قصص و روايات - قصص رومانسية :

رواية حب في الزمن البائد للكاتبة سارة ح ش الفصل الثامن عشر

رواية حب في الزمن البائد للكاتبة سارة ح ش الفصل الثامن عشر

رواية حب في الزمن البائد للكاتبة سارة ح ش الفصل الثامن عشر

رحيل
(الكاتبة)
من تحت ذاك الباب الحديدي الموصد، يتسلل النور خلسة فوق الارضية الاسمنت الباردة وكأن حتى النور يخشاهم فيمر بهدوء فوق جسديهما مانحاً اياهما نظرة وداع اخيرة ويبرز اصابعهما شبه المتعانقة ويعكس لبعضهما صورة الاخر. وياليته لم يفعل!
ياليت الظلام بقي يكتنفهما ليخفف عذاب القلب من ذلك المنظر المهول...

هو، توقف عن عد الضربات والركلات ربما بعد العدد مائة، وجهه الوسيم قد حفرت فيه الجراح اخاديد وتنصبت فوقه الكدمات بكل شموخ تعلن عن ادمائه وسلب اخر رمق قوة فيه. لم يعد يعرف من اين مصدر الدماء بالضبط واي ضرباته هي اقوى. فكلما شعر بألم في منطقة ما تيقن ان هناك الم اشد منه في منطقة اخرى، ولكنه لم يكن يبالي بنفسه. لم يكن يهمه سواها. هي وهي فقط!

?يهمه امر عظامه المرضوضة. لابل عظامه شبه المهشمة، و?يبالي بأمر رأسه المدمى و? انفه المكسور، لم يكن اياً من هذا يؤلمه بقدر ما كان يؤلمه آنينها على مقربة منه. هذا ماكان يغرس سكاكين حادة في قلبه العاشق، ممدة هناك تتطلع نحوه بعينين شبه مغلقتين قد انتفخت احداهما واتشحت بالزرقة. ووجها الحسن البهي الذي كان في يوماً ما من الطف الوجوه واجملها قد اصبح الان مستعمرة الكدمات ومستنقعاً للدماء امتزجت مع دماء جسدها النحيل المرهق مكونة بركة حمراء تحتها. اصابعها الرقيقة الناعمة قد تكسرت معظمها وشعرها الطويل الاسود الذي كان يغطي في يوماً ما كل ظهرها اصبح الان بالكاد يكسي اذنيها. فحتى شعرها قد سلبوه منها...

تود ان تقترب اكثر منه لتلتجأ بين ثنايا قلبه.
يود ان يمد يده اكثر نحوها ليضمها اليها يشعرها بالامان.
ولكن هذا محال، فتلك السلاسل التي تربطهما الى الجدار بالكاد سمحت لهما ان يقتربا هذه المسافة من بعضهما راحماً عذابهما لتلتجئ اصابعهما فقط بعضها الى بعض تاركة اجساد شبه ميتة خلفها...

هطلت قطرة دماء بخجل من بين خص?ت شعرها القصيرة ونزلت ببطئ فوق جبينها لتقف لحظات بين شعيرات حاجبها ثم تهبط بقوة داخل بقعة دماء صغيرة تجمعت تحت خدها مكونة دوائر عديدة، وكأن بقعة الدماء تلك قد ذكرتها ببقعة الطين تلك وسط سوق الكاظمية المزدحم، في اليوم الذي اسقطت فيه صندوق تفاحه!
- حبيبتي؟ انظري الي!

رفعت بصرها بتعب اليه لتقابل عيونه الباكية فشد على اصبعها برقة فتحرك جسدها بألم فخفف قبضته بعد ان ادرك من انينها انه احد اصابعها المكسورة. خبأ وجهه على الارض وعض شفته السفلية بندم وألم. كيف عساه ان يساعدها؟ وكيف عساه ان يتركها بهذا الحال؟
عاد مجدداً لينظر اليها وقال مصبراً: - سنخرج من هنا. أنا أعدكِ بذلك. سوف أخرجكِ يا لوجين!

لم تكن قادرة سوى على الاستماع اليه من غير رد. كانت شبه مغيبة عن الوعي ورؤيتها تزداد تشوشاً شيئاً بعد شيء.
رسلان يتحدث، يحاول أن يتحرك. رسلان يرفع رأسه بفزع. النور يخترق وجهه. أحدهم قادم!

يصرخ بأسمها. يرتفع جسدها. احدهم يضمها. تنظر بعيون شبه مغلقة ليقع نظرها على كامل المبتسم بحقارة وهو يحدق برسلان يستمتع بصراخه وهو يطلب منه أن يبتعد عنها. تحاول بكل طريقة أن تدفعه عنها ولكن جسدها الضعيف لا يقوى على ذلك. فجأة يفلت جسدها من غير أهتمام من بين يديه ليرتطم بالارض ويقطع لها انفاسها من الألم. لحظات فقط حتى شهقت بفزع مع دلو الماء البارد الذي سكبوه فوقها جعل كل خلية بها تتنشط وكل وعيها يستيقظ من جديد.

- إذاً يا لوجين العزيزة. لم تعودي جميلة كما عهدتكِ؟ هل بسبب المبالغة بضربكِ أم كنتِ تخدعينا بمظهركِ؟
كانت هذه اول جملة تسمعها منه ما أن اتضحت الرؤيا لديها قبل أن يمنحها ركلة قوية على بطنها جعل الدم يتدفق بذات اللحظة من فمها ليصرخ رسلان في الحال:
- اتركها أيها السافل عديم الرجولة. أتركها وتعال ألي!
- على ماذا مستعجل يا رسلان. لا تظن إني نسيت أمرك!

ثم جلس القرفصاء بجانب لوجين التي تتلوى من الألم وبقي يتلاعب بشعرها بلطف بينما ينظر بابتسامة متشفية نحو رسلان الذي يصرخ به. كان كامل يدرك إن هذا العذاب اسوأ بالنسبة لرسلان من كل الضرب على جسده!
رفع لوجين ليضمها اليها ويستنشق عطر شعرها بينما هي تبكي وتحاول التحرر منه وتفشل.

أنهال حراسه بالضرب من كل الجهات على رسلان ما بين الذي يركل وما بين الذي يجلد وهو غير مبالي بأي أحد فيهم. كلما زاد ضربهم كلما زاد صراخه بكامل ان يبتعد عنها والاخر مستمتع بشدة. الى أن قال رسلان واخيراً: - كامل اتوسل اليك أن تتوقف. انا ارجوك!

قام بضحكة ساخرة من مكانه وترك جسد لوجين كما المرة الاولى وكأنها لعبة بين يديه وليس جسد بشرية. وقف أمام رسلان ووضع قدمه على رأسه فأوقف حراسه الضرب ليقول هو: - أعد ما قلته يا رسلان الشديد الذي لا يتنازل لأحد؟
ثم أحنى جذعه ليصرخ به:
- أعد ما قلته؟
ثم ركله على رأسه بقوة وهو يقول:.

- هل كنت تظن إنك ستستغل علاقتك القوية بعادل لفترة طويلة ولن أتمكن من التعرض لك؟ أم ظننت أن خالها أحمد سيساعدك أن وقعت بمأزق معي؟
ثم رفع رأسه من شعره وقال:
- أعد ما قلته. توسل ألي!
فقال الاخر بانفاس متقطعة:
- أتو. أتوسل أليك يا كامل. اتركها!
فقال مدعياً التأثر:
- أليس هذا رومانسي!
ثم ترك رأسه ليُضرب على الارض وقال بينما يقف:
- علقوه!

فلم يتردد بقية الجنود في تنفيذ الأمر فوراً وهم يربطوه بحبل ليعلقوه متدلياً من يديه من السقف عن طريق ربط الحبل الى خطاف وبدأوا ضربه بأسلاك رفيعة تكون ضربتها أكثر حدة من المتينة. كان جسده يتحرك بقوة يميناً وشمالاً وهو لا يستطيع تفادي أي ضربة أو أبعادها بيديه.
كانت تسمعه لأول مرة يصرخ بهذا الشكل متألماً. تراه لأول مرة بهذا الشكل يستغيث!

سمعت حكايات سابقة عن سجون صدام وكيف أنها لا تناسب حتى أشد الرجال. ولكن ما سمعته كان شيء وما تعيشه الان شيء اخر. وكأن الفرق مثل الفرق بين كوب ماء وبحر!
لم يخبرها احد أنها سترى ملك الموت يتربص لهم في إحدى زوايا السجن ينتظر أن تلفظ نفسها الاخير ليصطحبها معه. لم يخبرها أحدهم انها ستطالب ملك الموت بالاسراع.
حين يتم دخول هذه السجون فلا أحد يطمع بالحرية بقدر طمعه بالموت!

- كامل أتوسل أليك توقف. سأفعل أي شيء. فقط أتركه!
قالتها بصوتها المبحوح والضعيف فنظر اليها بغيض وتمنى في لحظتها لو ينهش لحمها بين اسنانه ويكسر عظامها الواحد تلو الاخر من غير أن يشعر بالشفقا عليها.
تقدم اليها ووقف امامها ورفع وجهها عن الارض بطرف حذائه ليقلبها كي تقابل نظراته وقال:
- هل تحبيه؟!
فقالت في محاولة فاشلة لأنقاذه:.

- لا. لا احبه. لا يربطني به أي شيء أقسم لك. لكنه كان خياري الوحيد لأهرب من البلد. ما كان أي احد سيرضى بالهروب معي سواه!
توقف حراسه عن الضرب فوراً بأشارة من يده وقال وهو لا يزال يحدق بعينيها:
- هل تسمع ما تقوله حبيبة القلب يا رسلان الساذج؟!
ثم التفت اليه بعيون شامتة:
- هل أدركت الان كم كنت غبياً حين أحببتها؟!
ثم نظر اليها بابتسامة وكأنه يسخر من نفسه وليس منها:
- بالفعل كيدكن عظيم!

ومد يده ليسحبها بعنف خارجاً دون أن يبالي بصوت رسلان المبحوح يصرخ خلفه ما بين شتيمة وتوسل أن يتركها وشأنها وأن لا يبعدها عن عينيه ليخفيها خلف الجدارن دون أن يدرك ما الذي سيفعله لها!

(رسلان)
لم تكن سجون صدام تكتفي بتعذيبك فقط. بل لم يكن همّ أحدنا هو ذلك الألم الذي سيجعلك تصرخ كالنساء مستغيثاً بأي يد تمتد لتنتشلك. بل ما كان يقتلك هو روحك التي يسلبوها منك ويتركوك على قيد الحياة دون أن تموت فعلاً. تعذيبهم كان يستهدف أنسانيتنا ورجولتنا قبل اجسادنا. فهذا ما كانوا يستمتعون به داخل هذه المصحة النفسية التي يسلّمون فيها الأسلحة بيد المرضى ليحولوا السجناء مثلهم.

أنتهى تعذيبهم لي منذ ساعتين تقريباً. ليس لأنهم اكتفوا بذلك حين وجدوا إني على شفا حفرة من الموت، وليس لأنهم أشفقوا على حالي. بل ليجعلوني أسمع صراخها بالغرفة المجاورة دون أن أعلم ما الذي يفعلوه لها بالضبط. كل ما يلتقطه سمعي الضعيف حديثاً هو توسلها بكامل أن يتوقف. يتوقف عن ماذا؟ عن ضربها؟ عن حقرها؟ عن تكسيرها؟ أم؟، أتوقف في الحال عن أي تفكير وأبدأ بالصراخ كالمجنون وضرب رأسي بالجدار وأنا اشتم كامل بكل أنواع الشتائم حتى البذيئة منها لعله يغضب ويتركها ويأتي إلى ليضربني ويتجاهلها. ولكن كلما ازدادت شتائمي كلما ارتفع صوته بالضحك!

أُنهكَ جسدي من كل الضرب الذي تعرضتُ له ومن هذا التعذيب النفسي الذي يمارسوه معي فتهالكت فوق الأرض على جانبي الايسر أحدق بالجدار الفاصل بيني وبينها بعيون فارغة ومتعبة. لم أعد أملك القوة الكافية حتى لأبكي، كنت منهكاً لهذا الحد!

حلّ الليل ولم أعد أسمع لها - أو لهم - أي صوت. لقد سمعت صوت باب زنزانتها يُفتح قبل فترة ويخرجوا منه تاركيها بمفردها. أو ربما أخذوها معهم. لا أعلم في الحقيقة ولا أملك الطاقة لأصرخ بأسمها كي أسمع صوتها واطمئن. بل وأخشى أن أناديها فلا تستجيب لندائي لذلك اكتفيت بالصمت. فهل مررت بهذا مسبقاً؟ أن توهم نفسك أن كل شيء على ما يرام وأنت تدرك أنه ليس كذلك؟ ولكنك رغم ذلك لا تذهب وتطمئن. لأنك تعلم أنك لن تجد ما يمطئنك! أن تخدع نفسك بأمل زائف لأنك تخشى الحقيقة؟ أن تكذب وتصدق نفسك؟ أن لا تسأل أحدهم عمّا يجري كي لا يخبرك بعكس ما تتخيله؟ هذا ما كنت أعايشه من صراع وأنا أحدق بالجدار وأستعيد كل ذكرياتي معها. كم كنتُ ساذجاً وغبياً. كم ضيعت من الوقت بعيداً عنها في الوقت الذي كنت أستطيع أن أعيشه بقربها وأنعم بحبها. كم مرّت على أيام أتعذب وأعذبها معي بسبب تلك الطبقات السخيفة التي كانت تفصلنا. هل حقاً الحب يحتاج الى المال كي يعيش؟

حلّ منتصف الليل وشعرت بباب زنزانتي يُفتح. لم أنظر اليه ولم أهتم بفعل ذلك. تقلصت معدتي وتصلبت شعيرات جسدي وأنا أدرك أنهم قادمون لتعذيبي دون شك!
- رسلان؟!
توسعت عيناي المتورمة بدهشة وأنا اسمع صوت السيد أحمد خال لوجين. تظرت نحو الباب وأنا أشاهد نور الممر يحتضن ظلام الغرفة. لكنه بالنسبة لي نور الأمل يحتضن بقايا روحي!

حاولت الاستعدال بجسدي فانزلقت يدي الضعيفة وسقطت مجدداً فأسرع هو إلى وملامحه المشفقة على حالي عاى وشك البكاء. أحاط كتفاي وأسندني لأجلس فقلت بحروفي المبعثرة التي بالكاد تخرج من بين أسناني المكسؤة ولساني المتورم:
- لو. لوجين؟!
فأسرع لطمئنتي:
- أنها بخير. لا تقلق!
طرحت نفساً مرتجفاً وتمتمت اشكر الله بصوت خفيض. تشبثته بعد ذلك في الحال من سترته لأرفع جسدي قليلاً وقلت له بصرامة:.

- عليك أخراجها الليلة أتوسل اليك. سيفعل ذلك السافل لها شيئاً في الغد أو الذي يليه فقط ليعذبني بها. أرجوك أخرجها ولو كلفك ذلك حياتك!
نظر نحو الباب ليتأكد أنه خالي سوى من رجاله ثم عاد ونظر إلى وهمس قائلاً:
- لقد خططت لذلك مسبقاً. أمر خروجها سهل كونها إمرأة. مجرد نقاب يخفي كل ملامحها. ولكن أنت.
فقاطعته في الحال:
- دعك مني. أنا رجل ويمكنني تولي أمري، أما هي فسيكسرون ظهري بها. لذلك أرجوك أخرجها الليلة!

ربّت على كتفي بمؤازرة وقال لي بأمتنان:
- كل ما تمر أنت به بسببنا وبسبب ما فعلته لوجين. لم تكن مضطر ان تفعل ذلك!
تبسمت رغم صعوبة الموقف وأنا أقول:
- أنها زوجتي الان وحمايتها من واجبي!
- ولكنها لم تكن زوجتك حين قررت خوض هذه المخاطرة!
- ما تعنيه لوجين لي أكثر من مجرد زوجة أو حبيبة. أنها عشرة عمر يا خال!
تبسم وعانقني وقال:.

- هذا العناق ليس مني. بل من عادل. أنه يشكرك لأنقاذ أبنته في الوقت الذي عجزنا جميعاً عن ذلك!
ثم نظر ألي وقال:
-لا تقلق. لدي صديق هنا أعلى رتبة من كامل. سأطلب منه نقلك الى سجن اخر تحت وصايته هو وسيعتني بك. لن يستغرق الأمر سوى أسبوع. لذلك سنحرص إبقاء الأمر سرياً خلال هذا الأسبوع كي لا يعرف كامل بالأمر. لأنه إن عرف سيحرص على قتلك لا محالة!
اومأت موافقاً وقلت له:.

- هذا سيكون كافياً لأنقاذي. حتى لو لم أخرج من السجن سيكون من الأفضل أن أبتعد عن كامل قدر الإمكان. والأهم من ذلك أن تبتعد لوجين!
طبطب على كتفي ونهض من مكانه وقال:
- أتيت لتوديعك. سأذهب قبل أن اتأخر أو يعود كامل!
- أحمها أرجوك! وأياك أن تخبرها أنك تركتني هنا. سترفض الرحيل. أنها عنيدة وستعرضكم للخطر بعنادها!
- حسناً بني. لا تقلق.

ثم ودعني ورحل وأنا أنظر اليه بحسرة وألم. له القدرة على الخروج من ذلك وأنقاذ نفسه وأنا هنا مكبل بالسلاسل بأنتظار سياطهم المجنونة بعد بضع ساعات. تمنيت في لحظتها لو أن حجمي يتقلص وينقلص فيخبئني في مكان ما ويخرجني معه. تمنيت لو يعود الان أدراجه ويقول أنه وجد طريقة لأخراجي أنا ايضاً. ولكن ذلك الباب أوصد من خلفه وانقطعت عني كل خيوط النور ليعود الظلام ليكتنفني من جديد وسط وحدتي وألمي. ولكن كل ذلك يهون مقابل أن تكون بخير فقط!

(لوجين)
قيد لي كامل بعد خروجه فمي بقطعة قماش نتنة يمنعني من الكلام أو أصدار أي صوت يجعلني أرد على رسلان أن نادى بأسمي. كي لا يمطئن من إني لا أزال حية بعد أن استمتع لساعات بصراخه على الجانب الاخر من الجدار بينما يستمع لأستغاثتي وصراخي وهو يحرق يدي بقطعة الحديد المتوهجة على شكل صليب ليترك علامات في كل أنحاء جسدي!

لم أعد أسمع صوته مؤخراً ولا صراخه بأسمي. كلن ساكناً بشكل مخيف. لا أعرف هل لا يزال على قيد الحياة أم لفظ أنفاسه الاخيرة تحت سياطهم؟
كنت أبكي مرارة وألعن نفسي ألف مرة وأنا أدرك أن كل ما يعانيه الان هو بسببي. لو أني فقط تحملت وصمتُّ في يومها. أما كان كل شيء ليكون بخير؟!

كان في يومها يصلح الكهرباء في مطبخنا. يا ترى لو لم يكن متواجداً هل كان ستمسه لعنتي ايضاً كما فعلت مع كل من في المنزل؟ أدرك أن الأمر ساذج وإني كنت سأورطه معي حتى لو لم يأتي في ذلك اليوم. ولكني أتمنى فحسب!
فُتح باب زنزانتي فنظرت بطرف عيني نحو الزائر الذي سأكذب لو قلت غير متوقع. لقد كان خالي أحمد الذي كنت أدرك أنه سيأتي لرؤيتي عاجلاً أم أجلاً!

أسرع نحوي وأحاطني بيديه من حول ظهري ورفعني نحوه وهو يبعد خصلات الشعر الملتصقة بالدماء عن وجهي بينما يذرف بعض الدموع. منحني قبلة عميقة فوق جبيني وهو يقول:
- سأخرجكِ من هنا صغيرتي. لا تقلقي سيكون كل شيء على ما يرام!

ثم أشار نحو بعض الجنود الذي يرافقوه ليسرع أحدهم نحونا وهو يحمل بين يديه شيء أسود. أمعنت النظر جيداً لأدرك أنها عباءة وفوقها حجاب ونقاب. أجلسني بصعوبة وأسندني الجندي ليبدأ خالي بألباسي الحجاب وفوقه النقاب ثم أسدل على العباءة وقال هامساً:.

- لا وقت لدي لاشرح الان أي شيء. كل ما عليكِ فعله هو تستجمعي قواكِ وتحاولي أن تسيري بأعتدال معي كي لا يشكوا بأمرنا حين نخرج من الممر. لقد ألبست أحد جنودي هذه العباءة والنقاب حين دخلنا بحجة أنها والدتكِ وأتت لزيارتكِ. لذلك لن يشكو بأمرنا حين خروجنا!
قلت بضعف:
- ورسلان؟ لن أخرج من هنا من دونه!
سكت للحظات ثم قال:.

- لن نفعل. ولكن لا يمكننا الخروج سوية. لي صديق هنا اتفقت معه سيخرجه من باب اخر في الوقت ذاته الذي نخرج فيه من الباب الأمامي كي لا يفضحوا أمرنا!

نظرت أليه بتشكيك ولم أشعر بالصدق في حديثه ولم يمطئن إحساسي له. ولكنه لم يكن الوقت المناسب على الأطلاق كي أحقق معه لفترة أطول وإلا سأورطهم معي أيضاً أن عاد كامل الان ونحن في وسط خطة هروبنا. لذلك نهضت معه على مضض وقد قررت أنه أن خرجت ولم أجد رسلان قبلي فسأعود في الحال نحو السجن وأن عنى ذلك موتي!

أسندني خالي ومضينا معاً والجنود خلفنا. كنت أسير محدودبة الظهر وأعرج بقدمي المكسورة لدرجة أن خالي كان شبه يحملني وليس يسندني فقط. همس لي قريب وصولنا نحو باب الممر حيث سنقابل حرس السجن:
- أبكي بصوت مرتفع.
رفعت اليه رأسي وأدرك هو استغرابي هذا الطلب جتى من خلف النقاب فقال لي موضحاً:
- كي لا تجذبهم طريقة سيركِ الركيكة فيشكوا بأمركِ. دعيهم يعتقدوا إنكِ سهير التي قابلت أبنتها فانهارت!

في وقت اخر ربما كنت سأضحك ولن أتمكن من التمثيل بشكل صحيح. ولكن ما كان بي من خوف وأنا أشق طريقي من وسط الحراس والذي أشرف بعضهم على تعذيبي أو القبض علي، جعلني أجيد تمثيل صراخي وانهياري بل وحتى دموعي الغزيرة. لم تكن هناك أي رد فعل أو تأثر على وجه واحد منهم ولا حتى القليل من الإشفاق. كان أعتياديتهم برؤية شيء كهذا كأعتياديتي حين تمر من قربي ربما مجموعة سيارات أو أوراق أشجار مصفرة. لم أكن أبدي رد فعل يذكر على ملامحي. كملامحهم الان بالضبط وهم يحدقون بي، وهذا ما كان يزيدني رعباً منهم وأجيد تمثيل دوري أكثر!

لم أصدق الأمر حتى بعد أن عشته واستنشقت هواء الحرية عوضاً عن ع
رائحة السجن العفنة. أحقاً ما حصل؟ أحقاً خرجت من بين كل تلك الأفواه ذات الانياب المغروزة في كل أنحاء جسدي؟ أحقاً أفلتُ من بين يديهم؟
كنت أخاف حتى النظر للوراء لأتأكد إني خرجت من السجن بالفعل. أخاف أن أنظر فيسحبني أحدهم من بين يدا خالي!
ألتفتُ يميناً وشمالاً وقلت لخالي بلهفة خوف:
- أين هو؟ أين رسلان يا خالي؟!

فقال بينما يقودني بسرعة نحو السيارة التي كانت بانتظارنا:
- قلت لكِ أن صديقي سيخرجه من باب اخر حيث السيارة الخاصة بهم تنتظر هناك. سنلتقي على الحدود!
وهنا تصلبت قدماي في الارض ونسيت كل ما يعتريني من خوف من ذلك السجن وقلت بتوسل:
- خالي. هل تكذب على أم أنك أخرجت رسلان بالفعل؟!
فقال بنبرة أقرب للملامة:
- سامحكِ الله يا لوجين. هل سأتركه خلفنا بعد كل ما قدمه من أجلكِ؟!

أنساب بعض الاطمئنان لقلبي رغم إني لم أكن واثقة جداً مما يحصل ولكن برغم هذا وضعت ثقتي بكلامه ومضيت معه الى السيارة لتقودنا بسرعة وسط ظلام الأزقة ووحشة الشوارع الخالية، لم يقل خالي شيئاً سوى عن ذهابنا للحدود فأدركت في لحظتها إني أودع بغداد. بل وأودع العراق كله!

وطني. مدينتي. محلتي. سأفارق الشوارع التي ضمت طفولتي وأترك جيراني الذين كنت أزعجهم مع صديقاتي حين نلعب بباب دارهم. سأترك العم يحيى ومذياعه المعطل دائماً. وأسافارق مقهى العم سمير ورائحة شايه التي تعبق بالاجواء منذ الصباح الباكر. لن أتذوق مجدداً الخبز الطازج الذي يحضره أبي كل صباح من الفرن بآخر الشارع ولن يناولني العم ايمن تفاحة كل مرة يراني فيها متجهة نحو جامعتي.

لن أقف مع امي في وقت الغروب بعتبة دارنا وهي ترش الماء وتتحدث مع جارتنا حول ما الذي سيطهونه للعشاء. ولن أرى رامي مجدداً كلما أوقع طائرته الورقية على سطح منزلنا.
ذكريات كثيرة سأتركها وأودعها. حلم الطبية الذي رافقني من الطفولة تنازلت الان عنه بكل بساطة لأترك كل شيء وأهرب من البلد بسبب كلام خرج سهواً من فمي!

رغم تعبي إلا إني لم أغمض جفناي ولا للحظة. كنت أشبع ناظري قدر الأمكان من شوارع بغداد وزواياها وروائح اجوائها الزكية. كنت أفترس كل جزء بها وأحفظه في ذاكرتي للأيام القادمة التي لا ادرك ما الذي تخبأه لي بالضبط!
خرجنا من بغداد بعد ساعة تقريباً وبدأنا نشق الصحراء الفارهة والفارغة بأتجاه الجبال البعيدة.

وصلنا بعد عدة ساعات نحو الحدود لا أعرف أن طالت أو أن قصرت. كل ما كنت أفكر به هو رسلان فقط وكيف سأراه الان. بأي حال ووضع؟!
توقفت السيارة على بعد مسافة من سيارة اخرى وظلال أجساد آخرى لم أميز أصحابها بسبب الظلمة. أسرع خالي ليسندني من جديد لنتجه أليهم.

بدأ ضوء القمر الشاحب ينساب بتدريجية من بيم الغيوم ليميز لي وجوههم حتى وأن لم تكن واضحة ولكنها على الأقل كانت كافية لأعرفهم. رفعت النقاب عني وضيقت عيناي لأرى بوضوح أشد. أمي، أبي، رنا، الخالة سعاد وحتى يزن وأسرة خالي المتألفة من زوجته وابنتيه التوأم علا ومنى اللتان لم تبلغازالعاشرة بعد، كان الجميع يقف معاً بأنتظاري. كانت ملامح يزن مبهمة وعابسة تدل على معرفته الحديثة بالموضوع. ربما اخبروه صباح اليوم فقط وخيروه ما بين ترك كل شيء من اسرته وبلده أو أن يترك رنا. وبالتأكيد كان حبه المفضل على كل شيء اخر. كما كان وسيبقى!

لم يكن هذا المهم. بل الأهم أن رسلان لم يكن برفقتهم. ارتفعت أنفاسي وكلما ارتفعت كلما ضاقت أكثر. نظرت باتجاه السيارة ذات الصندوق الطويل والعريض والتي تكون مغلفة من الأعلى حيث كانت مخصصة لنقل البضائع. ولكنها اليوم لنقلنا نحن!
نظرت اليها وأقنعت نفسي لربما رسلان ممدد هناك بسبب جروحه ولا يقوى على الوقوف.

كانت أمي أول من اسرع إلى لتضمني بين ذراعيها بقوة وعيناي تفتشان كل شيء خلفها بانتظار أن يقع عليه. أول ما خرجت من بين أحضانها استقبلتني احضان أبي والخالة سعاد ورنا. وايضاً أكتفيت بالصمت وتجاهلت حديثهم وبكائهم وعيناي تجوبان الارجاء.
قاطعت فوراً كلماتهم المتلهفة وقلت بقلق واضح:
- أين رسلان؟!
وهنا نظر الجميع نحو خالي بنظرة كانت واضحة جداً. وكأنهم يستغربون قولي هذا. وكأنهم يسألوه ألم تخبرها؟

أشاحت أمي والخالة سعاد نظراتهم عني بأنكسار ونظرت إلى رنا بإشفاق جعلني أدرك الأمر فوراً!
ألتفت نحو خالي وصرخت بوجهه وأنا أبكي:
- قلت لي أنك لن تتركه بعد كل ما فعله من أجلي؟
أحاطتني أيادي البعض منهم ولكني دفعتها عني رغم ضعفي وتمصلت من بين أيديهم وأنا أشعر بهم يخنقوني وليس يحاولون تهدأتي بينما أنا اصرخ وابكي بهستريا:
- كيف لك أن تتركه بينهم؟ كيف طاوعكم قلبكم؟!
ثم التفت نحو ابي وانا اصرخ به بشكل مماثل:.

- ما ذنبه هو ليبقى هنا وأنا أخرج؟ كل ذنبه أنه قرر أن يساعدني. كيف طاوعك قلبك أن تتركه هناك يا أبي؟ ألم تفكر بما سيحصل لأمه وأبيه وما الذي ستخبره لهم؟ أنك تركت أبنهم وأخرجت ابنتك؟!
فقال أبي بصوت ضعيف وأنا ألاحظ بعض الارتجاف على نبرته التي توشك على البكاء:
- كانت هذه فكرة أيمن يا لوجين. قال أن عجزنا عن انقاذ كليكما فالأفضل أن ننقذك وحدكِ كأقل شيء بدل من ترككِ هناك!
- أهذا عذرك يا أبي؟ أهذا هو مبررك؟!

ثم قلت وأنا أتجه من الأتجاه المعاكس لوقوفهم:
- أعيدوني فوراً. أنا لن أتركه ولو عنى ذلك موتي!
أحتضنني خالي بقوة وهو يقول لي زاجراً:
- لا تفقدي عقلكِ يا لوجين. لقد أخبرت رسلان بكل شيء وهو من أقترح أخراجكِ بهذه الطريقة دون أن نخبركِ بأمره كي يحافظ عليكِ وينقذكِ. ستورطينا جميعاً معكِ بهذا العناد!

- أتركني خالي. اتركني. لقد قتلتموني جميعاً. كيف طاوعكم قلبكم أن تفعلوا ذلك بي؟ ما كان ذنبي بحقكم لتعاقبوني بهذا؟!
فجأة صرخ أحدهم بقوة وغضب:
- هذا يكفي!
نظرنا جميعاً بملامح باهتة نحو صرخة الخالة عفاف زوجة خالي. كانت شرايين وجهها نافرة من العصبية وهي تتقدم الينا - وبالأخص إلى - بينما تجحظ بعينيها وتقول بعصبية:.

- أنظري من حولكِ أيتها الانانية وحاولي رؤية شخص غيرك. أنظري كم دمرتي من حياة بسبب طيشكِ واستهتارك.
ثم قالت بأستنكار:
- ما ذنبكِ أنتِ؟!
وأردفت بغيض:
- بل ما ذنبنا نحن جميعاً بما فعلته أنتِ؟ أنظري لكل واحد فينا. لقد تركنا حياتنا وعملنا ومنازلنا. وبسبب من؟ بسبب طيشكِ ولسانكِ السليط! لذلك لتشكري الله إنكِ ستخرجين من هنا على قيد الحياة. وليس أن تتطاولي بالكلام. من مثلكِ يجب أن يبتلع لسانه!

ثم تقدم إلى خطوة وهي تنظر لي كالمشمئزة من شيء:
- كل ما تفكرين به هو نفسكِ ورسلان.
فقلت بضعف أقرب للخجل بينما أبكي:
- ما ذنبه بما حصل ليبقى هو في السجن وأخرج أنا؟!
فردا بصرامة:.

- لِما لم تفكري بهذا حين وافقتِ أن تورطيه بحماقاتكِ؟ الان اشتغل ضميركِ فجأة على حسابنا؟ هل فكرتِ بما سيحصل حين تعاندين الهروب الان أو أن تعودي أدراجكِ؟ رقبة خالكِ ستكون الاولى في القطع لأنه سبب هروبكِ. هل فكرتِ بهذا يا ترى؟ أم أن كل ما كان يهمكِ هو نفسكِ ورضاكِ؟!

بقيت أحدق بعينيها بشيء من الذهول والصدمة. شيء من الامتعاض مني. كل ما قالته كان صحيحاً. وهذا ما جعلني اكره نفسي! وما جعلني أكرهني أكثر أن الجميع كان صامتاً ولم يكن يبدو عليهم الاستنكار من كلامها. بداخل كل واحد فيهم كان هنالك الرضا لأنها قالت ما قالت في الوقت الذي كتموا فيه كل هذه الصراحة الجارحة عني وتحملوا سذاجتي!

أعتصرت روحي بالخجل والندم وسارت قدماي طواعية بكره معهم لنركب السيارة بصمت مطبق تاركين خلفنا كل شيء. وال كل شيء بالنسبة لي كان رسلان وحده!
تركته في ليلتها خلفي بكل أنانية وسط ذلك الموت والتعذيب لأنجو بنفسي وأحمي أسرتي!
أغمضت عيناي بألم وانطفئ كل شيء بداخلي من لحظتها...

ماذا لو لم ترد أمي في يومها على اتصال نبراس؟ ماذا لو نادتني ولم أستجب لها أو رفضت التحدث اليها؟ ماذا لو قلت لها إني مشغولة ومنعتها من الحضور؟ لو حصل هذا أما كان همي الأكبر الان سيكون هل يحبني رسلان أم لا؟.
في الحقيقة يا ليته لم يحبني، لكان ربما بخير الان ووسط اهله وليس وسط جدران السجن العفنة!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة