلاتي ورمقت غرفتي بنظرات سرية. سريري، خزانتي، مكتب دراستي، نافذتي، انها ذكرياتي وليست اشيائي فقط. كدت ان انهار فوق الارض باكية، بل واتشبث بها لأطول وقت ممكن أو حتى لأبقى متشبثة بها الى الابد دون ان يأخذني اي احد. لا سجون صدام ولا بلاد اخرى!
تماسكت ونظرت نحو رنا المنهارة. كانت تستند بظهرها الى الجدار وتتطلع بي بدموع يائسة، اقتربت منها وضممتها الي، أو بصورة اخرى ضممت جسدي المرتعش اليها علِّ ألتمس بعض السكينة رغم معرفتي أنها لا تملكها.
لفّت يديها حولي وكادت ان تدخلني بين ضلوعها من شدة حضني اليها. همست لها بنبرة مهزوزة: - انا خائفة يا رنا.
لتهمس بدورها: - وانا مرعوبة يا لوجين.
نظرت اليها واكملت: - يمتلكني شعور سيء جداً.
تبسمت بضعف وقالت في محاولة منها لبث بعض الاطمئنان بداخلي: - بالطبع سيتملكك شعور سيء يا بلهاء. لو تملكك شعور جيد لشككت بصحة عقلك. رغم إني اشك به مسبقاً.
بادلتها ابتسامتها رغم إني لا اعنيها كما لا تعنيها هي. ولكني احببت أن ابث بداخلها ذات الاطمئنان الذي بثتهُ بداخلي.
نزلت الى الاسفل لأجد العائلة هناك. تنهار امي فوق الاريكة لا تسعفها قدميها على النهوض بينما تقف الخالة سعاد على مقربة منها تكتم فمها بحجابها الاسود الذي تجفف به دموعها بين لحظة واخرى، وابي يقف قرب الباب يقبض كفيه ببعضهما ويعيدهما الى الخلف كمن يقيدوها له -وهي بالفعل كذلك-. السلاسل الوهمية تحيطه من كل الجهات تمنعه من فعل اي شيء ويكتفي بمراقبتي اهوي شيئاً فشيئاً ولا يملك اي طريقة ليساعدني بها سوى تقديمي اضحية لخطة نسبة فشلها تفوق نجاحها كثيراً!
اقتربت من امي وجلست بالقرب منها لتضمني بقوة وترفع صوتها بالبكاء غير مبالية بترجيات الخالة سعاد ان تخفضه كي لا يفتضحوا!
وا ويلاه عليكِ وعلى شبابكِ
كانت تلك الجملة الوحيدة التي يكرراها هي والخالة سعاد. شعرت بلحظتها اني ميتة وهو يورون التراب فوقي. لقد ودّعت الحياة ورحلت ولم يعد لي وجود. هما فقط تقومان باحتضان جثماني للمرة الاخيرة حيث سيحل الرحيل الابدي، وهنا استسلمت!
انقطعت كل خيوط الامل التي احيكها بداخلي منذ البارحة وازرع تفائل اعلم إني لن احصد ثماره. من اخدع انا؟ أحقاً ارجو النجاة بسهولة؟، انا احتاج لمعجزة ليحصل هذا!
قمت بروح هزيلة ودموع جفت نحو ابي. احتضنته باذرع خاوية واستنشقت عطره للمرة الاخيرة. اغمضت عيناي ولم اتحدث بشيء. ولم استمع حتى لما كان يتحدثه هو. شعرت ان ملك الموت يقف عند بابنا ينتظر الانتهاء من هذا الوداع ليحمل حقيبتي ونرحل. فما الذي سأفعله بنصائح ابي هناك؟
انهى وداعه لي وفتح الباب لنخرج متظاهرين امام الجيران بالفرحة والذهاب للصالون...
خرج ابي، خرجت رنا. وتوقفت انا. نظرت نحو المنزل. نحو الخالة سعاد وامي اللتان تتوسطاه. كم هما محظوظتان. يا ليتني مكانهما. اريد ان ابقى. اريد ان افتح عيناي واستيقظ.
استيقظ على صوت رنا وهي تهزني بقوة تخبرني ان رسلان عند الباب لأسرع لرؤيته سراً.
اتناول فطوري الصباحي واتلو على امي حلمي المزعج هذا الذي طال كثيراً واخافني فتخبرني ان اهمسه داخل كوب زجاجي واكسره عند الباب كي لا يمسني منه شر.
يا له من حلم مزعج، متى ستفتح امي الستائر؟!
متى ستدخل رنا؟!
متى ستدفعني رائحة شاي الخالة سعاد للهبوط من سريري ليدب النشاط في هذا الجسد المتعب؟!
قبضة رنا الرقيقة على يدي افزعتني من غفلتي. ولكن يبدو انها لم توقظني من كابوسي بعد!
خرجنا دون ان اجرأ على الالتفات مجدداً نحو امي خشية ان تكون عيون جواسيس كامل في الجوار فيوصلون هذا الوداع الغريب الذي من المفترض ان يكون من اجل مشوار لا يستغرق اكثر من ساعتين!
كانت قدماي مرتخية كمن يقودوها نحو منصة الاعدام. تتقدم احدى قدماي خطوة فتعود الاخرى بخوف نحو الوراء. لا تزال روحي متشبثة بمنزلي ترفض هجره الى امد غير معلوم!
راقبت يد ابي وهي ترتفع بين لحظة واخرى تلقي السلام على اصحابه الذين يمر من قربهم. واخيراً وصلنا اليهم!
رفع ابي يده باعتيادية والقى التحية على العم ايمن ومنح نظرة ذات معنى لرسلان بأنه حان الوقت، ويا للعجب. كانت عيناه متورمة كعيناي. وحال العم ايمن يشبه حال ابي!
تمنيت ان اذهب نحو العم ايمن في لحظتها واجثو على ركبتي واصرخ معتذرة حتى ينقطع نفسي مما اقحمتهم به، فما ذنبهم ان يعرضوا ابنهم الوحيد لكل هذه المخاطر؟
فجأة اصطدم جسدي بجسد رنا الذي تصلب فوراً واقفة في وسط الطريق. التفت اليها وتركت معانقة عيون رسلان للحظات فوجدتها هي وابي يحدقان بالنقطة ذاتها. او بصورة اكثر صحة بالشخص ذاته، لقد كانت نبراس!
لقد كانت المرة الاولى التي اتمنى حقاً ان يموت شخصاً ما. تمنيت رؤيتها ميتة، مقطعة الى اشلاء. نوعاً ما اخافني تفكيري. ولكنه ارضاني!
كانت ترمقنا بنظرات غضب واستياء. ما كانت تظنه هي ان التقرير الذي قدمه ابيها لم يؤخذ به وإني نجوت من العقاب. لم تدرك انها قلبت حياتي - بل حياتنا - رأساً على عقب.
مرّت من جانبنا وعيناها تكاد تحرقنا وتخطتنا ذاهبة نحو منزلها.
- تلك السافلة!
همستها رنا بغيض فطبطبت على يدها برفق وقلت لها:
- دعينا منها. الله سيجازيها يوماً ما بما فعلت.
- دعونا نمضي في طريقنا. هيا!
حثنا ابي على المسير فرمقت رسلان بنظرة اخيرة ووجدته قد رحل. لا بد انه ذهب لوداع امه في المنزل!
مضينا في طريقنا واستقللنا سيارة اجرة لنذهب نحو الصالون الذي حجزنا فيه مسبقاً والواقع في مدينة الكرّادة.
وصلنا عند باب الصالون فاكتفينا انا وابي بالوداع البصري ومعانقة سريعة كنت اتمنى لو انها تطول اكثر. ربما الى الابد كانت ستكفيني!
دخلنا الى الصالون وبدأت عاملات الصالون بتحضير رنا. وبدأنا انا ورنا بتحضير الخطة كما هو متفق عليها!
اقتربت منها حين كانت العاملة تسرّح لها شعرها فقالت لي رنا كما اتفقنا مسبقاً:
- عزيزتي لوجين. اذهبي لتحضري لي الفستان الذي حجزناه البارحة من المتجر المجاور.
فسألتها العاملة:
- اي لون فستانك؟ كي نختار المكياج على اساسه.
فردت رنا بتلقائية:
- لا اعلم!
فسألت العاملة مستغربة:
- ألم تذهبي لرؤيته حين حجزته؟!
فقلت انا فوراً:
- انها لا تعرف اسم اللون. كان لونه غريب. ازرق مائل للخضرة.
- اوه فهمت الان...
امسكت رنا بيدي وحدقت داخل عيناي بأسى وهي تقول لي بنبرة ذات معنى:
- احذري حبيبتي. أعني حين عبوركِ الشارع.
تبسمت وبالكاد كتمت دمعتي وضغطت يدي برفق على يدها متمنية ان لا افلتها ابداً وقلت:
- لن اتأخر.
وانسابت اصابعي من بين اصابعها فانسابت دمعتي بضعف دفعتني للخروج فوراً من الصالون وعيون رنا تتبعني قبل ان تلاحظ عاملات المتجر بكائي.
اول ما لفحني الهواء بكيت بصورة اشد وكتمت صوتي بيدي. انها النهاية ولا مجال للتراجع الان!
وقفت عند الشارع وقبل ان امد يدي نحو سيارة اجرة لأوقفها وجدت احداهن تتوقف امامي ورجل يبلغ الخمسين من عمره تقريباً ينزل رأسه قليلاً ليتمكن من رؤيتي وقال لي:
- تحتاجين تكسي انستي؟!
نظرت باستغراب نحو السيارة. انها حديثة نوعاً ما وليست سيارة قديمة او السيارات ذات اللون الابيض والبرتقالي واللاتي كن سيارات الاجرة المعروفات لدينا. ولكني سألته على اية حال:
- هل انت تكسي سيدي؟!
تبسم بلطف وهو يجيبني:
- متقاعد يا ابنتي. ولكني اخرج احياناً لهذا العمل. العيشة تتطلب ذلك!
لا اعلم لِما شرح لي هذا ولكنه على ما يبدو انه يشعر بالملل ويريد خوض الاحاديث. او يريد اقناعي بالركوب. لا بد انه لم يحصل على زبائن اليوم!
شعرت بالاطمئنان له على اية حال وركبت معه وقلت:
- سنذهب الى الشارع السابق لنقل معنا احدهم!
- كما تشائين.
قالها وانطلق بي نحو الشارع السابق وعيناي تبحث عن رسلان الذي من المفترض ان ينتظرني هناك.
ما ان دخلنا الى الشارع حتى هتفت بتوتر:
- انه هناك. توقف عنده.
وقف السائق بجوار رسلان فمد الاخر رأسه باستغراب نحو السيارة والذي سرعان ما انقشع ما ان رآني في المقعد الخلفي. صعد فوراً ملقياً التحية على الرجل العجوز ثم التفت إلى ووضع يده على خدي وقال:
- هل أنتِ بخير؟!
-اجل. لا تقلق.
ثم اردفت فوراً:
- والان ماذا؟!
التفت نحو السائق بينما يده تقبض على يدي وقال:
- سيدي. هل بأمكانك اخذنا خارج حدود بغداد؟ هناك سيارة لصديقي ينتظر قدومنا.
اومئ الرجل موافقاً ثم قال:.
- حسناً لا مشكلة. ذاتاً انا كنت في طريقي الى هناك. هنالك امانة على توصليها.
تحركت السيارة فهمست لرسلان:
- ألم يمكن من الافضل لو اننا استقللنا سيارة اخرى؟ ربما سيشك بأمرنا بعد ان ركبنا بهذا الشكل معه، قد يظن اننا نهرب من اهلنا وسيبلغ عنا.
فهمس لي بدوره:
- لا اريد ان اجازف. قد يكون احد حرس كامل يتبعكِ ويرانا. لذلك دعينا داخل هذه السيارة لحين وصولنا الى صديق خالكِ احمد الذي سيأخذنا الى الحدود مباشرةٍ.
سكتُ واعتلى بعض البؤس عيناي فمد يده ليقبض على يدي وقرّب وجهه الى جانب وجهي ليهمس لي مطمئناً:
- كل شيء سيكون بخير حبيبتي. أنا أعدكِ. سأجعلكِ تهربين ولو كلفني ذلك حياتي.
قبضت على قميصه بخوف وقلت بهمس متوتر:
- لا معنى لهروبي من دونك. لذلك ان حصل اي شيء فلا تفكر ابداً ان تتحامق وتعرض حياتك للخطر من اجلي. انت ستقتلني بهذا يا رسلان.
نظر نحو عيناي وتبسم وشعرت بملايين الكلمات التي يكتمها للوقت الحالي. انه يؤجلها لحين اشعار اخر. وانا انتظر هذا الاشعار الاخر بفارغ الصبر!
سارت بنا السيارة بصمت لا يقطعه سوى صوت المذيع في الراديو المشوش واندماج الرجل العجوز معه.
وضعت رأسي على كتف رسلان لأرتاح قليلاً بعد ليلة مرهقة لم اذق فيها النوم سوى لوقت قليل. شعرت بقبلته الناعمة فوق خصلات شعري ويده التي تلتف حولي لتضم جسدي الخائف، وضعت يدي فوق صدره واغمضت عيناي متبسمة، واخيراً وصلت لدقات قلبه وعرفت تأثيري عليه!
سأكذب ان قلت اني استغرقت في النوم، ولكن جسدي استغرق في الراحة ونحن على هذا الوضع الذي اتمنى ان لا ينتهي ابداً. بعد سنين من الجفاء التمست قربه واخيراً دون ان يبعدني احد عنه!
لا اعلم كم مضى من الوقت، ولكنه لم يكن الوقت القليل ابداً حتى عبرنا بغداد بأمان واخيراً. متناسية ان صدام هو العراق. وليس بغداد فقط!
كان طريق شبه صحراوي خالي من الحياة. كذاك المكان الذي احضرني اليه كامل ذات مرة، يقع ما بين بغداد وما بين المدينة التالية التي تبعد بضع كيلومترات عنها...
رفعت رأسي عن صدر رسلان بينما يسأل الرجل العجوز باستغراب:
- لِما توقفنا هنا؟ لم نصل لسيارتنا بعد.
نظر اليه من خلال المرآة وقال بعيون حادة ونبرة باردة:
- قلت لك ان لدي امانة اريد توصيلها. سيأتي صديقي لأخذها وبعدها سأمضي في طريقي.
بقي رسلان يحدق بعيناه مطولاً من خلال المرآة وكلانا توجس قلبه ونحن نراقب العجوز يحدق بمرآته الجانبية نحو الوراء منتظر قدوم احدهم...
يُقال ان للمرأة حدس اقوى من الرجل. ربما هي هرمونات الامومة التي يخلقها الله بنا منذ طفولتنا حيث نستشعر الخطر المحيط باطفالنا قبل ان يصل. ربما هي عواطفنا القوية التي تخاف من اي اذى يلحق بمن نحب، لا اعلم ما هو بالضبط ولكن ما اعرفه اننا سنشعر فوراً ان كان هناك شيء ليس صحيح او ليس على ما يرام، وهذا ما شعرت به انا!
مددت يدي وقبضت على يد رسلان فالتفت إلى لأمنحه نظرات خوفي فوراً. طبطب بيده الاخرى على يدي وقال:
- اهدأي حبيبتي.
تحرك جسد العجوز حركة بسيطة فالتفت فوراً خلفي، ورأيتهم!
سياراتهم القاتمة التي اعتدت رؤيتها مؤخراً وبكثرة، صرخت فوراً بفزع وانا اتشبث بكلتا يداي برسلان:
- كامل. رسلان كامل.
التفت رسلان بفزع وحدق بهم ما بين خوف وحيرة، وسط صحراء خالية حتى من تلال نتستر بها، اين عسانا سنهرب؟
نظر مجدداً نحو السائق وصرخ به:
- تحرك بسرعة قبل ان يصلو.
نظر اليه السائق بجمود من خلال المرآة مرة اخرى ولم يرد بشيء. هنا سقط فوراً قلبي بين قدماي وارتجف جسدي بالكامل وكأنني اتعرض للسعة برد قاتلة وانا ابكي بهستيريا:
- انه. انه معهم يا رسلان.
رفع العجوز زاوية فمه بسخرية وعاد ليطالع مرآته الجانبية فتحرك جسد رسلان يريد مهاجمة العجوز ليحثه على القيادة فقال الاخر فوراً:
- لا تتهور ايها الصغير.
فنظرنا بتلقائية نحو يده فوجدناه يقبض على مسدس. لكنه حتى لم يوجهه نحونا، بل ولم ينظر الينا واستمر بالنظر في مرآته. انه حتى غير خائف من رد فعل رسلان او ضربه له. وشخص بهذه الثقة لا بد انه قادر على فعل اي شيء. قادر على اطلاق النار فوراً ليتخلص من الهجوم!
لأول مرة اعرف الشعور الدقيق للخوف الشديد. كنت اتحدث كلمات غير مترابطة، اجحظ بعيناي بقوة عاجزة عن الطرف بهما. قلبي لم يكن ينبض بل كان يرتجف كجسدي. رئتاي مقبوضة ورأسي مشوش ومليء بصدى الافكار المتشائمة. كنت عاجزة عن التنفس وعن التحدث وعن التحرك. كان جسدي كلياً خارج إرادتي في لحظتها.
توقفت السيارات. نزلو منها بتروي دون استعجال. فأين عسانا سنهرب منهم ليسرعوا بالقبض علينا؟
تقدمهم كامل بوجهه المقتضب والمحمر من حرارة الشمس ومن غضبه المكتوم. توقف عند باب السائق وانزل رأسه بينما يتكأ بيده الاخرى على سقف السيارة. خلع نظاراته وحدق بوجهي المرتعب ثم حوّله نحو رسلان ليتبادلا النظرات الصامتة لثواني من الزمن قبل أن يعود لينظر إلى مرة اخرى...
اطلق تنهيدة طويلة ثم قال بهدوء متهكم:.
- أتعلمين عزيزتي لوجين. ان كان الشيخ صديق العائلة فهذا لا يعني انه مخلص لهم. فلأمثاله صفعة واحدة تكفي ليجهض كل معلوماته.
ثم استقام بجسده وهو لا يزال يحدق بي وفتح كلتا يديه وهو يقول:
- العراق ومن فيه لنا. لذلك يمكننا التقاطكم بسهولة انتم الذين تريدون الخروج عن نظامنا.
ثم اشار لمن حوله:
- اخرجو هذين القذرين من السيارة!