قصص و روايات - قصص رومانسية :

رواية حب في الزمن البائد للكاتبة سارة ح ش الفصل الخامس عشر

رواية حب في الزمن البائد للكاتبة سارة ح ش الفصل الخامس عشر

رواية حب في الزمن البائد للكاتبة سارة ح ش الفصل الخامس عشر

قرار
(لوجين)
هل جربت في يوم وسط ضجيج عال ان تضع يداك على أذنيك فجأة؟ انه شعور سيجعلك كالأبله بينهم. سيتحدثون اليك؛ يسألوك؛ يضحكون على صمتك. ولكنك لن تبادلهم اياً مما مضى. لن ترد سؤال ولن تشاركهم ضحكة. انت ببساطة ستكون شبه مغيب عن الوعي بجزء معين من دماغك وواعي جداً في الجزء الاخر. انا ببساطة كنت هكذا!

ضجيج السوق كان يشوش لي مسامعي ويقاطع لي حروفي. ولكنه اختفى الان فجأة؛ لا اعلم هل شاركوني صمتي ام ببساطة انا التي اعد اسمعهم. شفاه رسلان تتحرك ولكني لا استقبل اي شيء من حروفه. لقد توقف بي الزمن عند جملته الاخيرة ويرفض الان ان يتحرك لأوافيه ببقية كلماته. لا اعرف كيف اوصف المشاعر التي تعصف بي الان؟ هل انا سعيدة؟ لا؛ ربما خائفة. او من المحتمل اني لا اعرف ما يحصل لي بالضبط. ربما هو مجرد حلم جميل فحسب!

-لوجين؟ هل انتِ معي؟
سألني رسلان بينما يلوح بيده امام وجهي المصدوم لأرد بغباء:
-هل من المفترض ان اكون كذلك؟
لم يبتسم لبلاهتي بل اكمل بجديته التي تشعرني بمدى سذاجتي دائماً:
- يمكنك ان تذهبي الان بدل ان يراك كامل هنا.
فقلت فوراً باعتراض وكأني ادركت الامر:
-لحظة لحظة. هل تدرك ما سيحصل ان ادرك كامل انك تريد ان نعقد قراننا؟
-هذا الامر لن اناقشه الان معك. سأحضر ابي ليلاً ونناقش التفاصيل مع العم عادل.

ولا تزال عيناه المستاءة طوال الوقت وحاجبيه المقطبة تأسرني. ألا يملك هذا الفتى غير الجدية بحياته؟ ربما لو كان مراهق ساذج اخر ما كنت ادمنته بهذا الشكل!
-لوجين هل تسمعين ما اقول ام ماذا؟
-أ أجل.
-فما بالك لا تردين؟!

كانت هيئتنا تبدو كمعلمة تحاسب طالبة اهملت واجبها المنزلي. كانت نبرته جادة وملامحه اقرب الى العصبية. في الحقيقة هذا الشيء من حقه فالمصيبة التي نحن بخضمها تستحق جدية مماثلة ولكن عقلي الساذج لا يزال متوقف لدى اخر جملة استقبلها. ان نعقد قراننا انا وانتِ.
-حسناً. حسناً فهمت.
اطلق زفير حاد من انفه وهو ينظر لي باستياء؛ فإن كان هناك شيء بي يستفز رسلان فهو كوني –وحسب المعجم العراقي- فاهية!

ال فاهية هو مصطلح يطلق على تلك التي تفهم الحكاية متأخرة؛ والتي يتجهز الجميع للخروج وهي لا تزال تبحث عن حذائها الذي لم تعرف اين وضعته اخر مرة؛ وتلك التي توصيها ان تحضر لك كوب ماء فتذهب الى المطبخ وتعود بعد عشر دقائق تسألك عما وصيتها فقد نسيت. تلك هي انا بالضبط. لذلك ببساطة ومنذ صغرنا هذا كان إحدى القابي لدى رسلان!

استأذنت منه وخرجت من المحل بدل ان يخرجني رسلان من شعري؛ فعلى ما يبدو ان غبائي استفزه اكثر من موضوع كامل.

كنت اسير في الطريق كالمترنح من الثمالة. لدي رغبة في البكاء والافراط في الضحك في اللحظة ذاتها؛ رغبة ان تمطر السماء الان رغم ان الصيف لم يغادرنا بعد لأرقص تحته وأستعيد ايام طفولتي متناسية الكرب الذي اعيشه الان. تساورني احياناً لحظات سعادة اتمنى من خلالها ركن كل همومي جانباً واعيش يومي فقط. اشتاق ان استيقظ صباحاً على رائحة الخبز الطازج الذي يحضره ابي من المعمل ورائحة الشاي قبيل اكتماله؛ احتاج ان استذكر يوم رمضان الاخير والسهر على اغنية ام كلثوم الليلة عيد لنستحم ونرتدي ملابس نومنا الجديدة كي نستيقظ صباحاً على صوت ابو طبيلة يجوب الشوارع وخلفه اطفال الحي يتسابقون بينما يجمع العيدية من المنازل. انتم ستظنون الان اني اهذي واطلق تشبيهات لا تلائم الموقف؛ ولكن في الحقيقة لا اطمح لعيش الموقف بقدر ما اطمح للإحساس بهذا الشعور المماثل من السعادة التي لا تغزو قلبي إلا باستذكار مواقف مشابهة. اشتاق ان اشعر بالسعادة كلما فكرت بهذه الامور؛ ولكن ومنذ ان حصل موضوع كامل حتى التفكير بهذه الاشياء لم يعد يرسم بسمة حقيقية بداخلي. فهل يا ترى عرض رسلان سيعيدني لوجين القديمة؟ اتمنى ذلك!

طرقت الباب بيدان ثقيلة بالكاد اتمكن من رفعهما بل وتعجبت انها قد وصلت لمسامعهم لتفتح لي الخالة سعاد الباب. اعتلى الفزع وجهها فوراً وهي تشاهد حالتي الرثة والدماء التي لم اغسلها بعد لتضرب صدرها فوراً بجزع وهي تهتف:
-من الذي فعل بك هذا؟
خرجت امي من المطبخ على صوتها بينما ادلف انا للداخل واقول ببرود وتعب يشبه شخص لم ينم منذ ايام:
-اخبري ابي ان رسلان سيزورنا اليوم!

ضربت امي جانب وجهها بفزع مماثل وهي تسألني السؤال ذاته لأتجاهل الاجابة بينما اصعد السلم وانا اقول:
-لا يتبعني احد. انا متعبة واريد ان انام.

تجاهلت كل صراخ امي بي تطلب مني التوقف وشرح لها ما حصل ودخلت للغرفة واقفلت الباب كي لا يقتحمون وحدتي التي احتاجها بعيداً عن الجميع. والغريب في الامر اني بالفعل ما ان وضعت رأسي على الوسادة حتى غططت بالنوم فوراً. وكأن الواقع قد اجهد عقلي اكثر مما يجب فلم يعد يستطيع ان يفكر بأي شيء واسدل ستائره فوراً ليغط بظلام عميق ويسحبني معه نحو عالم اخر تمنيت لو اني اقضي بقية عمري فيه وان لا استيقظ ابداً...

-لوجين؟ عزيزتي هل انت مستيقظة؟
لا اعلم كم مر من الوقت وانا نائمة ولكن ما اعرفه انه ليس الوقت الكافي ليشبع جسدي. قمت بتكاسل من السرير لأفتح باب الغرفة لرنا المزعجة التي لا تتوقف عن طرقه. توسعت حدقتيها بفزع بادئ الامر لحالتي التي كانت كما هي ولكنها لم تعلق بشيء. ببساطة هي كانت ذلك النوع الذي يتقبل امور مشابهة بهدوء كي تسيطر على الموقف. اخذت نفساً عميقاً وقالت بينما تطرحه:.

-تعالي الى الحمام كي انظف هذا عنك.

تركت حقيبتها وكتبها ارضاً وقادتني من يدي نحو الحمام وانا اكتفي بالصمت. جلست هناك على طرف حوض الاستحمام بينما هي تبلل المنشفة البيضاء ووجها مقتضب تحاول كتم ما يدور بداخلها. اغلقت باب الحمام وجثت على ركبتيها ارضاً امامي بينما تبدأ بتنظيف وجهي من الدم والتراب وانا اراقب ملامحها المستاءة التي نادراً ما ترسمها على وجهها. فجأة توقفت عن مسح وجهي واطرقت رأسها لثواني بينما تحاول ان تتحكم بأعصابها فقلت فوراً ببرود:.

-يمكنك ان تقولي ما تفكري به بدل ان تطلقي هذه الحسرات.
رفعت رأسها إلى فجأة ونهضت في الحال لتقول لي بحدة:
-لا يا لوجين. لأني لست ساذجة مثلك وابوح كل ما يخطر ببالي.
ثم هزت اصبعها بعصبية امام وجهي وكأنها تهددني بينما تقول:
-بداخلي ما يكفي من الشتائم والصراخ ليريحني ويمحو كل غضبي من تصرفاتك الحمقاء.
ثم نقرت بذات الاصبع على جانب رأسها بينما تقول:.

-ولكن الله وضع العقل في رؤوسنا لنفكر قبل ان نتفوه بما يحلو لنا.
ثم اردفت فوراً بينما انا استمر بالتحديق بها بعدم مبالاة بهذه المحاضرة المعادة على مسامعي من غيرها:
-هلا اخبرتني ما الذي فعلته هذه المرة؟ فبالتأكيد لو كان مجرد حادث لأخبرت الخالة سهير بالأمر ولما بقيت بهذه الحالة للأن ولما عزلت نفسك في غرفتك. هناك بالتأكيد شيء ما قد حصل أليس كذلك؟
فأجبت فور صمتها من غير ان يفصل حديثنا لحظات من الزمن:.

-أيهم حقاً ما فعلته؟ أم يهمكم اكثر ما سببته؟ أم ما سيحصل لي؟، فلكل حالة شرح مختلف بالمناسبة!
نظرت لي رنا باستنكار وهي تقول:
-ما الذي حصل لك بالضبط؟ هل فقدت عقلك ام ماذا؟ ما هذه الترهات التي تتفوهين بها؟

نهضت من مكاني ودفعتها من مرفقها لأزيحها عن طريقي بينما اعود نحو غرفتي من جديد. جلست على سريري وانا احتضن ركبتاي بينما احدق بالسوق من خلال نافذتي وبالمارة فيه. انا احسد معظمهم. اولئك الذين لم يرتكبوا حماقتي؛ تلك التي لا هم لها سوى إثارة اعجاب ابن الجيران الذي ينتظرها بأخر ركن الحي؛ بتلك السيدة التي تقف مع رفيقتها عند باب بيتهم تشكو لها عمل البيت المتعب او تعلمها الاخرى على وصفة اكل جديدة. قبل اشهر قليلة كنت اعيش هذه البساطة ولا شيء يؤرقني سوى حب رسلان. اما الان فأصبت بهموم عجوز وحيدة!

لحظات مرت على تأملي حتى شعرت برنا تجاورني وتسحبني اليها لتضمني لأذرف فوراً تلك الدموع التي حبستها داخل جفوني فور رحيلي عن رسلان. اصبت بمزاجية مؤخراً لم اتمكن من التحكم بها. تارة ابكي بقوة وتارة احاول ان اتناسى كل شيء.

ثواني فقط حتى تحول بكائي الصامت لشهقات مرتفعة وانا اضم نفسي اكثر لرنا التي اكتفت بالصمت والتربيت على شعري مانحة اياي فرصة لأبوح ما بجعبتي من هموم. فلم اقاوم اكثر لأبدأ بسرد همومي فوراً وانا اقول لها:
-انا اغرق اكثر يا رنا واغرق من حولي معي. ارتكب حماقتي ثم وبكل جبن لا اتحمل المسؤولية وحدي بل التجئ بغيري لأورطه ايضا!
رفعت رأسي لتحوط وجهي بين يديها وهي تقول من بين دموعها التي تتشاركها معي:.

-عمن تتحدثين الان؟
نظرت لها ببؤس وبكائي لا يمنحني فرصة التقاط انفاسي فأجبتها بصوتي المختنق:
-رسلان. لقد اخبرت رسلان بكل شيء!
وهنا شهقت بفزع وكتمت بقية صوتها بيدها وهي تنظر إلى بصدمة فغطيت وجهي فوراً بيداي اكمل بقية بكائي هناك وبصوت اعلى. استغرقت رنا بضع ثواني اخرى في الصمت ومحاولة استيعاب ما قلته قبل ان تسألني بتردد:.

-رسلان؟ هل تدركين ما الذي سيفعله ذاك المجنون ان اصابته العصبية فجأة بحضور كامل؟ هل تدركين ما سيحصل؟
ثم سألتني باستنكار:
-ومن فعل بك هذا؟ هل غضب منك رسلان وضربك ام ماذا؟
وهنا رفعت رأسي فجأة واجبتها بسرعة ادافع عنه:
-بالطبع لا. رسلان من المستحيل ان يؤذيني!
فقالت بينما عينيها تتوسع اكثر:
-كامل؟
هززت رأسي بالإيجاب بينما اعود لخفض رأسي اكمل بكائي المرير وانا اقول:.

-لقد اخذني خارج حدود بغداد يا رنا. كدت ان اموت رعباً هذا اليوم!
احاطت كتفاي فوراً وهي تعصرهما بقوة وكأنها تحاول رفع كامل جسدي نحوها وليس عيناي فقط وهي تهتف بي بفزع اشد:
-فعل ماذا؟ هل خطفك؟
احطت رأسي فوراً بكلتا يداي وانا اكمل بصوتي الذي اصيب بالبحة من كثرة البكاء:
-لا اريد تذكر الامر ارجوك يا رنا. اتوسل اليك ان لا تسأليني اي شيء!

ضمتني اليها من جديد وانا اشعر باضطراب انافسها وتمتمة شفاهها ببعض الدعاء والتوسل ترجو الرب ان يحفظني من اعماق الظلمة التي اغوص بها!

رغم ان حديثي معها لا يتجاوز كونه فضفضة ولن يحل الامور ولكن رغم ذلك كلماتها كانت تصيبني بالطمأنينة التي احتاجها. انا بالفعل اشعر انها احدى النعم التي رزقني الله بها. انها تلك جرعة المخدر التي احتاجها حين تسوء الامور. تلك التي كلما دفعتها عني تشبثت بي اكثر ولا تتحين الفرص لتتركني او تبحث عن اخطائي لتلومني وترحل دون ان تتعرض للتأنيب بفعلها لذلك. هي ببساطة كانت المثال الذي استخدمه كلما اردت ان اتحدث عن الصداقة!

حل المساء وتحضرت العائلة لاستقبال ضيوفنا بعد ان اخبرتهم بما جرى حتى مع كامل. بالطبع تعرضت للملامة من امي وابي كوني ورطت رسلان بالأمر ولكن رغم ذلك تمنوا لو انه يملك الحل بالفعل ليخلصنا من كل هذا!

طرق الباب فاتجه ابي ليفتحه ويرحب بالعم ايمن ورسلان ومن ثم يدخلهم نحو الصالة حيث نجتمع كلنا هناك. القى العم ايمن التحية علينا الواحد تلو الاخر بينما اكتفى رسلان بتحية عامة ولم يخص احد بسلامه. لا اعلم لماذا ولكني احسست من خلال تصرفه هذا انه يريد تجاهلي دون ان يشعرني بذلك. وكأنه يحاول ان يسيطر على مشاعره امامهم؛ يخشى من نظراته ان تفضح حبي بداخله امام ابي. هو نوعاً ما كان ذلك الشاب العراقي المتمسك بتقاليد المجتمع السائدة؛ ذلك الخجول بمشاعره رغم صرامته؛ الغيور رغم كتمانه؛ ذاك الذي أسرني فور دخوله ونسيت كل ما انا بخضمه وجلست اخط فيه قصائد عشقي. وكم يكون الحب غريب الاطوار. يسلب منا لحظتنا؛ ينسينا محيطنا؛ يهدم واقعيتنا ليمنحنا عالم مائي اطفو فيه واحلق وافعل المستحيل!

-لوجين؟!

استفقت من شرودي على صوت ابي الذي اضطر لرفعه كي اسمعه وعلى شد رنا لفستاني كي اجلس لأنتبه حينها فقط ان الجميع قد جلس وانا البلهاء الوحيدة الواقفة تحدق بهيام برسلان. كان يرفع حاجبيه باستغراب وهو يحدق بدوره ببلاهتي فأضاف هذا الامر احراجاً اكثر للموقف فتعذرت منهم فوراً بحجة اني ذاهبة لتحضير الشاي وكنت انتظر جلوسهم فقط كي استأذن بالانصراف وليس لأني كنت شاردة الذهن كما يعتقدون. وانا ادرك جيداً ان الاغلب لم يصدقني؛ لا سيما المعلق الرياضي تلك التي لحقتني فوراً نحو المطبخ وهي تنفجر ضاحكة فور وصولها. حاولت قدر الامكان كتم ضحكتي وانا ازجرها قائلة:.

-انا بالفعل كنت انوي تحضير الشاي!
فقالت من وسط ضحكتها ساخرة:
-اجل اجل اصدقك عزيزتي.
ضربتها بملعقة الشاي التي كانت بين يداي وانا اقول:
-اغلقي فمك ولا تعلقي بشيء.
فجأة اختف ابتسامتها لتتحول لأخرى غريبة. كيف غريبة؟ حسناً كانت ابتسامة خجولة وليس من عادة رنا ان تخجل:
-ماذا؟!
اجابت بتردد بينما تعبث بطرف ضفيرتها المتدلية بجانب صدرها:
-اممم. هل تعلمين ان احدهم قد طلب يدي للزواج؟
تبسمت بسعادة وانا أسألها بلهفة:.

-أحقاً؟ ومن سيء الحظ هذا؟
ضحكت وهي تدخل خصلة شعرها التي لم تنفر من الاساس خلف اذنها وكأنها تحاول التقاط حروفها الضائعة بينما تقول لي بوجنتين نادراً ما اراهما متوردتين:
-يزن!
قطبت حاجباي باستغراب وانا أسالها:
-يزن من؟
ضربتني على كتفي وهي تزجرني قائلة:
-وكم يزن نعرف؟
فتحت فمي ببلاهة وهتفت بها:
-يزن الذي نعرفه؟ يزن ذاته؟
-شششش اخفضي صوتك!
-يا إلهي أهذا هو حبيبك السري؟
ضحكت على سؤالي وهي تقول:
-نعم ومع الاسف!

عانقتها فوراً وانا اقول بسعادة انستني كل همومي:
-يا إلهي انا بالفعل سعيدة من اجلك. رغم انه احمق وغبي ورغم انه سيأخذك مني ولكن مع ذلك سأتحمل!
ضحكت وهي تبادلني عناقي بينم تهمس لي بحسرة:
-لا تدركين كم انتظرت هذا اليوم يا لوجين. ادع لي فقط ان يتم كل شيء على خير وان لا يتعرقل الامر!
احطت وجهها بين يداي وانا اقول:
-لا تقلقي عزيزتي. كل شيء سيكون بخير صدقيني.

توقفت لارا عن طبع المستند الذي بين يديها واضطرت ان ترد على هاتفها المحمول الذي لم يتوقف عن الرنين لحظة. مطت شفتيها بابتسامة وهي تقرأ اسم ميس رغم ان مكتبها لا يبعد عن مكتب لارا سوى طابق واحد. خلعت نظارتها الطبية وردت بضجر وهي تمازحها قائلة:
-لن اسرد لك شيء من الاحداث وانت مضطرة ان تواصلي القراءة يا ميس.
لترد الاخر ببؤس طفولي:.

-لارا اتوسل اليك فقط اريحي قلبي المسكين واخبريني ان بالفعل كل شيء سيكون بخير وان رنا ستتزوج يزن ولوجين ستتزوج رسلان!
-وان فعلوا؟ هل سينتهي كل شيء؟
-لا؛ عليك ايضاً ان تخبريني انهم سيعيشون بسعادة!
-ما رأيك ان تتركي المدونة انسة ميس واسرد لك القصة كلها وننتهي من الامر واتخلص من اتصالك المستمر بي حتى في الثالثة بعد منتصف الليل تسأليني عن المدونة.

زفرت الاخرى بضيق وكادت ان تضرب قدميها ارضاً كالأطفال من شدة غيضها وتوترها ثم ختمت زفراتها المتتالية هذه قائلة:
-إذاً لدي سؤال واحد فقط.
زفرت لارا بدورها بضيق وقالت:
-أسألي وخلصيني!
-لماذا وافقت رنا؟ هل كان يستحق يزن موافقتها بعد سنين من الخذلان؟
تبسمت لارا وهي تتذكر ان السؤال ذاته قد خطر على بالها ذات مرة؛ تنهدت بينما تطرح حروفها المترددة ان تبوح عن نفسها:.

-كان امام رنا خيارين. اما ان تكابر وتعاقبه عما فعله بها وبالتالي ستعيش طوال حياتها تتجرع فراقه على مضض دون ان تتمكن من ادخال غيره حياتها؛ او ان تتخلص من هذه المعاناة كلها وتبدأ صفحة جديدة. ان تحترم ندمه وان تتقبل اسفه.
ردت ميس باستنكار:
-بهذه البساطة؟!

-يا ميس؛ مهما بدا الحب معقداً فأنه في الحقيقة بهذه السذاجة. لن نضع الشروط؛ وسنخل بالعقود. سنبرر كل خطأ ونغير كل ما اقسمنا اننا لن نغيره. قط لأننا نحب. لهذا السبب الحب لعنة. انه يصنع منا شيء اخر عكس ما نحن عليه. سنصبح ما هم عليه. سنحاول ان نتشابه معهم بأبسط التفاصيل فقط كي نثبت ان القدر جمعنا عن قصد؛ فقط كي نجعلهم يتمسكون بنا لأننا نشبههم. كلا الطرفين سيسلك هذا الطريق كي يرضي الاخر. لذلك بعد كل تجربة حب صادقة سواء فشلت او نجحت سنجد ان الطرفين قد تغيروا.

-إذاً هل.
وقبل ان تكمل قاطعتها لارا قائلة:
-اغربي عن وجهي ميس لدي الكثير من العمل وسيوبخني المدير بسببك.
واغلقت الهاتف قبل ان ترد الاخرى وهي تبتسم على تعلق ميس مؤخراً بهذه المدونات التي ترسلها لها لارا دون ان تعرف ابطالها على الواقع. او هذا ما ظننته!

(الكاتبة)
كان اول من افتتح الحديث هو السيدُ ايمن حينَ وجّهَ بصرهُ نحو عادل وهو يقولُ معاتباً:
- هل 34 عاماً مِن الصداقة والعِشرة تستحقُ منكَ ان تتجاهلها بهذا الشكل يا عادل وترفضُ إخباري بما يحصلُ معك؟ ألا تثقُ بي أَم ماذا؟!
فرد عادل فوراً بِحرج مبرراً ما حصل:
- ما هذا الكلامُ يا ابا رسلان؟ أقُسم بذات الله إني اخفيتُ الامر عنك فقط لخوفي عليك من التورطِ.

- وهذا ما اغضبني يا عادل. عشنا طوالَ حياتنا اسرارُنا واحدة وهمُنا واحد. ثم تقع انت بمُصيبة مشُابِهة وتفضلُ تحُملها وحدكَ؟
- وكيف عساي ان اشاركك بموضوع سيضرك يا ايمن؟ حينها ستهون العِشرة على بالفعل!
شارك رسلان بالحديث برصانته المعتادة بانتقاء كلماته وطريقة القائها بهدوء وجدية تجبر المحيطين على رهف مسامعهم له:.

-ان نتشاور بالامر يا عم عادل ونجد حل افضل من تفكيركم به وحدكم والتي بالتأكيد اغلب قراراتكم سيتم نحرها قبل ان تطبق فقط لتخوفكم من الامر.
فردت سهير بلهفة:
-وهل عساك تعرف حل ما يا ولدي يخرجنا من هذه المصيبة التي تتوسدنا؟
-انه الحل ذاته الذي اتخذتموه اول مرة خالة سهير.
قطبت حاجبيها بعدم فهم لتردف سهاد مستفسرة:
-تعني تهريبها؟
-بالضبط.
وهنا شهقت سهير بفزع وهي تلوح معترضة:.

-هذا مستحيل. انه الموت بحد ذاته. افضل تزويجها لكامل على هذا.
عصر رسلان قبضته بغيظ مع جملة سهير الاخيرة وهو يتخيل لوجين ترتبط بكامل. بل بالنسبة له موتها اهون بكثير من ارتباطها بغيره!
-وما هو مصيرها مع ذلك المجرم يا ام لوجين؟
قالها ايمن باستنكار ليردف بعدها فوراً:.

-كيف عساك ان تتركيها بمنزل شخص مثله وحيدة؟ هل تظنين بأنه لن يؤذيها؟ يا ام لوجين جميعنا هنا ندرك جيداً البشاعة التي ارتكبها كامل والتي يتفاخر بها اينما جلس. هل انتِ واثقة من انه لن يطبق عليها احدى تلك الاساليب التي يستخدمها بالسجون ان اغضبته بيوم؟ لما انتِ مستعدة على تسليمها للجحيم بيديك فقط لأنك خائفة من تهريبها؟
فرد عادل فوراً وكأنه بدأ يتقبل فكرة تهريبه مجدداً وهو يسأل ايمن:.

-وكيف سنهربها يا ابا رسلان دون ان نجعل كامل يشك بشيء؟ ان هربنا فبالتأكيد انا احتاج ان ابيع كل شيء املكه هنا كي نتمكن من العيش هناك. والذين سنتركهم ورائنا بالتأكيد سيخضعهم كامل للتحقيق ونحن نعرف طبيعة التحقيق الذي تستخدمه الحكومة.
وهنا صمت ايمن تارك الدور لرسلان الذي ارتكز بمرفقه على فخذه حانياً جذعه العلوي باتجاههم كي تصلهم كل كلمات من غير تهرب واحدة من مسامعهم وهو يقول:.

-انتم امام خيارين عم عادل. اما ان تحافظوا على شرفكم وتخسروا ابنتكم. او ان تخسروا سمعتكم وتنجوا ابنتكم!
قطب عادل حاجبيه بعدم فهم ليكمل رسلان:
-ستقولون ان لوجين نهبت.
وها توسعت عيونهم جميعاً بصدمة ليكمل رسلان بذات الثقة:.

-سنعقد قراننا سراً انا وهي وسآخذها ونهرب خارج البلد لنعيش هناك بعد ان تترك لوجين رسالة لكم بأنه لا يمكنها العيش هكذا اكثر من ذلك وستهرب معي الى اي مدينة اخرى عدا هنا وانها ستراسلكم بعد ان يهدأ الوضع وتتفهمون لما فعلت ذلك والى اخر الدراما. ولكنها في الحقيقة لن تفعل. بعد سفرنا بخمس سنوات كأقل تقدير لن نتواصل معكم.
فردت سهير:
-وكيف سنضمن ان كامل سيصدقنا اننا لا نعرف عنكم شيء؟

-لا يمكنه ذلك. حتى وان قدم الورقة فهي ستدين ابنتكم التي جلبت لكم العار بهروبها مع حبيبها ولن تدينكم انتم؛ وايضاً هو سيحميكم بدل ان يتخلص منكم.
-وكيف ذلك؟

-لأنه سيظل ينتظر ان تصلكم تلك الرسائل التي وعدت لوجين ان ترسلها لكم فور استقرارها. كامل سيفعل اي شيء كي يصل الينا ويعرف مكاننا او ينتظر عودتنا السرية ذات يوم لكم. لذلك هو سيكتفي بالمراقبة. هو سيظن اننا لا نزال داخل البلد لذلك سينشغل بتفتيش كل المدن عنا ولا سيما مناطق الريف الذي سيظن اننا سنلتجئ لها كي نخفي هويتنا بعيداً عن الشرطة واسئلتهم.

-وكيف سنعقد قرانكم؟ كيف نضمن انه لم يترك رجالاً ليراقبوا لوجين وبالتأكيد سيعرفون بقدوم الشيخ الينا او ذهابنا اليه. ونحن لا نعرف شيخ ما لنتفق معه ويأتي سراً.
وهنا رد عادل بينما كانت عيونه تبدو بعالم اخر من الشرود:
-خطوبة رنا!
نظر اليه الجميع ليكمل بعدها:.

-لقد تحدثت الى خليل ووافق على ارتباطهم وسنعقد حفل الخطوبة يوم الثلاثاء. سنجعل عقد القران غداً ليتم عقد قران رسلان ولوجين من غير اثارة الشكوك. والحفلة ستكون الثلاثاء التي سندعو كامل اليها وكأننا لا نخطط لشيء. وسنفسد حفلة الخطوبة كي نجعل الامر قابل للتصديق اكثر من اننا بالفعل لا نعرف شيء عما كانت لوجين تخطط له.
فقال ايمن مستفسراً:
-وكيف سنفسد الحفلة؟!
نظر اليه عادل للحظات ثم قال:.

-لأنهما سيهربان في يوم الخطوبة. ستذهب لوجين برفقة رنا الى الكوافير كونها صديقتها وبالتأكيد سيجعل كامل احد رجاله يراقب المحل لذلك سنؤمن لهما طريقة لخروج لوجين من خلف المحل فور وصولها اليه كي لا يشكّو بتأخرها. بعد ثلاث ساعات يكونا قد ابتعدا عن بغداد باتجاه جبال ايران بما فيه الكفاية وستتصل بنا رنا وتخبرنا ان لوجين اخبرتها انها ستذهب لتحضر الفستان من المحل المجاور ولكنها لم تعد الى الان ولأنها كانت مشغولة مع صاحبات الكوافير بتزيين شعرها ووجها فهي لم تجد فرصة لتتصل سوى الان. وبالتأكيد ستعلم لوجين رنا بخروجها امام صاحبات العمل كي تفيدنا شهادتهم. وبالتالي تتم خطوبة رنا ليزن من غير حفلة لأننا سنلغي الحفلة بحجة البحث عنها.

ساد الصمت على المكان للحظات كل لديه عالم يغوص به. يوم الثلاثاء بعد يومين. هل بإمكانهم تحويل امر الهروب الى واقع؟ هل سينفذون الخطة بهذه السرعة؟ ماذا ان كان هناك شيء قد غفلوا عنه؟

ذات الاسئلة كانت تتوافد الى عقل لوجين وهي تقف عند باب المطبخ تستمع لنقاشهم مع رنا متجاهلتين امر الشاي الذي لم يعدوه من الاساس، هل بالفعل كل شيء سيكون بخير وستهرب برفقة رسلان الذي سيكون غداً زوجها؟ ان حصل خطأ واحد فستكون حياتهما هي الثمن؛ فهل مستعدة ان تدفع هذا الثمن ان خسرت معركتها؟

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة