قصص و روايات - قصص رومانسية :

رواية حب في الزمن البائد للكاتبة سارة ح ش الفصل التاسع عشر

رواية حب في الزمن البائد للكاتبة سارة ح ش الفصل التاسع عشر

رواية حب في الزمن البائد للكاتبة سارة ح ش الفصل التاسع عشر

ذهاب بلا اياب
(رنا)
كانت رحلة طويلة وصعبة علينا جميعاً. ساد الصمت طوال الطريق من حدود العراق حتى حدود ايران. الدولة الوحيدة التي من الممكن أن تستقبلنا إن كنا فاريين من صدام بسبب كرهها له!
لم يكن أي أحد يملك شيئاً ليقوله بعد كل ما قالته السيدة عفاف. ربما كان حقيقياً كل ما قالته ولكن لم يكن صحيحاً أن تقوله وبتلك الطريقة بالأخص، لقد قتلت لوجين!

كنت أجلس على مقربة منها ولكنها لم تكن على مقربة مني - أو من أي أحد منا - لقد كانت تبدو بعالم اخر بعيد عنا جميعاً. كان بكائها بتلك الطريقة الصامتة مؤلم حقاً وأنا اشاهدها تضم شفتيها بقوة تخاف أن يخرج صوتها!
لم اكن ادرك في الماضي أن لوجين بتلك القوة. لطالما كانت تلك الفتاة الرقيقة والحساسة والتي تنهار من أكثر الاشياء سخافة. لم أكن أتوقع أن تتحمل كل هذا وتصمت!

كان جسدها يبدو مشوهاً من التعذيب وتلك الحروق التي تغطي يديها بشكل صليب والكدمات التي تغطي وجهها. كل هذا وكانت تبدو غير مبالية به. كل ما كانت تبالي به هو رسلان...
بقيت طوال الوقت تحدق من تلك الفتحة الصغيرة بالستار المسدل على السيارة نحو الطريق خلفنا. وكأنها تنتظر ظهوره فجأة أمامها!

تنهدت بحسرة والتفتُ نحو يزن الذي يجلس أمامي ورحت أغوص بعالم اخر أنا ايضاً، هذا الأحمق ضحّى بكل شيء من أجلي. اسرته وعمله ووطنه. أكنت أستحق هذا منه؟
في لحظتها كان أكثر ما يثير خوفي هو ماذا أن ندم على هذا لاحقاً وكرهني؟ ربما سيجد إني لم أكن أستحق كل هذه التضحية بعد فوات الاوان وأنه تورط بالهورب معنا!
- سنتوقف قليلاً.

قالها سائق السيارة بصوت مرتفع فنظر العم عادل والسيد أحمد بقلق نحو بعضهما وقال العم عادل فوراً:
-لماذا سيفعل ذلك؟ بالكاد عبرنا حدود العراق لتونا!
نزلا هما اولنا فور توقف السيارة وأسرعا اليه، لحظات وعادا الينا بملامح شبه مطمئنة وقال السيد أحمد:
- السيارة تحتاج لبعض الراحة والتزود بالماء. سنبقى لعشر دقائق ثم نواصل المسير. أنزلوا لتريحوا أجسادكم قليلاً!
لمست كتف لوجين برفق وقلت لها بهدوء:.

- حبيبتي؟ هل تنزلين قليلاً ليرتاح جسدكِ؟!
لم تنظر إلى ولم ترد بشيء. نظرت نحو الخالة سهير التي لم تجف دموعها بعد فأشارت ألي أن أتركها معها وأنزل. رضخت للأمر على مضض ونزلت مع البقية فجسدي قد تهالك من هذا الجلوس الطويل والغير مريح.

كان السيد أحمد يقف مع أسرته والعم عادل مع أمي يتناقشان حول شيء ما. وكان يزن يقف بعيداً عن هؤلاء جميعهم يحدق بالافق البعيد الذي بدأت الظلمة تنقشع منه وبدأت السماء تتلون باللون الازرق الباهت الممزوج مع القاتم تستعد لأشراقة صباح جديدة!
وقفت بقربه وقلت بينما أضم يداي الى صدري لأنعم ببعض الدفئ وسط هذا العراء البارد:
- هل أنت بخير؟!
نظر إلى بعيونه المتعبة وقال:
- هل أبدو لكِ كذلك؟!

ثم نظر نحو الأفق مجدداً بعيداً عني وتمتم بحسرة:
- حتى لم أجد الفرصة لأودع عائلتي أو أتناقش معهم، كيف عساهم سيظنوا بي وأنا أخبرهم في يوم زفافي إني سآخذ زوجتي واهاجر لأني وجدت عملاً جيداً؟، أنا حتى لم أعطهم الفرصة ليستوعبوا الأمر يا رنا!
- أنا أسفة!
نظر ألي باستغراب وقال: - على ماذا؟!
رددت بخجل بينما أرفع كتفاي بحيرة: - أعني. كل ما يحصل لك بسببي!
- هذا صحيح.

فاجأتني صراحته في الحقيقة. أعني لم أنتظر منه مواساة أو كذبة بيضاء. ولكن ليس أن يفجر رأيه بوجهي بهذه الطريقة!
أستدار إلى بجسده وعلى شفتاه شبح ابتسامة وقال: - ولكن. لو عاد الزمن ألف مرة وأنا ادرك أن هذا ما سيحصل.
سكت للحظات ثم أردف: - لكنت سرت بهذا الطريق معكِ ألف مرة ايضاً!
تبسمت وسقطت دمعة على غفلة مني وقلت بصوت مهزوز: - يوماً ما ستندم على هذا!

- ربما سأفعل. ولكن حين أتذكر كم كنت - وسأبقى - أحبكِ سيزول كل الندم بداخلي!
رفعت يده بهدوء نحو وجهي واستنشقت عطرها المميز وقبلتها بعمق ووضعتها على خدي وقلت:
- كل يوم أدرك لماذا كنت أحبك بكل ذلك الجنون. لأنك لا تستحق أن أحبك بعقلانية. سيكون قليل بحقك أن لا أحبك بكل ما أملك من قوة!
لف يده حول كتفي وضمني اليه فأرحت رأسي على صدره استمع لتنفسه المنتظم وقلبه المجنون. لحظات حتى قلت:.

- ما الذي سيحصل لهما يا يزن؟ ورسلان بالأخص!
أرتفع صدره وانخفض وهو يزفر بحيرة ثم قال:
- لا أعلم يا رنا، ولكن أتمنى أن لا يحصل ما نتوقعه. ليرأف الله بهم!

وصلنا الى حدود ايران بعد ساعات طويلة وكان يقف بأنتظارنا ضابط الجيش في منظمة بدر والذي كان صديقاً قديماً للسيد أحمد وانشق عن الجيش العراقي والتحق بهذه المنظمة والذي كان من المفترض أن يكون بانتظار قدوم رسلان ولوجين كما اتفق معه السيد أحمد وليس أن يكون بانتظارنا جميعاً!

لم يكن سيشكل الأمر بالنسبة لهم مشكلة وبالأخص منظمة بدر. كانت تتلهف لكل شخص يخرج هارباً من العراق لتتلقفه بين أحضانها وتهبه ما يحتاج أليه. لتصنع منه بطريقة غير مباشرة سلاح ستستخدمه ضد العراق في المستقبل. فأعظم ما يكون في التجسس هو أن تستخدم أفراد من البلد ذاته ليعملوا ضده. أشخاص لهم أهل واصحاب هناك. يعرفون كل حفرة وكل زاوية فيه. اشخاص سيكون لهم التأثير على غيرهم أن عادوا في يوماً ما الى بلدهم. منحوهم الامان والسلام والمراكز العليا. منحوهم ما سلبهم صدام منهم ليكونوا اصحاب فضل عليهم وينتظرون منهم أن يردوا هذا الدين في يوماً ما!

استراتيجية محكمة وقع أسيرها من فهمها ومن لم يفعل، أعني بالله عليكم. ما الذي ستسفيده المنظمة من تقديم كل هذه الامتيازات للهاربين؟ شفقة بهم؟ صدقة لوجه الله؟ كل شخص يعمل من اجل مصلحة بلده. لذلك ضم الفاريين العراقيين الى ايران كان من اجل مصلحة ايران بكل تأكيد. لا ألومهم. فهم يحبون بلدهم، تمنيت فقط لو حظينا بأحد في السنين الاخيرة يحب بلده ويعمل من أجله وليس من أجل مصلحته الشخصية!

كان يدعى فاروق وتقريباً يبلغ الخامسة والاربعين من عمره. لاحظت بعض ملامح الدهشة على وجهه حين نزلنا جميعنا من السيارة وبقي يبحث بيننا عن شخص يعرفه أو على الأقل يعرّف عن نفسه له ليتفاهم معه. زادت الدهشة على وجهه وهو يرى السيد أحمد فأسرع اليه واحتضنه قائلاً:
- ما الذي حصل؟ لماذا لم تخبرني بقدومك؟
قال السيد أحمد بتعب:
- قصةٍ طويلة يا فاروق. دعني أرتاح بالله عليك ثم أسردها لك!
- حسناً حسناً تعالوا معي!

قالها الاخر فوراً بينما يشير للسيارتين اللاتي كنا بأنتظارنا. والتي من المفترض أن تكون أحدهم لركوبهم هو والفاريين(رسلان ولوجين) والاخرى للحماية. ولكن ولتغير الظروف قمنا بشغل السيارتين ونحن ننحشر بداخلها لنعبر الحدود الرئيسية لايران وندخل اليها!
أستغرق الأمر عدة ساعات اخرى ونحن نصل الى إحدى البلدات الصغيرة ولم ندخل الى المدن الكبيرة. نزلنا في منزل يتألف من طابق واحد ذو حديقة صغيرة وغرفتين وصالة.

دخلنا نحن النساء جميعنا في غرفة واجتمع الرجال في غرفة اخرى ليرتاحوا ويقرروا الخطوة التالية!
اقتربت من لوجين وهي تجلس في زاوية الغرفة تتكأ على الجدار وتحدق بالفراغ بينما لا تزال تبكي بين فترة واخرى كلما حصلت على بعض الدموع الجديدة غير تلك التي جفت!
سحبت رأسها برفق خشية أن أؤذي جروحها وضممتها الى صدري بينما امسح على شعرها القصير بهدوء. كان ملمسه خشن من الدماء المتيبسة به عكس ما كان في السابق!

قلت هامسة بينما روحي تعتصر بألم لوضعها:
- أتذكرين كم من مرة شعرنا اننا وصلنا لطريق مسدود لا محالة فيفاجئنا الله أنه طريق جديد؟ أتذكرين عدد المرات التي شعرنا باليأس وأسأنا الظن به فيفاجئنا برحمته؟!
شعرت بجسدها يتقلص ورغم صمتها شعرت ببكائها يزداد فأدركت أن كلماتي قد لامست شيء بداخلها. فأكملت بينما أضمها إلى أكثر:.

- هل تظنين أن الله غر عادل يا لوجين؟ هل تظنيه قد قسم النجاة لكِ ولم يقسمها لرسلان الذي لا ذنب له؟ أتظنين أن نهايته بهذا الشكل بعد كل شيء عاناه وضحّى به من أجل أسرته؟ الله لا يظلم أحداً يا لوجين. وبقاء رسلان في السجن لغاية لا يدركها إلا الله. أنا متأكدة من ذلك!
فسمعت صوتها المبحوح يهمس لي:
- لا يبكيني موته هناك. بل ما يبكيني بقائه هناك يا رنا، أنتِ لم تري ما رأيته أنا!

ثم سحبت نفسها بهدوء من بين يداي ونظرت نحوي بملامحها المتعبة وقالت بأرهاق:
- يوم واحد بقيت معهم وغيروا لي هيئتي وملامحي بهذا الشكل. ما الذي سيفعلوه به يا رنا؟!
ثم أحاطت رأسها فوراً وجسدها يرتجف بينما تكمل بتوتر:
- ما الذي سيحصل له؟ كيف سيعذبوه؟!
ضممتها فوراً إلى وقلت بينما أعيد أحكام يدي على رأسها لأشعرها ببعض الطمأنينة:.

- شششش، أهدأي حبيبتي. ألم تسمعي خالكِ حين كنا نتحدث في السيارة حين قال أنه أوصى صديقه به وسينقله تحت إشرافه؟ لذلك لا تقلقي لن يحصل له شيء ولا تعذيب. ما هي إلا أيام وسيتخلص من كامل المجنون!
لا أعلم أن طمأنها كلامي أم لا فبكائها كان يشتد أكثر فأكثر، ولكن ما هي إلا دقائق اخرى حتى سكن جسدها وانتظمت أنفاسها لتغط بنوم عميق كانت محرومة منه ما يزيد عن ال24 ساعة!

حلّ الليل ونمنا نحن النساء في الغرفة والرجال في الغرفة المجاورة ولا ندرك الى أي شيء توصلوا وأي قرار أتخذوا!
خرجت نحو الصالة حين سمعت فيها حركة بعد أن غط الجميع بالنوم لأرى من لا يزال مستيقظاً منا ففاروق قد رحل منذ مدة بعد أن أحضر العشاء من أجلنا.
فتحت الباب بهدوء وخرجت أليها لأجده يزن هناك ينام على إحدى الارائك ويدثر نفسه بغطاء وثير وهو يحاول النوم ويفشل!

اقتربت منه فرفع رأسه فوراً واستعدل بجلسته قائلاً:
- هل أنتِ بخير؟ لِما لا زلتِ مستيقظة؟!
جلست بجواره على الاريكة وقلت بتنهيدة:
- يبدو أن النوم جافاني!
أطلق هو تنهيدة بدوره وقال:
- وأنا ايضاً. أفكر بحال رسلان!
- لوجين ستفقد عقلها من شدة التفكير!
- مسكينة. ليرأف الله بهما!
- آمين!
لحظات ثم سألته:
- الى أي قرار توصلتوا؟!
فرد بينما يمرر أصابعه بين خصلات شعره:.

- يومين وسيؤمن لنا فاروق سيارة وتأشيرة دخول الى تركيا. ولكن بأسماء مزورة لنا جميعاً. فالسيد أحمد ذو مكانة مرموقة في الجيش العراقي ونخشى أن يطالبوا به أن خرج من ايران. رغم ضعف الاحتمال ولكن فاروق ومن معه نصحونا بعدم المجازفة لذلك سيصنعوا جوازات سفر جديدة.
- لنا جميعاً؟!
- أجل.
- وفي تركيا. أين سنبقى؟!

- لا تقلقي. كل واحد فينا خطط لمستقبله. العم عادل أحضر معه كل ما يملك من مال لذلك هو والسيد أحمد لن يستقرا في تركيا بل سيقدما على طلب لجوء الى بريطانيا أو الولايات المتحدة.
- ونحن؟!
- كان قراره أن نذهب معه ولكني رفضت.
- لماذا؟!
- أبي لديه صديق في تركيا كانا في الماضي يتاجران معاً. سأذهب أليه وأعمل معه في الشركة ونستقر هناك. على الأقل لنستقر بدولة نعرف فيها أحدهم!
فقلت بشيء من القلق:.

- أمتأكد من هذا القرار يا يزن؟ أعني أن نبقى لوحدنا بعيداً عنهم؟ ربما سنحتاجهم بجوارنا ولن نعرف كيف ندبر أمورنا.
نظر ألي بنظرات مبهمة ثم قال وقد لاحظت بعض السخط الممزوج بعتب:
- تعنين أنه لا يكفيكِ وجودي وتحتاجين الى رجل حقيقي؟!
ضربته برفق على قدمه التي تمتد من جواري وقلت له:
- بالله عليك كيف توصلت لهذا الاستنتاج؟!
- ركزي بجملتكِ وستعرفين كيف توصلت له!

حاولت أن أبرر له ولكني صمت فعلاً وركزت بجملتي كما طلب. كان من حقه بالفعل أن يصل لهذا الاستنتاج فجملتي كانت غبية!
أمسكت يده برفق وقلت له بثقة وجدية:
- لو لم اراك رجل يا يزن ما كنت ارتبطت بك. لا أعرف كيف أبرر جملتي ولكن أقسم لم أكن أعني ما فهمته أنت، أنا فقط لأنهم يكبرونا سناً ولأننا في دولة غريبة حتى لا نعرف لغتها!
قال بنبرة لم أدرك من خلالها هل اقتنع بكلامي أم لا:.

- على اية حال. لنخرج اولاً من ايران وبعدها كل شيء سهل.
- يزن؟!
- ماذا؟!
-أنا بالفعل لم أقصد ما قلته!
- حسناً لا تبالي. اذهبي لتخلدي للنوم الان!
مططت شفتاي بقلة حيلة وقررت تأجيل النقاش لوقت لاحق فهو متعب ومشوش بما فيه الكفاية، فنحن الذي نعايش هذا القرار منذ أكثر من شهر لا نستطيع تجرعه الان. فكيف به هو الذي وضِعَ أمام هذا القرار فجأة بين ليلة وضحاها ليترك كل شيء خلفه ويدمر حياته بهذا الشكل!

ما أن نهضت عن الاريكة حتى استلقى عليها مجدداً وأدار وجهه الناحية الاخرى بعيداً عني، ربما في وقت لاحق لم يكن سيسخط من حديثي بهذا الشكل. ولكني أدرك أن بداخله غضب مكتوم من كل ما يحصل حوله ومن ضياعه بالاحداث والتغير المفاجئ الذي طرأ على كل شيء يعرفه، كان يحاول بصعوبة أن لا يشعرني باستيائه من تدمر حياته بهذا الشكل، ولكن الى متى يا ترى ستستمر بداخله مداراة شعوري بهذا الشكل؟!

جلست على الاريكة مجدداً وقلت بهدوء أخفي خلفه انكساري:
- يمكنني أن أطلب من العم عادل أن يطلب من فاروق أعادتك نحو العراق دون أن يشعر بك أحد.
نظر إلى بخزرة واستعدل جالساً مرة اخرى يحدق بي باستياء دون أن يقول شيء. كان ينتظر مني أن أكمل كلامي فلم أتردد للحظة:.

- أسمع يزن. دعنا نكن منطقيين ولنترك عواطفنا جانباً. أنت احتجت سنين عديدة فقط لتتمكن من مواجهة أبيك والارتباط بي خشية أن يحرمك من حياتهم وتضطر أن تعيش حياتي. كدت أن تتخلى عني لأنك لم تتمكن من تقبل حياة طبقتنا، لذلك لا أستطيع تفسير موقفك الحالي وأنت تجازف كل هذه المجازفة التي ستدفعك لعيش حياة ربما أسوأ من تلك التي ستعيشها لو نفاك أبيك نحو عالمي. لا أنكر إني فكرت للحظة إنك تفعل ذلك مكرهاً ومحرجاً من أن ترضى بترك زوجتك والعودة لحياتك دون أن ترافقها. ربما موقف رسلان جعلك تضطر أن تقدم المجازفة وربما أنت تقبلتها من ذاتك. لا أعرف! وأنت تدرك إني أخشى ما لا أعرفه. أنت الان لا تريد جرح مشاعري أو أفراغ غضبك بي وتصبر نفسك على هذا الوضع. ولكن الى متى سيستمر هذا يا يزن؟!

اكتفى بالصمت وذات العيون الساخطة والانفاس المستاءة ولم يرد بشيء فأكملت أنا:
- لست مضطراً أن تترك كل شيء ورائك وتضحي به من أجلي. لا تزال تمتلك الفرصة الان لتعود نحو حياتك وعائلتك وترتبط بواحدة لا تورطك بهذه المشاكل.
قال بتهكم ساخط بعد أن ساد السكون بيننا للحظات:
- حسناً. شكراً على هذا العرض المغري. سأفكر به جيداً وأبلغ العم عادل بقراري قبل رحيلنا لتركيا. لا داعي لأن تخبريه أنتِ بالنيابة عني!

نظرت اليه بجمود وعيون ممتعضة. توقعت منه أن يقول كل شيء عدا هذا! لا يزال يتمسك بطباعه الطفولية الى الان. فحين يتشاجر معه أحدهم لا يقوم بمناقشته ابداً بل يمنحه جملة واحدة تطابق رأي المقابل ولكنها ذات معنى استفزازي. فلا يتمكن من بلعها ولا من تجاهلها!
عاد ليستلقي مجدداً مولياً ظهره لي وقال:
- أن أنهيتِ كلامكِ فانصرفي لو سمحتِ. أريد أن أنام لدينا غداً عمل منذ الصباح الباكر!

رغم غيضي ولكني كتمته ولم أفصح عنه وقررت الاكتفاء بما قلته. والذي أدركت بعد أن أنهيته أنه كان جارحاً حقاً. ولكنه يبقى حقيقة ولا وقت لمداراة المشاعر. عليه أن يختار ما لن يندم عليه وليس ما سيرضيني للوقت الحالي!
عدت نحو الغرفة بخطوات هادئة كي لا أوقظ أحدهم. أنسبت لفراشي من دون أصدار أي ضجة ولكن مع ذلك استيقظت لوجين التي ترقد الى جانبي.
استلقيت على جانبي الايمن لأقابل وجهها وعيناها التي تحدق بي بحزن.

مسحت على شعرها بلطف وهمست قائلة كي لا نزعج الذين حولنا:
- هل تحتاجين شيء حبيبتي؟!
اومأت برأسها ب لا وهمست لي بدورها بنبرة مرهقة:
- أين كنتِ؟!
تنهدت بحسرة وقلت:
- أرتكب الحماقات!
بقيت تحدق بي بجمود ثم قالت:
- هل كل شيء بخير؟!
- لا تشغلي بالكِ بي. كل شيء على ما يرام!
رفعت يدها وأمسكت يدي بدفئ وقالت وكأنها فهمت ما يتبعثر بداخلي وأرفض الأفصاح عنه:.

- يزن شخص طيب القلب يا رنا. إياكِ أن تخسريه. فمن النادر أن تعثري على حب مجنون بهذا الشكل. حب سيترك كل شيء من أجلكِ!

حدقت بعينيها بدوري وفي داخلي ألم أعجز عن وصفه وعن البوح به. نعم أنا ادرك أنه نادر - بل مستحيل- ولكن لا أستطيع بكل بساطة أن أعيش يومي وأتجاهل مستقبلي. كل يوم سيمضي على وأنا معه سأزداد به تعلقاً لذلك لا أريد أن يصدمني بعد شهور أو أسابيع أنه لم يعد يتحمل هذه الحياة معي. أريده أن يكون واثقاً مما يريده لأطمئن أنا بدوري!

تنهدت بألم وضممت يدها إلى بقوة أكبر أحاول أن ألتمس منها طمأنينة أدرك أنها لا تملكها. ولكن وجودها كان كافي ليمنحني الامان من كل شيء حولي!

كان صباح اليوم التالي أقل توتراً بالنسبة لنا من اليوم الذي مضى لا سيما أن السيد أحمد - وبطريقة ما - أستطاع أن يتواصل مع صديقه في العراق عن طريق هواتف خاصة كانت تستخدمها قوات بدر للتواصل مع رفقائهم في العراق دون أن تكتشف الحكومة العراقية ذلك. كان صديقه هذا هو الذي أوصاه برسلان فبشره أنه استطاع أخراجه ليلة البارحة من سجن كامل نحو سجنه ليكون تحت أشرافه. ولكن السيء بالأمر أنه فعل ذلك بعد أن اكتشف كامل هروب لوجين. ويمكنكم تخيل ما الذي فعله برسلان بعد أن جن جنونه بهروبها، ولكن ما يهم الان أنه خرج من تحت يد كامل وحرسه!

كانت لوجين تبدو أكثر ارتياحاً وأكثر طمأنينة. ولكن ضياعها وحزنها لفراقه لم يتغير. ولكن ما يهمها الان هو سلامته فقط!
وقف السيد أحمد في اطراف الصالة حيث نجلس وكتف يديه أمام جسده ليصلي ركعتين من أجل تسهيل الأمر قبل الخروج نحو مشوارهم مع فاروق. شعرت ببعض القلق بينما كان يصلي. سني داخل دولة بأكملها تخضع للنظام الشيعي. كيف سيكون المنظر لو دخل علينا أحد غير فاروق؟!

لم أكن أملك هذا القلق داخل العراق وسط ناسنا واهالينا. ولكن في دولة غريبة لا نعرف طريقة تفكير شعبها كان الأمر مثيراً للقلق!
همست للخالة سهير التي كانت تجلس قربي وقلت لها:
- هل يعرفون طائفتنا؟ أعني أن دخلوا الان وشاهدوا الخال أحمد يصلي هكذا. هل سيكون الأمر بخير؟!
نظرت بحيرة نحو السيد أحمد وهمست لي بدورها:.

- فاروق شيعي وهو صديق لأحمد منذ عشرين عاماً. لا بد أنه يعرف أن أحمد سني. لذلك لا أظنهم يملكون مشكلة.
- أمي الوحيدة التي ستنجوا أن كانت لديهم مشكلة!
رغم حالتها المزرية ولكنها تبسمت على ما قلته. فأمي الوحيدة التي تنتمي للطائفة الشيعية بيننا. مسحت على شعري برفق وقالت بحسرة:
- لم يقسم الله لكما أنتِ ولوجين أن تفرحا كما تفرح باقي الفتيات. ولكن لدي احساس أن الله سيعضوكما عن هذا كله بأحسن ما يكون!

تنهدت بحسرة بدوري وقلت:
- آمين!
ومع عبارتي هذه نظرت نحو يزن الذي حتى حين رد على تحية الصباح ردها من غير أن ينظر الي. كان يجلس مع العم عادل ويتهامسان حول شيء ما. رفع فجأة نظره بسرعة خاطفة إلى بينما كنت احدق به بنظرات متحسرة وأعاده حيث كان بعيداً عني. وكأنه يختلس النظر إلى دون أن يجعلني أشعر بذلك!

ماذا لو كان الان يعرض عليه بالفعل اقتراحي؟ ماذا لو كان العم عادل يدبر طريقة عوده نحو العراق؟ هل سيتركني حقاً؟ هل سأتمكن من العيش بعيداً عنه؟!

زفرت بضيق وأبعدت نظراتي بعيداً عنه قبل أن ينفجر رأسي من كثرة التفكير وحوّلت بصري اتجاه لوجين التي تجلس بقربي وترفع ركبتيها الى صدرها وتستند بذقنها عليهما. جاءت الخالة عفاف بنظرات نادمة وجلست بالقرب منها فنظرت لوجين اليها بانكسار أعتقاداً منها أنها بصدد كلمات تأنيب ولوم جديدة. ولكن تفاجئنا ثلاثتنا - أنا ولوجين والخالة سهير -ونحن نرى الخالة عفاف تمد يدها وتمسح على شعر لوجين برفق ثم سحبت رأسها اليها لتضمها الى صدرها بصمت من دون إضافة أي تعليق. كان أعتذاراً بطريقة غير مباشرة عمّا قالته لها في تلك الليلة!

من الجيد رؤية الاشياء تتحسن وتعود الى سابق عهدها. عداي أنا التي كلما تقدم الجميع كنت أتراجع بحماقاتي!

(لوجين)
خرج الرجال من المنزل وبقينا لوحدنا. حسب ما فهمت هم قد ذهبوا للحصول على جوازات سفر جديدة تؤمنها لهم قوات بدر باسماء جديدة كي لا يعرف أي أحد أثر لنا.

اغمضت عيناي وأنا اتكأ على الجدار من خلفي أحرق نفسي بصمت. قرأت ذات مرة قصة عن شقيقان صغيران يرميان فتات الخبز في مسريهم في الغابة كي يعرفا طريق العودة الى المنزل. هل يا ترى أن رميت فتات الخبز سيعرف طريقي ويأتي ألي؟ أو أعرف أنا كيف أعود له؟ هل سيتبع رائحتي ليرشده قلبه ألي؟ وكيف سيصل؟ وكيف سأصل أنا أليه بعد أن نُفيت من وطني ومنزلي؟!

سحبت المصلاة التي كان يستخدمها خالي أحمد ولبست غطاء الرأس وبدأت الصلاة. شعرت فجأة إني قريبة الى الله في هذين اليومين أكثر من كل السنين التي مضت. وكأنه فعل كل هذا فقط ليقول لي أنا هنا. لا تنسي أمري فأنسى أمركِ، كلما كنت أصلي واتقرب اليه كلما كانت الطمأنينة تنساب لقلبي أكثر من أن كل شيء سيكون بخير. لا يوجد شيء يؤكد ذلك ولكني كنت متأكدة فقط!

لم يحدث الكثير خلال هذين اليومين. كنا ننام ليلنا ونستيقظ نهارنا بصمت وبكاء فقط. الى أن حان يوم الرحيل بعد أن اكتملت جوازات سفرنا.
ودعنا فاروق عند الحدود الايرانية التركية ووقفنا عند الحدود ننتظر دورنا لنأشر الجواز وندخل تركيا.
كنا نقف أنا ورنا معاً فجاء الينا يزن يحمل لكل واحدة جوازها الجديد. كان واضحاً استيائه من خلف نظاراته الشمسية وكان واضحاً ايضاً أن رنا تعرف سبب هذا الاستياء.

سمعت نبرتها المترددة له ما أن سلمها جوازها:
- إذاً. قررت أن تكمل معنا؟!
نظر لها للحظات وأنا أدرك غضبه من خلال زفيره ثم قال بعصبية مكتومة:
- في الحقيقة لم أقرر أن أكمل معكم. بل معكِ، ولكن لا أظنك ستقتنعين بهذا يوماً!
ثم قال وقد تجلت العصبية بشكل أوضح في صوته:.

- ربما أنتِ محقة يا رنا. ربما سأشعر بالندم يوماً ما، ولكن ليس لأني تركت كل شيء من اجلك. بل لأني ورغم تركي لكل شيء ورغم حبي، لا تزالين الى الان لا تصدقين شيء ولا تثقين بي وتريني دائماً بمنظر المراهق الساذج الذي سيتخلى عنكِ في منتصف الطريق.
اقترب خطوة اخرى منها بينما تنظر اليه بندم وانكسار وأكمل:.

- ولكن أتعلمين شيئاً يا رنا؟ أنا حتى حين كنت مراهق ساذج لم أتخلى عنكِ وحاربت كل شيء من أجل أن أحظى بكِ. نعم قد أكون أتخذت قرارات خاطئة اثناء ذلك وقلت كلاماً غبياً وخانتني شجاعتي في مواقف عديدة. ولكن هذا لا يهم. ما يهم إني لم أتوقف عن المحاربة في يوم. ولكن مع الاسف للان تريني بمنظر المهزوم الذي سيترككِ ويفر بعيداً. رغم إني لم أفعل هذا ابداً!

وسلمني جوازي وتركنا ورحل بينما شاهدت الدموع تجتمع في عينيها من كلامه. لم أكن بحالة نفسية تسمح لي بمواساة أحد. ليس لأني لا أود ذلك بل لأني ربما سأزيد الأمر سوءاً بدل أن أصلحه. وايضاً كانت ملامح رنا تبدو غير قابلة للنقاش في الوقت الحالي وتفضل الصمت بدورها. لذلك صمت أنا ايضاً!
طبطبت على ظهرها برفق فمسحت دمعتها قبل أن تسقط ونظرت إلى تدعي التماسك وقالت:
- دعينا نمضي.

وتركتني وسارت في الحال بينما أنا أنظر اليها بأشفاق، تنهدت بقلة حيلة وحدقت بالجواز بين يداي. ذلك الذي يحمل اسم اخر وشخصية جديدة على عيشها في بلد لم أراه أو أزره من قبل، فتح الجواز وشاهدت صورتي القديمة التي كانت في الجواز السابق. ولكن أسمي لم يعد كما هو. قرأت حروفه بتمعن وحذر أحاول الاعتياد عليه قبل لن أقدمه لضابط الجوازات، . لارا!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة