قصص و روايات - قصص رومانسية :

رواية حب خاطئ للكاتبة هاجر الحبشي الفصل الرابع والعشرون

رواية حب خاطئ للكاتبة هاجر الحبشي الفصل الرابع والعشرون

رواية حب خاطئ للكاتبة هاجر الحبشي الفصل الرابع والعشرون

- كلما رفعتها إلى سابع سماء أنزلتني إلى سابع أرض
ألا يمكنها أن تكون حنونة قليلاً
ألا يمكن أن تبدل خناجرها السامة ببعض سهام العشق
هل تفلح محاولاتي في إذابتها..
هل تفلح قسوتي أم يفلح اللين..
طالما آمنت أن الحب ترياق للحياة حتى لو لم تجربيه أنتِ
حتى لو لم أره في عيناكِ..
لكني أؤمن أنه بداخلك..
حتى لو كان للحب مفهوم آخر عندكِ
لكن لا تقسِ عليّ كل تلك القسوة
فلكل جوادٍ كبوة، ومثل البحر.

هيجاني و امواجي، عاتية، تلك الأمواج قاعها عشق كالثقب الأسود ستغرقين فيها شئتِ أم أبيتِ
فقد أقسمت إن لم تمنحيني الحب
فحتماً سأمنحه لكِ، سأعافيكِ من هذه الحياة
سأعافيكِ بعشقي، أشفق عليكِ من قناع القسوة والجمود الذي تلازمينه حتى أصبح وجهاً آخر ولكنه سيُزال حتماً سيُزال، لكن لا تلوميني على طريقة الإزالة، -
ندي علي..

إختلج صدره وجفَّ حلقة وهو ينظر إلى كفه الموضوع فوق بطنها بعدم إستيعاب، طفلا آخر بتلك السهولة دون إعتراضٍ منها؟ اللعنة على تلك الليلة التي لا يذكر منها شيئًا، كان يُجب أن يسأل قبل أن يأخذ أي أقراص دواء كالغبي..
حركت يدها فوق كفه بنعومة تنتشله من صفونه بهمسة ناعمة طغى عليها السعادة: قُصيّ أنت مش سامعني؟ أنا حامل يا قُصيّ حامل هجيبلك بيبي جديد شبهك يا حبيبي..

أومأ بحركة بسيطة متباطئة دون أن يبدي أي سعادة أو حزن ولا حتى بأي تعبير بسيط يُريح قلبها ويجعلها تعرف طبيعة شعوره في هذا الوقت تحديدًا لأنه كان مبهمًا، لكن هو فقط كان مذهولا أكثر من كونه سعيد..

تبدلت ملامحها لأخرى حزينة وهي تنظر إليه بلوم حقيقي شاعرة بالخذلان لأنها تلك المرة حقًا سعيدة وكانت متحمسة لرد فعله أكثر من أي شيء آخر لكن كم هو شعورًا بشِع ما تشعر به الآن، تدرك الآن ماهية الخذلان وما شعر به بسببها أكثر من مرة دون أن تضع نفسها محله..
اغرورقت عيناها بالدموع وهمست بحزن: أنت مش مبسوط يا قُصيّ؟!

خرج من صفونه ونفي وهو يبتسم ببهوت: لأ خالص بالعكس ده أجمل خبر ممكن أسمعه، انا بس متفاجئ شويه مش أكتر..
تساقطت عبراتها وهي تنظر إليه لتتنبه حواسه و يقوم بتجفيفها سريعا وابتسامته تتسع قائلا بحنو: صدقيني مبسوط جدًا لدرجة اني عايز أأكلك الورد ده..
هتفت بنشيج وهي تبعد يده عن وجهها: قصدق عايز ترميه في وشي صح؟

هزَّ رأسهُ بنفي وابتسم بخفة ثم وقف وأحاطها وأوقفها معهُ برفق هامسا وهو يأخذها معه إلى الأعلى: تعالي غيري هدومك عشان نروح للدكتور..
علا صوت نحيبها أكثر جعلته يتعجب وهو ينظر إليها بعدم فهم لتقول بحرقة: إنت مش واثق في كلامي صح؟ مش مصدقني؟!

تنهد بتعب وقد أعترف أنها حامل حقا لا تكذب، نوبات البكاء ووصلات النكد هذه يعرفها جيدا، مال ووضع يديه أسفل فخذيها والأخرى خلف ظهرها وحملها برفق قائلا بهدوء: لأ هنروح عشان أطمن عليكِ وأفهم طبيعة حالتك أنتِ عارفة أني بهتم بالحاجات دي عشان لما تتعبي أعرف أتصرف..
توقفت عن النحيب وهي ترى الصدق يشِع من مقلتيه، لفت يديها حول رقبته وأراحت رأسها فوق كتفه هامسة بخفوت: أنت لسه راجع من السفر ومُرهق..

نفي بابتسامة وهو يثب إلى الغُرفة: لأ مش مرهق ولا حاجة هاخد دُش سريع تكوني جهزتي أنتِ تمام..
ردت بابتسامة سعيدة: تمام
بعد مرور ساعات..
داخل العيادة الطبية...
تحدثت الطبيبة بابتسامة وهي تنظر إليهما: حامل في شهر وكام يوم بس، ربنا يقومك بالسلامة..

تبسمت جـنّـة برقة وهتفت بسعادة وحماس كان جلي أمام مرأى من عينيه التي كانت ترصد جميع حركاتها بتدقيق: ربنا يخليك يا دكتورة، هو في حاجة معينة أو تمارين ممكن أعملها وتفيدني؟
أومأت الطبيبة وهتفت مؤكده: أكيد طبعا في بس أهم حاجة تاخدي بالك من أكلك وتتغذي كويس وقدام شويه في تمارين تبقي اعمليها لأنها مفيدة جدًا..

أومأت بحماس وهي تنظر إلي قُصيّ بابتسامة حانية ليبادلها بأخرى وهو يقف وأوقفها معهُ ممسكا بيدها بين يديه وودع الطبيبة وغادر..
تعلقت في ذراعة وهي تسير معهُ هامسة بدلال وهي تضع رأسها فوق كتفه ناظرة إليه ببراءة: قُصيّ أنا جعانة مفطرتش..
أحاط خصرها وهتف بابتسامة مبتسرة: بس كده؟ هناكل دلوقتي في أجمل مكان في مصر عشان خاطر أم العيال..
ضحكت بسعادة وهمست بهيام: ربنا يخليكِ ليا يا حبيبي..

ربت على وجنتها وذهب معها متضررا، وتناول الطعام ببطء كالمسموم وهو يبتسم كل برهة وأخرى في وجهها والشك يساوره.

في الشرفة أسفل ضوء الشمس الساطعة في كبد السماء، كانت الأشعة الذهبية تنير وجهها الحزين وهي تحدق تجاه النهر تراقب هدوء المياه واستقرارها، تدرك الآن فقط وبعد مرور ذلك الشهر دون رؤية آدم أنها لا تحبه ولا تفكر بأن تحبه يوما، لقد دخلت حياتهم خطأ ما كان يُجب عليها أن توافق على هذا الزواج من البداية، سببها الوحيد كان فقط من أجل التخلص من هم الفقر لتصاب بـ همٍ آخر أقوي منهُ وهو عدم راحة البال ولا حتى الاستقرار، والانكي عدم حصولها على زوج يحبها ويهتم لأمرها كثيرًا كما ظنت..

لا ترى لنفسها مستقبلا معهم ولا مع غيرهم، رُبما تحصل على الطلاق بعد التخرج وبعد إيجاد عمل مناسب في أحدى المستشفيات، ترى أنه سيكون من الأفضل أن يحيا طفلها معها وحدهم دون والده أفضل من أن يكونوا معا في مكان واحد وحياتهم تسير على هذا المنوال..

اغرورقت عيناها بالدموع وأخذت تحرك يدها برقة فوق بطنها وهي تتعهد لنفسها قبل أن تعده بأنها لن تسمح بأن يحيا حياة مثل التي عاشتها، ستفعل المستحيل كي تكون حياته كريمة رغدة تملؤها الرفاهية، لا تعرف لمَ تفكر به كـ ذكر لكنها تشعر أنها ستنجب فتى وليس فتاة وتأمل أن يتحقق هذا كي لا تنجب فتاة تملك مثل حظها التعيس..
ـ سرحانه في ايه يا جميل..

انتفضت محلها بخضة ورفعت رأسها سريعًا تنظر إلى شقيقتها التي تصغرها بكم عام فقط بوجه شاحب، ضحكت حياة بنعومة ثم قبلت وجنتها بحنان وجلست مقابلها على المقعد وهتفت بحزن وهي تضع الكُتب من يدها: اهو عدى علينا شهر وآدم مجاش خالص وانا زعلانة ونفسي أشوفه..
تنهدت تالين وسألتها باستفهام: و نفسك تشوفيه ليه؟ اشمعنا؟

توردت وجنتيها ودلكت عنقها بخجلٍ جلي قائلة أصله عاجبني اوي الصراحة، ومن ساعة ما عرفناه تقريبا وهو مبيتكلمش غير معاك أو مع بابا وماما وأنا كأني مش موجوده خالص..
هزّت تالين رأسها وهي تناظرها بتعجب ثم هتفت وهي تضيق عينيها: حبيبتي آدم مش مُتكلم اوي و بعدين أنتِ طول الوقت في دروسك بره والمفروض كل همك يكون دراستك مش الكلام الفارغ ده! ركزي عشان السنة دي هي اللي هتحدد مُستقبلك..

ابتسمت حياة باتساع ثم قالت بتمني: ان شاء الله أدخل طب عشان ابقي زيك يمكن ألفت نظره ولا حاجة..

أمسكت تالين يدها وضغطت عليها بقوة وهمست بحزن لكنهُ بدي كتأنيب لأنها تمنت مثل هذه الأمنيه: ربنا يوفقك وتبقي أحسن مني، اوعي تتمني تبقي زيي يا حياة عشان هتتعبي اوي، توقفت قليلا تراقب بريق عين شقيقتها المراهقة التي تعرف توابعه جيدا لتستطرد: حبيبتي أنتِ عندك 18 سنه لسه الحياه قدامك متعلقيش نفسك بـ حبال دايبة وتوهمي نفسك أنتِ بالنسبة لآدم مش اكتر من طفلة..

عبست حياة وتغضن وجهها و نزعت يدها من يد تالين وهتفت بجدية: فرق السن مش مهم بالنسبالي أبدًا يا تالين طالما في حُب وبعدين آدم بيهتم بينا وبيبعت فلوس، طبعًا أنتِ عارفة أن معاش بابا قُليل وبيكفينا بالعافية وأنتِ من ساعة ما سبتي البيت مبقاش معاكِ فلوس فـ آدم هو اللي قايم بينا وبكل حاجة يعتبر وإني أحبه دي حاجة قليلة ومش هنقدر نكفيه حقه خالص مهما عملنا..

نظرت إليها تالين باستنكار بسبب أفكارها وحديثها الجاد وهي تتساءل عن جدية قولها هذا، إنها مراهقة وتفكيرها محدود ليس أكثر..
استطردت حياة بابتسامة عابثة وهي تهز كتفيها، وتراقص كلا حاجبيها، تلف أحدي خصلاتها حول سبابتها بتفكير: لسه هحلو اكتر ولما أدخل الجامعة هتشوفي الفرق وهتعرفي أني حلوه و أقدر اخليه يحبني وبفرق السن كمان..

ابتسمت تالين ببهوت وهي تنظر إليها لتقف حياة وتقبل وجنتها هامسة قبل أن تخرج: هدخل أصلي بقي وادعي اني اشوفه قريب ويبقي من نصيبي وبعدين أذاكر ولو لسه متعرفيش يا تالين فا الرجالة الكبيرة هي اللي بتعرف تدلع كويس اوي..

أومأت تالين بفاه فاغر و مازال التعجب يسيطر عليها، كيف تسطيع صغيرة مثلها أن تفكر بتلك الطريقة؟ يبدر أنها البلهاء والصغيرة الوحيدة وليس شقيقتها، شقيقتها هذه تذكرها بالفتيات التي تنال من الحياة ولا تجعل الحياة تنال منها.

توقفت سيارة الأجرة أمام المبنى..
ترجلت لمار بعجله من أمرها وهي تحمل معها طعام، هرولت إلى الداخل ومن الردهة إلي المصعد ومنهُ إلى الأعلى مباشرةً دون تضييع وقت..
ـ استني عندك هنا رايحة فين؟
كان هذا سؤال رنا المستنكر عِندما رأتها تدير المقبض كي تدخل إلى ليلى دون استئذان..
دخلت لمار وهي تبتسم باستفزاز لتندفع خلفها رنا موبخه بحدّة: أنتِ مين سمحلك تدخلي من غير إذن؟

اكفهر وجه لمار وطفح الكيل منها فضمت قبضتها وحركت شفتيها للتشاجر لكن صوت ليلى الهادئ اوقفها: محصلش حاجة يا رنا لمار مش محتاجة استئذان شكرا ليكِ تقدري تتفضلي..
أومأت بطاعة مزيفة ثم سارت إلى الخارج لتضرب كتف لمار بكتفها عن قصد أثناء مرورها وهي ترفع كلا حاجبيها بتحدي..

عضت لمار شفتيها بـ غل ووضعت الحقائب من يدها فوق المنضدة وذهبت خلفها كي تجذبها من ذلك الشعر المصفف بعناية شديدة فهي سوف تفتعل مشكلة معها، لكن صوت ليلى الذي أقترب أكثر أوقفها: ولا يهمك يا لمار سيبك منها..
ابتسمت لمار واستدارت على عقبيها وعانقتها بقوة هاتفه بشوق: وحشتيني..
تبسمت ليلى وربتت على ظهرها بحنان وقالت بنعومة: أنتِ أكتر، عاملة ايه تعالي أقعدي..

جلست معها فوق الأريكة ثم رفعت أكياس الطعام بحماس وهي تسمع قرقعة بطنها، أخرجته ووضعته أمامها وهي تتحدث بشهية وجوع: انا عارفة ان أكلك قليل جدا بس لازم تاكلي معايا بردو عشان تفتحي نفسي و أنا أصلا جعانة..
ابتسمت بسخرية ونفت قولها وهي تخلع سترتها السوداء ووضعتها بجانبها: لأ بقيت أكل كُل حاجة في أي وقت كمان متقلقيش أنا اللي هخلص الأكل..

ضيقت لمار عيناها وهي تشملها بنظراتها بتدقيق مراقبة لامبالاتها التي ظهرت على وجهها الباهت الخالي من مساحيق التجميل المكتسب بعض الشحوب، وشعرها المتموج الذي تركته دون تصفيف بالإضافة إلى.

ملابسها السوداء المكونة من بنطال أسود وكنزة صوفية سوداء أدخلتها داخله وسترتها الأنيقة ذات الأزرار الذهبية واللون الأسود التي اكتملت بها هيئتها، إنها متغيرة وحزينة عكس كل مرة تراها بها، عكس أناقتها ورتابتها المعهودة وأختيار الألوان و تنسيقها معًا، حتى الطعام تأكله بشراهة دون اكتراث!
سألتها باهتمام وتردد: لي لي أنتِ عندك إكتئاب؟

أومأت وهي تبلع الطعام مع غصتها دون أن ترفع رأسها كي لا تري عبراتها التي تهدد بالهطول في أي لحظة، إنها تفتقدة وبشدّة ولا تستطيع البوح بهذا، ظنت أنه سيعود بعد يوم، اثنين، ثلاثة، أسبوع، لكن مرَّ شهر ولم يأتي، إنه يتعمد إيلامها والإختفاء لأنهُ يعرف أنها تحبهُ، يعذبها وهي تكرهه وهي تحبهُ..
توقفت عن تناول الطعام ونظفت حول شفتيها بمنديل ورقي واسندت ظهرها على الأريكة وظلت تنظر تجاه مكتبها بأعين دامعة..

راقبتها لمار بتعجب بسبب حالتها المشابة لمن فقد عزيزا والآن في فترة حدادها، أسوأ فترة قد تمر في حياتها..

حركت لمار شفتيها للتحدث لكن ليلى من تحدثت بنبرة خفيضة وهي تكبح عبراتها بصعوبة: عمّار كان بيقعد الكرسي ده وبيفرد رجله على الطربيزة دي لما بيجي، هددني هنا، واتخانقنا هنا، وحبيته هنا، كُنت بكرهو وبخاف أفتكر اي حاجة تخصه أو ليها علاقة بيه، قلبي كان بيتقبض لما بشوفة داخل عليا، كُنت بتخنق لما ريحته كانت بتوصلي، ودلوقتي بتمني لو يرجع يوم واحد من الايام دي، عشان انا غبية لدرجة مثيرة للشفقة..

وأجهشت في نوبة بكاء مريرة وهي تغمر وجهها بين راحتي يديها هامسة بقلبٍ مضني: وحشني أوي..
تنهدت لمار بحزن وسألتها بعدم فهم وهي تمسح على ظهرها بحنان: أنتِ ليه بتتكلمي بيأس اوي كده؟ كأنه أختفي خلاص ومش راجع؟ ما تروحيله وقوليلي الكلام ده بنفسك!
رفعت رأسها من وسط بكائها وهتفت بحرقة: اروحله فين؟ نادين بقالها شهر بتحاول تكلمه كل يوم وموبايله مقفول وحتى لو، اروحله بأي وِش؟!

ابتسمت لمار وهتفت بعبث وهي تضع أناملها أسفل ذقنها كي تنظر إليها: هتروحي بالوش القمر ده هتروحي بإيه يعني! عمّار موجود هنا في بيته ومرجعش لسه..
توقفت البكاء لثوانٍ وهتفت بلهفة: عرفتي منين شوفتيه أو اتكلمتي معاه؟

هزَّت لمار رأسها بنفي وهتفت بهدوء: لأ قابلت قُصيّ قبل ما أجيلك، وهو طول الشهر اللي فات كان مع قُصيّ بره مصر لأن قُصيّ وزي مافهمت كان تعبان وعمل عملية وعمّار كان جنبه عشان كده بس موبايله كان مقفول وهيتفتح أكيد، لو كان بايع مكنش رجع هنا تاني حتي لو كان رجع البلد ده مش معناه إنه بطل يحبك واتخلي على فكرة عادي؟!
أسبلت جفنيها وهتفت بتعب: هو خلاص زهق وملْ مني..

قهقهت لمار وسألتها بخبث: وفي الحالة دي الست المفروض تعمل ايه لما الراجل اللي معاها يزهق ويمل؟
هزَّت كتفيها بجهل وتمتمت: مش عارفة..
صاحت لمار بحماس: نزهقة أكتر ونكرهه حياته طبعا أنتِ بتقولي ايه؟

ابتسمت ليلى وجففت عبراتها التي لا تتوقف لتستطرد لمار بنبرة مطمئنة: متقلقيش هو مزهقش ولا حاجة مفيش واحد بيحب واحدة ويزهق منها، ممكن يزعل ويضايق لكن مش هيزهق لأنه حب مش لعب عيال، كُل الموضوع إنه أكيد دلوقتي قاعد مع نفسه شويه وده الوقت المناسب أنك تروحيله فيه، لأنك لو روحتي هيعرف أنه مُهم عندك وفارق معاكِ حتى لو متكلمتيش، لكن لو مروحتيش هيعرف انه مالوش قيمه عندك وهتخسريه بجد..

ردت بقلة حيلة وهي تهز رأسها: انا خسرته لما حطيته قدام الأمر الواقع وكُنت هجوزه نادين..
مسدت لمار جبينها وهتفت بنبرة نافذة: أنتِ مش شايفة أن كل اللي بيحصل علامات و اشارات ليكِ عشان توافقي بقي؟ لسه مش مُدركة أن عمّار بتاعك أنتِ ومش هيبقي لغيرك؟ ولو أنتِ وافقتي إنه يبقي لغيرك هو مش هيقبل! محتاجة كلام وحوارات تاني عشان تصدقي؟

همست بنبرة مرتعشة كانت مختنقة أدت لأنهيارها: لمار الكلام سهل لكن أنتِ متعرفيش انا بواجه إيه! انا طول عمري عايشة وراضية عن نفسي وعن حياتي كُلها لكن دلوقتي بقيت أكره نفسي لأني أكبر منه، كل يوم بسأل نفسي أنا ليه مش صغيرة؟ ليه لما الاقي الشخص اللي أحبه يبقى أصغر مني ليه؟ أنا أكبر منه ومش هنفعله وده اللي هو مش عايز يفهمه، حاولت أكرهه فيا من ساعة ما قبلته ومفيش فايدة وانا اللي اتنيلت وحبيته، ده همه كام سنه بس وهيبقي عندي أربعين سنة، الست طبيعي بتكبر قبل الراجل وانا أكبر منه متخيلة الوضع هيبقى عامل ازاي بعد كام سنه؟ انا اللي هكبر قبله وهيمل مني وهيزهق أكتر لما مخلفش، انا مش ضامنة إني أخلف ومش جاهزة لأي حاجة بس هو جاهز ومستعد ومن حقة يتجوز واحده صغيرة جميلة تديله كل حاجة مش أنا...

زفرت لمار وهي تبعثر شعرها ثم صاحت وجسدها بدأ يشتعل وهي تتعرق بسبب انفعالها: كلام جميل ومنطقي بس بالنسبالك لوحدك ومن وجه نظرك أنتِ، ونص الكلام ده مش وقته ده يجي بعدين مش دلوقتى خالص، ومفيش حد هيرد عليكِ ولا هيريحك غير عمّار لأنه هو اللى هيتجوز واللي هيخلف وهيشاركك حياتك فهمتي؟

هزت رأسها بهيستيريا وصاحت بعصبية مفرطة: لا مفهمتش مفهمتش، عمّار صعيدي وابوه مش هيسيبه ده عايز يجوزه مخصوص بس عشان يخلف له حته عيل، هنقول اني اتجوزت وخلفت بس طلعت بنت هيحصل ايه؟ هيقولوا تمام وكل اللي ربنا يجيبه حلو وهمه مقهورين من جواهم، هخلف تاني افرضي جبت بنت تانية هضمن اني أخلف تالت ولا رابع؟ هل سني هيسمح وصحتي هتبقي كويسة؟ لأ فا هيجوزوه وهياخدوه مني عشان يخلف ولد وانا مستعدة أموت ولا اني يحصل فيا كُل ده وواحدة تاخده مني، مش هسمح اني ابقي من غير قيمة وبالنسبالهم مجرد معون، انا عايزة استقر واعيش بهدوء من غير مشاكل وتوتر وحياة عمّار مش هدوء خالص مش هدوء..

تنهدت لمار وتوسلت إليها كأنها لم تسمع أيا مما قالت: طب قومي روحي لـ عمّار بالله عليكِ وحياة نادين عندك تقومي تروحيله واتكلمي معاه كُل المشاكل دي حلها عمّار هو مش هيعمل كده ده كويـ..
قاطعتها ليلى صارخة في وجهها بانفعال: تعرفي أنتِ منين عمّار عشان تتكلمي عنه بثقه اوي كده؟

حركت لمار أهدابها بتفاجئ بسبب صراخها العصبي المجفل، فتمتمت بتعجب وهي تهز رأسها: أعرفه من كام شهر واتكلمت معاه بما فيه الكفاية وأقدر أحكم عليه وأعرف شخصيته وأنتِ عارفة، واللي انا شيفاه إن عمّار مش الراجل اللي في دماغك مش أكتر! آسفة لو بتدخل في حاجة مليش فيها بس حبيت أساعد..

أوصدت ليلى جفنيها بقوة وهي تتنفس بانفعال تستعيد رباطة جأشها، موبخة نفسها بسبب عصبيتها التي تضاعف كُلما تحدثت عنهُ كأنها تعرفه منذُ سنوات، فرقت بين جفنيها ببطء ثم أمسكت بيد لمار واعتذرت بندم: أنا آسفة يا لمار مقصدش أزعقلك خالص والله..

أومأت لمار بتفهم وهي تبتسم بنعومة ثم قالت برفق وهي تربت على ظهر يدها: ولا يهمك عارفة ومقدرة موقفك، وضمت شفتيها قليلا ثم استطردت بعبث: بس هو ده زعيق غضب ولا غيرة عشان أفهم بس؟
ازدردت ريقها ودحرجت مقلتيها في أنحاء الغرفة متحاشية النظر إليها بارتباك عاجزه عن الرد لتضيق لمار عينيها ثم غمزتها وصاحت بخبث: كمان بنغير، لأ بقي أنتِ لازم تروحي مقدرش أسيبك أكتر من كده..

تنهدت بتعب ورفضت بهدوء: نادين لوحدها في البيت لازم أروح..
فتحدثت لمار مقترحة: ممكن أروح أنا بدالك أقعد معاها لحد ماترجعي وهي هترحب بالموضوع جدًا ها ايه رأيك؟
نظرت إليها ليلى بتردد دون الرد ثم بدأت تلملم الطعام وتضعه داخل الأكياس قبل الذهاب لتوقفها لمار: لا سبيهم سبيهم مش رنا السكرتيرة سبيها تلمهم زي البوبي..

قهقهت ليلي بخفة وأخذت حقيبتها وحملت السترة في يدها واستعدت للذهاب لتسألها لمار بتعجب: دلوقتي؟ هتمشي دلوقتي؟
اماءت بخفة وشرحت إليها السبب الحقيقي الذي دفعها للإتيان إلي هُنا: أنا مش جاية اشتغل، انا من ساعة يوم كتب الكتاب وانا منزلتش الشغل وبفضل قاعدة مع نادين طول الوقت وبروح معاها كل حته تقريبا، أنا بس النهاردة جيت ابص على حاجة كده وكُنت ماشية..

أومأت لمار بتفهم وسألتها باستفهام: أنتِ لسه بتثقي في رنا اوي وسيبلها كُل حاجة كده؟
تنهدت ليلى بـ هم وهتفت بإرهاق: لأ مش بثق فيها بس مفيش قدامي غيرها حاليا، بقالي فترة بدور على حد ياخد مكانها بس مفيش وأنتِ في أجازة دلوقتي ومعنديش حد وهي ما غلطتش عشان اطردها فجأة بردو عشان كده سيباها..
همست لمار لنفسها بغيظ: بكره نكشفها ونشوف هتعمل ايه..
ـ بتقولي حاجة؟

نفت وهي تضحك ببلاهة: لأ لأ كُنت بس بسأل أنتِ بتلبسي أسود من امتي؟
نظرت ليلى لملابسها قليلا تقيم هيئتها ثم قالت بهدوء: ده صُدفة مش أكتر..
بعد مرور نصف ساعة..
توقفت ليلى بالسيارة أمام منزلها واطفأت المحرك وأستعدت إلى النزول لكن لمار منعتها: لأ خليكِ روحي لـ عمّار أنتِ خلاص وصلتيني ومش هسيب نادين ثانية روحي بقي تعبتيني؟

ابتسمت ليلى بامتنان وقالت شاكرة: انا بجد مقدرة موقفك وخوفك بس انا مش جاهزة ومش عارفة هقول إيه أصلا!.
تجاهلتها لمار وحدقت من النافذة بعدم رضي
عاقدة كلا حاجبيها وهي تكتف يديها أمام صدرها لتبصر نادين قادمة من بعيد يبدو أنها كانت تشتري شيء ما، تنبهت حواسها وأخرجت رأسها من النافذة وصاحت بإسمها بصوتٍ مُرتفع: نادين نادين، تعالي بسرعة..

تبسمت نادين وهرولت بقية خطواتها المتبقية حتى وصلت أمام السيارة فخرجت لمار سريعًا مندفعة قبل ليلى التي ترجلت وتخصَّرت بعدم رضا في الجهه الأخرى وهي تسمع وشايتها بها: ألحقي يا نادين، عمّار هنا ورجع ومش راضية تروح تشوفه وتدي للعلاقة فرصة ثانية بالرغم انه لسه هنا ومرجعش عشانها شوفتي الجبروت؟!

شهقت نادين واتسعت عينيها مُنذُ الجملة الأولي ثم نظرت إلى والدتها لكن لم تكفيها النظرة بل ذهبت إليها، توقفت أمامها وحركت شفتيها كي تتحدث تتوسلها بنظراتها لكنها لم تترك لها المجال لقول شيء بل احتضنت وجنتيها براحة يدها وسألتها برفق مستفهمة: كنتِ فين؟

تمتمت بحزن: كنت بجيب شويه حاجات من السوبر ماركت، أومأت ليلى بتفهم و زال القلق عنها لتترجاها نادين بأعين دامعة: أنتوا لو مرجعتوش مش هسامح نفسي أبدا وهفضل شايلة الذنب ده طول عمري عشان خاطري روحي
صاحت بفقدان صواب وهي تشد على شعرها: هو الراجل المفروض هو اللي يجي مش أنا اللي أروح افهموا بقي؟!

هتفت لمار بتهكم وقد طفح الكيل منها: يعني لو روحتي أنتِ هيقول لأ مثلا؟ وبعدين إنتِ اللي رفضاة و لازم تبدأي بالخطوة الأولى لأنه مش هيشم على ضهر ايده.
تنهدت وهي تعض شفتيها بتفكير، تستعيد تلك الذكري عندما صفق الباب في وجهها وذهب بها إلى سياراتها وطردها شر طرده من أمام منزله، مخطئة هي قالت سابقا آسفة هذه المرة من المفترض أن تقول أحبك هناك فرق شاسع وواضح! لكن من قال إنها حتى إن ذهبت ستعترف بشيء ما؟!

خرجت من شرودها على همستها الباكية: عشان خاطري روحي ولو مش عارفة تبدأي ازاي كلام قوليله جاية تعتذري عشان نادين كذبت عليك..
نظرت إليها باستنكار وكادت تنفجر صائحة أن الخطأ خطأ شقيقة وليس خطئها هي لكن نادين أمسكت يدها وضغطت على يدها أوقفتها كأنها عرفت ما ستقول لتهز رأسها بحركة سريعة تحثها على الذهاب هامسة: نفسي اشوفكم مع بعض حققيلي رغبتي مش أنتِ مش بترفضيلي طلب..

أدمعت عيناها بتعب بسبب قلبها الملتاع وعقلها الذي يأبي بينما قلبها يصرخ بالموافقة، فأومأت موافقة وهي تضغط على كفيها بقوة تستمد منها قوة وهمية ثم حررتها واستقلت السيارة كي تذهب، لكن ليس لأجل نادين تلك المرة بل كان لأجلها ولو لمرة واحدة فقط..
اطمأنت نادين وزفرت براحة وراقبت تحركها عن كثب بابتسامة لتتنهد لمار بتعب ثم همست ظافرة بالنصر: تقيلة أوي ايه ده!.

باغتتها هي الأخرى تلك الذكري السيئة في شقة آدم لتعبس وتهمس لنفسها بحزن: ياريتني زيها، غبية..
في منزل عمّار في هذا الوقت، تحديدًا في غرفة النوم..
كان يغط في نومٍ عميق دافنًا رأسه أسفل الوسادة براحة وانغماس خافيا ابتسامة كانت ترتسم على محياه وتزول باستمرار إثر الحلم المجهول الذي كان يراه الآن..

انتفض فجأة وجلس نصف جلسة وهو يمسح الغرفة بنظراته بتعبير خاوي فارغ ناعس لا يدرك مايحدث حوله، ظل متصلب لدقائق ينظر حوله بتشتت حتي إستحضر معلوماته وبدأ في الاستيعاب ليرتسم على وجهه تعبير الخيبة والحزن في آنٍ واحد بسبب استيقاظه من حلم لطيف وجميل مثل هذا، لقد داعب حواسة وذلك الشعور الذي أجتاحه كأنه كان حاضرا، هزَّ كيانه ويريد تحقيق هذا الحلم الآن..

مسح وجهه بكفه وهو يتحسر على حاله ثم دلف إلى المرحاض يغتسل كي يستيقظ كُليا، استغرق بعض الوقت حتى انتهى ثم ارتدي ملابس بيتية ثقيلة مكونة من سروال مريح يعلوه كنزته الملحقة به، مشط شعره واتجه صوب الأسفل كي يحضر فطور لنفسه..

بدأ بتحضير الأطباق بتركيز بعد أن رفع أكمامه قليلا وما كاد ينغمس حتى سمع جرس المنزل يصدح، تجاهل هذا ظنا أنهُ آدم لأنه يملك مفتاح المنزل ويُحب أن يضايقة ويجعله هو من يفتح لهُ الباب، صدح صوته مجددًا ليزفر ويترك ما بيدة وسار متجها ناحية الباب بعصبية كعاصفة حارة هوجاء..

قام بفتح الباب وهو يغمغم بغضب: إنت مش معاك المفتـ، توقفت الكلمات بحلقة واهتز صدره باضطراب وومضت عينيه ببريق مميز، وتوقف عقله عن الاستيعاب، و تباطئت أجهزته الحيوية عدى قلبه الذي استمر في الخفقان بتلك القوة، ذُهل لوهلة وهو ينظر إليها بسبب إتيانها إليه في هذا الوقت تحديدا بعد إختفائه لشهر، وظهورها بعد عودته مباشرةً ماذا يعني هذا! هل كانت تنتظره وتعرف؟

سعيد أنها بخير رغم حزنها وشحوبها الجلي لكنها ستظل رائعة وأنيقة، من الجيد أنها مازالت تتذكره..
طالعته بابتسامة حانية وهي تحرك أهدابها ببطء كانت تحتضنه من خلالها بنظراتها العاشقة المتلهفة التي لم تستطع التحكم بها ولا عبراتها فيتضح كل شيء أمام عينيه لتهمس متسائلة بخفوت وهي تبتسم في وجهه بتأثر: إزيك يا عمّار؟

خرج صوتها الناعم العازف على أوتار قلبه أخيرًا، كان شفاءا لجراحة، كنسمات هادئة مداعبة هدأته وأطفأت نيران قلبه المتأججة و أذابت جليد قلبه الذي صنعه لنفسه كي لا يتألم مجدداً بسببها..
أومأ بخفة دلالة لكونه بخير وهو يزدرد ريقه باضطراب و خضراوية تجول عليها من أعلاها لأخمص قدميها بشوق وحزن عميق كان جلي في عيناه التي تتطلعان إليها بشغف..
ارتبكت أكثر من نظراته وضمت سترتها إليها سائلةً بخفوت: مش هتدخلني؟

بسط كفه وأشار لها بالدخول وهو يتنحى جانبًا تاركا لها المجال دون النطق بحرفٍ واحد، دخلت وسارت خطوتين ثم توقفت ليغلق الباب خلفها ثم تقدم عليها في السير لتتحرك خلفه وهي تحدق في ظهره حتى وصلت إلى غرفة الجلوس..
أجلي حنجرته متحمحمًا ثم سألها بصوتٍ أجش: انا كنت بعمل فطار تاكلي؟
هزت رأسها بنفي وقالت بابتسامة بسيطة: لأ لسه واكله متشكرة جدًا ممكن أشرب عصير..

أومأ وتحرك تجاه المطبخ وهو يكبح نفسه عن الاقتراب وعدم التوتر، لينبطح في الداخل على الأرضية وبدأ في ممارسة رياضة الضغط كي يخفف من توتره قليلا، بينما في الخارج وضعت الحقيبة والسترة من يدها فوق الأريكة وأخذت تتفحص المنزل بنظراتها باهتمام حتى توقفت عِند باب الغرفة الموارب قليلًا على بُعد خطواتٍ قليلةٍ منها..

كادت تبعد نظراتها بسبب فضولها الذي يحثها على أن تقف وتدخل إليها لكن توقفت وارتفع كلا حاجبيها بتفاجئ عِندما أبصرت معطفة الطبي معلق في الزاوية يظهر من تلك الفتحة البسيطة، حركت رأسها ونظرت إلى المطبخ بتردد ثم عادت بنظرها إلى الباب بفضول ووقفت وسارت بخطواتٍ حثيثة متسللة إلى الغرفة..

توقف يلتقط أنفاسه بلهاث ثم وقف ووضع رأسه أسفل صنبور المياه لاهيا نفسه عن زخم أفكاره المتضاربة التي تخبره بألف سببٍ وسبب كي تأتي إليه، لكنه كبح جموح خياله وأوقف سقف تأملاته كي لا ترفعه إلى سابع سماء ويسقط إلى سابع أرض على رقبته عِندما يسمع حديثها فهي لا تتوقع بتاتًا..

سارت بأناملها فوق أسمه المنقوش ببراعة على معطفه الطبي فوق ذلك الجيب الصغير وهي تبتسم ابتسامة حزينة، تستطيع تخيل كم سيبدو رائعا جذابا وهو يرتديه، ستجعله يعود للعمل بطريقةٍ ما بالتأكيد، سيعود ويرتدي معطفه الطبي الذي هجره من سنوات رُبما وسوف تحرص على هذا..

نظرت إلى مقعده المريح قليلا ثم جلست فوقه واضجعت عليه بأريحية وأرخت رأسها إلى الخلف، جالت بنظراتها في أرجاء الغرفة، مرتبة، منظمة، كـ غرفة طبيب لبق منظم عكس عمّار الذي تعرفة..

ابتسمت بنعومة وتحركت للذهاب لكن توقفت عيناها فوق الكتب المصفوفة فوق بعضها البعض على سطح المكتب، عدلت جلستها وأخذت الكتاب المفتوح من المنتصف الذي كان يكفيه كي يتابع قراءة من مكان ما توقف بين الفقرات، أدب أنجليزي! هذا مفاجئ يبدو كـ قارئ جيَّد ويعلق على الفقرات أيضًا باللون الأحمر..

قهقهت على بعض تعليقاته الساخرة لتكتفي وتترك الكتاب وتأخذ غيره لتجده يخص الجراحة والطب، تركته وأخذت غيره لتجده كتاب طبي آخر فوضعته جانبا بابتسامة رقيقة وعزمها على إقناعه بالعودة يزداد فهو إن لم يكن مهتم لمَ سيحتفظ بالمعطف ويعلقه ويحرص تنظيفه! لمَ سيقرأ في الطب إن كان لا يكترث عمّار ستعود للعمل وسنري.

توقفت وقطبت مابين حاجبيها بتعجب عِندما رأت روايتها وسط مجموعته، لقد نستها في منزله تذكرت هذا الآن لمَ لم يعيدها إليها؟، تفحصت أوراقها باهتمام حتى نهايتها لتستوقفها مقولته التي نقشها في الورقة الأخيرة بخطٍ منمق: وما عشت يا إنسان في الدنيا في النهاية ستموت، أنت الآن مع أهلك، سيأتي يوم تفقد فيه أهلك أو سيفقدك أهلك، النهاية ليست محبطة كثيرا بل كانت متوقعة.

كانت هي المقصودة بهذا لأنها أبدت حزنها بإحدي الجمل المحبطة، يبدو أنه كان سيعيدها إليها لهذا كتب..

قذفت الرواية من يدها بعصبية وهي تتأفف، هل هو مجنون أم أنتزع قلبه القاسي هذا من محله كي يقول أنها متوقعة! لقد مات بطل الرواية الذي أحبته هل يمزح معها؟ لقد عاشت معه في أجواء الحب والحزن والخيبة والألم حتى جفَّ حلقها من انتظار النهاية السعيدة وفي النهاية يموت! هذا ليس عدلا أبدًا! هذا البارد لا يشعر أم أن الغيرة بسبب علاماتها على مقولات الحب خاصته أحرقته وكان سعيدًا بموته كي لا يشاركة أحدًا الحب، يمكنه أن يصل إلى تلك المرحلة هذا المريض..

خللت اناملها داخل شعرها بتفكير حتى شعرت بمرور الوقت فقامت بجمع كتبه بنفس الترتيب ووضعت فوقهم الرواية كي ترجعها مكانها، لكن انزلقوا وسقطوا من يدها سهوا، واختلج قلبها بعنف عِندما أبصرت ذلك الدفتر القديم ذا اللون الأخضر الباهت، إنه يخصها!

بينما في الخارج، أنهي عمّار جميع تمريناته الرياضية التي عرفها خلال فترة حياته كي يلهي نفسه ولا يقابلها الآن، زفر وجفف عرقه وصدره يعلو ويهبط بعنف ففي النهاية سيقابلها ماذا يؤجل هو، سكب عصير المانجو الطبيعي مثلما تحبه وتشربه دائما في أحد الاكواب وهو يلهث وعقله لم يتوقف قط عن فرض أفكاره الغبية، تنهد واستسلم وحمل العصير وذهب إلى الخارج، توقف في غرفة الجلوس متعجبًا من خلوها من ليلي هل تركته وذهبت!، لكن أين ستذهب وتترك حقيبتها وسترتها!، هزَّ كتفيه وكاد يبحث عنها في الخارج لكن إستوقفه صدوح صوت وقوع شيء قوي داخل الغرفة، التفت سريعا ليسمع صوت قرقعة رقبته، شتم من تحت أنفاسه وهو يغمض عيناه بعنف شديد ثم ساقته قدماه إلى الداخل..

زاغت عيناها وهي تمد كفها الذي أخذ في الارتجاف بعدم استيعاب، هذا، هذا أول دفتر مقوي حصلت عليه بعد أن كانت تستخدم كراسات رقيقة، انهمرت عبراتها بغزارة شوشت عليها الرؤية وهي تفتحه تتأكد منهُ رُبما مشابهًا لهُ، علا صوت بكاءها وهي تقلب الصفحات فتحدث تلك الخشخشة المألوفة التي كانت تحب سماعها، استعادت جميع ذكرياتها وتألم قلبها أيما تألم وهي تتذكر ذلك اليوم، تتذكر بشاعة تلك الأيام وشغفها بالدراسة، لقد كان يعرفها منذ زمن لم يكذب كما كانت تظن، كيف حصل عليه؟!

تنهدت تنهيده حارة وهي تضع كفها فوق قلبها المضني تقرأ قائمة أمنياتها وعيناها تفيض من الدمع، توقف برهة تستوعب علاماته المتكررة فوق أحد أمنياتها كأنه كان مصرًا على تحقيقها حتى حققها لتهمس بإسمه بلوعة وعدم تصديق وهي تهز رأسها: عمّار، عمّار..

ازدرد ريقه بصعوبة بالغة، مراقبا إياها بحزن مستمعا إلى نحيبها المتألم، تقدم من المكتب بخطواتٍ ثابتة ثم توقف ووضع الكوب بخفة على سطح المكتب فأصدر صوتا لترفع رأسها إليه ويعتصر الألم فؤادة من هيئتها، تركت المقعد بسرعة وهرولت إليه وهي تشهق باختناق..
توقفت أمامه ومازالت تنتحب، تنظر إليه نظرة مختلفة ملؤها الحنان.
سألته بأنفاس مرتجفة وهي تلتقط أنفاسها: أنت، أنت، بقيت دكتور ليه يا عمّار؟

ابتلع ريقة بمرارة وملامحه تتقلص بتأثر عاجزًا عن الرد ومقلتاه ترصد تلك العبرات التي لا تتوقف أبدًا، ألا تعرف أنه لا يضعف ولا يرق قلبه لأحدٍ سواها كي تبكِ كل هذا البُكاء! إن عبراتها أثمن مما تتخيل، إنها لا تهون عليه..
توسلته بتضرع وهي تمسك بكفه كي يرد عليها ويريحها لتنتفض دواخله إثرها: رُد عليا يا عمّار أنت ليه بقيت دكتور؟

حاول الرد سريعا وبإيجاز لكن الكلمات هربت منهُ، لأول مرة يشعر بكل هذا الارتباك أمامها وتهرب الإجابة دون أن يسعفه ردا آخر..
همست بتعب: عمّار!
أجلي حنجرته وأجاب بثبات وعيناه تتحاشاها متهربًا منها لكن نبرته كانت مهزوزة طغى عليها التعب رغم هذا: عشانك، عشان احققلك امنيتك..
سألته متلهفة: ليه؟.

ليأتيها رده بشغف بعد صمت دام ثوانٍ قليلة آسرا إياها وهو يهز كتفيه بقلة حيلة: عشان بحبك أكتر من أي حد في الدنيا ومستعد أعمل المستحيل عشان ترضي بيا..
سألته بحرقة ولوم وهي تبكِ بفتور: ليه مقولتش من الأول؟ ليه مش بتدافع عن نفسك وبتقبل أنك تكون شخص مش كويس؟

إبتسم بحنان ورفع كفه يجفف حبات اللؤلؤ المتساقطة من أعين الغزال خاصتها بإبهامة هامسًا بهيام: عشان لو حبتيني وأنا وِحش زي ما أنتِ شايفة وقبلتي بيا في أسوأ حالاتي مفيش حاجة في الدنيا ممكن تفرقنا لأني معنديش حاجة أخبيها عنك ممكن تزعلك مني بعدين، كُله ظهر قُدامك..
سألته باستنكار بجفنان تورما وأعين حمراء: أنت إيه؟

توقف إبهامه عن التحرك فوق وجنتها الناعمة وأنتقل كفه إلى مؤخرة رأسها يحثها من خلاله على النظر داخل خضراوية التي تنضخ بحبٍ أكبر ومال نحو وجهها وابتسامة عذبة لم تراها قبلا اعتلت محياه أسقطتها في حبه للمرة الألف هامسًا بشغف: أنا اللي كِبرت على حُبك وأنتِ مش موجودة، أقسمت إني لما ألاقيكِ مش هتكوني غير ليا، أمنياتك أحلامك كل اللي نفسك فيه هنحققه مع بعض، أبوكِ والله هخليه يركع عند رجلك يطلب السماح على اللي عمله فيكِ، أنتِ الأولي والأخيرة وهتفضلي لحد ما أموت، مفيش واحدة غيرك تملي عيني ولا لسه اتخلقت، النظر لغيرك معصية وأنا مش قدها..

ومن الغبية التي تستطيع الرفض بعد كُل هذا؟

ارتمت في أحضانه تنتحب وهي تحوط خصره بقوة وقلبها يكاد يخرج من قفصها الصدري من قوة ضرباته، لتدفع بنفسها لأحضانه أكثر تحتمي به من الحياة التي نالت منها تبحث عن أمانها المفقود، ليضمها إلى صدره برغبةٍ متوحشة في أن تبقي هكذا إلى الأبد دون الإبتعاد عنهُ، ويده تعتصر جسدها دون أن تتألم دون أن تشعر أنها مكبله بقدر شعورها بالأمان و بنجاحه في احتوائها وابعاد تلك الهواجس التي تطاردها وتمنعها من الإقتراب منهُ..

هدأت قليلًا وانخفض صوتها بل بحّ ليفصل العناق دون أن يترك بينهما مسافة لمرور الهواء ثم رفعها من خصرها بغته لتضع يديها فوق منكبه بتلقائية من تفاجئها، أجلسها فوق سطح المكتب ورفع رأسها كي تنظر إليه وترجاها بتضرع لم يصدر منهُ يومًا بملامح أضنتها الأيام: اسمعيني وافهميني ها أفهميني الله يخليكِ..

أومأت بحركة سريعة وهي تراقب حالته بقلبٍ مفتور، لترتفع يدها تربت على وجنته فيهتز كيانه ويغمض عينيه زافرا بقوة مستشعرًا نعومة بشرتها على جلده الشائك بسبب ذقنه التي استطالت كأنه حصل على أجمل انتصاراته الآن، طبع قبلة رقيقة على باطن كفها ارتجفت اوصالها إثرها ليمسكها بنعومة ويضعها فوق قلبه المتقافز سائلا إياها: سامعة قلبي؟ سامعاه؟

أومأت وهي تقضم شفتيها كي لا يخرج صوتها وصدرها يهتز بحدّة ليهمس بيأس راغبا في الإقناع بسبب بكائها وعدم ردها عليه وهو يضغط فوق كفها: أنا هسعدك ومش هزعلك والله ماهزعلك انا مصدقت لقيتك ومش هضيعك..
أمسكت يده بيديها الاثنتين وحاولت الصمود دون البكاء لكنها خسرت وهتفت بنشيج وهي تهز رأسها: عمّار، انا مش رفضاك عشان عيب فيك، العيب عندي انا مش أنت أنت تستاهل واحده أحسن مني تحـ..

قاطعها بحدّة وهو يمسك ذراعها بقوة هازا إياها بعنف هاتفا باستنكار: مفيش حد أحسن منك؟ أنا عايزك أنتِ، أنتِ الأحسن بالنسبالي! انا عمري ما اترجيت حد في حياتي؟ أنتِ ليه بتعملي فيا كده؟ ليه مش مصدقاني؟

صاحت في وجهه بحرقة وهي تلوح بيدها أمام صدره بقدر ما استطاعت: عشان أنا منفعكش إفهم بقي مننفعش لبعض، المشاكل مش هتقف لو اتجوزنا، أنا أكبر منك والكلام علينا مش هيخلص لو ارتبطنا، مننفعش لبعض ولو اتجوزنا علاقتنا مش هتستمر بسبب أبويا مش هتستمر..
كانت ترفض بينما عيناها تقول شيءً آخر، تبتعد وهي لا ترغب سوى في الاقتراب، تتمنع وهي راغبة، تجرحه بحديثها وهي تتمزق كُليا، إن حديثه لا يزيدها سوى حُبا وتقديرا..

أرخي يديه عن ذراعيها وتركها تبكِ متسائلا بنفسه عن كم اللذة التي تشعر بها وهي تراه ذليلا أمامها يترجاها بتلك الطريقة وهي ترفضه بينما تنظر داخل عيناه؟ تلك القسوة وذلك الرفض لا يعرف كيف يستخدمه في موقفٍ كهذا، فهو لا يرى سواها ويتمنى فقط سماع كلمة مكونة من ثلاثة أحرف منها هل هذا كثير عليه؟ نعم ما الصعوبة في نطقها!

قست ملامحه وسألها لمرةٍ أخيرة بدون تعبير كي لا يبقي مجالا لهُ كي يندم عِندما يذهب: لآخر مره هسألك تتجوزيني ولا لأ؟

نظرت إليه بألم وقررت الذهاب دون عوده بعد خروجها من هنا، ستسافر إلى الخارج وينتهي كل شيء ستنسي النسيان دواء كل شيء، حسمت قرارها للرفض أمام نظراته المترقبه و عينيه اللامعة وهزَّت رأسها بنفي بنظراتٍ آسفة لتهتز مقلتيه باضطراب وتتلاشي قسوته، حركت شفتيها للرفض لكنهُ وضع كفه فوق شفتيها يمنعها من قولها هامسًا بعذاب: متقوليهاش مش عايز أسمع ردك دلوقتي فكري براحتك انا مش مستعجل بس مترفضيش وحياة نادين عندك مترفضيش انا عمري ماهخليكِ تندمي لو وافقتي، انا تعبان ومحتاجلك..

انهي قوله بنبرة حملت في طياتها كل الألم والعذاب الذي عايشة في حياته، فرفعت يدها وأبعدت يده من فوق شفتيها سائلة بنبرة متذبذبة: ولو فكرت وبردو لأ هيحصل إيه؟

طغى الحزن ملامحه أكثر وهو ينظر إليها بخيبةٍ لن تنساها يومًا، فهي قاسية لا تشعر به لأنها لم تحبه بهذا القدر، أدرك الآن أنه فقط كان موهوم يوهم نفسه كي يبرر أفعاله وإذلال نفسه بتلك الطريقة المغزية أمامها، فإن أحبته لم تكن لترفضه بهذا الشكل، لا يعرف إنهُ يحزنها عليه بطريقةٍ مؤلمة وطلبه ليس سهلا عليها..

أستطرد بتضرع مزق نياط قلبها وقلبه شاعرا بكونه يحادث حجرا وليس بشرا وهو يحتضن وجهها بين يديه هاتفا بهيستيريا وانفعال كي تعرف مدى صدقه وعيناه تتوسل إليها بطريقةٍ أخرى: هفضل مستني لحد ما يكون آه، انا عندي أستعداد أستني سنين لحد ما توافقي وأنتِ مقتنعة وواخدة وقتك في التفكير براحتك معنديش مانع بس، بس أنتِ أغلي عندي من اني ألمسك أو أمسكك وأنتِ مش مراتي وحلالي، أنتِ غالية أوي وأنا عايز ربنا يباركلي فيكِ لأني مستعد أخسر أي حاجة إلا أنتِ..

نظرت إليه بعشق وقلبها يلكم قفصها الصدري بقوة كالمضخات، بمشاعر مبعثرة بفضل كلماته التي لا يعرف كيف تؤثر عليها وتجعلها تريد أن تطلب هي الزواج وليس هو، حركت شفتيها للتحدث لكنه استطرد برجاء وهو يسند جبينه فوق جبهتها: صدقيني لو وافقتي هتلاقي حد تاني مختلف عن عمّار اللي أنتِ شيفاة، فكري إوعديني تفكري بس فكري فيا وفيكِ مش في الناس ورأي الناس محدش هينفعنا..

أومأت بتفهم وهمست بصوت مبحوح صادق وهي تسبل جفنيها: أوعدك..

تنفس الصعداء وتنهد براحه ليختلج صدرها إثر صوته المعذب، ابتعد عنها مبتسما رغم الهم الذي يطبق فوق صدره لأنه تقريبا لم يتقدم خطوة معها سوى أنه منحها وقت والإجابة ستتكرر لا محالة، لكن لا يهم تلك كانت فرصةً لهُ لأنه كان عازمًا على الذهاب نهائيا، لكن رؤيتها أمامه جعلت غضبه يتلاشي ويتبدل إلى لهفة وشغف بسهولة وقد عاد في قرار السفر أيضًا، فلن يفرط بها مهما حدث وإن أذلته أكثر لن يتركها..

أبعد يده عن وجهها وحمل كوب العصير ووضعه بين يدها المرتجفة كي تهدأ لأنها بحاجته وبشدّة، شكرته بامتنان وأخذت ترتشف منهُ على مهل دون أن ترفع رأسها إليه مجددًا لكنها كانت تستنشق رائحته القريبة التي أدمنتها وهي تغمض عيناها باستمتاع، لقد أشتاقت إليها كثيرًا، وقوفه أمامها دون الإبتعاد يشعرها بالأمان والاحتواء..
رفعت رأسها بعد دقائق وطلبت منهُ ببحه إثر البُكاء: ينفع أخد الكشكول؟

ليجيب باسما بطلبٍ آخر: ينفع ما تخديهوش؟
ابتسمت بنعومة وأومأت موافقة ثم سألته باستفهام: أنت خدته إزاي؟
بادلها ابتسامتها بأخري من أعماقه متمنيا أن يتحقق قوله رغم حزنه وضيق صدره: لما نتجوز هقولك، هقولك حاجات كتير..
تحمحمت مظهرة عدم التأثر وهي تتحاشى عيناه بينما جميع حديثة مازال يرن داخل أذنها.

، إنه يرضي غرورها ويصيبها بـ قشعريرة لذيذة تثير أنوثتها عِندما تتعمق في فهم تلك المشاعر أكثر، فهي موافقة، فمن الغبية التي ستجد من يحبها بهذا القدر وترفضه بسهولة! هي فقط تحتاج أن تفكر قليلًا و تتريث في الاجابة..
هتفت بهدوء وهي تنزل من فوق المكتب ووضعت فوقه العصير: انا لازم أمشي لأني سايبة نادين لوحدها في البيت..
أومأ بتفهم وهتف سريعًا وهو يتحرك في مكانه: ثواني أجيب الرواية عشان تاخديها..

منعته عن التحرك بقولها بابتسامة جمدته محله: لأ خليها لأن دي مش أخر مرة هاجي فيها هنا، ماذا قصدت بهذا؟.
تركته متصنم وغادرت، فلا تستطيع الذهاب وتركه ضائع بتلك الطريقة، إنها باتت تعشقه ولا يهون عليها أن تكون سبب في شعورٍ سيء اجتاحه، فالقليل من التفاؤل والأمل لن يضر، إنهُ معشوقها..

استفاق بعد خلاء الغرفة منها ليركض إلى الخارج خلفها كي يلحق بها قبل الذهاب وقلبه يقرع لأن أذنيه أصابهما شيئا ما، لكنها كانت قد أدارت المقود وغادرت، هو لم يشرد كثيرا بل هي من ركضت بسرعة قبل أن يلحق بها وتعجز عن الرد أمامه..

ابتسم باتساع وهو يحدق في السيارة أثناء ابتعادها ليستمع إلى صوت همسات خافته تأتي من خلف إحدي الاشجار، استدار على عقبيه واتجه ناحيتها بريبة فوجدها فارغة، تنهد وهزَّ كتفيه بتعجب ثم عاد إلى داخل المنزل بسعادة وهو يضع يديه في جيب بنطاله، يفكر في كثيرًا من الأشياء..

عادت إلى المنزل، تبتسم بزهو ووجهها مضيء من السعادة، دخلت وأغلقت الباب خلفها لتتوقف محلها متعجبة جلوس لمار ونادين معا في صمت مهموميتين في انتظارها بالخبر المنشود و الكآبة تسيطر على المكان.
تنحنحت تجذب الإنتباه لتندفع كلتيهما إليها سريعًا وفي فمٍ واحد وأعين ثاقبة سألا: عملتي ايه؟
تبسمت بنعومة وتوردت وهي تهمس بسعادة: طلبنى للجواز..

دوي صوت صرخاتهما الحاشية بالحماس وكلتيهما تقفزان فرحًا وسعادة، لتتوقفان فجأة وتتبدل ملامحهما عِندما تابعت ليلى بتردد: قلت له هفكر موافقتش.
صاحت لمار بغلظة ونفاذ صبر: عشان أنتِ بومة بوووووومة، أنا ماشية بس.
طرفت ليلى بتعجب وهتفت مبررة: انا موافقة بس لسه مقولتش!
أخذت لمار حقيبتها وحذرتها بنبرة نافذة قبل أن تذهب: تتصلي بيا على الفرح بس مش عايزة أعرف عنكم حاجة غير كده ده أنتوا نكد.

ضحكت ليلى بوجه مُشع سعيد كأنها لم تحمل همًا يومًا بعد ذهاب لمار، ليسقط نظرها على نادين الباسمة في وجهها بحب، ملاحظة الفرق وتأثير تلك الزيارة عليها بإيجاب، إقتربت ليلى وعانقت نادين بحنان أمومي هامسة بحب: أنتِ حبيبتي.
ضحكت نادين بسعادة وهمست تخبرها: عيد ميلاد عمّار الأسبوع الجي متهيألي تردي عليه ساعتها كـ هدية.

في هذه الأثناء في الإسكندرية..
كانت تجلس فوق الكرسي الخشبي، تضع ساق فوق الأخرى وتميل فوق اللوحة بنصفها العلوي تفرد منكبيها دون أن تنحني قط منغمسة في رسم تلك الشجرة الضخمة في اللوحة بتفانِ..

طوال الشهر الماضي كانت تأتي، تعرفت عليه في مرة، ومرة أخرى تجولت في المكان، ومرة أخرى جعلته يرسم أمامها إحدي اللوحات، فهي تحرص على الإتيان والعودة مبكرا كي لا تتصادم مع جـنّـة عند عودتها لأنها تأخذ غرام معها، والآن هي من ترسم.
أنهت ريمة رسمتها التي رسمتها بقلمها الخاص دون أن تستخدم ألوان جاسم أو أيًا من أدواته الخاصة سوي اللوحة فقط، وبفخر واعتزاز بنفسها استدارت وسألته باستفهام: ايه رأيك؟

خرج من شروده في تلك اللوحة على قولها الهادئ ليبتسم إليها بخفة وهو يترك مقعده وأخذ في الأقتراب من مجلسها بخطواتٍ هادئة وسألها مستفسرا بتعجب وهو يسند مرفقة فوق اللوحة عِندما توقف أمامها: ايه ده يا ريمة؟ شجرة! جاية ترسمى شجرة؟ بس رسمك حلو جاية تتعلمي ليه؟!
ابتسمت وهي تحدق في اللوحة وعيناها تومض بالحماس، ثم وقفت وقامت بالنقش فوق تلك الشجرة بخطٍ عريض واضح أمامه بتاريخ يجهله ويجهل سبب قيامها بهذا!

تمتم وهو يعقد كلا حاجبيه: 1980؟
أومأت وهي تنظر إليه بنظرة ذات مغزى لم يعرف غايتها ولا إلى ماترمى لتهتف هي بهدوء مشيرة إلى اللوحة: في قصة قديمة نفسي احكيهالك أوي، حاجات حصلت سنة 1980..
هزَّ رأسهُ بجهل وهو يحدق في الرقم كالأبله الذي لايعرف القراءة دون أن يفهم أي شيء من أقوالها لتستطرد: القصة دي يا جاسم لازم أنت اللي تعرفها عشان أنت الوحيد اللي تقدر تغير نهايتها لو فهمتني..

طرف بجفنيه بشكلٍ متكرر وهو يفكر في قولها ناظرا بينها وبين اللوحة بحيرة ثم هتف بعد وقتٍ: طيب ما تحكِ القصة ايه المشكلة؟
ابتسمت في وجهه وهي تغلق القلم الذي بيدها، تتلفت حولها تبحث عن حقيبتها كي تذهب وقد عرف من حركتها لتقول بهدوء بعد أن وجدت ضالتها: انا رسمت الشجرة المرة دي، المرة الجاية هلونها والمرة اللي بعدها هحكيلك القصة..

ارتفع كلا حاجبيه بتهكم وسأل مستفهما: هاتيجي من القاهرة عشان تلونيها وبعدين تيجي تاني عشان تحكِ قصة خمس أو عشر دقايق؟
اومأت بحماس وهي تبتسم بكل سهوله جعلته يغضب وجسده يغلي من الأنفعال ويبغض ابتسامتها المزعجة..
هتفت مودعة برقة وهي تسير معهُ حتى باب الغرفة كي تذهب: اتبسط حقيقي النهاردة لأن رسمي عجبك وحبيت المكان أكتر لأنه مريح وكان نفسي اطول بس للأسف انا لازم امشي.

أومأ بتفهم مغتصبا ابتسامه صفراء خاوية وهو يضم يديه معا خلف ظهره يعتصرهما معا بقوة مراقبا ذهابها بنظراتٍ كارهة، فهي مستفزة كشقيقها ولا تخجل كي تأتي إليه بقدميها وتتلاعب به وتعبث معهُ!.
همس بوعيد وهو يرصد ذهابها بنظراتٍ عميقة حملت بطياتها ألف معني ومعني وهي تخرج من المعرض حامله غرام بين يديها بابتسامة حانية: ما شي يا بنت رشدان..

استدار على عقبيه وحدق اللوحة بتركيز، ليجذب انتباهه إمضائها في زاوية اللوحة في الأسفل، نظر إليه بتمعن وتدقيق مستذكرا توقيع جـنّـة في الورق عِندما كانت تدرس معهُ، يبدو أن جميع عائلة رشدان يملكون تلك العادة.

عاد إلى المنزل والأفكار تتدافع في عقله وجميع ذكرياته مع جـنّـة عِندما كانت في قبضته تتوافد على عقله دفعة واحدة تشوشه أكثر، هي زوجة قُصيّ وريمة شقيقته، إذا من تلك الطفلة التي تسحبها خلفها طوال الوقت؟
وما دخلهم بعشق وعائلته؟! هؤلاء الملعونين دمروا عائلته وسعادته.

صف السيارة بعد عناء بسبب عدم وجود مكان فارغ، صعد إلى شقته وأغلق الباب خلفه بهدوء وسار متسللا مثل كل يوم كي لا يتصادف مع والدته ويتحدث معها، مازال يتهرب منها كي لا يتواجه معها، لكن اليوم مختلف كانت تجلس تنتظره كي تحادثه وتراضيه مهما كلفها الأمر فهو من بقي لها في هذه الحياة.
ـ جاسم.
استوقفه همستها بنبرة حزينة ملؤها التعب.

تنهد وعاد أدراجه وجاورها في الجلوس لتمسك يده بين يديها هامسة بأعين دامعة: لسه مش عايز تكلمني يا حبيبي؟
قبَّل جبينها بحنان لتعانقه بقوة، تبكِ بحسرةٍ من قلبها وبداخلها تدعو على عشق بسبب التفريق الذي حصل بينها وبين عزيزها، ربت على ظهرها بحنان وهو يبتسم باتساع مطلقا تنهيده حملت بطياتها كُل الراحة، فعناق والدته لا يضاهيه عناق.

فصلت النعاق واحتضنت وجهه بأيدٍ مُرتجفة وقبلته بحنو وأعادت ضمه إلى صدرها بافتقادٍ شديد هامسة بتعب: متزعلش مني يا حبيبي انا ميهمنيش غيرك وغير سعادتك.

رفع جسده ومسد ذراعيها بحنو هاتفا برفق وحنان: عارف طبعا يا أمي وأنا مقدرش ألومك على حاجة معرفش حقيقتها لسه، ولا اقدر اجبرك إنك تحبي عشق، ولا أنك تعيشي معاها غصب، بس أقدر أقولك إن فلوسها من حقها ومش من حقك حتى لو عايزه تعاقبيها، وأقدر أقول كمان إني راجع القاهرة بعد كام يوم و عايزك معايا تيجي؟ أنا مقدرش اسيبك لوحدك وأنتِ عارفة.

أومأت موافقة سريعا دون أي إعتراض أو تفكير وهي تمسك يده بقوة قائلة بطاعة: موافقة طبعًا وعشق هتاخد كل حاجة كمان لو عايز بس متبعدش عني تاني يا حبيبي.
أومأ وهو يجفف عبراتها برقة ثم سألها سؤالا كان يطرحه على نفسه طوال الطريق جعل عقلها يعجز عن التفكير كي تجيبه: سنة 1980 كُنتِ فين يا ماما؟
تلاشت ابتسامتها السعيدة وتعجبت من هذا السؤال الغريب الذي أعادها لذكرياتٍ إندثرت داخل عقلها!

أجابت بكل هدوء: متهيألي كُنت في الجامعة يا حبيبي بتسأل ليه؟
رد بسؤالٍ آخر: كان مين معاكِ في الجامعة؟
حررت يدها منهُ وهي تفكر بارتباك لكن ليس في الإجابة بل في السبب الذي دفعه للنبش في الماضي.
أجابت بهدوء وهي تنظر إليه بتدقيق: كُنت مع جوز خالتك وزمايل تانيين!
سألها مشدودا وهو يعتدل جلسته: مين زمايلك التانيين، وخالتو مكنتش معاكِ ليه؟

ردت بنفاذ صبر كي تغلق هذا الموضوع: يا حبيبي خالتك كانت الصغيرة نسيت ولا ايه؟ وزمايلي مش هتعرفهم زمانهم ميتين دلوقتي او الله أعلم بحالهم غيّر السيرة دي بقي، انا هدخل أصلي وبعدين نتعشى سوى متنامش.

أومأ وراقب ذهابها بهدوء وهو يفكر في هذه القصة المعقدة، لكنهُ صبور أكثر مما يتخيل الجميع، سوف ينتظر ريمة هي تحمل جميع الإجابات التي يبحث عنها، الصبر فقط ما يحتاجة، فالصبر هو الموصل إلى تحقيق الأماني وبلوغ الغايات.

في القاهرة الآن..
توقفت عشق أمام باب عيادته المفتوح تراقبه بابتسامة رقيقة وهو منغمس في عمله لتطرق فوق الباب ثلاث طرقات عقبها قولها بابتسامة: ممكن أدخل؟
ابتسم وليد باتساع ورحب بها: عشق، اتفضلي
وثبت إلى الداخل، تحمل بين يديها قهوة جاهزة لأجلهما وأكياس طعام، جلست مقابله مراقبة حيرته وانشغاله بمراجعة مواعيده مع مرضاه لتضع كوب القهوة البلاستيكي أمامه سائلة باستفهام: لسه ملقتش مساعدة بردو؟

هزَّ رأسه بنفي وهو يمسد جبينه ثم إضجع على كرسيه بتعب هامسا بحنق: مش لاقي أي حد خالص يشتغل معايا متعرفيش حد؟
هزَّت رأسها وهي تفكر بعمق وهتفت: لأ للأسف، بجد لو انا مكنتش بشتغل كُنت جيت انا بس عندي شُغل.
أومأ بتفهم ثم سألها عن الحقيبة التي تنبعث منها روائح طيبة جعلته يشعر بالجوع وهي تضعها فوق المنضدة: هو ايه ده يا عشق؟

نظرت إليها بهدوء ثم إليه وقالت بـ هم: ده أكل المدير طلب مني اوصله لمراته لأنه بيثق فيا وكلام كتير كده قعد يقوله.
سأل مستفسرا: وده المفروض هتوصليه امتي؟
أجابت بهدوء وهي تلوح بكوب القهوة: بعد ما أشرب القهوة، البيت مش بعيد اوي قريب من هنا.
أطبق الصمت قليلا على المكان عدي من صوت الرياح الهادئه المتسللة من النافذة وكلًا منهما غارق في زخم أفكاره، يرتشفان القهوة بهدوء..

قطع اللحظة سؤاله: جاسم عامل ايه؟ لسه مجاش؟
تبدلت ملامحها واعتلي الحزن تقاسيم وجهها حتى تجعد جلد بشرتها وبدت كـ عجوز سقيم وهي تقول: كل يوم بيتصل بيا يطمن عليا، انا مسألتهوش لأنه قلي من كام يوم إنه مشغول في حاجة مهمة هيخلصها وهييجي على طول، وانا مرضتش أسأله وأضغط عليه لأني مش هجبره يجي سيباه براحته، انا خلصت القهوة لازم أمشي..

وقفت كي تذهب ليقف معها فناظرته بعدم فهم ليتحدث سريعا بعجله وهو يحمل حافظة أمواله وهاتفه ومفتاح سيارته: انا كمان عندي مشوار صغير كده هعمله.
أومأت بتفهم وذهب كلًا منهما في طريقة.
وصلت عشق إلى المكان المطلوب، وثبت داخل الحديقة عبر باب الڤيلا الرئيسي حتى وصلت إلى الباب الداخلي، ضغطت الجرس بهدوء وهي تتنهد بثقل حتى فتح الباب أخيراً.

رسمت ابتسامة بسيطة على محياها وهي تقدم الحقيبة إلى الخادمة، لتموت ابتسامتها فوق شفتيها عِندما رأت نظرات الخادمة المستحقرة التي شملتها من أعلاها لأخمص قدميها..
عقدت كلا حاجبيها بتعجب وانزعاج لتتنحي الخادمة تاركه لها المجال كي تدخل فهتفت عشق باستنكار وهي تراقب جمودها ونظراتها الجارحة كأنها هي الخادمة: هو المفروض أدخلكم أنا الأكل ولا ايه؟ مش هو ده العنوان المظبوط وده بيت أستاذ شوقي ومراته كاميليا؟

ضحكت الخادمة بصخب مجللة في المكان ثم كتفت يديها أمام صدرها وهتفت بسخرية: أستاذ شوقي؟ كويس والله إنه أسمه أتبدل من قوَّاد لأستاذ..
هتفت عشق بجهل وهي تهز رأسها: يعني ايه الكلام ده؟، راقبتها الخادمة بسخرية وتسلية لتستطرد عشق بجدية وحزم: لو سمحتي انا جايه أوصل الأكل مش أكتر اتفضلي خُدي الأكل..

ابتسمت الخادمة وجاراتها في الحديث ظنا أنها أحدي العاهرات التي تتصنع الأخلاق الكريمة لتهتف بسخرية مطلقة: بما أن أستاذ شوقي هو اللي باعتك فا لازم تدخلي الاكل بنفسك لمراته قبل ما تشتكي وتخليه يطردك مش صح كده ودي الأصول؟

أومأت عشق بنفاذ صبر ودخلت لتغلق الخادمة خلفها وتقف خلف الباب كالحارس عليه، تقدمت عشق من غرفة الجلوس باضطراب وقلقٍ لا تعرف مصدره اجتاحها، توقفت في منتصف الغرفة فوق بُساط دائري وجحظت عيناها وهي تبصر تلك المرآة تجلس فوق كرسي وثير ترتدي منامه عارية وتجاورها فتاة تجلس فوق يد الكرسي تميل بجسدها عليها، تطعمها الكرز في فمها هامسة بجانب أذنها بكل ماهو وقح وبذيء حتى صدح صوت ضحكات رقيعة تخص الفاجرة المسماه بكاميليا وهي تقلب كأس الخمر بين أناملها.

سقطت الحقيبة من يد عشق وشحب وجهها حتى تشابهت بالموتى وزاغت عيناها وقلبها بدأ بالتقافز داخلها رعبًا وخوفًا، فما هذا الذي أوقعت نفسها به؟ اللعين فليحترق في الجحيم لهذا الفعل الجائح.

توقف كاميليا عن الضحك عِندما لاحظت وجودها، أشارت للفتاة كي تبتعد عنها، فأذعنت منصاعة بطاعة كالجرو الأليف وابتعدت، لتقف هي وأخذت في التقدم منها وابتسامة عابثة تعتلي ثغرها وعيناها مرتكزة عليها تشع بإعجاب وهي تميل برأسها تفحصها بنظراتٍ تقيميه راغبة غير بريئة بالمرة، توقفت أمامها وامتدت يدها إلى ذقنها وحركت شفتيها الملونة بأحمر الشفاه الداكن هامسة بخفوت سائلةً: تعرفي أنا بحب شوقي جوزي أوي ليه؟

اهتزت مقلتيها وهي تزدرد ريقها بحلق جاف وقبلها يختض داخلها، فصفعت يدها من فوق ذقنها بحدّة وصدرها ينقبض وينبسط بعنف.
ابتسمت كاميليا بعبث وتفاقم حماسها وحدقت على راحة يدها المعلقة في الهواء واستطردت بامتنان يعود على زوجها: عشان عارف ذوقي كويس و عارف أنا بفضل إيه، مستنياكِ من شهر ياعشق، تعرفي إن هو الوحيد اللي استحملنى وكمل معايا رغم كُل حاجة؟

تضاعف خوفها أكثر وحركت شفتيها المرتعشة وهمست بتقتير: أنـ، أنـ، متجوزة وبحب جوزي وعيلتي، الأكل جبته زي ما طلب مني مقدرش افيدك بأي حاجة تانية..
قهقهت بصوتٍ انثوي مغري ورفعت الكأس ترتشف منه بعدم اتزان ثم هتفت مستخفة بعقلها ورائحة الكحول تنبعث من فمها: وأنتِ لسه مفهمتيش لحد دلوقتي هو بعتك ليه؟

استدارت على عقبيها بسرعة كي تذهب دون الرد لتجد الفتاة تقف خلف الباب ومازالت نظرة الأستحقار تعتلي وجهها، مشمئزة منها أيما اشمئزاز، أدمعت عيناها واستدارت تنظر إلي كاميليا بتوسل ثم تحدث مترجية إياها: لو سمحتي سيبيني أمشي أنا مش كده؟
زمت كاميليا شفتيها بعبوس وتقلصت ملامحها بتأثر متعاطفة معها وهتفت بحزن: أوكيه موافقة اتفضلى امشي..

نظرت إليها بعدم تصديق متعجبة تلك السهولة وشعورًا سيء يساورها، وسريعا هرولت إلى الباب لتدفعها الخادمة من جسدها للخلف بقوة وتنفجر كاميليا ضحكًا صائحة بسخرية: كلهم بيقولوا كده.
تساقطت عبراتها بذعر وأخذ جسدها في الانتفاض وقدميها تحملها بصعوبة فكانت قاب قوسين أو أدني من الانهيار، لكنها حثت نفسها على الصمود فلا يُجب عليها أن تنهار وهُنا، هل انتهى أمرها وسيتم اغتصابها من قِبل إمرأةٍ الآن؟

هرعت إلى الخادمة وعبراتها تنساب متوسلة إليها باختناق كي تبتعد: أرجوكِ خرجيني أنا معرفش حاجة عن الموضوع ده والله، أنا شغالة في المطعم جديد والمدير هو اللي بعتني للأكل بس والله العظيم أنا معرفش حاجة خرجيني من هنا أرجوكِ..
نظرت إليها بتذبذب وخاصتًا عِندما لمحت دُبلتها الذهبية في بنصرها لتستطرد بتوسل وهي تجهش فى البكاء: أنتِ بنت زيي حرام عليكِ خرجيني..

نظرت إليها بتردد ودفعتها مجددًا لكن ليس بنفس القوة السابقة لتعاود للاقتراب منها والتوسل وعيناها تفيض من الدمع: أنتِ مصدقاني صح والله مليش ذنب خرجيني.
رفعت الخادمة رأسها تنظر إلى كاميليا لتحذرها بنظراتها كي لا تتركها تفلت بين يديها لتستغل عشق تشوشها واضطرابها وقامت بدفعها بقدر ما استطاعت وفتحت الباب ولاذت بالفرار برؤية مشوشة بسبب دمعاتها..

ضحكت كاميليا مجلجلة وهي ترفع رأسها ترتشف ما بقي في كأسها وهي تترنح ثم صرخت بها بصوت رفيع مزعج دوي وهي تضرب الكأس في الحائط ليتهشم: سبتيها تهرب لــيــه؟ هتاخدي مكانها أنـتِ؟
فكت الخادمة مريول المطبخ من حول خصرها بحدَّة واشمئزاز ثم قذفتها أرضا بقوة وبصقت عليها وتركت المنزل وغادرت بدون عودة تلك المرة، لتنفجر كاميليا ضاحكة وهي تنحني تسند راحة يدها فوق ركبتيها بثمالة..

رفعت جسدها بعد وقتٍ وسارت حافية القدمين تتلفت حولها هاتفه بإسم تلك الفتاة كـ حيوانٍ أليف: شو شو، شو شو روحتي فين يا شو شو.

كانت تركض بذعر بأنفاس متلاحقة هاربة منها، بكل ما أوتيت من قوة خوفًا من أن يكون قد لحق بها أحدهم، دون أن تنتبه أين وصلت، رُبما قطعت نصف الطريق ركضًا من الخوف.
ـ قُصيّ..
همست جـنّـة بدلال جواره جعلته يشد قبضته فوق المقود بعصبية ونظر خارجا عبر النافذة يخفي وجهه المكفهر من الضيق، هل سيظل ثمانية أشهر صامتا هادئا يستمع ويبتلع حديثها دون إهانتها لمرة واحدة؟ هذا كثير عليه.

أعاد نظره للطريق وهمهم إليها باهتمام لتهمس بنعومة: أنا نفسي فـ، آآآه
صرخت عشق بذعر وهي ترى إقتراب السيارة التي تتقدم بسرعة متأكده من كونها سوف تسحقها..

تحولت بقية كلمتها لآهه خافته عِندما ضغط قُصيّ المكابح بقوة وانعطف بالسيارة على جانب الطريق إرتدت جـنّـة إثرها إلى الأمام وكادت رأسها تصطدم بزجاج السيارة الأمامي لكن يد قُصيّ حالت هذا عِندما مدَّ ذراعة أمام منكبها وثبتها فوق المقعد بسرعة بديهية وهو يوقف السيارة.
زفر بانفعال وصدرة ينقبض وينبسط بعنف ثم سألها بقلق: أنتِ كويسة؟

أومأت وهي تأخذ شهيقًا طويلا وقلبها يخفق بخوف، لينظر من السيارة إلى تلك الغبية التي ظهرت من العدم ليختلج قلبه وتتسع عينيه بانفعال هامسًا بعدم تصديق: عشق؟

تنبهت حواس جـنّـة وانتفضت في جلستها كأن صاعقة كهربائية ضربتها، تهجمت ملامحها وحركت يدها إلى مقبض الباب كي تخرج تلقنها درسا قاسي لكن قُصيّ أمسك ساعدها أوقفها وهتف بنبرة آمرة حازمة كانت محذرة أكثر وهو يرفع حاجبه إليها أثناء ترجله من السيارة: خليكِ هنا.
ورغمًا عنها انصاعت كي لا ينقلب عليها ويعود للحدَّة، وراقبته يترجل والحقد ينهش أحشائها بضراوة.

ارتخى انكماش كتفيها إثر السكون عدي من صوت زمجرة الرياح، وفتحت عيناها عِندما لم تصدمها السيارة، جففت عبراتها سريعًا وهي تستدير لتتوقف أناملها عن الحركة وتهمس إسمه بلوعةٍ وهي توشك أن تفقد الوعي: قُصيّ..
ـ عشق.
هتف حروف إسمها بشغف دون أن تسمعه، وهرول إليها لتركض إليه بلهفة كمن وجدت منقذها وملاذها أخيرًا.
ضمها إلى صدره بقوة، يدسها داخل أحضانه.

لتلف يديها حول خصره بدورها تبكِ على صدره بحرقة وهي تنتفض تشكِ إليه همومها وضياعها من دونه دون أي حديث، ونظرات جنّـة القاتلة تخترقها بلا هوادة، مسح فوق ظهرها صعودا ونزولا بحنو هامسًا بنعومة تخصها وحدها: مالك ياعشق؟ بتجرى كده ليه في ايه؟
رفعت رأسها وهتفت بانهيار وهي تشهق بحالةٍ مزرية من قهرها: الحقير صاحب المطعم باعتني لمراته بـ أكل وهي شاذة وبتحب البنات.

كان يمسد ذراعيها بحنان وهو يستمع إلي صوتها الناعم بشغف متأملا وجهها الشاحب الحزين ليطرف عدة مرات بأهدابه بعد سماع قولها الأخير ليتمتم باستنكار: بتحب البنات؟ هي الرجالة قصرت معاها في حاجة؟

توقفت عن النحيب واتسعت عيناها بانفعال إثر قوله وهي تنظر إليه بانكسار، لتصرخ في وجهه بشراسة وهي تبكِ: أنت بتهزر؟ عارف كان هيحصلي ايه لو مهربتش؟، شدت شعرها بفقدان صواب وضحكت بسخرية واستطرد زاجرة نفسها بحدّة: عندك حق، أنا الغبية بكلم مين أنا، هتفضل زي ما أنت قُصيّ و عمرك ما هتتغير أبدا.

نفضت يديه عنها بعنف عقب حديثها واستدارت ذاهبة لكنه أحاط خصرها وقربها إليه وأعتذر بندم: آسف متزعليش مني مش قصدي والله دي بس حاجة مش سائدة في مصر ومقبلتهاش قبل كده مش أكتر، أنا معاكِ في اي حاجة عايزاها ولو عايزة أسجنه هسجنه ولو عايزاني أضربه هضربه بس طمنيني عليكِ.

أطرقت رأسها وظلت تبكِ أمام نظراته المتأسية لأجلها والحزن يغمره، وهي فقط تفكر في ذلك الشهر الذي امضته في محاولات بائسه كي تنساه لكن جميعها باءت بالفشل وعرفت هذا الآن، راجعت نفسها في تلك الثوانِ رُبما ألف مرة قبل أن تفكر في طلب المساعدة والعون منهُ ورؤيته أمامها طوال الوقت، وللعجب أنها لا تتعظ ومازالت تهفو عليه، ربما لا تسامحه لكنها لم تتوقف عن حبهُ بعد، چل ما كان يحزنها هو تعب وليد الذي لم يأت بثماره أبدًا.

رفعت رأسها وحركت شفتيها للتحدث متهربة من نظرات الوله خاصته، ليتوقف كُل شيء حولها وينشطر قلبها لنصفين مجددا وهي تبصر جـنّـة معهُ.
نظرت إليه بعدم تصديق ثم ضربت صدره بقبضتها بقهر صارخةً به بجنون: بتفرجها عليا؟ جايبها تتشفي فيا؟ بتوريها عشق الرخيصة اللي بتترمي في حضنك بسهولة؟ أنت بعمل فيا كده ليه؟ ها ليه؟

هزَّ رأسه بنفي مستنكرا قولها وأحضتن وجهها بين يديه كي تهدأ وهتف بحنو وهو ينظر داخل عيناها الحمراء المرهقة التي بالكاد كانت تفتحهم: شششششش إهدي، دي صُدفة، أنا معرفش إني هقابلك ياعشق وجـنّـة مراتي طبيعي تشوفيها معايا.
انسلت عبراتها بحسرة وهمست بصوتٍ مبحوح لائم: أنا الأولي، ده مكاني، المفروض أنا اللي اكون موجوده مش هيا، أنا بكرهك و عمري ما هسامحك مش هسامحك.

ضمها إليه والندم ينهشه بسبب تلك الثقة، وهي لم تكن يوما الأولي قط، كُلما يقابلها ويري حالتها يخاف من البوح بالحقيقة أكثر، لكنها ستكشف في النهاية، و إن لم تكن من خلاله سيفعل غيرة.
أبعدته عنها بقوة وسارت خطوتين مبتعدة عنهُ ليسحبها من ساعدها بحدّة أعادها أمامه صائحًا بغضب: رايحة فين؟ مش هسيبك وأنتِ في الحالة دي؟
صرخت بقوة وهي تحرر يدها منهُ بضعف: أنت بجح أوي مش مراتك اللي جوه دي؟.

عقب قولها بذهابها، ليصرّ على أسنانه بغضب وتمتد يداه تلك المرة إلى خصرها لكن منعته تلك اليد القوية التي وضعت فوق يده قبل أن تصل إليها سائلا بابتسامة ساذجة: في حاجة يا عشق؟
وكأنه طوق نجاتها وقد أتي في معاده كي لا يتسغل قُصيّ ضعفها معهُ وتندم فيما بعد.
نظر إليه قُصيّ بعدم فهم، شاعرا بكونه مألوف ليستذكر أحداث روسيا على مهل و تتوافد على عقله واحدة تلو الأخرى عندما رآه عن قُرب، لكن ما دخله بها؟

كان وليد يطالعه بنظراتٍ أشد من نظراته تعجباً، واستفهام، وذهول، متسائلا عن هويته، بالتأكيد لن يكون قُصيّ الـ، توقف عن التفكير واتسعت عيناه ورنين كلماته ترن داخل أذنيه: قُصيّ رشدان رجل أعمال ، اللعنة عليه إنه متزوج ويملك طفلة هل تعرف عشق بهذا؟
ابتسمت بعدم تصديق وهرولت إليه وتوقفت خلف ظهره مستغيثةً به بطلبها ببعض التوسل: وليد ممكن تروحني؟

أومأ بهدوء وهو يتحرك للذهاب معها ومازالت عيناه معلقه على عينا قُصيّ بتحدٍ، ليستقلا السيارة أمام نظراته الخاوية الباردة أثناء حفظة رقم لوحة السيارة الخلفية.
انطلق وليد سريعًا دون النظر خلفه كما جاء، فهو كان عائداً ومن ضجره من عيادتة أخذ يتجول بالسيارة في الطريق حتى رآهما وما كان له سوى أن يتدخل.

أخرج قصي هاتفه من جيب بنطاله وهاتف أحد معارفه المهمون ليأتيه الرد في أقل من ثانية: ألو، هبعتلك رقم عربيه عايزك تعرفلي مكانها وعنوان البنت اللي هتنزل منها شويه كده، تمام مع السلامة..
أغلق الهاتف وأخذ شهيقا قويًا طويلا كي ينتقل إلى المرحلة الثانية مع الثائرة التي في الداخل قبل أن تفتعل مصيبة بسبب ما رأت منهُ.

صعد إلى السيارة بهدوء وجلس قليلا صامتا ينتظر حديثها لكنها لم تنبس ببنت شفه، حانت منهُ إلتفاته ليجد عبراتها تتساقط بغزارة وهي تنظر إليه بلومٍ مُزِج بعتاب، هي معها حق فزوجها كان يعانق عشيقته في الخارج ماذا من المفترض أن تفعل غير البُكاء..

تنهد واحتضن وجهها وهمس بحنو وهو يحرك إبهامه فوق وجنتها بنعومة: ده كان وداع مش حاجة تانية يا جـنّـة، خلاص عشق خرجت من حياتي ومالهاش رجعة تاني وأنتِ أوعديني دلوقتي إن مفيش انتقام ولا هتعملي حاجة تفرقنا وهنفضل مع بعض نربى ولادنا سوى، توعدينى؟!
هزَّت رأسها موافقة دون تفكير وهمست بنبرة ملتاعة عاشقة: أوعدك طبعًا موافقة..
ابتسم بحنان وهمس بشغف: هاتي حضن بقي.

ضحكت بنعومه وعانقته بقوة لتختفى ابتسامتها ويشع الحقد من عيناها وهي تفكر في خطتها التي ستنفذها ومبكرًا أكثر، عشق ميتة لا محالة، وهو هو كان يحدق في الفراغ بنظراتٍ خاوية عميقة و يده تمر فوق ظهرها ببطء وما يخطط لهُ سيفعله.
كل واحدًا منهما يملك خطته الفردية، والإثنان يكذبان، هي لن تتوقف قط وهو لن يودع عشق فالنهاية ليست معلومة، وكلا منهما يُنفذ في صمت وهدوء دون إحداث جلبه، لكن تلك المرة ستحدث جلبه.

فصل العناق مبتسما لتعود ابتسامتها الناعمة هي الاخرى، فقبل جبينها بحنان ثم أدار تحرك السيارة وانطلق عائدا إلى المنزل.
بعد نصف ساعة، توقف أمام المنزل وانتظر ترجلها لكنها لم تتحرك، نظر إليها بتعجب وسألها مستفهما: مش هتنزلي؟
ابتسمت بعبث ثم ضمت شفتيها وهمست بخفوت: في سلمتين في طريقي مش خايف عليا أقع وانا ماشية والبيبي ينزل..

سحق شفتيه سحقا ورغبه جامحه تحثه على تطبيق وجهها هذا وهو ينظر خارج السيارة، إنها تستفزه يا إلهي.
ابتسم بعصبية وصدره يعلو ويهبط بانفعال شاعرًا بدمائه تغلي داخل عروقه، يجزم أنهُ سوف يصبح مريض ضغط بسببها، نظر إليها لتطرف ببراءة وضمت شفتيها وبعبثٍ بعثت إليه قبله هوائية ليرفع كفيه معًا بتلقائية ويلتقفها بابتسامة سعيدة ويضمها إلى قلبه بهيام ويكاد ينجلط من هذه الحركات.

ضحكت بسعادة وهي تراقبه ليصيح بنبرة تشي بالحماس وهو يترجل من السيارة: ده كلام بردو! عيوني لـ أم العيال..

واستدار حول السيارة وفتح الباب الخاص بها وحملها برقة ودخل من بوابة المنزل الحديدية لتلف يديها حول رقبته بابتسامة عاشقة وأناملها تداعب أطراف شعره الناعم، تلامس بشرته ببطء، بحركاتٍ حسية ناعمة جعلت القشعريرة تدب في أوصاله وهو يتوقف بها أمام الباب يبتلع ريقه بحلق جاف، أنزلها برفق أمام الباب وحثها على الدخول بهدوء: اتفضلي حضرتك تقـ، ابتلعت بقية كلماته بين شفتيها المكتنزه عِندما قبلته بشغفٍ وحميمية كما تعلمت على يديه وهي تجذب رأسهُ إليها دافنه أناملها فى شعره بيد والأخرى أحاطت خصره تقربه إليها محكمةً عليه رغم قصر قامتها كي لا يهرب ويبعدها عنهُ وراحة يدها تجيل على ظهره ببطءٍ مغري، متعمدة أن تسيطر عليه وتخضعه تحت تأثيرها أكثر دون مجهودٍ يُذكر، تعرف أن كُل ما تفعله يحبهُ ويروقة ولن يبتعد رغما عنهُ حتى لو أراد لأنها تعرف كيف تروضه، لأنها حرباء متلونة تستطيع أن تتشكل بأيًا مما يُريد..

أحاط خصرها بيديه الاثنتين بخشونة وهو يبادلها قبلتها بهمجية دافعا بها إلى الباب المغلق متناسيًا نفسه، دون ضغط أو مخدر، دون أن يفقد وعيه ولا يدري بما يفعل، إنه يدري و متيقظ لا يملك حجة كي يتهمها باستمالته وسرقته إلى الفراش.

كادا يختنقان من نقص الهواء الشديد حتى نبهته بضغطه من أناملها فوق ظهره جعلته يفصل القبلة دون أن يبتعد لاهثًا بشدّة وهو يسند جبينه فوق جبينها يتنفس معها أنفاسها باضطراب يتقاسمانِ الهواء سويا، ثملا يلملم شتات نفسه المبعثرة، حركت وجهها بخفة تداعب أرنبه أنفها بأنفه وهي تغمض عيناها مستمتعة بما تفعل به، تضع يدها فوق صدره وأخرى حول رقبته بحميمية هامسة بنبرة أنثوية بحتة وهي تحرك وجنتها ضد وجنته بحركة ناعمة مُدللة: أنا بحبك يا قُصيّ، متبعدنيش عنك وتحرمني من ريحتك.

حرك جفنيه وأفرج عن قدحي قهوته الممتلئة بالرغبة وراح يحدق في شفتيها القريبة وصدرها الذي يعلو ويهبط فوق صدره بعنف محتكا به لترفع رأسها وتقبله دون أن تبخل عليه، فهي تعرف أنهُ منتشي ورغبته من تتحكم به الآن بعد أن أشعلتها، مدت يدها إلى جيب بنطاله تخرج مفتاح المنزل منهُ، فبحثت بأناملها حتى رفعته بين يدها وفصلت القُبلة واستدارت تفتح الباب بسرعة بأعصاب تالفة بعد فشلها مرات عديدة وهي تمسك بكفه معها بإصرار فتح الباب، ليفتح معه عقله المغيب ويعود لرشده وهو يري نفسه كيف ينساق خلفها بغزي.

توقفت عِندما لم يتحرك واستدارت تسأله بتعجب بنبرة سريعة لاهثة: إيه يا قُصيّ مش هتدخل؟
حرر كفه منها وترك يدها تتهدل بجانبها وقال بهدوء وهو ينظف حلقة محمحما: هحصلك لسه ورايا كام حاجة..
عادت أمامه و سألته بتودد وهي تمرر يدها فوق صدره المضطرب: وهو ده وقته يا قُصيّ بس! مالك في ايه؟
أنزل يدها ببعض الحدّة وهو يكبح رغبته بصعوبة متحدثا من بين أسنانه بنبرة محتدة: جـنّـة أدخلي ريحي نفسك وبعدين نتكلم..

ارتمت داخل أحضانه وهتفت بألم وهي تنظر إليه بعذاب وعبارتها تلمع داخل مقلتيها: أنت ليه بتعمل فيا كده؟ إنت عارف اني بحبك و وحشتني كل ده مش فارق معاك؟ بتعذبني بيك ليه؟ ليه؟ مش كفاية بُعد عني بقى! مش كفاية؟ نفسي أنام في حضنك كل يوم وأبقى مطمنه زي زمان فاكر يا قُصيّ؟
هتف بدون تعبير وهو ينزل يدها من فوق صدره وعيناه مرتكزتان على عيناها التي تخبأ الكثير عنه خلفها: زمان يا جـنّـة زمان، اتفضلي ادخلي..

ظلت متجمدة محلها وباءت جميع محاولاتها معهُ بالفشل، لقد سئمت هذا وتُريد حل، استفاقت على نفسها عِندما تحركت بخفه إثر سحبها معهُ دون أن تنبس ببنت شفة، تركها خلف الباب وأخذ المفتاح وأغلق الباب خلفه بعد أن ألقي عليه نظرة أخيرة فكانت تبكِ.

هزَّت رأسها بوعيد وهي تأسف لإهانه أنوثتها، شاعرة بالحسرة وقلبها يحترق لترفع هاتفها وضغطت على رقم والدها بأنامل مرتجفة وحدثته بانهيار وهي تذرع بهو المنزل ذهابًا وجيئة باكية: ألو، أيوه يا بابا، أنت لازم تيجي وتشوفلي حل أنا مش قادرة أستحمل خلاص، مستنياك..

أرخى قُصيّ رأسه فوق مقعد السيارة وشرد بملامح مقتضبة، لاعنا نفسه بسبب ما حدث وبسبب رغبته التي توقعه بالمشاكل، يصغي جيدًا إلى صوت حنان التي تتحدث معهُ في الهاتف عبر مكبر الصوت: متقلقش يا قُصيّ حبيب مش هيخطر ليه أني ممكن أكون هناك مش هيلاقيني، صدقني هو محتاج يتعالج ده مريض.

هتف بـ هم وهو يمسد جبينه بقوة: ميهمنيش مريض ولا مش مريض، كل اللي شاغل بالي دلوقتي هعمل ايه بعد ما طلعت حامل، ده أنا كُنت هطلقها دلوقتي هستني تمن شهور تاني لسه؟
أتاه صوت تنهيدتها الطويلة الحزينة قبل أن تقول: أنت عارف أن جـنّـة ضحية حقد أبوها يا قُصيّ.

قهقهة بخفة لتتحول قهقاته إلى ضحكات ساخرة لأقصي حد ووافقها بقوله: أه ضحية جداً، صمت قليلا يفكر واستطرد بتعجب: طب ما أنا ضحية وعشق ضحية كُلنا ضحايا نقطع في بعض بقي؟
زفر وغمغم باستياء ضاربا المقود بحدّة واستطرد: مش مهم، كده كده هبدأ في إجراءات السفر لـ ريمة وغرام..
سألت مستفسرة: هتسفرهم تاني لوحدهم؟

همهم بإيجاب وهتف معدلا قولها وعيناه تجول في المكان: مش لوحدهم هسـ، توقف عن الحديث عِندما أبصر عمه حبيب يدخل إلى المنزل ليتأفف بغضب مغمغما بقرف: ناقصة أهلك هي؟
ــ في إيه يا قُصيّ؟
سألت مستفهمة ليرد بهدوء قبل أن يغلق الهاتف: ده جوزك هشوف جي ليه وابقي اكلمك تاني مع السلامة.
أغلق معها سريعا وكاد يترجل من السيارة لكن الهاتف صدح برقم الرجل الذي يبحث في أمر السيارة.

أجاب سريعا: ألو، أيوه، تمام تمام، ابعتلي العنوان، اتسعت ابتسامته وهو يستمع إلى عنوانها بسرور وقلبه هذا اللعين الذي لا يفهم لهُ شيء يتقافز داخله بسعادة.

أغلق الباب واتجه إلى داخل المنزل بتردد لأنه لا يُريد أن يراه لكن استسلم إلى فضوله القاتل كي يعرف سبب الزيارة التعيسة وولج، كان الهدوء يعم المكان وهما يجلسان يتسامران في غرفة الجلوس بكل هدوء دون أي مشكلات، تنهد ووقف يراقبهما قليلا بتدقيقٍ وشك وهو يضع يديه داخل جيب بنطاله لبعض الوقت حتى ملّ.
تحرك للصعود إلى غرفته لكن أخترق أذنه صوت صرختها القوية و ارتطام جسدها في الأرض بقوة.

قبض حبيب على شعرها بقوة كاد يقتلعه وهو يوقفها معهُ هادرا بتهديد: تلغي إيه يا بنت الـ(، )؟! ده أنا أدبحك وأقطعك وأرميكِ للكلاب!
نظر إليهما قُصيّ بعدم استيعاب لمَ يحدث، ليلطم حبيب وجهها مرة أخرى بقسوة، وكور.

قبضته وسددها إلى معدتها بضراوة، اتسعت عينا قُصيّ بهلع وهرع إليها وقلبه يخفق بذعر فلم تصل قبضته إليها بفضل قُصيّ الذي أمسكها بقوة ودفعه بعيدًا جعله يترنح إلى الخلف وأحاط جـنّـة حاميا إياها من براثنه كـ عاشقٌ ولِهٌ صارخا فيه بقوة: في إيه؟ بتضربها ليه؟ دي مراتي ملكش حق تضربها؟

تجهمت ملامح حبيب وكاد يرد لكن جـنّـة سارعت بالقول وهي تشهق باختناق متشبثة في قميصه بقوة جعلته يلتفت مشفقا عليها بحزن: كـ، كـ، ل ده عشـ، عشان قُلت له مش عايزة أكمل الخطة وأنتقم..
نظر إليه قُصيّ بكره وهدر بنبرة جهورية غاضبة وهو يلوح بيده كـ أحد الهمج: اه مش هتكمل، وملكش دعوه بيها، ومتجيش هنا تاني واتفضل إطلع بره بقي..
هدر بعصبية جنونية مفرطة ووجه يحمر غضبا: بتطردني من بيت أخويا بتطردني؟

ردّ عليه بسخريةٍ وحزم: أولا ده مش بيت أخوك، ثانيا لو أخوك كان عايش مكنش دخلك بيته، إتفضل بره قبل ما انسي انك عمي..
ليهدر بعصبيةٍ سائلا جـنّـة: أنتِ تختاري دلوقتي يا أنا يا هو؟
انكمشت على نفسها واختبأت خلف ظهر قُصيّ دون أن تظهر وجهها لوالدها ليعرف الإجابة، لقد تخلت عنه ببساطة، احتواها قُصيّ بيده ولوح بيده الأخرى إلى عمه مشيرا على مكان الباب هاتفًا بانتصارٍ أحمق: اتفضل بره..

نظر إليهما حبيب بحقد وهو يشد على نواجذه بنظراتٍ متوعدة وتحرك إلى الخارج، لترتمي جـنّـة في أحضان قُصيّ باحثة عن أمانها ودفئها المفتقد تبكِ بعويل، ليضمها إليه بقوة مربتا على ظهرها بحنان كي تهدأ.

توقف حبيب أمام الباب وحانت منهُ إلتفاته، ليبتسم بخبث وهو يراه يحتضنها بهذا الشكل الحميمي، فغمزها بتواطئ لنجاح خطته، فترد إليه غمزته بتواطئ مماثل مع قبلة هوائية طائرة صامته وهي تبتسم بجانبية، تبدلت ملامحها وأسقطت وجه السعادة بأخر حزين وتابعت بكائها الهستيري وفصلت العناق هامسة برعب ومقلتيها تتسع بانفعالٍ جلي كمن فقد عقله وهي تتشبث في قميصه بقوة: خُفت اوي يعمل للبيبي حاجة متخليهوش ياخذني يا قُصيّ هيموتني أنا خايفة أوي، خايفة..

لثَّم جبينها بحنان يبث داخلها دفئه كي تهدأ ثم حملها كـ عروس وذهب بها إلى الأعلى كي ترتاح قليلا يكفي إجهاد وتعب وانفعال عليها لليوم.
أسفل البناية التي تقطن بها عشق..
سألها وليد الهدوء وهو يناولها زجاجة المياه عِندما طالت نوبه بكائها: ممكن تشربي وتهدي، أنتِ بخير وكويسة وربنا سترها معاكِ قولي الحمد الله.

هزَّت رأسها بإيجاب، داعمة قوله كل الدعم وهي تجفف عبراتها ومازالت تنهنه هامسة بنبرة مرتعشة تدمي القلب: الـ، الحمد، الله..
تنهد وليد وقال برفق: اطلعي ارتاحي ونتكلم بكره تكوني هديتي أنا هكون في العيادة من بدري لو حبيبتي تيجي..
أومأت بتفهم وترجلت من السيارة بترنح ليسألها باهتمامٍ: محتاجة مساعدة ولا هتعرفي تطلعي لوحدك؟

اماءت وهي تلتفت إليه راسمة ابتسامة هادئة فوق شفتيها وتابعت سيرها ودلفت من وبوابة البناية الرئيسية حتى وصلت إلى المصعد واختفت عن وقع أنظاره.
إضجع على مقعده وشرد في قصتها الغريبة، ليهز رأسهُ بحيرة وهو يفكر في قُصيّ؟ هذا غريب!
أدار محرك السيارة وهو يزفر بعجز وقام بإدارة السيارة وذهب إلى عيادته المقابلة التي يفصل بينها وبينه الطريق فقط..

فتحت عشق شقتها وهي تكتم أنينها وولجت وأغلقت الباب خلفها، فسقطت محلها أرضًا وأخذت تبكِ بعويل وهي ترفع ركبتيها إلى صدرها، تحتضن ذراعيها بخوفٍ حقيقي وعينان زائغة تتحرك في أرجاء الشقة باضطراب متوجسة، منكمشة على نفسها كأن أحدهم سيخرج إليها من أحد الغرف فجأة، فما يحدث إليها لا تستطيع تحمله، لا تعرف ما الخطب معها هي ليست جميلة بذلك القدر كي تعاني بهذا الشكل، سامي يرغبها، وجاسم يحبها وقُصيّ حصل عليها بالفعل، والآن وقعت مع ذلك الديوث عديم الرجولة، وهي فقط كل ذنبها أنها أحبت بصدق وتمنت لو تكون زوجته أمام الجميع لكنها منبوذة.

وصلت ريمة إلى المنزل في وقتٍ قياسي..
ترجلت من السيارة وحملت غرام ودخلت بهدوء دون علم بأن قُصيّ قد عاد في الوقت الذي كان قُصيّ يُجدد حمامه في المرحاض، وجـنّـة تجلس في الخارج فوق الفراش تعبث في هاتفها بابتسامة اختفت عِندما رأت هاتف قُصيّ يومض..

نظرت تجاه الباب بتركيز وهي تضيق عيناها تستمع إلى صوت انصباب المياه في الداخل لتشعر بالأمان وتبسمت براحة وحملت الهاتف بتريث وعبثت به كيفما تشاء، فأجمل ما تحبه في قُصيّ أنهُ لا يغلق الهاتف بأي رموز سرية، ماتت إبتسامتها فوق شفتيها عِندما قابلتها صوره عشق الباسمة، عضت على شفتيها بعنف وبدأت في التهامها بعصبية وهي تقبض فوق الهاتف بقوة ونظراتها تزداد حقدًا وكرهًا وسبابتها تفقأ عينانِ عشق من فوق شاشته، انتفخت أوداجها وارتفع ضغط دمها وأحمر وجهها وصدرها أخذ ينقبض وينبسط بعنف من فرط العصبية، فقذفت الهاتف من يدها وعضت على سبابتها بتوتر وانفعال وعقلها بدأ في خوض رحلته الطويلة من الأفكار السامة التي تملكها..

ابتلعت ريقها وتشجعت وقست على نفسها وقلبها كما تعلمت من والدها، حملت الهاتف من جديد وحدقت في صوره عشق وهي تبتسم بزهو وتحدي كأنها تقف أمامها كي لا تتأثر بها، ارتجفت ذقنها وحركت أهدابها بسرعة ورفعت رأسها للسقف كي لا تسقط عبراتها لكنها لم تصمد وتساقطت بمهانه، تجولت بين الصور لتزادات بكاءا فوق بكائها وهي تكتم شهقاتها بكفها بألم..

توقفت عن البُكاء وجحظت عيناها عِندما رأت نتيجة فحوصاته أمامها، قرأتهم جميعا وبدأت ملامحها تتبدل للذعر والقلق عليه مما تقرأه وبعض الاسئلة كـ كيف حاله، وكيف أصبح، وهل تم علاجة، كانت تساورها، قامت بإرسال جميع الصور إليها خلسة ومسحت محتوى الرسائل بعد هذا.

أغلقت الهاتف وقذفته سريعًا عِندما سمعت صوت إغلاق الباب، تصنعت محاولاتها للنوم وأخذت تتقلب بعدم راحة ليسأل قُصيّ باستفهام وهو ينظر إليها: مش عارفة تنامي؟
انتصبت جالسة ومسحت وجهها بسرعة وحركت شفتيها للرد لكن تم مداهمة الغرفة بلطف وعلا صوتها الطفولي المحبب إلى قلبه وهي تركض تجاه جـنّـة: مامي، مامي، مامي..

تبسمت جـنّـة وفتحت ذراعيها على مصراعيه تستقبلها بحفاوة لتقفز عليها غرام وتعانقها بقوة وهي تضحك، قبلتها بحنان وهي تضمها بقوة هامسة بدفء: حبيبة مامي، وحشتيني الحبه دول..
أراحت غرام رأسها على صدرها وهي تلف يديها حول رقبتها تحدق في أرجاء الغرفة رامشة بلطف وهي تزم شفتيها لتشهق بتفاجئ، ثم صرخت بحماس وهي تقفز على قُصيّ: بابي..

تعلقت في رقبته بسعادة ليقهقة بحنان وهو يدور بها في أرجاء الغرفة مغرقًا وجهها بوابلا من القبلات الحانية التي لا نهاية لها، راقبتهم جـنّـة بحنو لتتقدم ريمة وتنتضم إلى هذا العناق الحميم ليقبل رأسها وتكتمل عائلتهم الصغيرة الدافئة الخالية من جـنّـة، وهذا ما كانت جـنّـة تفكر به بعمق.
أنزل غرام برفق وهمس بحنان وهو يلامس وجنتها الناعمة: خليكِ مع مامي شويه عشان عايز عمتو ها؟

أومأت بطاعة وجلست بأحضان جـنّـة ليحوط هو خصر ريمة ويأخذها معهُ إلى الخارج تحت أنظار جـنّـة المشككة التي تعلم أن هُناك خطبا ما به، هي قلقة عليه فقط، لاتشك أنهُ قد يتركها أو شيء من هذا القبيل.

ألمتها رأسها من كثرة التفكير في إيجاد حلًا لنفسها ومعرفة ما سيحل بها لتحسم أمرها وتركت الشرفة وخرجت قاصدة والدها كي تتحدث معهُ..
ابتسم والدها ببشاشة في وجهها عندما توقفت أمامه، فربت بكفه فوق الأريكة يحثها على الجلوس والتسامر معهُ كـ أب وإبنته مثل سابقا.

جلست تالين جواره وبدأت في التحدث مباشرةً بجدية ووضوح أنها لن تتراجع عما قررته: بابا إحنا لازم نمشي من هنا، آدم مش ملزوم بينا ولا بمصاريفنا ومش من حقه يتكفل بينا، ولا من حقنا نوافق على كده؟ هنرجع شقتنا وهشوف شغل مؤقتا وكُل حاجة هتتحل..

تبدلت ملامحه للحزن وشعر بالانكسار لكونه والدها وهي من تعيل عائلتها بدلا عنهُ، فهتف بأسي وهو يمسك يدها بين يديه: أنتِ عندك حق يابنتي وعارف إننا تقلنا عليكِ من ساعة ما إتجوزتي، بس أنتِ عارفة الظروف وصحتي بقِت على قدي دلوقتي، وباخد علاج كتير، انا نفسي أشتغل وأروح وأجي زي زمان بس خايف تعبي يزيد، وعلاجي يكتر وأطلب منك أكتر من اللي بتدهوني كُل شهر.

مالت وقبلت يديه بالتناوب بإبتسامة ممتنه وهتفت بأعين دامعة: إنت تعبت علينا وشقيت طول عمرك، حياتنا كانت دايما صعبة، هنقدر نستحمل زي ما كُنا بنستحمل زمان صدقني.
هو موافق، بالطبع موافق لكن الثانوية العامة الخاصة بشقيقتها التي تعود إلى المنزل متأخرة كل يوم بسبب دروسها مُكلفة..

وكأنها قرأت أفكاره عبر تعابيره المشوشة لتطمئنه برفق: متقلق على حياة، أنا هبيع الشبكة بتاعتى، كبيرة و تمشينا كام شهر لحد ما ألاقي شُغل كويس، وسقف البيت هنصلحه أول ما نرجع وهنعيش زي زمان..
سألها باستفهام: وفين شبكتك دي يا بنتي؟
تركت يده ورفعت جسدها لتجلس باستقامة عاقدة كلا حاجبيها بتفكير، لقد نسيت هذا الأمر، إنها تفكر في شيءٍ لا تملكه لأنها تركت كل شيء خلفها في المنزل، كيف ستأتي بها؟

فكرت كثيرا حتى توصلت لحلٍ كان يغيب عن عقلها لأنها غبية، تنهدت وهتفت بهدوء شاعرة ببعض الراحة لأنها ضمنت أن ذهبها سيكون بين قبضتها: مش معايا، هتصل بـ آدم يا بابا وهيجيبها، أنا عارفاه.

أغلق آدم الهاتف متعجبًا من هذا الطلب الغريب الذي طلبته ومن نبرتها الأغرب دون أن تطيل معهُ في الحديث، فقط اكتفت بأبسط الكلمات لا أكثر، بل شعر أنها انتقت كلمات معينة قصيرة أيضًا: آدم الشبكة بتاعتي فى أوضة نومي ممكن تجيبها؟

ووافق وأنهت المكالمة دون أن تسأله عن حالة، أو ماذا كان يفعل طوال الشهر المنصرم دون أن يمر عليهم مرة واحدة، لمَ لأنها لا تهتم وهو لا يفهم ويكابر مُصمما على هذا الحب الأعمى، الذي لن ينال منهُ سوى الخراب.
أخذ حاجياته وترك العمل وذهب إلى المنزل كي يأتي لها بما أرادت، يكفي أن تأمره فقط وينطلق هو ويفعل لها ما تريد وتتمنى..

توقف في منتصف الطريق بسبب الزحام المروري المُمل، المسبب الأول للضجر، فتح النافذة عِندما شعر بالضيق، لتداعبه نسمات الهواء الرطبة لتشعره بقليلٍ من راحة النفس وتخفيف التوتر الذي يقلص معدته.

تنهد ونظر من النافذة الأخرى ليبصر رجلًا هذيل بعض الشيء غزى الشيب رأسه يجلس يبيع الذرة، إبتسم باتساع وأخذته ذكرياته إلى تلك الأيام في منزل عمّار، راقبه بتسلية بملامح خالية من الهموم وهو يلوح بـ قطعة كرتونية قوية فوق الذرة..
تحمس آدم وصف سيارته وترجل وذهب إليه بابتسامة، جلس القرفصاء أمامه وطلب بهدوء: ممكن واحد؟

أومأ الرجل دون أن ينظر إليه منغمسا بما يفعل، وأخذ يقلب الذُرة المصفوفة أمامه فوق الفحم المشتعل، ليمسك آدم يده فجأة جعله يرفع نظره إليه متعجباً تصرفة!
تحمحم آدم وطلب منهُ برغبةٍ شديدة لفعل هذا: ينفع انا أشوى لنفسي؟ أشوي أنا؟

لم يرد عليه الرجل وهزّ رأسهُ بيأس دون أي إهتمام ظنا أنه أحد المتنمرين وسوف يهينه مجرد ما أن يوافق، لكن إمساك آدم ليده مجددا وقوله برفق جعله يتردد في الحكم عليه: انا عايز أشوي بتاعي بجد، ريح دراعك شويه تسمحلي؟!.

تردد قليلا قبل أن يتركها إليه ليأخذها منهُ بسرور وجلس بجانبه فوق الأتربه دون إهتمام وربع قدميه وبدأ يحركها باستمتاع كـ طفل شغوف إنه يُحب فعل هذا، تطلع إليه الرجل بتعجب بسبب تصرفاته الغريبة لكنهُ صمت وتابعه. بل ورحب به أكثر عِندما كثُرت الزبائن وخصوصًا الفتيات منهم.
هتف بتعجب وهو ينظر إلى كم الفتيات الملتفة حولهما بطريقةٍ مُلفتة: أنت وِشك حلو عليا..
قهقهة آدم وهتف بغرور: وشي حلو فعلاً..

شوي الكثير حتى اسودت يداه، ليسمع الصوت الذي لم يتوقعه يرغب في الشراء: عايزة واحد لو سمحت..
عقد آدم حاجبيه مكذبا نفسه ورفع رأسهُ ليتضح وجهه المتعرق قليلا إليها وتحوله للأحمر بسبب الحرارة، وشعره الناعم المبعثر بإهمال.
تفاجأت وهتف الأثنين معًا بتعجب: آدم، لمار؟
ابتسمت بعدم تصديق وتنحنحت وسألته باستفهام وهي تجلس القرفصاء أمامه: إنت بتعمل ايه هنا؟

ردّ بهدوء وثقة كأنه يجلس في سيارته المكيفة وهو يلوح أمام وجهه من الحرارة: زي ما أنتِ شايفة، أنتِ ايه اللي جابك هنا؟
أجابت بهدوء وهي تجلس جواره كـ متسولة جعلته يضحك بخفة: كُنت بتمشي لقيت لمه قُلت اشوف في ايه لقيت دُرة وانا بحبها بس، أومأ بتفهم وتابع ما يفعل ويحاول كبح نفسه كي يقف ويذهب لأنه يتسلي بشكلٍ لا يوصف، قطعت وصلة إستمتاعه عِندما مدت يدها إلى قطعة الكرتون وهتفت بطفولية: ما تجيب أهوي شويه؟!

أبعد يدها وحدجها بدون تعبير مغمغما بامتعاض: لأ، وخلاص اصلا انا ماشي هخلص دي وهمشي..
هبّت واقفة تنظف بنطالها المتسع ليتهدل شعرها الطويل أمامها وهي تنحني فكاد يلامس الفحم ويحترق لكن آدم أمسك أطرافه وأبعده سريعا و وبخها بانفعال: أنتِ مستغنيه عن شعرك ولا إيه؟

وقفت باستقامة وهي تطرف بتعجب ثم جمعته والقته خلف ظهرها لينساب كالحرير، انتهي آدم ونظف يديه، وشكره ممتنًا للوقت الممتع الذي قضاه بفضله، ووقف وبدأ ينظف ملابسه هو الآخر وتحرك للذهاب لكن الرجل ناوله كوزين من الذرة بينما يقول بابتسامة: ده عشان تعبتك معايا و عشان الأمورة..

أخذهما آدم بابتسامة وشكره بلطف وقبل أن يعطي لمار وجدها تلقائيا تأخذ الخاص بها من يده وهي تضحك بسعادة ليسألها باستفهام ملامحظا بريق عيناها المميز: بتضحكِ عشان خدتي دُرة؟
نفت بهز رأسها وقالت بسرور: لأ عشان قلي أمورة..
إنها تافهة ياإلهي، ابتسم آدم برزانة وهزَّ رأسه وسار معها بهدوء خطوتين لا أكثر تتبعها سؤاله: أنتِ رايحة فين دلوقتي؟
هزَّت كتفيها وقالت بلامبالاة دون تخطيط: بتمشي وبعدين هروح، تتمشي معايا؟

نظر إليها عازما على الرفض لأنه ليس متفرغ، لكنه أيضًا لم يحبذ فكرة إحراجها فوافق مشترطا: همشي معاكِ لحد الدرة ماتخلص بس.
أومأت بابتسامة وسارت بجانبه بهدوء، تأكل وهي تفكر في كيفية فتح حوار معهُ ليريحها عندما سألها هو بفضول: شُفتي قُصيّ؟
أومأت وهي تمضغ ما بفمها مبتسمة باتساع وأضافت: أه، روحت شُفته واطمنت عليه.

أومأ بتفهم ورفع الذرة كي يقضم منها فوجدها تنتزعها منه هاتفة بصرامة لطيفة: مش هتاكل مش أنت هتخلصها وهتمشي مش هتخلصها بقى.
ابتسم ظنا انها تمزح وبسط كفه طالبا برفق: هاتي الدُرة عشان هتبرد ومش بحبها باردة.
رفضت وتقدمت عليه في السير، فهرول خلفها صائحا بازدراء: لمار مبهزرش هاتي الدُرة بتاعتي!

توقفت فجأة ليتوقف هو الآخر خلفها ناظرا إلى ظهرها لتستدير تنظر إليه بجدية هاتفه باستسلام: موافقة خُد، ورفعت ذراعها وتصنعت قذفها عليه ليتحرك باندفاع وهو يفرد ذراعيه بتوجس، لتركض وهي تضحك ساخرة..
زفر بحنق وعقد يديه أمام صدره بضيق دون أن يتحرك خطوة واحدة، ليضحك فجأة بتشفي عندما التوى كاحلها وسقطت..

هرول إليها خافيا ابتسامته السعيدة وساعدها بالوقوف ممسكا ذراعيها ليجدها تبكِ بصمت، فقام بسؤالها بقلق وشفقة: لمار إنت كويسة؟
شقهت بحرقة وصاحت وهي تحدق في الذرة الساقطة بحسرة: الدُرة اتوسخت..
أخذ وقتا حتي إستوعب قولها تلك الطفلة، ثم هزَّ رأسهُ وهتف بقلة حيلة: هجيبلك غيرها متضايقيش نفسك يلا..

سارت أقل من خطوة لتدوي صوت صرختها المتألمة وهي تقف ترتكز على قدم واحدة هامسة بألم وهي تبكِ كالأطفال: رجلي بتوجعني أوي، مش قادرة أمشي..
أشفق عليها وأحاط خصرها ومال قليلا كي يصل إلى فخذيها في محاولة فاشلة لحملها، لكنها كانت أثقل من اللازم عليه، ضغط على أسنانه بقوة محاولا حملها لكنهُ فشل فشل ذريع، انتصب واقفا يلهث وهو يبعد شعره إلى الخلف مبللا طرف شفتيه وهو يتخصر بتفكير.

سألها مستنكرا وزنها الثقيل بينما الظاهر إليه هو جسدها المتناسق: أنتِ كام كيلو؟
هتفت بنشيج: مش عارفة بس باكل كتير..
تنهد وأعاد المحاولة وهو يحثها على التمسك به: طب أمسكي رقبتي..

أحاطت رقبته بتردد وأنتظرت أن تتحرك قيد أنمله لكن عظم ظهره هو من تحرك وهو يحاول رفعها، احتقن وجهه ونفرت عروقه محاولا باستماته، ليرفعها بين يديه وماكاد يبتسم حتى جحظت عيناه وهي تنزلق منهُ وسقطا معًا، إنفجر ضاحكا وهو يفرد ذراعيه في الأرض متمتما وعيناه معلقة على النجوم: انا لازم اروح جيم لازم أروح الجيم.

توقفت عن البُكاء وتناست وقوعها وتأملت ضحكاته بابتسامة ناعمة حتى توقف ونظر إليها لتختفي ابتسامتها ظنًا أنه سيلقي عليها بعض الحجارة من فمه الذي لا يتفوه سوى بها، لكن خاب ظنها واتسعت ابتسامتها وهي تستمع إلى قوله: مش المفروض لما تعجبي بحد تعجبي بواحد هيقدر يشيلك على الأقل؟
ضحكت بنعومة وهتفت بخفوت شوب بخجل طفيف: ده مش ذنبك أنا تخينة أوي أوي، أنت بطل..

زادت ضحكاته الرجولية وهو يقف، مدركًا تماما أنها تجبر بخاطرة فهي شخصية نادرة.
هتف وهو ينحني يوقفها معه برفق: تعالي عربيتي قريبة من هنا هوصلك البيت، واسندي عليا بقي وأمرك الله..
أومأت وهي تترفق ذراعه، ترتكز عليه في خطواتها وهي تبتسم حتى وصلا للسيارة.

بعد نصف ساعة كان يقف أسفل بنايتها ينتظر أن تترجل بهدوء، نظرت إليه وحركت شفتيها للتحدث لكنهُ قاطعها بقوله بتسلية: عارف شقتك في الدور التالت الشقة اللي على اليمين.
هربت قهقهاتها الخافتة وهتفت بتعجب تبرأ نفسها: بس أنا كنت هقولك شكرا بس.
إبتسم ورد عليها بلطف دون فظاظة: الشكر الله ده واجبي، مع السلامة..

أدارت المقبض وهي تهز رأسها دون أن توقف ضحكها، فهو يطردها بلباقة وهي أرادت أن تسأله لمَ هو واجبه لكنها صمتت.
وصل إلى المنزل بعد بعض الوقت، دخل بهدوء دون أن يلاحظ وجوده أحد متجها مباشرةً صوب غرفه تالين كي يأخذ الذهب.
وجده بعد بحث طال في خزانة ملابسها حتى أمسك بالعلبه المختارة، أخذها دون تفكير دون أن يفتحها ويرى ما بداخلها وذهب..
ـ رايح فين بالعلبة دي؟
استوقفه أنكر الأصوات التي تلوث أذنيه.

توقف وأجاب بهدوء: حاجت تالين ورايحة لـ تالين.
ضحكت بسخرية وهتفت بتهكم: وهي فين تالين دي عشان تاخد حاجة؟ هي مش سابت البيت يبقي ملهاش حاجة ولا أي حاجة!
ردَّ متهكما هو يقلب عيناه: ودي حاجة متخصكيش أصلا! ولا خدت حاجة منك عشان تقولي ليها ولا ملهاش.
وقفت عن الأريكة وتقدمت منهُ قائلة بصوتٍ مرتفع متقصدة: وأنت مالك محموق عليها ليه؟ أنت لسه بتحبها؟

ارتفعت زاوية شفتيه بسخرية وهتف بمقتٍ شديد: ده على أساس أنك متعرفيش؟، بصي بقي يا شهيرة واسمعيني كويس..
رفعت كلا حاجبيها وهتفت بتعجب وهي تكتف يديها أمام صدرها: شهيرة مرة واحدة؟ طيب يا آدم بيه أتكلم سمعاك!

هتف بنزق بعد أن استشف السخرية في حديثها: السؤال الصح المفروض يكون هو إنت هتبطل تحبها إمتي؟ ويسعدني أني أقولك عمري ماهبطل أحبها سواء فضلت مع مصطفي أو إطلقت منهُ، وحتى لو اتجوزت بعده مش هكرهها هتفضل حُبي الوحيد سلام يا يا ماما.
قال قوله الأخير بسخرية قبل أن يغادر وكرهها وحقده عليها يتفاقم داخل قلبه..
ابتسمت بانتصار قائلة بهدوء وهي تحرك رأسها للجانب: سمعت وصدقت ولا لسه؟

خرج مصطفى من زاوية في الجانب كان يختبأ خلفها منذُ أن عاد آدم، أومأ بملامح مكفهرة وهو يجلس فوق الأريكة منهزما، فهو يُحب شقيقة وهذه خيانة لا تغتفر، هو فعل مثل هذا الشيء معهُ رُبما لكنهُ كان يعرف أن الوضع لن يستمر ولن يتزوج سالي، حتى إن كان هو حقيرًا ويعترف أنه حقير لكن، لمَ شقيقة أيضًا
حقيرًا بهذا الشكل؟

ظل نصف ساعة جالسا ووالدته تشحنه بالأقوال بقصد وبدون قصد، لم تخوض حديث دون أن تأتي بسيرة آدم حتى فاض به.
أخرج هاتفه بعصبية وهاتف آدم وهو يهز قدميه بتوتر كان قد وصل إلى تالين في هذا الوقت: ألو، آدم عايز أشوفك، تمام هقابلك هناك..
أغلق آدم الهاتف متعجبًا ثم نظر إلى تالين التي أرادت أن تتحدث معهُ على إنفراد باهتمام.

تحدثت شاكرة بامتنان: شكرا ليك يا آدم، بجد انا لو فضلت طول عمري أشكرك مش هوافيك حقك، أنت ساعدتني كتير و عمري ما هنسي، بس لحد هنا كفاية يا آدم، إحنا هنرجع بيتنا ونقدر ترجع شقتك تاني وتعيش براحتك.
لم يبدي أي رد فعل، ولم يأتها ردًا منهُ كذلك كان جامدًا لتسأله باستفهام: مش بترد عليا ليه يا آدم؟

تنهد بتعبٍ وقال بقلة حيلة وابتسامة حزينة ترتسم فوق شفتيه: معنديش حاجة أقولها، براحتك مش هسألك بتعملي ايه أو ليه تاني حياتك وأنتِ حُره فيها.
هزت رأسها بتفهم وتابعت: لو شُفت مصطفى تبقي قوله اني حامل، من حقه يعرف حتى لو مش هيقبله في حياته..

وافق بإيماءة من رأسهُ وغادر بهدوء كـ هدوء حضوره، فهو يشعر بتأنيب الضمير، يحمل نفسه مسؤولية تخريب حياتها، هو السبب، هو المخطئ من البداية لأنه إعترف بحبه وتخطي حدوده معها، هو السبب بكل شيء، أي ضرر سوف يصيبها سيكون المسؤول عنه لأنه من أفسد حياتها.
صرخ مصطفي بعصبية وهو يقود السيارة بسرعة ضاربا المقود بقوة: أجيلك فين دلوقتي ياسالي! بقولك رايح أقابل آدم لازم اقابله!

هددته بقولها بشراسة وتحدٍ مهددة: رُبع ساعة لو ملقتكش قُدامي هختفي ومش هتشوفني في حياتك تاني يا مصطفي فاهم ولا لأ؟ أخوك مش هيطير! أنا أهم منه؟!
لعن من بين أسنانه بغضب ثم انعطف فجأة بالسيارة وغيّر وجهته لأجل عيون سالي التي سيموت من دونها إن أختفت.

وصل بعد بعض الوقت والغضب يتأجج داخل صدره بسبب الأمر الواقع الذي تضعه أمامه دوما، حمل حقيبة عملة من فوق المقعد الخلفي بحدّة لأنهُ يضع بداخلها كل ما تحتاج إليه سالي..

صفق باب المنزل خلفه بعنف، لتأتي سالي مهرولة من الداخل بهيئة تخطف الأنفاس سلبت لُبه، رائعة كما إعتاد منها دوما، قذف الحقيبة من يده أرضا بعنف صارخا في وجهها بعصبية مفرطة: اهي الأوراق اللي هتموتى عليها، ورق الأسهم اللي بإسمك و ورقة الجواز كمان خلاص ارتاحتي؟
تمنت لو تركض على الحقيبة وتتفحصها وتطمئن قلبها وتظفر بالنصر لكن رضاه أهم، والنصر لم تحصل عليه بعد، فكلما رضي عنها كُلما أعطاها أكثر..

تقدمت منهُ تسير بغنج ودلال فطري، ترسم ابتسامة ناعمة فوق شفتيها والعبث يشع في عيناها، ألقت بنفسها عليه تعانقه بحميمية وهي تقبل أنحاء وجهه بنعومة شتته عن ما يزعجه ويثقله، حرك يده كي يبعدها عنهُ قبل أن ينسي نفسه لأن لديه مقابلة. لكنها منعته و أمسكت بكفة ولفته حول خصرها هامسة بدلال: متبعدنيش، هنسيك كل اللي تاعبك وشاغل بالك، وهذا ما حدث وساقته إلى الفراش دون مجهود.

بعد وقت، أخذ شهيقًا طويلا من سيجارته ونفثه أمامه وظل يحدق به بغموض لتهمس سالي وهي تريح رأسها فوق صدره العاري، ترسم رسمة وهمية بأناملها فوقه هامسة بحب: بس ده مش حل يا مصطفي؟
نظر إليها باهتمام لتستطرد بخبث: يعني لو حقيقي الكلام ده مينفعش تقابله وتسأله أنت بتحب مراتي و حامل منك ولا لأ؟ لأنه طبيعي هينكر الكلام ده يا بيبي وبعدين ده شرفك؟!

أطفأ السيجارة في المطفأة بانفعال ساحقا إياها سحقا أسفل ابهامه سائلا باستفهام وهو يستقيم جالسا: اومال اعمل ايه؟
همست بفحيح كـ أفعي وهي تعتليه بعبث: تقتله يا حبيبي تقتله..
زفر آدم بعصبيه وحمل هاتفه بحنق وترك المقهى وغادر فهو لن ينتظره حتى الصباح لقد ملّ..

ذهب إلى منزل عمّار، فتح الباب وولج يبحث عنهُ بأنظاره باهتمام حتى لمح باب غرفة مكتبه مفتوحة، اتجه إليها وهو يبتسم لتتحول إلى قهقهات مرتفعة عِندما وجده يمدد ساقيه فوق المكتب ويضجع على الكرسي بأريحية، خافيًا وجهه بوضع كتاب فوقه كي يبعد الضوء عنهُ.
رفعه آدم من فوق وجهه يقرأ العنوان ليقهقة بخفة هامسا وهو ينظر إليه: بقيت رومانسي يا عمّار بركاتك يا ست ليلى..

أغلقه ووضعه فوق المكتب ليلفت نظره الدفتر ذا اللون الأخضر، فمد يده بهدوء كي يفحصه ليجد كف عمار يسقط فوق ظهر يده كـ حجر مدبب لكنه لم يؤلمه بقدر فزعه..
صاح بخضة و استياء وهو يلتقط أنفاسه: يخربيت كده ما أنت كُنت نايم؟
هتف بتهكم وهو يفتح عينيه بصعوبة بسبب الضوء المتسلط فوقه: الكشكول ده قدك مستوعب؟ إزاي تحط إيدك عليه؟ ده مقدس بالنسبالي شيل إيدك..

صاح بحنق وهو يقذفه بالأقلام الخاصة التي تفترش المكتب: شيل المرزبة اللي على إيدي الأول وأنا أشيل إيدي!
رفع عمّار يده وحمل الدفتر ووضعه داخل أحد الأدراج بحرص واهتمام شديد كأنهُ يعامل مولود حديث الولادة ثم أغلق الدرج ورفع رأسه لآدم الذي يراقبه بخبثٍ لم يخفي لمعه الحزن داخل عيناه ولا الإنكسار البادي عليه.
كاد يسأله عن ماهية هذا الدفتر لكن عمّار سبقه بالسؤال: مالك؟ حصل حاجة؟

ابتلع آدم غصته وتبدلت ملامحه، فكانت أسوأ ممن تعرض للخيانة، بل أسوأ ممن قُتل له قتيلا، أغرورقت عيناه بالدموع من فرط القهر وجلس على الكرسي بل ألقي جسده فوقه بانهزام لأنه منهزم حرفيا ومنهك، فرك عينيه بأنامله كي لا تتساقط عبراته حتى احمرت وتحول بياضها لدماء..

انتظر عمّار أن يتحدث ويخبره خطبه وهو يراقب انفعالاته بقلق وحزن، فهو يظل يكتم في نفسه ولا يعرف نهاية ذلك الكتمان ماذا ستكون، لن تكون جيدة بتاتًا سيأتي معهُ طوفان.
همس بنبرة مرتعشة وهو يقف بعد أن قرر الكتمان: أنا، أنا، هنام، وبجد اتمنى لو مصحاش الصبح، وتلا قوله خروجه من الغرفة وصعد كي يغفي.

زفر عمّار وقذف كل ما وجده أمامه بغضب ضاربا المكتب بقوة، إنه الحب من فعل به هذا، كان متفائل والبسمة لا تفارق وجهه قبل أن تدخل تلك اللعنة حياته، اللعنة على جنس حواء أجمع إنهم لعنة تسير في الأرض.
إن أحبوك ستجد الجـنّـة متجسدة أمامك وكلها ملكك، وإن كرهوك سيتم نبذك حتى من نفسك، إنهم لعنة.

صباح اليوم التالي..
في الثانية عشر ظهراً..
صاحت عشق باحتجاج وهي تسير خلف وليد الغضبان في الشارع في طريقة إلى المطعم: يا وليد مش هينفع كده! مش هنستفاد حاجة من ضربة خالص والله الحقير هيفضل حقير ربنا يسهله!
توقف عن السير فجأة فاصطدمت بظهره العريض وارتدت إلى الخلف، وقفت باتزان متنحنحه ثم قالت بوتيرة منخفضة وهي تسبل جفنيها عِندما رأت نظرته الخطيرة إليها: مش عايزاك تتأذى بسببى ويطلع عليك سمعة.

تنهد بعصبيه وصاح بغلظة وانفعال: أولا أنا مش بعمل كده عشانك بس، لأ عشان في بنات غيرك كتير وقعت في الفخ ولسه في كتير بنات هتقع بسببك لو سكتنا!، مينفعش نسكت على حاجة زي دي أبدا أبدا يعني!
أومأت ليعود للسير مجددا وهي خلفه بانصياع، ولج إلى المطعم ومنهُ إلى غرفة المدير مباشرتًا دون أن يسأل أو يستأذن، فكانت عشق تدله على الطريق.

فتح الباب بعنف ليتوقف ذاهلا أمام الباب دون أن يتقدم خطوة جعل عشق تتعجب موقفه، تسللت عشق من خلفه لتشهق بخضة وفزع سرعان ما تحول ابتسامة متشفية عِندما فهمت ما حدث معهُ..

فكان مديرها ساقطا والدماء تسيل من كُل إنش في وجهه، ملابسهُ ممزقة بشكلٍ مُغزي، مسطحًا غير قادر على الوقوف أو السير أو حتى الحديث، فلم تعد تتبين ملامحه من الكدمات والدماء، نظر وليد إلى خط الدماء الذي في الغرفة ليستنتج زحفه من خلف المكتب حتى منتصف الغرفة كي يُلفت النظر.

نظر إليها ذلك الشوقي ذات الوجه المدمي والشعر اللزج الملتصق فوق بعضه من الدماء، بأنفاسٍ ثقيلة وجفنيه يرتجفان بخوف مكملا زحفه كـ دودة وهو يدفع نفسه بنفسه حتى وصل لقدميها، فخنع وأمال رأسه وقبّل حذائها الرياضي بشفتيه المشققة لتبتعد إلى الخلف خطوتين بتعجب.

ليبدأ في البكاء والعويل أسوأ من النساء غير قادرا تحمل تلك الآلام المبرحة: سـ، سا، سامحيني، أرجوكِ سامحيني، أنا آسف، والله آسف، أرجوكِ سيبي دليل يثبت أنك سامحتيني، هيرجعولى تانى بليل وكُل يوم، أبوس رجلك سامحيني عشان يبعدوا عني، مش هعمل كده تاني تُبت والله تُبت سامحيني..

هزَّت رأسها تحاول استيعاب كلماته التي عجز عن إظهار بعضها. ، توقف عن الحديث وترك رأسهُ تسقط على الأرض بضعف لعجزه عن رفعها أكثر من هذا وهو يشهق كالأطفال بقوة، تطلعت إليه بنظراتٍ شمولية ولا تعرف أتفرح وتتشفي أم تطلب الإسعاف قبل أن يموت من كثرة النزيف، لكنها حسمت أمرها وستفرح، سوف تفرح دون أن تتشفي فقُصيّ من فعل هذا من أجلها كيف لن تفرح، إنه يُصبح شخصًا آخر عِندما يرغب في أذية أحدهم، تنتزع الإنسانية من قلبه رغم رقته التي تعرفها جيّدًا، إنه يجعلها تُهيم به عشقا حتى الآن، هي لا تعرف ما هذا الغباء الذي تملكة.

لكن الجميع يملك كرات دمٍ بيضاء وحمراء عداها هي، هي تملك بيضاء وحمراء و قُصيّ، فقُصيّ يشكل نوعا ثالث من كرات الدم لديها نوعا ثالث تحتاج إليه كي تستقيم حياتها وتحيا دون سقم.

ابتسمت باتساع وقلبها يخفق بضرباتٍ رقيقة تتمنى عناقة الآن، كان هذا تحت أنظار وليد الواجمة، فهي لا تتقدم خطوة واحدة معهُ، يضيع كل مجهوده معها كُلما ظهر حتى لو لثانية خاطفة، لا بل إن ذكر إسمه فقط تضطرب ولا تكون عشق التي تريد أن تنساة بل عاشقة تستغيث كي يعود إليها قصي، ينقصها فقط أن تكون واضحة وصريحة وتطلب منهُ أن يجد لها طريقة كي تعود إليه!
هتف بعصبية بسبب ابتسامتها البلهاء: هتمشي ولا هتديلة دليل..

خرجت من شرودها ورفعت رأسها هاتفه بتيه: ها؟، لالا همشي همشي، وتتبع قولها بخروجها من الغرفة بابتسامة.
ليصيح شوقي بذعر وهو يتلوى بخوف محاولا التحرك: لأ، لأ، استني، لأ..

زفر وليد وراقب حالته المثيرة للشفقة، إن كان شخصا آخر لأشفق عليه لكنهُ يستحق وحدث لهُ أكثر مما كان سيفعل هو. ، فاستدار على عقبيه وذهب بغضب جامح مشتعلا من ذلك القُصيّ اللعين ليستوقفه في الخارج سؤال رجل طويل القامة قوي البنية بعد أن توقف أمامه: إنت دكتور وليد..

أومأ بهدوء ليناوله الرجل ورقة مطوية ثم تركه وغادر، نظر إليه بتعجب عاقداً كلا حاجبيه بانزعاج شديد فهو لايحب هذا الغموض، فتح الورقة يقرأ ما بداخلها بجدية ليكتشف التفاهة المنقوشة: عليك واحد يا ليدو.

كورها بين قبضته بغضب جامح بسبب هذا المُستفز، هل يظن أنهُ خصمه و يستطيع منافسته عليها؟ هل يظن أنهُ يحبها حتى؟، يستطيع فضحه الآن و إخبارها أنه يملك طفلة لكنه لن يتحامق لأنها لن تصدقه، سوف تلتمس له الأعذار وأكثر سيتريث فقط.
قذف الورقة في القمامة وخرج بخطواتٍ جحيمية ووجه مكفهر وهو يلعنه بعصبية، إن وجوده حوله بهذه الطريقة تستفزه اللعين ماذا يظن نفسهُ؟

عاد إلى عيادته ليجد عشق تجلس تمارس عملها الذي اتفقت عليه صباحًا، أخبرته أن تعمل معهُ لأنه يتم انهاكه ولا يستطيع التوفيق بين المرضى وترتيب المواعيد وهذا الطلب كان نجدته فوافق دون تفكير.

دلف وجلس بهدوء على المقعد مقابلها وظل شاردا يفكر، بينما عشق راحت تنظر إليه بترقب مُنتظرة حديثة لأنها تعرف أنها مخطئة لا تستطيع إخفاء ردود فعلها وهذا ما يجعلها سهلة القراءة دوما، خيم الصمت قليلا على المكان وعِندما رغب في الحديث تداخل صوتا ثالث ناعم من الخارج: مساء الخير..
استدار ينظر والتفتت عشق لتشهق صائحة بتفاجئ: ليلى! مش معقول؟!

وثبت ليلى إلى الداخل بابتسامة متفاجئة لتقف عشق وتتقدم منها بدورها، عانقتها ليلى بابتسامة سعيدة برؤيتها تمسد ظهرها برفق هاتفه بحنين: كُنتِ في بالي وكُنت عايزة أكلمك، عاملة ايه؟
فصلت عشق العناق ومسدت ذراعيها برقة وسارت بها إلى الأريكة الجلدية بينما تقول بابتسامة وهي تجلس: أنتِ أكتر والله يا ليلى، أنا كل الشهور اللي فاتت كانت صعبة عليا و انشغلت عن كُل حاجة.

ربتت ليلى على كتفها بحنان وهتفت مواسيه: كُلنا عندنا مشاكل بس الحمد الله بتعدي.
أومأت عشق وقالت متنهدة: الحمد الله.
أسند وليد ذقنه على راحة يده وتابع الحديث الذي يدور بينهم كـ الدخيل.
سألتها عشق مستفسرة: أنتِ محتاجة دكتور؟
هزَّت ليلى رأسها بنفي وقالت: لأ أنا كُنت بدور على شقة وشُفت إعلان الشقة اللي جنب دي بس ملقتش ارقام ولا أي حاجة لقيت عنوان بس فا حبيت أسأل لأني محتاجاها.

اندفع وليد وتدخل وسط الحديث أفزعها فهي لم تنتبه عليه جيدا: صاحب الشقة سايب معايا رقمه و المفتاح ممكن افرجك عليها.
رحبت بالفكرة بابتسامة قائلة بلطف وعيناها تجيل على العيادة: ياريت لأني هخليها عيادة فا لو تكون زي دي هتبقي حلوه اوي.
أخرج وليد المفتاح من درج المكتب بينما يقول: هي زيها فعلا ويمكن أوسع شويه وفيها بلكونة كبيرة على الشارع كمان، تعالى معايا.

ذهبت خلفه بحماس وهي تفكر بـ عمّار الذي أهملته وتركته يدور حول نفسه لأسبوع، لتلقي عليها نظرة عن قُرب وتنال اعجابها بعد تدقيق وتفحص جيّد.
سألت باستفهام: هي دي ممكن تجهز في خلال أسبوع؟

تفحصها وليد بتدقيق وقال بهدوء ليتردد صوته في الشقة: تخلص في أقل من أسبوع كمان، دي لسه متشطبة جديد وصاحبها سايبها غصب عنه كمان لأنه مسافر، هي بس ناقصها الفرش عشان تظهر أكتر، انا هتصل دلوقتي بصاحبها يجي و تتفقوا لو آه، وكل حاجة هتمشي كويس ومتقلقيش من السعر.
أومأت براحة وشكرته بامتنان: بجد متشكرة جداً.
ردّ ملاطفا ثم سألها: ده واجبي، أنتِ الدكتورة؟

هزَّت رأسها بنفي وقالت وابتسامة تلقائية ترتسم فوق شفتيها: لأ مش أنا ده دكتور عمّار الصعيدي.
أومأ بتفهم وعاد معها إلى العيادة وبدأ بالبحث عن رقم الهاتف لتستغل عشق انشغاله وتسألها باستفهام: عمّار عمّار اللي احنا نعرفه؟ الهمجي ده؟
أومأت ليلى وهتفت بتحذير وهي تشدد فوق حروف كلماتها كي تلفت نظرها بسبب قولها الأخير: ده هيبقى جوزى ودي هديه عيد ميلاده.

فهي تنعته بأي شيء لكن لا تفعل إمرأة غيرها، فما أجمل نسبتها إليه والتحدث بملكيته أمام الغرباء خصوصا.
صاحت عشق بذهول واستنكار: بتهزري؟
نفت بهز رأسها وأكدت عليها وابتسامتها تتسع: لأ بجد..
هزَّت كتفيها بعدم رضي وذكرتها كي ترفض: ده كان هيخليكِ تمسحي فاكرة؟
ضحكت ليلى بصوتٍ خافت ونفت بمزاح: لأ مش فاكرة امتى ده؟

طرفت عشق بتعجب ونظرت إليها بتمعن وتدقيقٍ أكثر لتدرك جديتها وسقوطها في الحب سهوًا بلا هوادة، وما كان لها سوى أن تعانقها وتهنئها من قلبها بحب: ربنا يسعدك ويفرح قلبك إنتِ تستاهلي، وأقولك على سِر كمان!
أومأت ليلى باهتمام لتهمس عشق: مكنش لايق على نادين خالص خالص يعنى كده حلو.
تبسمت ليلى وقرصت وجنتها بخفة ليصيح وليد أخيرا بانتصار: لقيت الرقم وهتصل بيه.

بعد مرور أسبوع..
دخلت نادين إلى غرفة والدتها باندفاع صائحة بحماس: يوم التنفيذ أخيرا.
قهقهت ليلى ووقفت أمامها تسألها عن هيئتها بقليلٍ من التوتر: ها إيه رأيك حلوه؟
جالت عينان نادين اللامعة عليها من بداية قميصها الكريمي الذي أدخلته في تنورتها السمنية وارتدت فوقها حزام كريمي رقيق، وعلقت حقيبتها الصغيرة فوق كتفها، وتركت شعرها مموجًا دون تصفيف، ولم تضع أي مساحيق تجميل.

صاحت بانبهار: زي القمر، قمر بس ناقصك ميك آب.
هزَّت رأسها بنفي ورفضت لتأخذ نادين أحمر الشفاة الوري وترجتها قليلا: مورد للشفايف بس شويه صغننين بليز مورد.
أومأت مستسلمة لتباغتها برسم خطين فوق وجنتيها وهي تبتسم بانتصار لتضيق ليلى عينيها بانزعاج، فتبرر نادين وهي تطبع قبلة فوق وجنتها: عشان تبقي خوجة يا روحي.
ضحكت بنعومة وقبلتها بحنو واستعدت للذهاب.

أما في هذا الوقت الذي تتجهز فيه ليلي كان عمّار يستعد للذهاب.
أغلق أزرار قميصه الأسود بنفاذ صبر كاد يقطعه ثم إرتدي سترته فوقه ومال يغلق حقيبة ملابسه وهو يغمغم بكلمات غير مفهومة وأقسم على الذهاب، لا يُريد ردًا لا يُريد أي شيء سيعود إلى الصعيد ويدعو أن تصيبه أي رصاصةٍ طائشة كي تقتله ويرتاح، لن يتذلل هو لن يتذلل، يكفيها يومين لمَ كُل هذا التأخير؟!

أسوأ أسبوع مرَّ عليه طوال حياته، أن يجلس ينتظر تحديد مصيرة، وعقله لا يكف عن التفكير بسلبية مسببا له أرق وتوتر طوال الوقت دون فائدةٍ تذكر؟ لمَ من المفترض أن يحترق من الشوق والإنتظار وهي لا؟، لمَ هو الذي يهتم ومستعد لتقديم أي شيء تطلبه وهو ينتظر أيام دون أي حركة منها! هل عذابه شيءً مسلي بالنسبةِ إليها؟ هل هو مثير للشفقة كثيرًا أم تتلاعب به؟

هتف آدم بضيق وهو يحاول امتصاص غضبه: رايح فين أنت دلوقتي استني يومين كمان مش هيحصل حاجة؟
انفجر صارخا بغضب وهو يحمل الحقيبة: لأ مش هستني أكتر من كده، انا دمي اتحرق و قاعد على أعصابي ومش بنام وحاجة آخر قرف وزهقت، دي حتى معبرتنيش بالتليفون؟ خلاص هي رفضت اعملها ايه؟
هتف آدم بتهكم: مش لما تفتح تليفونك تكلمك؟ أنت قافله يا بيه فوق؟ زمانهم قالبين عليك الدنيا وأبوك هيتجنن عليك..

توقف ورفع جسده وهتف بندم بسبب تقصيره: انا عايز أكلمه من بدري بس هيقُلي إرجع وانا بهرب منه لحد ما اعرف هعمل ايه الاول، ومش عارف إذا كان سافر ولا لأ، ولا عارف أطمن على أمي حتى بسببها وبكل برود مفيش رد!، لو هي عايزاني هي عارفة البيت وسبق وخدت الرقم الارضي بتاع البيت من قُصيّ وممكن تاخذه تاني دلوقتي بس هي مش عايزة وانا مش هفرض نفسي عليها أكتر من كده..

وحمل حقيبته وأخذها واتجه صوب الأسفل، زفر آدم وهرول خلفه وهو يفكر في إنقاذ هذا الوضع وتصليح الأمور بينهما، جلس عمّار أمام كرسي المطبخ وأخذ يتناول الشطيرة التي حضرها بشراهة وغضب، لينظر آدم إلى هاتفه المتروك فوق الأريكة بإهمال وتحرك كي يأخذه ويفتحه لكن رنين الجرس أفسد كل شيء عِندما صدح والتفت عمّار وذهب كي يرى من.
فتح عمّار الباب ساخطا ليتهدل ذراعة بجانبه وتتبدل ملامحه لأخري نافذة منزعجة حانقة.

عِندما رفعت رأسها وتطلعت إليه بابتسامة، لن يبتسم في وجهها لن يفعل هل تذكرته الآن؟، لكن لمَ تفجرت الألعاب النارية داخل رأسهُ فجأة، وتحرك ذلك الساكن في يسار صدره باضطراب، وشعر بالرطوبة والهدوء يجتاحه عوضًا عن ثورانه وتلك النيران التي كانت تحرقه.
مسح وجهه بكفه بشكلٍ مُتكرر ثم نظر إليها بترقب لتخونه ابتسامة حانية اعتلت شفتيه، فرؤيتها تبتسم لا تقاوم وهو ليس مؤهلا لتجاهلها بعد..

تقدمت منهُ خطوتين وطلبت بخفوت: ممكن تيجي معايا؟
طغي التعجب على ملامحه وسألها باستفهام: أجي فين؟ مش المفروض إنك جاية تديني إجابـ، أمسكت يده وتابعت الحديث بدلا عنه وهي تسير به إلى السيارة: عارفة أنا جاية ليه، بس لازم تيجي معايا الأول..
نظر إلى كفه الذي تحتضنه بيدها، تسحبه خلفها كـ طفل مستنكرا وضعه، فهذا كثير، كثير.

أخرجت مفتاح السيارة ليأخذه من يدها مغمغما بعدم رضي: ما انا مش همشي معاكِ زي الأطرش في الزفة وكمان أنتِ اللي تسوقي اركبي..
أومأت دون اعتراض وهذا جعله يتعجب وما فاجئة ابتسامتها وهي تهرول إلى الجهة الأخرى وصعدت إلى السيارة برحابة صدر، لا يعرف لم يريحه بتاتا مايراه.
سألها عندما بدأ في القيادة بانزعاج بسبب سيارتها الضيقة: هتروحي فين؟ وإيه الكرتونة اللي أنتِ بتسوقيها دي؟

كتفت يديها أمام صدرها وهتفت بازدراء: بتتريق على عربيتي؟
هتف مؤكدًا: أه بتريق مش عجباني ورجلي مزنوقة كمان..
هتفت بإستياء وهي تنظر إلى قدمه: عشان أنت طويل ده مش ذنبي! وادخل يمين وبعدين شمال، ودلوقتي إركن على جنب بقى.

صف السيارة على جانب الطريق بتعجب بسبب إتيانها إلى هنا والمكان يبعد عن منزله رُبما عشر دقائق سيرا على الأقدام وخمس دقائق بالسيارة، ترجل من السيارة بهدوء وتطلع حوله بتعجب ليبصر المطعم فظن أنها أتت به إلى هُنا كي تتحدث أثناء تناول الطعام لهذا سألها باستفهام: كُنا ممكن نتكلم في البيت على فكره وهأكلك بردو؟

ابتسمت بنعومة ووضعت الحقيبة في السيارة من النافذة بعد أن أخذت منها شيءً، ليجلس عمّار على مقدمة السيارة ينظر حوله باقتضاب عاقدًا يديه أمام صدره بعدم رضي منتظرًا أن يعرف سبب حصوله على شرف إيصالها إلى هُنا.
توقفت أمامه بنفس الابتسامة الناعمة التى ستعجله يلتهمها إن لم تتوقف عن هذا، بللت طرف شفتيها وهتفت بنبرة رزينه لكنها كانت متحمسه: عمّار بُص فوق كده على العمّارة اللي جنبك؟

سحق شفتيه سحقا وأخذ شهيقا يحث نفسه على الصبر والهدوء، ثم رفع رأسهُ مثلما أرادت لتنفك عقدة يديه ويقف باستقامة مكذبًا عيناة فهي لن تفعل هذا لأجله، بلع غصة مؤلمة وهو يقرأ إسمه على اللافتة، وهبط بأنظاره إليها وسألها متصنعا عدم التأثر: ده تشابه اسماء مش أكتر.

زفرت أنفاسها المرتعشة بتأثر، كابحة عبراتها عن التساقط وهي تراه يقاوم، اقتربت منهُ أكثر وأمسكت كفه برقة ووضعت داخله مفتاح الشقة وهنئته بعيد مولدة بهمس وعينيها مرتكزتين على عيناه بحنو: كل سنة وأنت طيب يا عمّار..

خفق قلبه بعنف ونظر إلى المفتاح مطولا وفي رأسه ألاف الأسئلة يطرحها على نفسه، لمَ المبالغة في الهدية؟ معرفتها أن اليوم يوم ميلادة بمثابة هدية بالنسبةِ إليه، هل لأنها سترفض الزواج تعوضه بهذا؟ هو لا يُريد لن يعود طبيبا، لقد أغلق هذه الصفحة من حياته وللأبد. لا يُريد شفقتها ولا أي شيء منها.
ابتلع غصته وحسم أمره ووضع المفتاح في يدها وخرجت نبرته مهزوزة رافضًا بكل هدوء: مش ده اللي أنا مستنيه شكرا.

نظر بالاتجاه الأخر بألم عاجزًا عن إضافة المزيد بقلب مضني، فالحديث أنتهي.
تأوهت بحزن وهي تنظر إليه ثم مدت كفها إلى وجنته وأدارت وجهه كي ينظر إليها، فلم ترى سوى الألم والعذاب يستعمرها.
همست ببطء وهي تحرك اناملها فوق وجنته بنعومة: أنت مسألتنيش ليه خدتها قريبة من بيتك؟
نظر داخل عيناها المشعة بالحب الذي كذبه وسألها: ليه؟

ابتسمت بحنو وانسابت عبراتها رغما عنها وهمست بشغف وعيناها تجيل على ملامحه الآسرة: عشان أنا واحدة تحب أن شُغل جوزها مايبقاش بعيد عن البيت.
تفجر الأدرينالين داخل جسده، وتنبهت حواسه، واختلج صدره بعنف، واتسعت مقلتاه هازا رأسهُ بعدم تصديق.
لتضحك بنعومة ووضعت يدها على صدره النابض واستطردت بنبرة مفعمة بالحب: موافقة، و بحبك..
ـ بتهزري؟
قال بتيه وهو يهز رأسهُ بعدم استيعاب وقد توقف عقله عن التفكير.

فضربت صدره بخفة بسبب جموده وجربت أن تقولها مرة أخرى هامسة بشغف: بحبـ..
صرخت ضاحكه عِندما حملها بعد استيعابه ودار بها في وسط الطريق لتهتف بإسمه برقة من بين ضحكاتها السعيدة وهي تحوط رقبته بنعومة وشعرها يرفرف حول وجهها: عمّار..
انزلها أمامه وهو يضحك بسعادة شديدة غمرته، فيال فرحة قلبه وسعادته بها، إن قلبه منشرح قارب على التوقف من شدة ضرباته.

تأملها بعشقٍ جارف وأعين باسمة تشع منها السعادة، ولا يعرف بماذا يبدأ أو يقول سوي إنها ثمينة بقدرٍ لا تتخيله.
أحتضن وجهها وهمس بمشاعر جياشة: أنتِ قلبتي حياتي في كلمتين بس، أنتِ خطر جميل مش عارف اسيطر عليه، ليلى..
همهمت بنعومة وهي تحرك أهدابها بخفة صانعة تواصلا بصريا معهُ، متبسمة بعذوبة ليهمس بسعادة قبل أن يضمها إلى صدره: النهاردة أجمل يوم في حياتي.

أغمضت عينيها براحة واستكانت في أحضانه بينما تريح رأسها على صدره ليبث داخلها كُل أنواع الدفء والاحتواء مشددا قبضته حولها بلهفة وهو يمسح على شعرها بلمساتٍ حانية رقيقة تطمئن النفس.
رفعت رأسها ونظرت إليه ليبعد شعرها الصقيل كالمعدن خلف أذنها مستمعا إلي سؤالها بابتسامة: عجبتك هديتي؟
دفع بها لأحضانه أكثر وهمس بعبثٍ أثناء تأمله لوجنتيها المتوردة: أنتِ هديتي.

أسبلت جفنيها وعضت على شفتيها بابتسامة زاهية لم تنجح في إخفائها عن نظراته الثاقبة، لتعاود سؤاله بحزنٍ طفيف: يعني مش هتاخدها؟
هزَّ رأسهُ بنفي وهمس بدلال وهو يداعب وجنتها بنعومة: هاخدك أنتِ.
اخفضت رأسها بخجل، تضم قبضتها فوق المفتاح بقوة، فمد يده ورفع يدها اليسري الخاوية وطبع قُبلة رقيقة فوق بنصرها الذي سيزينه دبلته قريبًا قائلا وعينيه مرتكزه على عيناها كأنه يتأكد منها: هنتجوز؟

أومأت مؤكده بهيام: هنتجوز.
تنفس الصعداء براحة وهو يبتسم، وقد زال الثقل الجاسم فوق صدره، فأصبح خالي من الهموم، فمال وقبل يدها اليمنى كي لا تحزن، وحثها على الذهاب كي يتحدثان في مكانٍ آخر: يلا اركبي..

أومأت وسارت معهُ ليتقدمها ثم فتح إليها باب السيارة لتصعد وهي تبتسم بسعادة، هل هذا هو طعم السعادة الحقيقية حقًا! هل هذا هو شعور الانتصار بعد أن ظفرت بحبها؟! يا إلهي لو تدوم تلك الراحة فقط لن ترغب في شيءً آخر.

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة