قصص و روايات - قصص رومانسية :

رواية حب خاطئ للكاتبة هاجر الحبشي الفصل الخامس والعشرون

رواية حب خاطئ للكاتبة هاجر الحبشي الفصل الخامس والعشرون

رواية حب خاطئ للكاتبة هاجر الحبشي الفصل الخامس والعشرون

سعادته ﻗﺼﻴﺮﺓُ ﺍﻟﻤﺪﻯ، ﺃﻗﺼﺮُ ﻣﻦ ﺿﺤﻜﺔٍ ﺃﻃﻠﻘﻬﺎ ﻋﺠﻮﺯٌ بائِس ﻣﻦ ﻗﻠﺒﻪِ، ﻓﺘﺤﻮّﻟﺖ ﺇﻟﻰ ﺳُعال. (مقتبس).

انطلق عمّار بالسيارة، لتنطلق خلفه سيارة الأجرة التي كانت تصف على جانب الطريق ترصد كل تحركاتهم من البداية.
تأملت ليلى المفتاح مطولًا قبل أن تنظر إليه لتجده ينظر إليها بهيام فتبسمت في وجهه بعذوبة وحثته على الانتباه على الطريق وهي تضحك: عمّار ركز في الطريق.

ابعد نظره عنها بعد أن ضربت كتفه بخفة وتابع القيادة بسعادة تاركًا العنان لجميع أفكاره للتدفق في عقله كما شاء فلا مانع الآن من التحليق بعيدًا، لكن ليعترف فقط أنه يعرف أن تلك الفرحة لن تدوم طويلا قبل أن تظهر لهُ إحدي المشكلات، فماذا يفعل؟ يُجب أن يُعجل بالزواج أولا وليحدث ما يحدث بعدها.
فكرت كثيرًا وترددت أكثر وهي تضم قبضتها فوق المفتاح قبل قول هذا، لكن هذه رغبتها وترغب أن تتحقق..

توترت وهي تفكر في رد فعله، سوف يصرخ في وجهها متأكده من هذا.
دلَّكت عُنقها بخفة وحركت شفتيها قائلة بتردد: عمّار، أنا، أنا، سكتت قليلًا ترتب جملتها ثم قذفتها في وجهه مرة واحدة بثقةٍ أكثر: أنا كان عندي كام شرط كده عايزاك تعرفهم.
عقد كلا حاجبيه وردَّ بجمود مشددًا على كلمته وهو يصب تركيزه على الطريق: شروط؟
أجابت سريعًا قبل أن يخطئ فهمها هذا إن كان لم يخطئ بعد: مش شروط أكتر من إنها طلب.

شدد قبضته فوق المقود وأومأ بتفهم وحثها على القول بنبرة هادئة لم تعكس ما يختلج في صدره: قولي!
استشفت غضبه ولاحظت ضغطة العصبي على أسنانه وهذا زاد من حدة توترها وخوفها من رد فعله أكثر لكن شجعت نفسها وقالت بخفوت: هُمه طلبين بس يا عمّار مش اكتر، عايزاك ترجع الشغل تاني و..
قاطعها سؤاله الجامد: ليه؟

ناظرته بتعجب وهتفت مستفهمة: يعني ايه ليه يا عمّار؟ أنت دكتور وشيء طبيعي إني أطلب منك ترجع شُغلك؟ عمّار أنت مِستقل بنفسك ووضعك اوي كده ليه؟
أجابها بسؤالٍ آخر لم يخفي نبرة الاستياء عنها: أنتِ وافقتي ليه؟ عشان أنا دكتور؟ لو مكنتش دكتور كُنتِ هتوافقي يعني؟
هزَّت رأسها متعجبة سؤاله وهتفت بعدم فهم: ده مالهوش علاقة بـ ده يا عمّار! أنا بقولك أرجع الشغل؟ علاقته إيه بموافقتي يعني؟

صرَّ على أسنانه بحركة عصبية وزاد من سرعته مع قوله بنبرة هادئة حازمة أخرجها بصعوبة: ملهوش علاقة عادي، وأنا مش موافق، إيه شرطك التاني؟!
شعرت بالضيق بسبب طريقته التي أخبرها من خلالها أن لا تتدخل ولا تناقش شيء يقرره، لكنها لن تصمت ولن تتجاهل أي تفاصيل، من واجبه أن يتشارك معها كل شيء.

قطبت جبينها بانزعاج وقالت بعدم رضي: دي مش طريقة كلام يا عمّار على فكره؟ وبعدين إنت وعدتني أنك هتحققلي كل اللي بتمناه مش كده؟
زفر بعصبية شديدة ثم نظر إليها وحذرها بقوله بنبرة محتدة: متحاوليش تستفزيني وتستخدمي كلامي غلط! أنا قولتلك هحققلك اللي إنتِ عايزاه وعلى ما أذكر أنا عمري ما كُنت ضمن خطتك و أحلامك عشان تنسبي طلباتك ليهم وتتهميني بالتقصير في الآخر!

غضبت هي الأخرى واحتقن وجهها وهتفت بصوت مرتفع نسبيا: أنت معقد الموضوع ليه و عامل مشكلة؟ هو بطلب حاجة مش كويسة ولا حاجة؟
طالعها ببرود ولم يعقب لتسطترد بعصبية: وبعدين أي حاجة أطلبها منك تدخلها تحت بند أحلام أمنيات براحتك انا ليا إنه يتنفذ في الأخر وخلاص.
عيل صبرة وغلت الدماء داخل عروقة وسحق شفتيه سحقا، وعقله يحثه على إفتعال حادث قبل أن يفقد أعصابه.

عضت شفتيها السفلي بغيظ وسألته باستنكار: إنت مش بترد عليا ليه؟
أخذ شهيقا طويلا كي يهدأ ثم سألها بضيق: طيب وزي ما انا هنفذلك اللي أنتِ عايزاه المفروض تنفذي اللي انا عايزة أنا التاني صح؟
قالت بتعالٍ وهي تكتف يديها أمام صدرها: المفروض..
ابتسم وحثها على الصمت بنبرة جادة: تمام، ينفع متجبيش سيرة الشغل تاني؟

برمت شفتيها بعدم رضي وهتفت بنبرة مترجية: لا مينفعش يا عمّار، حرام عليك تضيع سنين التعب دي على الفاضي! انا عايزة مصلحتك وسعادتك إفهمني!، وبعدين مش انا هبقي مراتك حبيبتك؟
تلاشي ضيقة وابتسم بحب ثم نظر إليها بطرف عينيه بعد أن كاد يغضب ويتشاجر معها بسبب ضغطها، إنها تسيطر عليه.
إستسلم وهتف بقلة حيلة كي لايكسر بخاطرها: مقدرش أوعدك بحاجة دلوقتي بس هفكر وأنتِ وشطارتك بقى.

ضحكت ضحكات ناعمة رنانة أذابته وهي تنظر إليه بحب ثم سألت برقة: ممكن أطلب الطلب التاني؟
تنهد بهيام وأومأ بخفة مصغيا إليها بكل جوارحه، أبعدت بعضا من خصلات شعرها خلف أذنها بقلق وطلبت وهي تفرك يديها معًا بتوتر دون أن تنظر إلي عينيه: كُنت عايزة، يوم كتب كتابنا تاخدني من أبويا.

ضغط مكابح السيارة بقوة إرتد إثرها الاثنين بقوة، تجهمت ملامحه وغضب غضبًا شديدًا وعلا صوت أنفاسه الهادرة أخافها أكثر وبدأ قلبها في الخفقان بعنف.

تطلع إليها بنظراتٍ مُحتدة قاسية مهتاجا أيما اهتياج، نظرات إن رأتها لأبكتها، لكنها كانت متوقعة رد فعل كهذا فأخفضت رأسها كي لا تتقابل أعينهما، إنها تطلب منهُ المستحيل دون أن تشعر، أو تعرف وتجرب فقط حظها، هي فقط تريد أن تظهر لوالدها أن هناك من يقف خلف ظهرها ويتفانى في حمايتها، تريد أن يري كيف يحبها ولن يفرط أو يتخلى عنها، ولن يستطيع أن يمسها بسوء مجدداً.

مدّ ذراعة وقبض على ذقنها كي تنظر إليه سائلا إياها باستهجان: ومن إمتي بتفكري في أبوكِ؟ أنا أموت ولا إني أحط إيدي في إيده فاهمة؟
اضطربت واهتزت مقلتيها بقلق، تمعنت النظر داخل عيناه ذات النظرات الموحشة المنذرة بالشر لتهمس برجاء: عشان خاطري.
تبسم بوحشية حتى بدت نواجذه وقال مستنكرا: خاطرك؟ وأنا أتحرق عادي مش مهم؟
هزَّت رأسها بنفي وهتفت متوسلة: أنا محتاجة إن ده يحصل، كتير عليا؟

حرر ذقنها ولانت ملامحه وعادت إلى طبيعتها وهتف بثبات إنفعالي: لا مش كتير، مفيش حاجة في الدنيا تكتر عليكِ بس مش هقدر أعمل كده آسف.
إختض قلبها وهمست بنبرة مرتعشة: يعني ايه؟

أطفأ محرك السيارة بكل هدوء وهو يبتسم لتدرك أنه أوصلها إلى المنزل وصف السيارة جانبًا أيضًا، التفت ينظر إليها وصب عليها اللوم بقوله: على فكره لو كُنتِ قلتيلي من الأول أنا مش موافقة يا عمّار بدل اللف والدوران مكنش هيحصل حاجة؟ أنا كُنت متوقع الرفض ومكنتش هتوجع زي ما أنا موجوع دلوقتي بعد ما وفقتي..
هزَّت رأسها بعدم فهم والحرقة إجتاحت مقلتيها وهي تطرف بشكلٍ متكرر، بسبب الخوف من طريقة حديثه، فماذا فعلت؟

استطرد بخذلان: لو كُنتِ بتحبيني زي ما بتقولي مكنتيش هتفكري في نفسك وبس، انا هنسي اللي حصل، هنسي انك جتيلي وهنسي أي حاجة سمعتها وبجد بتمنالك الخير من كل قلبي. وتتبع قوله بالتحرك كي يذهب، فأمسكت ذراعة سريعا قبل أن يذهب وهتفت بصوت مرتعش منفعل وهي على حافة البكاء: أنت بتقول إيه يا عمّار!، أنا ولا بلف ولا بدور الكلام ده مش مظبوط ومش عايزة حاجة خلاص إعمل اللي يريحك.

تراجع عن النزول وهتف بغضب: أعمل اللي يريحني؟ قلبتي الطربيزة عليا دلوقتي!
انسلت عبراتها وصرخت في وجهه بحرقة: أنا مش بقلب ولا بعمل حاجة!.
ضرب مقود السيارة بعنف وسألها بعصبية: بتعيطي ليه دلوقتي؟
لم ترد عليه وأبعدت أنظارها عنهُ والتصقت بمقعدها وتابعت بكائها وهي تنظر من النافذة.
أدارها إليه برفق وجفف عبراتها بحنو سائلا إياها بفقدان صواب: من إمتى كان ليه وجود في حياتك عشان يبقي ليه دلوقتي؟

تنهد ورفع وجهها عِندما طال صمتها وفقط صوت أنينها ما كان يسمع.
هتف بهدوء كي تفهم مقصده: انا الموضوع ده عندي خط أحمر ومقدرش أوعدك بحاجة انا مش هعملها، إنتِ عارفة اللي بينا كويس والمشكلة إنك عارفة، ليه بتحطيني موقف صعب ليه؟
لاذت بالصمت وظلت مخفضة رأسها دون الرد، فرفع رأسها وسألها بترجي كي تجيب: طيب قوليلي ليه؟
ازدردت ريقها وقالت ببرود: دي حاجة تخصني لوحدي يا عمّار.

عقد كلا حاجبيه بعدم فهم وسألها متهكمًا: تخصك لوحدك؟ ليلى أنتِ بتثقى فيا؟!
لم تريح قلبه ولم ترد بل نظرت إليه فقط بصمت دون أي قول وقد كان تعبيرا كافيًا ليحصل على إجابتها ويتركها ويذهب، فأي حُب هذا الذي تتحدث عنه وهي لا تثق به!
ـ عمّار، عمّار، عمّار..
أخرجه هتافها بإسمه برقه من شرودة ليتفاجأ بنظراتها القلقة المشوبة ببعض التعجب تجاهه.

نظر حوله بتشتت ليجد نفسه أمام منزله داخل سيارتها، هل كان شاردا طوال الوقت ولم يحدث هذا؟
مسح وجهه بقوة وهو يستعيذ من الشيطان الرجيم ليشعر ببلل جبينه ببعض حبات العرق! كأنه كان في كابوس، يحق لهُ التعرق حقًا، فلو كان هذا صحيحًا وحدث هذا لأصابته ذبحة صدرية.

مسد كلا حاجبيه بأنامله بسبب تقطيبهم الشديد المثير للألم، ورفع نظرة إليها وهو يحاول تعديل تقاسيم وجهه دون أن يعرف أي تعبير ينظر إليها به الآن، فهو ممتن أن هذا من ضرب الخيال لا أكثر.
سألته بقلقٍ مُضاعف وهي تري التيه البادي عليه: عمّار إنت كويس؟ مالك؟

هزَّ رأسهُ بنفي وهو يبتسم بتعجب ثم أرخي رأسهُ على المقعد لثوانٍ قليلة حتى عاد لطبيعته وهدأ، ظلت هادئة تراقبه بابتسامة حتى حرك رأسه ونظر إليها دون أن يرفع رأسه متمتما باستفهام: هو حصل ايه؟
أجابت بإبتسامة: كُنا بنتكلم وفجأة سرحت.
أومأ بتفهم ثم سألها بقلق واستفهام: كُنتِ هتطلبي مني حاجة؟ محتاجة حاجة؟ عندك شروط لجوازنا يعني؟

قطبت جبينها بتعجب بسبب سؤاله وقلقة البيّن، لتجيب وهي ترفع كتفيها: لأ مفيش وليه السؤال ده؟
سألها سؤالا آخر متحيرا: يعني مثلا مش هتقوليلي أرجع الشُغل وكده؟
ضيقت عينيها تلك التي أبدع الخالق في صنعها ورفعت المفتاح بين أناملها وتركته يهتز في الهواء وهي تقول بثقة: إنت أوريدى رجعت يا عمّار! معقول مش هتاخد هديتي وهتكسفني؟ انا اللي إختارت فيها كل حاجة بنفسي مش هتشوفها وتقولي رأيك؟

ابتسم بسبب تلك الثقة التي راقته ثم مدّ يده وأخذ ذلك المفتاح من يدها ولا يعرف لمَ، فإن تطلب الأمر أن يعود لأجلها سيفعل.
سألها مشدودًا وظل مترقبا إجابتها: مش هتطلبي إن أبوكِ يبقى وكيلك وهو يسلمك ليا بنفسه؟

لم تشعر بالخوف أو تهتز قيد أنمله عِندما أتت بسيرته، بل ابتسمت وقالت بهدوء: لأ مكنتش هطلب، ومن غير أي طلب هو هيبقي موجود لأنك عمّار، وأنت مش قليل والكل هيعرف إنه فرحك معقول أبو العروسة مش هيبقى موجود؟ حتي لو مش موافق على الجوازة! الناس تاكل وشه طبعا، وطبيعي إنه يكون موجود.

إنه قولٌ منطقي كيف لم يخطر في باله قبل أن يغضب كما حدث؟ فيمكنه أيضا أن يجعل والده هو يقوم بتلك المهمة عنهُ ويضع يده بيد خليل، ما المشكلة فهو فعلها قبلا و المصلحة العامة أهم لديه من الشخصية.
ابتسم براحة وانشرح صدره ثم سألها السؤال الأخير والأهم: بتثقى فيا؟

ابتسمت بنعومة وهي تميل برأسها قائلة بهيام: من زمان يا عمّار مش من دلوقتي ولا عشان اللي عملته مع نادين، ده من ساعة ما دخلنا بيتك وعرفتنا على أهلك، مفيش راجل مش كويس هيدخلنا بيته ويعرفنا على أهله، وزادت أكتر لما عرفت اني ندي ومأذتنيش زي ما تخيلت، ولما جيت عشاني وأنت جرحك لسه مفتوح، كل ده مش كفاية؟ أنت صحيح إيدك طويلة وبتستخدمها قبل عقلك بس فيك مميزات بردو مقدرش أنكرها.

ابتسم بعبث وهتف وهو يراقص كلا حاجبيه بعبث: بس أنا عارف المميزات دي ايه؟
سألته بثقة: وهي ايه؟
تحدث ساخرا وهو يضيق عينيه: إني خنزير خرتيت همجي اوي ها أقول كمان؟

عبست بحزن وتمتمت بخفوت: عمّار إنت شكلك حلو، بس التصرفات تصرفات خنزير بس هي دي الحكاية، توقفت ممعنة النظر إليه ولم يقابلها سوى بابتسامة حانية لتستطرد: وأنا بقول إن كل ده بيرجع لطبيعة حياتك لأنها كانت جافة مفيهاش بنات تتعامل معاهم برقة حتى دهب بتقولها يا بومة!

ضحك وهو يرتفع بجسده ثم ضمها إليه بحنان لتدس رأسها في كتفه بخوف تستمد منهُ قوتها المسلوبة لأنها لا تملك نصف الثقة التي تتحدث بها وخاصةً عن والدها، إنها خائفة.
انتشلها من زخم أفكارها بإعتذاره الصادق: أنا آسف.
سألته بهمسٍ وهي تربت على ظهره بنعومة: آسف على إيه؟
همس بندم وهو يحرك رأسه ضد وجنتها وقبضته تشتد حولها: عشان ضربتك كذا مرة وقسيت عليكِ، عهد عليا إني عمري ما هرفع إيدي عليكِ تاني أبدًا.

أفرجت شفتاها عن ابتسامة عاشقة دون تعقيب، لأن ما تشعر به لا يوصف بالكلمات.
فصل العناق على مضض وشرع في الحديث بهدوء: انا هنزل اجيب الموبايل عشان اعمل مكالمات مهمة بعد ما أوصلك.
أوقفته بقولها بابتسامة: لأ لأ، أنا هروح لوحدي متتعبش نفسك.
احتج معترضا بضيق: بس كـ، وضعت يدها فوق يده وهمست بنعومة تطمئنه: عمّار أنا بأروح وباجي لوحدي دايما متخفش عليا، يلا مع السلامة مؤقتًا.

أومأ بطاعة وظل جالسا محله دون أني يتحرك إنشًا واحدًا قط، قهقهت و حثته على النزول بتعجب: عمار إنزل؟
تذمر رافضا كـ طفل: مش عايز.
ضحكت برقة و واسته قائلة: معلش هانت تعالي علي نفسك المرادي.
أومأ وهتف بعبث وهو يراقص كلا حاجبيه: عشان خاطرك بس يا غزالي.

خجلت وتدرجت وجنتيها بالحمرة وهي تنظر إليه على استحياء، تنهد بحرارة ثم ترجل من السيارة قبل أن يلتصق بالكرسي ويتراجع عن فكرة الذهاب، لتتحرك وتأخذ مكانه كي تقود إلى المنزل.
لوح مودعا من الخارج وهتف بابتسامة: هكلمك، أومأت بابتسامة وأدارت المقود وانطلقت..
راقب ابتعادها بهيام حالما بذلك اليوم الذي ستصبح به سيارتهما واحدة.

دلف إلى المنزل والابتسامة تزين ثغرة، أغلق الباب واتجه صوب غرفة الجلوس ليجد آدم يجلس فوق الأريكة يصب تركيزه على هاتفه وهو يهز قدميه بتوتر.
صاح عمّار بسعادة: آدم، آدم حذر فزر اللي حصل..
رفع آدم رأسهُ بملامح مغمومة لا تنم على خيرٍ البته لتتلاشى ابتسامة عمّار وسأله مشدودًا بقلق: في ايه؟ مالك؟
ازدرد آدم ريقة بحلق جاف ثم قال بصوت خافت بالكاد خرج: أنـ، انا، فتحت تليفونك..

كاد تنفلت ضحكة من بين شفتيه بسبب هذا الاضطراب وشحوب وجهه فقال بتعجب: وايه يعني فتحته؟
خلل آدم أنامله داخل خصلات شعره بحيرة ولا يعرف كيف سيقول لهُ خبرٍ كهذا.
سأله بنفاذ صبر بسبب الطاقة السلبية المسيطر على المكان: آدم في ايه؟
مسح وجهه بكفه بينما يقول بتردد: من ساعة ما فتحته والرسايل مبطلتش ولا المكالمات، وانا رديت صُدفة لقيتها دهب بنت عمك.
ــ وبعدين؟.

صاح بانفعال بسبب قوله هذا، لأن دهب لا تهاتفه سوى عند حدوث المصائب.
هزَّ آدم رأسهُ بأسف، يطالعة بحزن حتى جنّ جنونه وصرخ به بعصبية مفرطة: قالتلك ايه ما تتكلم؟
صاح بعصبية مماثلة في المقابل بسبب عدم مقدرته على إخباره مثل هذا الخبر المُفجع: مش هقول اتصل و اعرف لوحدك.
اختطف عمّار الهاتف من فوق المنضدة بحدّة وهو يحدجه بنظراتٍ غاضبة، ضغط على رقم دهب ووضعه فوق أذنه منتظرا الرد.

ليأتيه ردها بصوتها المبحوح تستنجد به بعد ثوانٍ: عمّار، إلحجني يا عمّار أمي، أمي، بتموت..
انتفض قلبه وهبّ واقفًا صارخا بها بأعين جاحظة وهو يركض إلى الخارج: كيف يعني؟ مالها؟
لم يأته سوي صوت عويلها الحارق وهي تشهق ليبدأ في القيادة بسرعة جنونية في طريقة للعودة، صارخا بها بجنون قبل أن يفقد ما بقي من صوابه: انطجي!

لم ترد عليه وظلت تبكِ بحرقة، تسمعه عويلها المدمي للقلب جعلته يغلق الهاتف في وجهها بعنف ويزيد من سرعته أكثر بهلع متنفسا بإختناف وقلبه ينتفض داخله مسببًا باجتياح البرودة لجسدة كأن روحه صعدت لخالقها، فلا يستطيع قط تخيل أن شيئًا سيئًا أصابها دون أن يكون بجانبها، يموت إن حدث لها شيء.

توقف ليلى أمام المنزل، أطفأت مُحرك السيارة وترجلت بهدوء ووضعت المفتاح داخل الحقيبة وسارت إلى الأمام كي تدلف من الباب لكن توقفت مرتابه وحركت رأسها للجانب قليلا عِندما شعرت بـ سير أحدًا خلفها.

ازدردت ريقها بخوف وسارت خطوتين، متذبذبة ليعود صوت الحذاء المحتك في الأرض بعنف، فحركت رأسها سريعا والتفتت لتجد رجلا طويل القامة يبتسم إليها بخبث لم يُريحها بتاتا، طالعته من أعلاه لأخمص قدميه ليختلج قلبها عِندما أبصرت ملابسه جيدًا، حثت نفسها على الهدوء والثبات أمامه دون أن تلاحظ أو تشعر بالذي يقف خلفها يضع مخدر فوق أحد الأقمشة، حركت شفتيها للسؤال لكن تم تكميم فمها بعنف كأنه يخنقها لا يخدرها، جحظت عيناها وحركت جسدها بسرعة هستيرية وهي ترفع يدها فوق القماشة محاولة إبعاده، لكن الآخر أنزل يدها بقسوة ضاغطًا عليها بقوة مؤلمة مراقبا مقاومتها الضعيفة بتسلية حتى سقطت حقيبتها أرضًا، ضعفت مقاومتها وبدأ جسدها في الارتخاء، وبدأت تغلق عيناها على مهل حتى فقدت الوعي.

حملها من قدميها والآخر قبالته من أسفل ذراعيها و وضعوها داخل السيارة وانطلقا إلى منزل والدها.

كانت عشق منغمسة في عملها منكبه فوق الأوراق تراجع المواعيد الخاصة باليوم، رنين الهاتف انتشلها من الزحام الغارقة به، تنهدت وأخذت شهيقًا طويلا قبل أن تقوم بالرد بلباقة وهدوء على المرضى..
ـ ألو، أيوه! موجود، لحد الساعة خمسة..
ابتسم وليد وهو يراقبها برضا حاملا بين يديه قدحين من القهوة منتظرًا إنتهاء مكالمتها حتى يتقدم.

أغلقت الهاتف ومسدت جبهتها بألم بسبب الصداع الذي لا يفارقها منذُ فترة، وقفت كي تصنع لها شيء يذهب بهذا الصداع.
توقفت وجلست محلها مجدداً عِندما تقدم منها بالقهوة هاتفا بلكنة مميزة: القهوة جاهزة.
تهللت أساريرها وتبسمت وهي تأخذها من يديه بامتنانٍ شديد شاكرة: ميرسي أوي.
أومأ بهدوء وسألها باستفهام ممعنا النظر إليها: مبسوطة في الشغل؟

أومأت بسعادة وقالت ببهجة: مبسوطة جدًا، بضيع وقت بدل ما أنا قاعدة فاضية مش بعمل حاجة.
ابتسم براحة ملاحظا نعاسها و تثاؤبها من حينٍ لآخر معظم الوقت: بتنامي كويس؟ ولا لسه بتاخدي منوم؟
هزت رأسها سريعًا نافية بينما تقول مبررة: لا والله مش باخد منوم ولا حاجة، بنام عادي بس أنا معرفتش أنام امبارح كويس من كتر التفكير مش أكتر.
تنحنح وسألها بفضول: عذرا لتطفلي بس ممكن أعرف كُنتِ بتفكري في ايه؟

عدلت من جلستها بارتباك ثم اعتذرت بندم وهي تطرق برأسها: أنا عارفة إنك متضايق مني من امبارح بس غصب عني والله مش بعرف اتحكم في نفسي خالص.
وضع القهوة من يده متنهدا بإحباط هاتفا بضيق: يعني كُنتِ بتفكري فيه؟
هزَّت رأسها بحركة بسيطة نادمة، تمعن النظر إليها ولا يعرف لمَ يُريد أن يخلصها من هذا الحُب المُدمر!
سألها فجأة دون أن يمهد: عشق تسافري معايا؟

طرفت بأهدابها بتفاجئ مبدية تعجبها من هذا العرض الغريب، فأين ستذهب معهُ؟
تلعثمت وهي تفرك يديها معا بتوتر سائلة بجهل: أجـ، أجي، معاك فين؟
شرح بكل هدوء: انا مسافر روسيا، انا حياتي بين هنا وهناك تقريبا وهناك اكتر كمان، انا معنديش غير أُخت وحيدة و متجوزة وعايشة هناك، وانا بحب أكون جنبها مُعظم الوقت لأن شغل جوزها سفر وبيسبها في الوقت اللي بكون انا هناك فاهماني؟

أومأت بتفهم وسألت سؤالا غبي ما كان يُجب عليها أن تطرحه: طيب وأنا هعيش فين لما أنت تعيش مع أُختك؟
عقد كلا حاجبيه بعدم فهم وسألها بتعجب: سوري يا عشق بس مين قالك إننا هنعيش مع بعض؟

توردت من فرط الإحراج وانعقد لسانها وبدي الأنفعال على ملامحها ولاحظ هذا ليستطرد شارحا: انا قصدي تسافري معايا بمعني تغيري جو تشوفي ناس جديدة وتنسي الماضي، تبني نفسك وتشوفي شغل كويس في مستشفي وانا هكون جنبك وهساعدك تبدأي من جديد بس مش هنعيش مع بعض؟!
أوصدت جفنيها لثوانٍ تسيطر على نفسها لاعنه الموقف المخجل الذي وضعت نفسها به بسبب غبائها الملحوظ.

هدأت وفتحت عيناها وهتفت بتوتر متفهمة مقصدة: انا، انا، مكنتش أقصد إننا نعيش مع بعض، هو سؤال غبي فعلا آسفة..
رد عليها بلطف كي يزول عنها البأس: مفيش داعي للإعتذار ممكن يكون خانك التعبير مش أكتر، أنا بس بفهمك قصدي عشان متفكريش بردو إنك هتكوني لوحدك في بلد أجنبية غريبة وتترددي فاهماني؟

أومأت بشرود وهي تحدق في العدم ليجذب انتباهها بقوله: كُل حاجة متوقفة عليكِ وعلى إرادتك، يا تبدأي من جديد زي ما كل اللي حواليكِ بدأوا ولا كإنك موجودة وتخطوكِ من غير مبالغة وبسهولة، يا تخليكِ مكانك تنامي كل يوم ودمعتك على خدك لحد العمر مايعدي بيكِ من غير ماتعملي اي حاجة او حتى يكون عندك ذكرى جميلة تفتكريها، كله هيبقي حزن وألم بس.

اجتاحها حزنا لا يوصف وبدت مغمومة وتجعدت تقاسيم وجهها كـ عجوز، وأغرورقت عيناها بالدموع وهي تنظر إليه بإستغاثة.
تنهد وسألها بعدم فهم بسبب تقلباتها المثيرة لعقله: هتعيطي ليه دلوقتي يا عشق؟

هتفت بنبرة مرتعشة يائسة وهي تبلع غصة مؤلمة وعبراتها تتساقط: السفر مش هينسيني قُصيّ ولا هيبقي من الماضي، مش في مجال إني أسامحه؟ انا مستعدة أسمعه وأعرف ليه رجعني لجاسم وممكن أسامحه، القلب اللي بيحب ميكرهش، هو أنا لو سامحته يبقى معنديش كرامة؟!

مسد جبينه بعصبية ويكاد يضحك بسخرية بسبب أقوالها الغبية، لكنه لن يسمح لها أن تعود لذلك الضلال مجددًا، لهذا هتف باستنكار: أنتِ لو رجعتي تبقي معدومة كُل حاجة يا عشق مش الكرامة بس، عشان كده لازم تفكري كويس وانا شايف الأحسن ليكِ السفر مش عايزة تنسيه متنسيهوش، بس جربي السفر والتغيير مش هتخسري حاجة!
أومأت وهمست وهي تجفف عبراتها: هفكر فى الموضوع بجد وعد.

أومأ بتفهم وعرض عليها وهو ينظر في ساعة معصمة: لسه في عندنا ساعتين فاضيين تيجي نتمشي؟
أومأت وهي تقف بوجه باكِ جعلته ينبذ صراحته المفرطة في الحديث معها ليسألها بتردد: عشق زعلتي مني؟
هزَّت رأسها نافية وقالت بابتسامة رقيقة رسمتها عنوة لأجله: لا مش زعلانة خالص بالعكس أنت دايما بتفوقني وبتنقذني من تفكيري العاطفي اللي مش بيودي غير في داهيه.
أراحته بردها وابتسامتها ليأخذها ويذهبا.

تجولا معًا في وسط الطريق بالسيارة ومن كثرة الزحام غير وجهته ودخل بالسيارة في أزقة ضيقة حتى انتهى به المطاف في أحد الأسواق.
توقف بالسيارة في منتصف السوق وتطلع حوله بتيه لتهتف عشق مستفهمة: توهنا؟

تردد بين أن يهم بالموافقة ويقول نعم وبين لا ونظراته تجول في الخارج باحثا عن أي لافتة بإسم الشارع لكن لم يجد، كاد يرد بـ نعم لكن استوقفه هتاف إمرأة لا تبصر ترتدي عباءة سوداء مُتسخة بالأتربة تسير في السوق بخطواتٍ متباطئة محنية الظهر تتوكأ على عصاها، والشيب يغزوا شعرها المجعد الظاهر من أسفل الشال الموضوع فوق رأسها ومنسدلا على كتفيها.

عقد كلا حاجبيه ممعنا النظر إليها لتتبين لهُ أكثر كُلما إقتربت لتذكره بالعرافة الشهيرة فانجا إن أحاديثها وتنبؤاتها تصنع ضجة دائما ولا يعرف لمَ الجميع يصدقها، يعجز عن فهم أسباب تصديقهم إلي تلك الخُرافات!
عاد صوتها يصدح في الأرجاء مرددة القول الشهير بطريقتها الخاصة: وشوش الودع.

تنهد و راقب إتكائها على عصاها التي كانت تمسك بها بجهدٍ مبذول لكي لا تسقط منها، ابتسم بتسلية وسأل عشق التي كانت تراقبها باهتمامٍ مماثل: تيجي نوشوش الودع!

ابتسمت بحماس ونظرت إليها ثم أومأت وعيناها تشِع لتلبي المرأة النداء وتقف بجانب نافذة وليد تريح قدميها قليلا وهي تنسد وجهها فوق يدها التي تمسك بها عصاها هاتفه بابتسامة وهي تحرك رأسها وعيناها غير مرتكزة على مكانٍ مُعين لأنها لا تبصر لكن شعورهما أنها تراهم كان مربكاً.
ــ عندك كلام كتير؟
قالت وهي ترفع رأسها قبل أن يسألها أي شيء
ابتسم وليد وقام بمجاراتها في الحديث: أكيد طبعا..
ـ عندك هموم؟

اتسعت ابتسامته وهتف وهو يتمعن النظر إليها: ومين فينا خالي من الهموم؟
ابتسمت هي الأخرى وتحدثت دون أن تجعله يوشوش الودع كما قالت: ولسه هتفضل مهموم، حيران، تايه بين الخير والشر مش مرتاح، مش عارف تعيش لحد ما يظهر الظبي..

قهقهة بسبب قولها هذا الذي تتنبأ به جميع العرافات فيهتف مفسرا لأقوالها: مفيش حاجة اسمها هتفضل مهموم؟ دي اسمها مشاكل وموجودة في حياة الانسان دايما وطبيعي تضايقه سواء دلوقتى أو بعدين أو طول العمر حتى!، والبشر في حرب دايما بين استمرار الخير والشر، في ناس كل يوم بتستسلم للشر
في ناس بتحارب بسبب الخير وبتقاوم
، زيى دلوقتي كده في حرب على أني أصدقك ولا أكذبك، بس أنا عارف هعمل إيه هشتري ظبي.

ظلت ابتسامتها قائمة دون التأثر بتلك السخرية أو ببقية كلماته، وحركت رأسها قليلا كأنها تمعن النظر في الداخل وهتفت بخفوت: عشق.
شهقت بصوتٍ خافت سمعه وليد المتعجب، وارتعد جسدها خوفًا من تلك المرأة واهتزت مقلتيها وهي تناظرها باضطراب.
فأعادت الهتاف بإسمها كأنها تريد أن تسمع ردها أولا قبل أن تتحدث: عشق.
ازدردت ريقها بحلق جاف وأجابت بنبرة مرتعشة والدموع تتجمع في عينيها من الإنفعال: نعم!

ابتسمت ابتسامة مطمئنة وهي تخبرها بهدوء: سافري يا عشق، سافري ومتخافيش هتنوليه.
تتبع قولها تحركها وذهابها بتباطؤ كما سيرها.
استفاقت عشق من صدمتها وتحركت سريعا متذبذبة لتفتح الباب كي تلحق بها، لكن وليد أمسك ساعدها ومنعها عن الذهاب خلفها وخلف تلك التخاريف هاتفا بحزم: متروحيش وراها ياعشق!

هزَّت رأسها بهيستيريا وسألته بانفعال وهي تأشر على مكان وقوفها: وليد محدش قالها حاجة! هي عرفت لوحدها ومن غير ما تاخد فلوس كمان؟! هي مش بتقول اي كلام خالص ومعندهاش سبب يخليها تعمل كده؟
وتحركت مجددًا ليصيح بعصبيه: كذب المنجمون ولو صدفوا يا عشق! ده شرك بالله متفكريش فيه الله يرضى عليكِ!، خليكِ في حياتك ومستقبلك وبس، دول بياعين كلام هو ده شغلهم وبتبقى صُدف وضربة حظ محدش يعرف المستقبل؟

صاحت مبررة بفقدان صواب وهي تتلفت حولها باحثة عنها بأنظارها بلهفة كأنها أملها الوحيد في هذه الحياة: هي مقلتش حاجة في المستقبل! هي قالت سافري عرفت منين عرفت منين.
زفر بحدة وحرر ساعدها وسارع بتحريك السيارة، وقاد وذهب بعيدًا عن هنا قبل أن تجدها وتستمع إليها وتصدق كل ما تمليه عليها، فهي بدون عقل وتصدق الكذابون بسهولة.

عاد إلى عيادته دون أن ينبس ببنت شفة طوال الطريق بينما هي كانت غارقة بأفكارها، صف السيارة جانبًا وترجل بهدوء دون أن ينظر إليها حتى.
صعد ودلف إلى غرفته مباشرةً بضيق، وهي استقرت في الخارج مكانها، شعرت بالحرارة تجتاح جسدها من كثرة التفكير، خللت أناملها في شعرها ولملمته ورفعته ذيل حصان كي لا يضايقها أكثر وهي تنظر تجاه النافذة بشرود وعقلها لا يتوقف عن تذكر قول العرافة، ماذا قصدت بأنها ستنول؟ ماذا ستنول؟

تخلل ذلك الهدوء صوته البغيض العابث أخرجها من شرودها: هو سايب أحلى يا عشق.
تملكها الذعر وتهدل ذراعيها وانساب شعرها وزاغت عيناها، رافضة فكرة الإلتفات ومقابلته، لمَ عاد للظهور في حياتها من جديد لمَ، ففكرة أنهُ يحوم حولها طوال الوقت تُرعبها وتخنقها.
جلس مقابلها وهتف بتسلية: إزيك يا عشق؟ وحشتيني.

ازدردت ريقها بحلق جاف ثم التفتت تنظر إليه بوجه باهت لكن بنظرات كارهة أمام نظراته الخبيثة لتقول بصوتٍ منخفض: إيه اللي جابك يا سامي؟ عايز ايه؟ وعرفت مكاني منين؟
قهقهة بسخرية وعينه تجيل وتتدحرج في المكان بتفحص شمولي قبل أن يقول باستخفاف: وحشتيني قُلت أما أعدي أسلم وأشوف أخبارك وأحوالك وكده!
انهي قوله بنظراتٍ مُعبرة شملتها من أعلاها لأخمص قدميها لا عقا شتفيه بشكلٍ مثير للإشمئزاز.

أومأت بتفهم وهي تحتضن ذراعيها بقوة شاعرة بالقشعريرة، تختبيء من نظراته الوقحة التي تجردها دون إستحياء أو خجل.
شكرته ثم طلبت منهُ الذهاب بحدّة لم تظهرها كثيرا كي لا يعاند معها: شكرا، ممكن تمشي بقي لأن ده مكان شُغلي.
ابتسم ورفع يده والتقط أحد الأقلام من أمامها وقلبه بين أنامله وطلبت باحترام: انا جي للدكتور محتاج أتعالج ممكن أخد معاد؟

احتقن وجهها من الغضب وطلبت بحدّة: لأ مش ممكن ولو سمحت اتفضل بره من غير مطرود!
ضحك ورفع ساق فوق الأخرى ثم سألها بخبثٍ وهو يرفع كلا حاجبيه: مش عايزة تعرفي مين قتل شاهي في الفندق؟
اهتزت مقلتيها باضطراب واختلج صدرها وتصنعت الجهل ناظرة إليه بعدم فهم ليستطرد موضحا أكثر: شاهي اللي اتقبض على قُـ..
قاطعته بحدّة وعلا صوتها وهي تقول: أنا مليش دعوة مش عايزة أعرف حاجة اتفضل اخرج بره بقي؟

تبدلت ملامحه لأخرى غاضبة أخافتها ليبتسم بدون سبب فجأة قائلا وهو يقف: على فكرة دي اتقتلت بسببك لو متعرفيش يعني!

هزَّت رأسها باستنكار وقبل أن تتحدث كان قد ابتعد عازما على الذهاب وتركها متحيرة لكنه تراجع وتوقف أمام الباب ودسّ يديه داخل جيب بنطاله وهتف بصوتٍ مرتفع نسبيا: على فكره جاسم بيعاملني بطريقة وحشة ولما نتكلم بيتكلم ببرود، وانا الصراحة شاكك إنك تكوني قُلتيله النوايا الطيبة اللي جوايا ناحيتك، حقيقي هزعل اوي لو طلع اللي في دماغي صح! وأنا زعلي وِحش أوي يا عشق.

حدجته بحقدٍ خالص وبدأ الغضب يتحكم بها فأمسكت قدح القهوة الفارغ و ضغطت عليه بقوة ونفاذ صبر، وكأنه رأي تلك النظرة بسمة فابتسم في وجهها باستفزاز وقال بتهكم: وعلى فكره قُصيّ مش بيحبك..
هبتّ واقفة من مجلسها وقد عيل صبرها فقذفته بقدح القهوة على طول ذراعها تزامنا مع متابعة قوله بكل استخفاف: لو كان بيحبك مكـ، آآآه، يابنت المجنونة..

انحني متأوها بقوة وهو يتحسس جبهته التي سالت منها الدماء بصوتٍ مكتوم ليجن جنونها عِندما سمعت شتمه لوالدتها فصرخت وهي تهم بحمل الكوب الصيني المعبأ بالاقلام وقذفته عليه صارخةً بعنف ليرتطم بكتفة بقوة: مين المجنونة يا حقير يا (، ) هقتلك يا سامي هقتلك..
عقد وليد كلا حاجبيه بسبب الضجيج الخارجي وصراخ عشق، فترك ما بيده وخرج من الغرفة سريعًا.

استند سامي على إطار الباب متألما، دون أن يتحرك خطوة شاعرا بتشنج كتفه، لتفتح حقيبتها وأفرغت محتوياتها فوق سطح المكتب بهيستيريا تبحث عن مبرد أظافرها بجنون كي ترشقه في رقبته ويخرج من حياتها وتنتهي منهُ إلى الأبد.
أمسكت به وابتسامة حاقدة تعتلي ثغرها وهرولت إليه و عينيها تقدحان شرًا مُغيبة عن واقعها تمامًا، لا تشعر سوى برغبتها في رؤيته جثة هامدة أمامها والآن.

صرخت بـ غل ورفعت يدها وهبطت بها على رقبته لتتسع عيناه بذعر وهو يرفع رأسهُ، لتتوقف يدها بين قبضته القوية سائلا باستنكار: إنتِ بتعملي ايه يا عشق؟
صرخت بهيستيريا و أعين جاحظة وهي تحاول تحرير يدها من قبضته بإصرار وصدرها يعلو ويهبط في عنف شديد: هقتله، هقتله، ده كابوس، كابوس لازم يموت..

حاول فك أناملها من فوق المبرد برفق لكنها كانت تمسك به بقوة تعجب أن تملكها في هذه الحالة، كانت قبضتها شديدة كالأموات لا تنفك وأناملها متحجرة لا تتحرك.
ضغط على يدها بقوة وصاح في وجهها بعصبية: في ايه يا عشق؟ سيبى البتاع ده؟.
وصرخ مستطردا في وجه سامي: وأنت لسه واقف مكانك؟ أمشي من هنا!

وقف باستقامة وهدر متوعدًا أشد وعيد بوجه مكفهر، وعيد أقسم أن ينقذه وهو يخفي جانب جبهته المجروح براحة يده: لو وقعتي في إيدي يا عشق مش هرحمك والله ما هرحمك.
صرخت في المقابل بحقد وكره شديد وهي تلهث من فرط الإنفعال: وأنا هقتلك والله هقتلك، يا حقييييير.
دلف إلى المصعد وألقي عليها نظرة أخيرة تنذر بالشر قرأت من خلالها الكثير، مقابلتهما القادمة ستكون خرابا وتدميرا لأحدهما، أو للإثنين معا.

دفعها وليد إلي الداخل وصفق الباب بعنف وسألها بحدّة: إيه اللي حصل ده؟
تركت المبرد من يدها ليسقط ويصدر رنين فوق الأرضية، ألقت بجسدها على الحائط تخرج أنفاسها المُرتجفة دفعة واحدة كأنها كانت تتعرض للإختناق.
عقد يديه أمام صدره بعدم رضي وهو ينظر إليها، لتبلل طرف شفتيها ثم همست بحلق جاف لاهثة: موافقة هسافر معاك..
سألها بعدم فهم: و ايه سبب موافقتك؟ خايفة منه؟

هزَّت رأسها نافيه وشرعت في الحديث لكن رنين هافتها أوقفها، نظرت تجاه المكتب بجزع مراقبه تحرك الهاتف بذبذباتٍ فوق سطح المكتب، خائفة من هوية المتصل، هرولت إلى المكتب وحملت الهاتف فوجدته جاسم.
ردت عليه متلهفة دون تردد في تعليقة قط: جاسم.
وصلها صوته المفعم بالحب: وحشتيني أوي.
قبضت على حافة المكتب بقوة وهي تغمض عينيها، تحاول الثبات والرد بهدوء دون أن يعرف أن هُناك مايحدث..

أجابت بصوتٍ هادئ لم يعكس خرابها الداخلي: أنت أكتر يا جاسم عامل ايه؟
أعرب عن سعادته عبر قوله الذي يشي بالحماس: الحمد لله يا عشق، انا جايلك على فكره.
ابتسمت ببهوت وسألته وهي تسقط جالسة فوق المقعد: جي فين؟
أجاب متعجبًا الجمود في نبرتها: جايلك القاهرة يا عشق انا في الطريق كُلها نص ساعة و أكون قُدامك، سلام بقى عشان أركز في السواقة مع السلامة..

ـ مع السلامة، ردت بهدوء وهي تنزل الهاتف عن أذنها وظلت ساكنة تُفكر كيف ستخبره بقرار سفرها المفاجئ.

في أحد المقاهي المكتظة بالزبائن، كان آدم يجلس على أحد الطاولات في منتصف المقهى، يهز قدميه الاثنتين بتوتر خالص جعل الطاولة تهتز معهُ بخفة وهو بفكر بـ عمّار، إنه خائفا عليه كثيرًا فإن هذه المرأة تشكل أهم شخص في حياته، إن فقدها سيفقد نفسه معها.

نظر إلى الهاتف يري كم الساعة بعصبية، فهذه المرة الثانية التي يعلقه بها شقيقة ولا يأتي، ماذا أصابه هو الآخر هل جُنّ؟ يتحدث صارخا ويأمره أن يأتي وهو لا يأتي؟!
حمل هاتفه ووقف كي يذهب ومع التفاته وجد مصطفي ممتثلا أمامها ينظر إليه ببرود، حرك شفتيه وكاد يتحدث لكن مصطفي ضغط على كفته أجلسه محله وجلس قبالته.
مسدت آدم كتفه بخفة وناظره بغرابة وسأله بتعجب: في إيه يا مصطفي؟

سأله ببرود مدققا النظر إليه: مفيش حاجة مخبيها عليا عايز تقولها يا آدم؟
هزَّ آدم رأسهُ نافيا بينما يقول ببرودة أعصاب: مفيش غير إن تالين كانت عايزة الشبكة وانا خدتها من البيت وإدتهالها وقالتلي أقولك إنها حامل بس!
ابتسم مصطفي ابتسامة ساخرة جعلت آدم يتعجب بسبب رد الفعل هذا وقال مستفسرا: حامل من مين يا آدم؟ أنا ولا أنت؟!

اهتز صدر آدم بعنف وبهت وجهة وتدرج بألوان قوس قزح السبع متمتما بنبرة مهزوزة مفاجئة: ا، زاي، ازاي، تقول كده؟
زمجر مصطفى بغضبٍ وقال بتهكم ضاربًا الطاولة بكفه: مستغرب كده ليه؟ بقول حاجة محصلتش! هااا؟ تقدر تنكر إنك بتحبها؟ ده انا سمعتك بوداني وأنت بتقول إنك مش هتنساها عمرك كله؟!

هز آدم رأسهُ بحركة عصبية وقال بانفعال وصوتٍ مُرتفع جذب الأنظار إليهما: لأ مقدرش أنكر بس ده مش معناه إنها حامل مني؟ مين ضحك عليك وفهمك الكلام الفارغ ده؟! وأنت ازاي تصدقه؟ أنت مش واثق في مراتك؟
صاح بنبرة جهورية غاصبة دون أن يعبأ بالمكان: لأ مش واثق دي طول الوقت كانت معاك ازاي أصدق؟

شخر بسخريه وضرب الطاولة بقوة وهو يهب واقفا بغضب جام: ما أنت كُنت سيبهالي عشان مقضيها مع سالي ودبستني فيها وخلتني خطبتها وأنت عامل معاها علاقة ودلوقتي بترمي بلاك عليا وبتتهمني بحاجة محصلتش؟! لأ فوق مش هتضحك عليا أنت وأمك.
قوله مبطن، يخبره أنها والدته! هل يعرف أنها ليست والدته طوال الوقت ويقصد تخريب حياته؟

لكمة مصطفي بعنف أسقطه أرضًا بعد أن إنزاح الكرسي من مكانه، فجأر بغضب ونفرت عروقه وكور قبضته ووقف وسدد إليه لكمة لم تكن بتلك القوة لكنه صعد فوق الطاولة وقفز عليه لتستقر ركبتيه فوق كتفي مصطفي أسقطة أرضا معتليه وظل يسدد إليه اللكمات بدون وعي صارخا في وجهه بقهر حتى ذهب صوته: تالين أشرف من عيلتك كلها يا (، )، بعد كل ده بتشك فيها وبتتهمها في شرفها يا واطي، أنت ماتستهلش ضفرها يا إبن الـ(، )، أنت هطلقها فاهم ولا لأ هتطلقها.

تجمع العاملين وبعض الرجال من المقهى وأبعدوه عنهُ بصعوبة بسبب تعلقه به وتشبثه في قميصه مما أدى إلى قطع أزراره العلوية وتطايرها.

سعل مصطفي بحدّة وهو يقف مع الرجل الذي يسنده ماحيًا الدماء من على شفتيه متراشقًا النظرات الكارهة مع آدم اللاهث الذي ينظر إليه بكره يضاهي كرهه و أكثر، وصدره ينقبض وينبسط بقوة ليصرخ آدم بنفاذ صبر في الرجال الذين يقيدوه يسألونه الهدوء: خلاص، سيبوني محصلش حاجة، وأنت بدل ما تفضل تجري ورا النسوان زي الكلب تبقى روح إعمل تحليل الـ DNA لوحدك واكبر بقي وخليك راجل بعيد عن أمك والتانية اللي سيقاك زي الحُمار.

دفع الرجل بانفعال واندفع كي يلكمه لكن آدم ضرب جبهته بجبهته بقوة ألمت كليهما، أمسك مصطفي رأسهُ بألمٍ لثوانٍ قليلة وزمجر مندفعًا إليه صائحا بتهديد: هقتلك وهقتلها يا آدم.
هدده بالمثل بخسة: هكون قتلك قبلها يا بتاع سالي.

حرر قبضته بعنف ولكمه بقوة ومدَّ يديه إلى رقبته خانقًا إياه لكن الرجال أبعدوه وأخرجوه من المقهى نهائياً، دون أن يستمع آدم إلي الترهات التي كان يتفوه بها. كادوا يخرجونه هو الآخر لكنه دفعهم عنهُ وزفر وعدل الكرسي المترنح وجلس عليه والدماء جفت فوق جرح شفتيه وجبينه بدأ يتورم من الجانب بوجه أحمر محتقن، يتنفس بلهاث وعصبية ثم انحني والتقط هاتفه الساقط.

اتي إليه النادل بثلج وقطن وبعض الأدوات الطبية ليسأله آدم بعصبية: مين قال اني عايز؟
تحدث النادل باحترام وهو يأشر خلفه على إحدي الطاولات في الزاوية: الآنسة اللي هناك دي هي اللي طلبته لحضرتك.
التفت خلفه بوجوم ليبصر فتاة تجلس ترتدي ملابس رياضية توليه ظهرها تحدق في الخارج لكن سرعان ما تعرف عليها بفضل شعرها الطويل.

زفر وحمل الثلج ووضعه فوق جبينه متمتما ببعض الكلمات الغير مفهومة بحنق، فهو مضجر وحالته لا تسمح بالحديث ولا الثرثرة معها.
حمل هاتفه بعد مرور وقت رُبما، يوازي نفس الوقت الذي قد يصل به مصطفى إلي تالين إن قرر الذهاب إليها، انتظر ردها عليه وهو يكاد يجن من فرط القلق من أن يكون قد ذهب وقام بأذيتها.

أغلق الهاتف وقذفه أمامه مخللا أنامله داخل شعرة بغضب وعمد على هزْ قدميه بقوة وتوتر. ثم حمل هاتفه من جديد وهاتف قُصيّ..
وفي هذا الوقت في منزل قُصيّ..
كانوا جميعًا يجلسون في غرفة الجلوس كعائلة سعيدة يشاهدون أحد الأفلام الأجنبية في التلفاز، قُصيّ كان يحتضن ريمة ومعظم الوقت كانا يتهامسان معًا خلسة بينما جـنّـة كانت قد احتجزت غرام معها على الأريكة المجاورة تراقبهما بغيره.

أخرجها من شرودها همس غرام الرقيق الذي كان وقعه عليها كـ بلسم مهدئ: مامي الكوكيز حلو اوي.
قبلتها جـنّـة بحنو وهي تضمها إلى صدرها وهتفت بنعومة وهي تداعب وجنتها الهلامية الرقيقة: بالهنا يا حبيبتي..
قرب قُصيّ قطعة البسكويت من فم ريمة وهتف بصوت منخفض ساخر: دوقي عمايل الشيف جـنّـة.
برمت شفتيها وقالت بامتعاض: مش عايزة.
تحدث مقترحًا: طب عصير؟
هزَّت رأسها برفض وهتفت بعبوس وهي تزم شفتيها: أنا جعانة يا قُصيّ؟

فكر قليلا ثم هتف بعبث: تيجي نعمل بيتزا؟
قفزت من محلها صائحة بحماس: موافقة يلاااا
قهقهة وحثها على الذهاب: روحي وهحصلك..
أومأت وركضت إلى المطبخ بحماس لتتحرك جـنّـة وتقترب منهُ لكن أوقفها رنين الجرس، تحرك قُصيّ كي يفتح لكن جـنّـة ركضت إلى الباب سريعًا وفتحته بحماس تلاشي عندما لم تجد أحدًا.

تلفتت حولها بحيرة وغيظ وعادت إلى الخلف كي تغلق الباب لتستوقفها وردة بيضاء وجدتها موضوعة أسفل قدميها، تبسمت بسعادة ومالت تلتقطها بحب، تفكر في قُصيّ بهيام فهو بالتأكيد من يفعل هذا.
عادت إلى الداخل بخطواتٍ سريعة مهرولة إليه بابتسامة عذبة ووجه بشوش، نظر إليها باستفهام وكاد يسأل من كان ليجدها عانقته بدون مقدمات وأحاطت خصره بقوة وإن لم تكن غرام جالسه لجسلت على قدميه وتدللت أيضًا.

همست بهيام وهي تحرك رأسها فوق صدره ويدها تداعب خصره: بحبك أوي.
نظر إليها من علو وتمتم مستفسرا: وده من ايه؟
رفعت رأسها وتركت خصره ثم رفعت الوردة أمام عينيه وهتفت بابتسامة سعيدة: ملقتش حد بره بس لقيت الوردة، الوردة دي شبه الورد اللي أنت جتبهولي إمبارح.
أومأ وهو يأخذها من بين أناملها بابتسامة غامضة، إنها لمار من فعلت هذا فأمس أخبرته أن لا مانع لديها من أن تبعث إليه كل يوم وردة.

أخذها من بين يديه ممعنا النظر إليها ومقلتيه تومض ببريق مميز كان يتلألأ داخلها جعلها تغار وتختطفها منهُ محتجة بحزن جعلته يضجر و عكرت صفوه: ايه يا قُصيّ مش عارفها مش أنت اللي باعتها؟

زفر وكاد يبعدها عن أحضانه لكن أبصر غرام تنظر إليهما بابتسامة سعيدة تراقبهما بشغف، فبعث إليها قبله هوائية فأعادتها إليه بلطافة ليتحرك تاركا جـنّـة وحملها هي وقبلها بحنان ضاما إياها إلي قلبه سائلا وهو يتحرك بها اتجاه المطبخ: تيجي تعملي بيتزا معايا انا وعمتو؟
أومأت بحماس لتقف جـنّـة عزولا أمامه قائلة باعتراض: لأ سيبها عايزاها وبعدين لسه مأكلتش كفاية.

نظر إليها بدون تعبير ثم وضع غرام بين يديها وتخطاها وذهب إلى المطبخ.
زمت غرام شفتيها وعبست قائلة بحزن: مامي عايزة اعمل بيتزا!
جلست بها جـنّـة على الأريكة وقالت برفق وهي تمسح على شعرها: حاضر يا حبيبي هتروحي وهتعملي بيتزا بس قولي لي الأول يا أميرتي عمتو بتاخدك وبتروح فين؟
عبثت غرام في أناملها وطلبت منها بخفوت: مامي عايزة عصير.

ناولتها جـنَّـة كوب العصير برفق وهي تبتسم وكادت تعيد سؤالها لكن غرام طلبت بلطافة: كوكيز بقي.
تنهدت جـنَّـة وأطعمتها بنفسها منتظرة حتي تشبع كي تعرف منها إلي اين تأخذها ريمة بإلحاح كل مرة، ووضعت يدها أسفل وجنتها تنتظرها حتى تنتهي.

لوكت غرام ببقية البسكوت داخل فمها ثم ارتشفت العصير ببطء وتمهل كادت تصيب جـنَّـة بجلطة من الانتظار، أنهته أخيرًا ثم وضعت الكوب من يدها برتابه فوق الطاولة وطلبت برقة وهي تطرف بأهدابها بلطافة: ممكن wipes يا مامي؟

ابتسمت جـنّـة بعصبية ورفعت يدها ومسحت حول فم غرام بأكمام منامتها لتهز غرام رأسها برفض وتبتعد منزعجة عاقدة ما بين حاجبيها، نظرت إليها جـنّـة بتعجب وأعادت تقريب يدها من وجهها ليحمر وجه غرام وتصيح بعصبية وهي على حافة البكاء: لأ جراثيم عايزة wipes يا بابي..
أتاها قُصيّ مهرولا من الداخل بقلق، لتقف فوق الأريكة وتمد ذراعيها مستغيثة به بأعين دامعة، فحملها بقلق لتجهش في البُكاء وتنحب فوق صدره بحرقة.

فغرت جـنَّـة فمها وهي تراقبها عاجزة عن التفوة بحرف!
ليسألها قُصيّ بحدّة: إنتِ عملتي إيه؟
حركت شفتيها للإجابة لكن غرام رفعت رأسها وهتفت بحرقة وهي تشهق بوجة متورد: ريمة بتديني wipes هي مش بتديني wipes و My lips مش نضيفة.
تبسم بحنان وضمها بقوة ومسح على ظهرها برفق كي تهدأ مواسيا: خلاص يا حبيبتى متعيطيش هجبلك أنا متزعليش نفسك.

أومأت بحزن وهي تقوس شفتيها، تنظر إليه ببراءة ليجفف عبراتها بنعومة ثم أنزلها فوق الأريكة وصعد إلى غرفة ريمة يبحث بداخلها فهي من تستخدم ذلك النوع من المناديل وغرام كانت تقطن معها لسنوات هذا طبيعي.
نظرت غرام بجانبها إلى جـنَّـة التي تناظرها بحزن ثم همست وهي تضم قبتضيها الصغيرة معًا بندم: sorry.
تشجعت جـنّـة و اقترب منها وأحاطت كتفيها برفق وهي تنخفض لمستواها سائلة: في بنت جميلة وحلوه تزعق؟

هزَّت رأسها نافية وتجمعت الدموع في عينيها وهمست بندم طفولي: مكنش قصدي مش هعمل كده تاني.
ضمتها جـنَّـة بقوة وربتت على وجنتها بنعومة قائلة بحنان: مش زعلانة يا حبيبتي متزعليش أنتِ مني.

هزَّت رأسها بخفة في أحضانها وظلت ساكنه حتي أتي قُصيّ بما تريد وجلس القرفصاء أمامها، تهللت أساريرها ووقفت وأخذت منديلا بنفسها ونظفت حول فمها بدقة أثناء مراقبته إليها بانتباه، انتهت وهرولت إلى صندوق القمامة ووضعته بداخله بهدوء ثم عادت وجلست بأريحية وابتسامة سعيدة زينت ثغرها.
قهقهة قُصيّ وسألها بابتسامة: مبسوطة؟
صاحت بسعادة: أوي أوي
سألها وهو يحوط خصرها: أنتِ أكلتي ايه بقى لكل ده؟
أجابت بلطافة: كوكيز.

ارتفع كلا حاجبيه وضيق عينيه قائلا بمبالغة شديدة: يا خبر كوكيز مرة واحده عندك حق فعلا. اومال لو أكلتي Meat هتعملي ايه؟
اتسعت عيناها وهتفت بخفوت شارحة بيديها الصغيرتين تحثه على خطورة السؤال: هغسل ايدي مرتين كويس أوي.
قهقهة ودغدغها مشاكسًا: بجد، يعني مش مرة واحدة ولا تلاته..
تلوت ضاحكة بين يديه صائحة بإصرار من بين ضحكاتها: ههههههههههه لـ، أ، يا بابي مرتين بس.

حررها ورحمها من كثرة الضحك ثم قبلها وحثها على الذهاب بحنان: يلا روحي اعملي بيتزا مع ريمة يلا.
أومأت وركضت ضاحكة وذهبت إلى ريمة، ليتنهد هو ثم التفت ينظر إلي جـنَّـة لتسارع بالتبرير بقلق ةاضطراب: انا مقولتلهاش لأ والله هي اللي عيطت لما مسحت شفايفها بـ كُم البيجاما بتاعتي.

أومأت بتفهم وقال بهدوء: عارف و عشان كده هقولك تخلي بالك من تصرفاتك معاها لأنها حساسة جداً، وياريت اي حاجة تطلبها تديهالها طالما مش خطر عليها ولو خطر فهميها براحة لكن متوصليهاش للعياط انا مش عايزها تتعقد! غرام تربيتها مُختلفة مش زينا وياريت تقدري ده وتفهميه كويس، ولما تلاقيها اتخنقت وهتعيط يا تحايليها يا تبعدي عنها طالما مش عارفة تتعاملى معاها، وبحذرك تتعصبي عليها ولا تتأففى حتى!

اكفهر وجهها و إحتجت بغضب بسبب كلامه الذي أعتبرته بلا معنى وشرعت في الحديث باستنكار: أتعصب عليها فيـ..
شهقت بفزع عِندما أمسك ساعدها بقسوة محدجا إياها بنظرات نارية هادرًا من بين أسنانه بصوتٍ منخفض غاضب كي لا تلاحظ غرام: متستهبليش عليا انا شايفك من المطبخ وأنتِ بتأكليها بسرعة كأن حد بيجري وراكِ وقاعدة مستنياها تخلص وتعابير وشك زي الزفت! لو مش فاضية ولا طايقة نفسك ولا التربية يبقي تقولي ونفضيها سيرة؟

اتسعت عيناها بانفعال وهزَّت رأسها بهيستيريا وترجته بنبرة مرتعشة: مكنش قصدي خالص والله مكنش قصدي.

حرر معصمها وقبض على ذقنها بقوة مقربا وجهها منهُ وهسهس بتهديد محذراً للمرة الأخير وعيناه تومض بالشر: أقسم بالله يا جـنَّـة لو متعدلتيش وخدتي بالك من أقل تصرف يخرج منك وقدرتي النعمة اللي أنتِ فيها هسفرها ومش هتشوفيها تاني في عمرك، وده معاد المدرسة كده كده هتتدخل وهتتلهي مع صحابها وهتنساكِ ومتفتكريش إن صعب عليا أبعدها تاني؟، ولو فضلتي كده هي بنفسها هتطلب تمشي وساعتها مش هيبقى في أسهل من السفر.

كانت تستمع إليه والندم ينهشها، لكنهُ رأي الظاهر فقط لا يعرف الباطن، سقطت عبراتها بألم بسبب إذلاله إليها كُلما سنحت الفرصة، يريدها أن تظل خائفة دون إستقرار، أن تنام وهي تفكر أنها ستستيقظ غدا ولن تجد طفلتها، علها تتعظ.

توسلته بصوتٍ مختنق: متعملش فيا كده يا قُصيّ انا والله مكنش قصدي، كل الموضوع اني سألتها عن حاجة مردتش عليا وطلبت تاكل فا كنت مستنياها تخلص بس ممكن من ضيقي مخدتش بالي بس مش هيتكرر تاني والله.
سألها بسخرية ظنا أنها تكذب: وايه السؤال المثير أوي ده اللي هتجاوبك عليه غرام ها؟

اهتزت مقلتيها وشحب وجهها، ازدردت ريقها بحلق جاف وحركت أهدابها بسرعة باحثة عن إجابة مقنعة قبل أن يفتك بها لينقذها رنين هاتف قُصيّ، دفع وجهها إلى الخلف بحدّة ثم أخرج هاتفه وصعد يتحدث في الأعلى.
يعرف أنها لم تقصد أيًا مما حدث، لكنهُ كان يؤهلها لا يحذرها لأن ما قاله هو ما سينفذه.
جففت جـنَّـة عبراتها بعنف ثم حملت الهاتف وهاتفت سامي وهي تهز قدميها بتوتر عاضة على أناملها بقوة: الو، قابلني، هجيلك، سلام.

أغلقت الهاتف وراقبت غرام في المطبخ، تفكر في طريقة كي تستخرج الكلمات منها بسهولة، فيجب أن تعرف لأن ما تشك به إن كان صحيحا ستصبح ريمة خاتم في إصبعها.
هبط قُصيّ الدرج بسرعة بعد أن أرتدي ملابسه بعجلة من أمره وقال بهدوء: مش هتأخر، وذهب في طريقه إلي آدم.
اتجهت جـنّـة إلى المطبخ وأخذت قطعة حلوى من الثلاجة ثم حملت غرام الجالسة تشاهد ريمة بابتسامة، وخرجت من المطبخ كي تعرف إجابة سؤالها.

راقبتها ريمة بطرف عيناها وتصنعت عدم الانتباه إليها وتجاهلتها تمامًا ثم قذفت مابيدها وتخصَّرت بعدم رضي وهي تراقب إبتعاد قُصيّ من نافذة المطبخ بالسيارة ولا تعرف متى سينتبه لنفسه ويتوقف عن الركض هُنا وهُناك تاركا شؤونه دون إهتمام، ولكي تكون دقيقة أكثر متي سينتبه إليها ويهتم بها أكثر من هذا؟ إنها تشعر بالوحدة.

ضحكت جـنَّـة بعدم تصديق وأخذت تمسح على شعر غرام برفق ثم طلبت منها بحنان: روحي اقعدي مع عمتو يا حبيبتي بقي عشان مامي خارجة يلا.
أومأت وأخذت طبق الحلوى وهرولت إلي المطبخ، لتضع جـنّـة ساق فوق الأخرى ولفت خصلة ناعمة حول أناملها تنظر إليها وابتسامة انتصار تتألق فوق شفتيها.

حسمت أمرها وصعدت ترتدي ملابسها كي تذهب إلى مقابلة سامي. انتهت في وقتٍ قياسي ونزلت الدرج وكعب حذائها يقرع كالطبول فوق الدرج، ترتدي بنطال خامة الجينز ضيق وفوقه كنزه بحمالات رقيقه وفوقها ستره أنيقه وصففت شعرها، مرَّت على المطبخ قبل أن تذهب.
رفعت نظارتها الشمسية فوق شعرها وسألت مستفسرة وعيناها تجيل في المطبخ: فين غرام؟

أجابت ريمة بهدوء بنية تجاهلها: بتلعب في الجنينة وكفاية أكل حلويات عليها كده مش كل شوية حاجة حلـ، أنتِ خارجة؟!
أومأت بإبتسامة مبتسرة و استدارت على عقبيها كي تغادر لكن استوقفها سؤال ريمة المبطن الذي يحمل معنيين: قُصيّ عارف؟ ولا هقوله أنا لما يرجع؟
استدارت إليها جـنّـة وقالت باستفزاز وهي تضع الحقيبة أمامها بجانب العجينه التي تركتها تختمر: لا ميعرفش وأنتِ مش هتقوليله حاجة يا قلبي.

ابتسمت ريمة واسندت مرفقها فوق رخامة المطبخ سائلة بسخرية: ومن امتي ده إن شاء الله؟
همهمت جـنَّـة وهي تكتف يديها أمام صدرها، وارتفع حاجبها الأيسر وهي تضم شفتيها بتفكير ثم قالت بثقة استشفت بها ريمة التهديد: لو قولتي اني خرجت هقول انك بتروحي لجاسم بحجة صاحبتك اللي ساكنه في إسكندرية وبتاخدي بنته معاكِ كمان حلو؟

ضحكت ريمة بسخرية وهي تخفض رأسها بينما تقول باستخفاف: جاسم مرة واحدة كده؟ خيالك واسع أوي يا جـنّـة بجد وهربت منك المرادي!
أمالت جـنّـة رأسها للجانب، تنظر إليها بنظرة ناعسة ذات مغزى أخبرتها من خلالها أنها كُشفت وانتهي أمرها ثم هزَّت رأسها للجانبين بأسف، وهمست مواسية وهي تهم بحمل حقيبتها: متزعليش ياريمة مش أي حد يخطط وينجح من غير ما يتكشف! أنتِ مش أنا يا روحي..

تتبع قولها بإرسالها قبلة هوائية مع غمزه مفعمة بالحماس و استدارت على عقبيها بانتصار تبدل لصرخة مذعورة عِندما جذبتها ريمة من شعرها بعنف وإرتطم ظهرها بالرخام بقوة، تأوهت بصوتٍ مكتوم ورفعت يدها إلى يدِ ريمة تبعدها عن شعرها، لكن هبط كف ريمة إلى رقبتها تخنقها من الخلف بعنف مهسهسة بجانب أذنها كأفعي بعينين تنضخان بالشر: أنا مش قُصيّ يا بنت حبيب، معنديش نقطة ضعف، لا بنتي هتتاخد مني ولا جوزي هيطلقني! فاهمة؟ وأحسنلك بلاش أنا، أنا مؤذية وهأذيكِ في وشك مش هعمل زيك وزي قُصيّ وهتلون وأنام في حضنك وأنا بدبرلك مصايب من ورا ضهرك فاهمة؟

همست باختناق وهي تضرب يدها بقوة كي تحررها: فـ، فا، همة، دفعتها ريمة بقوة فاكتفأت على وجهها وسقطت أرضا تسعل بحدّة، تمسد رقبتها بحركة سريعة وقلبها يتقافز داخلها بهلع، تلتقط أنفاسها بصعوبة، تتراشق معها النظرات الكارهة بأعين حمراء دامية.
وضعت يدها فوق بطنها بخوف ووقفت باتزان لتجد الحقيبة تقذف في وجهها تبعها صياحها بشراسة: غوري في داهيه.

التقطتها قبل أن تسقط أرضًا ثم نظرت إلى ريمة نظره متوعدة حملت بطياتها الكثير، وسارعت بإرتداء نظارتها وغادرت بخطواتٍ دمغت فوق الأرض أسفلها من فرط غضبها و القهر الذي تشعر به بسببها.
ذرعت ريمة المطبخ ذهابا وجيئة كطائر جريح وهي تلعن نفسها وغبائها الذي أودي بها إلى جـنّـة في النهاية! اللعنة عليها.

جلست أرضًا تفكر في رد فعل قُصيّ عِندما يعرف بهذا، ولا إراديا انسلت عبراتها وظلت تبكِ وهي تغمر وجهها بين راحتيّ يديها تستعيد حديث أمس الذي دار بينهما في الغرفة.
أغلق قُصيّ باب الغرفة خلفه بتوجس أمام نظراتها المتعجبة، حركت شفتيها لتصيح لكنهُ رفع سبابته مع كلا حاجبيه محذرا كي تصمت.

سكتت وانتظرته حتى اقترب وقرر الحديث ليقول بهمس شديد متوجسا: من النهاردة عايزك تكوني جاهزة في أي وقت هقولك سافري تسافري حتى لو كنت بره البيت أتصل اقولك سافري تسافرى مفهوم؟
طرفت بتعجب وسألته بعدم فهم: سفر ايه يا قُصيّ اللي بتتكلم عنهُ تاني؟
مسد جبينه بتعب وقال مترجيا: المرادي بس ياريمة!.

ادمعت عينيها وارتجفت ذقنها واهتز صدرها بعنف، نظرت بالإتجاه الآخر رافضة بإنهاك، أشفق عليها وكره نفسه أكثر، فاقترب واحتضن وجهها وجفف عبراتها المتساقطة معتذرا منها بأسف: أنا عارف إني مش الأخ اللي كُنتِ بتتمنيه، وعارف إنك متقدمتيش لحظة ولا عملتي حاجة في مستقبلك من ساعة ما أتخرجتى بسببي، عارف إن نفسك تحبي وتتحبي زي أي بنت في سنك ومش عارفة بردو بسببي، عارف كُل حاجة من غير ما تتكلمي ولا تعيطي..

لم تحتمل أكثر فهربت شهقتها وعانقته بقوة تبكِ على صدره بحرقة تخرج ما يجيش بظصدرها تشكو منهُ إليه ليعيد إعتذاره مقبلا رأسها بحنو: أنا آسف، والله آسف..

رفعت رأسها وجففت عبراتها سريعًا ثم احتضنت وجهه وقالت بهمس وهي تبتسم بنعومة: أنا بحبك وبعمل كده عشان بحبك و عشان حابه إني أساعدك وأكون جنبك دايما، صدقني ميهمنيش كل الكلام ده قد ما تهمني حياتك و إنك تكون كويس ومعانا، أوعي تعتذر تاني ولا تفكر إني زعلانة! أنا خايفة عليك بس، أنا مليش غيرك في الدنيا.

ضمها إلى صدره بحنان وأخذ يمسح على ظهرها بنعومة والابتسامة تزين ثغرة ثم همس بوعدٍ صادق: صدقيني دى آخر مرة والمرة دي بجد لأني هسافر معاكم ومش هرجع تاني.
فصلت العناق ونظرت إليه بعدم تصديق وهمست بذهول: مش راجع؟ وأصحابك مش هتشوفهم تاني أبدًا؟
قهقهة على تعابيرها المنصدمة ومسح على شعرها برفق هامسا: لا هشوفهم طبعا عادي بس مش في مصر.
سألت مشدودة: اومال هيسافروا معاك؟

نفي بهز رأسه مع كتفيه وتمتم بجهل: مش عارف والله بس أكيد محدش هيسافر ايه اللي يسفرهم ويبعدهم عن أهلهم يعني؟
رفعت حاجبها بانتباه جعلته يضحك قبل أن يستطرد بثقة: بس عارف إننا عمرنا ما هنتفرق وواثق جدا كمان.
ابتسمت وهمست بتمني: كان نفسي يبقي عندي اصحاب وعلاقتنا تكون قويه كده.
ـ طب ما أنتِ عندك صح؟
عقد كلا حاجبيها وهتفت باستفهام: مين؟
قال ممتعضا: البنت بتاعة اسكندرية اللي لازقة فيها!

ارتبكت و ضحكت بتوتر وهي تدّلك عنقها وقامت بتغيير مجرى الحديث قبل أن يستفسر عن صديقتها: أنت مجبتش سيرة غرام ليه؟
أجابها بابتسامة وهو يفكر بها: غرام هجيبها أنا معايا متقلقيش، أهم حاجة تكوني جاهزة في أي وقت تمام؟
أومأت بتفهم وطغي القلق على ملامحها ليلثم جبينها بحنان وطمئنها مؤكداً على قوله وهو يمسد ذراعيها صعوداً ونزولا بحركة دافئة: دي أخر مرة صدقيني ثقي فيا زي ما أنا بثق فيكِ..

قضمت شفتيها بقهر وتابعت وصله بكائها ورنين كلمته الأخيرة كان يتردد داخل أذنيها بصوت مُرتفع كأنه يوقظها كي تتراجع وتنقذ نفسها مما هي مقدمة عليه.
تشبثت في حافة الحوض ووقفت بأعصاب تالفة ثم أخذت الهاتف كي تهاتف جاسم، ضميرها يؤنبها وهي تريد أن تنتهي من هذا وتسرع قبل أن تذهب.
أتاها الرد بعد ثوانٍ قليلة: الو، ريمة إزيك؟

جففت عبراتها و تحمحمت تجلي حنجرتها كي يخرج صوتها هادئا كما إعتاد منها ودرت بلطف: الحمد لله كويسة، فاضي النهاردة أجي؟
تمتم معتذرًا: للأسف لأ ممكن تأجليها لبكره؟
قالت بلا بأس وهي تبتسم ابتسامة لم تظهر: ممكن جدًا ولا يهمك مع السلامة..
أغلق الهاتف زافرا بضيق ثم قذفه على المقعد بجانبه بعدم إهتمام، صب تركيزه على الطريق فتهللت أساريره عِندما أبصر عشق تقف أسفل البناية التي تقطن بها تنتظره..

صف السيارة جانبا ولذة غريبة اجتاحت جسده برؤيتها أسرت جميع حواسه، تناول الظرف الموضوع به الأوراق التي تخص ملكيتها وميراثها من والديها وترجل سريعا وخفقاته تسبقان خطواته في طريقه إليها.
شعر بالمسافة تبعد أكثر وبكونه لم يقترب قط فصاح بأسمها لعلها تُقصر هذا الطريق الطويل عليه.
ـ عـشـق.

استدارت على عقبيها لتتسع ابتسامتها وتهرول إليه ليركض بدوره بقوة واللهفة تتقافز من عينيه، حملها من خصرها بها بقوة ودار بها أسفل البناية وهو يضحك بصوتٍ رنان سعيد صائحا بقوة: وحشتيني، وحشتيني أوي..
دفنت أناملها في شعره ودسَّت رأسها في كتفه هامسة بحنين: أنت أكتر يا جاسم..
أنزلها وقبّل جبينها مطولًا، غالقا عينيه باستمتاع حتى ظنت أنه التصق ولن يبتعد قط.
ضحكت بنعومة وهمست بخفة وهي توكز صدره بسبابتها: جاسم!

انتبه على نفسه وفتح عينيه وابتعد عنها على مضض بابتسامة دافئة، أمسك بيدها دون مقدمات وسحبها خلفه بينما يقول بسرور وعيناه تشع بحماس متطلعا إلى معرفة رد فعلها: تعالي نقعد في المطعم ده عشان عايز اتكلم معاكِ.
ضغطت على يده و أبطأت السير جعلته يقف والتفت إليها، فارتبكت وقالت بتوتر: ليه المطعم نقعد فوق في الشقة!
رفض وتابع سيره بها سائلا بغرابة: معقوله يا عشق مزهقتيش من القاعدة في البيت كل الفترة دي؟

سكتت ولم تعقب على حديثه وتابعت السير معهُ صامتة، فهي لم تخبره بعد أنها كانت تعمل في المطعم ولا بكونها تركته واستعانت بطبيب نفسي وأصبحت تعمل معهُ، لا شيء لا يعرف شيئا كانت تطمئنه عليها فقط كي لا يقلق ويأتي وهو لا يرغب في الإتيان و شعوره بالمسؤولية هو من يدفعه كي يأتي.
بينما في هذه الأثناء داخل المقهى..

ضغط قُصيّ على جبهة آدم بابتسامة ليتأوه بقوة ويصفع يده بضيق متأففًا في وجهه بحنق صائحا بإزدراء: أنت عبيط ولا ايه؟ بقولك بتوجع بطل لِعب..
قهقهة قُصيّ وقال بفخر وهو يضغط على شفتيه المجروحة: فخور بيك يا دومي، دي علامات الفخر أنت متعلمش عليك لأ..
ضرب آدم ظهر يده ودفعها بعيدا بينما يقول بثقة: مين قالك إنه اتعلم عليا عيب عليك؟
ضرب كتفه وهتف مشجعًا وهو يضم قبضته: عاش يا وحش..

ابتسم آدم لبضع ثوانٍ قبل أن يعود الهم يجثم فوق صدره، وتبدلت ملامحه بأخرى حزينة قائلا: صح نسيت أقولك اللي حصل عند عمّار.
نظر إليه بانتباه ليقُص عليه ما دار بينه وبين دهب في المكالمة الهاتفية.
صاح قُصيّ متأسيا بحزن: لا اله الا الله حصل ازاي ده؟ ده أنا بحبها، كان عليها حته شبشب يا آدم بيطبع على الجسم يلا الله يرحمها.

قذفة آدم بالثلج في وجهه وزجره بحدة وغيظ: الله يرحمها ايه يا متخلف أنت! لسه عايشة ده عمّار لو سمعك هيعدمك، والله تستاهل الضرب اللي كُنت بتاخده فعلا..
كاد يرد عليه لكن فضوله منذُ أن جاء ورأي ظهر تلك الفتاة لا يهدأ أبدًا.
سأل آدم باستفهام: هي اللي مديانا ضهرها دي مش لمار؟
استدار آدم وحدق بها قليلا متصنعا المفاجئة وأنهُ يراها للمرة الأولي، ثم استدار إليه وقال بكذب: معرفهاش متهيألي لأ!

ابتسم قُصيّ بخبث مراقبا اضطرابه وتردده ثم وقف قائلا: يبقى أروح أتأكد بنفسي بقي.
زفر آدم بعصبية وأمسك ذراعة قبل أن يذهب صائحا بغضب: رايح فين ياحلوف إنت مش جي تقعد معايا؟
قال مبررًا: أنت عارف يا آدم القاعدة مش بتطري غير بالعصير.
كانت منغمسة في رسمه ترسمها بدقة وتركيز وهي تخفض رأسها فوق الورقة، توقف أمامها وقرر التحدث باحترام حتى يعرف هويتها أولا.

حمحم بخفة وسأل بلباقة وثقة: حضرتك لـ، انشراح إنتِ هنا؟، قال مشاكسا بعد أن رفعت رأسها وتأكد أنها لمار.
ضحكت لمار دون أن تخفي علامات التفاجئ عن وجهها ورحبت به بابتسامة رقيقة: قُصيّ إزيك، عامل إيه النهارده؟
أجاب مبتسما وهو يجلس: أنا الحمد الله كويس جدًا والورد بيوصل وباكله وكُله تمام.
قهقهت بنعومة وهي تنظر إليه ليباغتها بسؤاله الفضولي وهو ينظر إلى ملابسها: أنتِ بتلعبي رياضة ولا ايه؟

أومأت مؤكدة وقالت بعزيمة: اه بدأت النهاردة عشان أخس..
راقص كلا حاجبيه بعبث وهتف بنبرة لعوب: رياضة ايه بس ياعم ده أنت كده بطل؟
طرفت بتفاجئ وتخضبت كلتا وجنتيها بالحمرة وتركت القلم ورفعت يديها وطبطبت بهما على وجنتيها بخفة قائلة بخجل: كسفتني يا قُصيّ! أخص عليك.
هتف ممتعضا: أخص عليا ايه يا كرنبة أنتِ أنا برفع من روحك المعنوية؟

قذفت عليه الممحاة بغيظ فأمسكها سريعا سائلا بسخرية: ايه ده؟ بتسمعي جدول الضرب ولا ايه؟، ورفق كلامه باختطاف الدفتر من أسفل يدها وتطلع إليه باهتمام.
ابتسم أثناء قراءته ما كتبت بطريقة لطيفة، ليصفر هاتفا بإعجاب في نهاية قراءته: أووه بيوتي لمار؟
أومأت سريعا وضمت يديها إلى صدرها والرغبة تشع من عينيها وبريق لامع متميز يتلألأ داخل مقلتيها هامسة بتمني: ده حلمي يا قُصيّ.

سألها وهو يحدق في رسمتها بابتسامة، لأنه يقدر الأمنيات ويحترم الإصرار في تحقيق الرغبات: طيب فكرتي هتعمليه ازاي وفين؟
عبست وزمت شفتيها وبتنهيدةٍ طويلة قالت: لا لسه لما الفلوس تكمل الأول هبدأ أدور وكده؟
سألها بدون مقدمات: معاكِ كام؟
حركت أهدابها بتعجب تنظر إليه بأعينها الواسعة هذه عاجزة عن الرد ليستطرد بسبب تفاجئها: فضول مش اكتر! قولي..

ابتسمت ببلاهة ودلكت عنقها قائلة ببعض الخجل بسبب مبلغها الصغير: داخله جمعية من كام سنه كده وهقبضها قريب.
ـ فضول تاني، كام؟
ضربت قدميها في الأرض بتذمر بسبب إصراره وأجابت بامتعاض: متين ألف..
أعاد النظر إلى رسمتها بتدقيقٍ أكثر لترفع يدها وتسند مرفقها فوق الطاولة تراقبه بتركيز وأعين ثاقبة.

رفع مقلتاه إليها وقال بهدوء: الفلوس قليلة ومش هتجيبلك اللي أنتِ عملاه ده؟ أنتِ في جهاز هنا كاتبه اسمه و ده جديد ومفيش منهُ في مصر متهيألي!، أهو ده بقى بسعر البيوتي سنتر كله هتعملي ايه؟!
تبدلت ملامحها وعادت للعبوس بنظرات لائمة ليطرف ويسارع بالقول كي لا تحزن: أنا مش بأحبطك والله بس مشروع زي ده محتاج شريك وفلوس وليله إيه رأيك فيا؟

تهللت أساريرها وتبسمت لثوانٍ قبل أن تعبس مجددا ورفضت بغرور وهي تدفع شعرها خلف ظهرها بكفها بثقة: لأ عشان لما يبقى أكبر بيوتي سنتر في مصر ماتجيش تقول بفضلي وبفضل فلوسي وبعدين تقولي حطي اسمي معاكِ عليه ونتخانق على الشهرة بقي.
نظر إليها بدون تعبير وقذف الدفتر عليها وطردها بنزق: يلا قومي شوفي أنتِ رايحة فين.
ضمته إلى صدرها بقوة وقالت بغيظ: أنت اللي شوف أنت رايح فين دي ترابيزتي أنا؟

تنحنح ووقف كي يغادر لتقهقة عليه دون أن تنظر، انتظرت ذهابه لكنهُ استند على طرف الطاولة من الجانب ممدًا ساقيه في الأرض وسألها بشك وهو يميل بمنكبه عليها: مشفتيش آدم؟
أجابت بهدوء وهي تجمع أغراضها في حقيبه الظهر الجلدية: لأ شفته وهو بيتخانق مع أخوه ومرضتش أروح أتكلم معاه لا يتخانق معايا أنا التانية!
سألها مستفهما: وسبب الخناقة ايه متعرفيش؟

أشرت لهُ أن ينخفض لمستواها وهي تنظر حولها بريبة لينصاع، و انحني ليكون وجهه مقابل وجهها وتبدأ هي بالثرثرة التي تحبها بملامحها الطفولية البريئة التي تذكره بغرام، لم ينتبه على ابتسامته البلهاء ولا عيناه التي أخذت بالتجول على وجهها النقي عدي من بعض المرطبات التي كان لها رائحة طيبة، لم يكن صوتها الخافت مُشكلة لأنه كان يقرأ شفتيها التي لا تتوقف عن الحركة بالفعل و للمصادفة كان يفهم بسبب مخارج حروفها الصحيحة، كانت عيناه أدق من جهاز الماسح الضوئي وهي تمر على أنحاء وجهها، استوقفه انذار بتلك الشامة الصغيرة التي لا يستطيع أحدًا رؤيتها على أرنبه أنفها سوي بالعين المجردة. ، تابع مهمته إلى عيناها ليستوقفه إنذار عِندما لاحظ عدم تساوي رسمة عينيها بذلك المُحدد، إنذار آخر كان لحاجبيها الكثيفين المبعثرين، يبدو أنها كانت على عجلةٍ من أمرها ولم تنتبه للكثير من الأشياء كالحال مع شفتيها، تضع ملمع شفاة وردي رقيق شفاف بالكاد يظهر وتخطي جانب شفتيها وهذا مُزعج.

استفاق من شروده على وغز حاد كالدبوس على أرنبه أنفه، تطلع أمامه بتيه ليجدها تبتسم في وجهه بنعومة هامسة بمشاكسة: عملتلك حسنة..
رفع نفسهُ وحكّ أرنبه أنفه بقوة وهو يحدق في القلم الذي تمسكه لتطلب منهُ الجلوس بهدوء: أقعد عشان أنت كنت هتشنكل واحد دلوقتي إتفضل.
حرك الكرسي للجانب قليلا وإضجع عليه يمسد جبهته بقوة لتسأله باستفهام: سمعت أنا قولتلك ايه؟
أومأ وهتف بهدوء: أه آدم قلي..

سألته بغيظ: وبتخليني أحكي ليه كل ده؟
رد بهدوء وهو يرفع أنظاره إليها: معرفش إنها كانت خناقة كبيرة والكُل سمعهم.
أومأت بتفهم وظلت صامته تحدق في رسمتها بحسرة ليسألها قُصيّ: أنتِ إيه رأيك في اللي حصل؟
هزت كتفيها بجهل تزامن مع مط شفتيها قائلة بقلة حيلة: معرفش حاجة ولا عارفة اتصرف ازاي؟
ـ ما تطلبيه للجواز يا لمار؟
انفجرت ضاحكة وهي تضرب كفيها معًا ثم وسألته بذهول: أطلبه! أنا؟

أومأ وقال مؤكدا: عشان نبقي واضحين آدم مش هيحب غير تالين تمام..
أومأت بانتباه دون خيبة ليستطرد: في الوقت ده هو مضايق فا جربي كده اعزميه على العشي وقوليلي اتجوزني بس.
ضحكت ذاهلة وهي تطلع إليه بعدم تصديق وسألته بتعجب: هنقول إنه وافق هنعيش إزاي وهو مش بيحبنى؟ ولو كسفني هعمل ايه؟

ابتسم وشرح بهدوء: في الحالة الأولي هتندمي وهتقولي يارتنى ما أتسرعت وعرفته أكتر لأن الشكل عمره ما كان كُل حاجة، وفي الحالة التانية لو كسفك يمكن تنصدمي وتتخرسي لآخر يوم في حياتك وتريحينا كُلنا.
قهقهت بخفة وتحدثت مقترحة وهي تضيق عينيها: في حل تالت على فكره..

همهم إليها بانتباه لتردف بابتسامة ملائكية ونبرة هادئة: الحل التالت إني أفضل زي ما أنا معززة مكرمة لحد ما ألاقي اللي يحبني ويقدرني ويعاملني كـ ملكة!
إيماءة بسيطة صدرت منهُ تلاها هتافه بجدية: صح أنتِ صح..
لوحت بيدها بيحرة وهي تبعثر شعرها متذمرة: ماهو بردو فكرتك عجبتني!.
ضحك هازا رأسه بيأسٍ منها ورفع ساق فوق الأخرى بينما يقول بازدراء: أنتِ مهزأة ومعندكيش إرادة.
ردت عليه بسخط لطيف لم تتقنه: وأنت متنمر.

ابتسم وصفق إليها قائلا بتسلية: شاطرة براڤو عليكِ يا انشراح، وبالمناسبة دي هقولك نكته..
أومأت بهدوء وحذرته بسبابتها للمرة الأخيرة وهي ترفع كلا حاجبيها بجدية: بطل تتنمر عليا أنا دارسة لغة الجسد كويس يا قُصيّ وممكن ابهدلك..
قهقهة على تعابيرها وحرك رأسهُ موافقا بينما يقول: ماشي، بس اسمعي بقي النكتة دي، بيقولك مرة واحدة كان نفسها تفتح بيوتي سنتر وهي مبتعرفش ترسم الأيلاينر.

طرفت بتعجب باحثه عن المضحك وهزَّت رأسها بعدم فعم، تحدجة بسخط ليسألها بتعجب: مش بتضحك؟
هزَّت رأسها ببرود شديد ليخرج هاتفه ويفتح الكاميرا ويلتقط إليها صورة، ثم وقف ووضع الهاتف أمام عيناها التي تراقبانه بتعجب هاتفا بسخرية: طب وكده؟

نظرت إلى الصورة بإزدراء مدققة النظر إلى وجهها سرعان ما فهمت المغزى لتصرخ بصوتٍ مكتوم وهي تضرب قدميها أرضًا مدمدمة بغيظ، بوجة متورد زاهي ليهرول ضاحكا إلى آدم الذي سيقتله بسبب هذا التأخير.
جلس أمام آدم وسأله باستفهام: ها عملت ايه؟
زفر في وجهه بغضب وأنزل الهاتف عن أذنه بقلق وهتف بتهكم: لأ وأنت مهتم اوي.
نظر إليه بدون تعبير وقال مؤكدا: طبعا مهتم وأنت قاعد بتعمل تليفون شايفك وبراقبك.

زفر بعصبية وأردف بانفعال وهو يضم قبضته فوق الهاتف بقوة: محدش بيرد عليا وهتجنن، هتجنن يا قُصيّ.
تنهد قُصيّ وحاول امتصاص غضبه: عمّار مش هيرد عليك واكيد الموبايل مش معاه في ظرف زي ده حاول تاني بعد كام ساعة يكون فاق من اللي حصل يارب يكون خير هزعل أوي لو حصلها حاجة بجد.
إرتفعت زاوية شفتي آدم بسخرية وسأله: مش كان الله يرحمها؟!
قرص قُصيّ وجنته مغمغما بغيظ: أنت اللي وهمتني بكده.

صفع آدم كفه وكاد يمسكه ويعضه من الغيظ ليبعده قُصيّ وهو يقهقه وتابع مواساته: دلوقتي لو خايف على تالين روحلها بس خلي بالك وشوف مصطفي هناك ولا لا! وانا افضل أنك تطمن عليها من بعيد لبعيد ومفيش داعي إنك تشوفها وتتكلم معاها.
زاغت عيناه بتفكير وأخفض رأسهُ فوق الطاولة من الصداع المباغت الذي داهمه وطلب منهُ بخمول: اطلبلي قهوة.

حملت لمار حقيبتها وطلبت الحساب كي تذهب ليأتي النادل إليها بقطعة حلوي شهية ووضعها أمامها، نظرت إليه بعدم فهم وقالت بتعجب: بس أنا طلبت الحساب؟
قال بلباقة قبل أن يغادر: الحساب مدفوع وده طلب الأستاذ اللي هناك وبيقولك دايت سعيد يا فندم..

هزَّت رأسها بخفة وعادت للجلوس وهي تنزل الحقيبة من فوق كتفيها والابتسامة تزين ثغرها، هذا المفسد تخبره أنها تُريد أن تخسر الوزن وهو يجلب لها كعكة، تنهدت وازدردت ريقها بصعوبة بالغة وهي تحدق في صوص الشوكولاتة اللامع الذي يتساقط من فوق الكعكة ببطء معذبٍ إليها، أمسكت الشوكة بتردد وقامت بقسمها نصفين لتسقط منها الشوكلاته الذائبة وتذوب معها ويسيل لُعابها عليها..

تأوهت بحزن وقضمت شفتيها بحسرة ومعدتها تطالب بها، تقلصت ملامحها بتأثر وطمئنت نفسها، فلن يحدث شيء من قطعة كعك صحيح! ولن تقوم بإحراج قُصيّ كذلك لهذا سوف تتنازل و تتناولها.
وكز قُصيّ رأس آدم وهو يرتشف قهوته سائلا بابتسامة: آدم أنت نمت؟
همهم إليه بثقل وقال بألم: دماغى مصدعه اوي من ساعة ما ضربته..

قهقهة قُصيّ ووقف سريعا هاتفا: طيب هروح اجبلك حاجة من الصيدلية اللي جنب الكافية وإشرب القوة عقبال ما اجي متنامش.
رفع رأسهُ وأومأ دون أن يفتح عينيه ليغادر قُصيّ ويبدأ هاتفه بالرنين والأزيز فوق المنضدة بعد ذهابه وتركه مباشرةً، عاد آدم للنوم ولم يكترث بالهاتف ظنا أنهُ أحدا من العمل يريده، ففكرة أنه عمّار مستبعدة.

أنهت قطعة الحلوى ولعقت شفتيها بتلذذ ثم أشارت للنادل أن يأتي بانفعال وطلبت منهُ بشهية: عايزة تاني هات واحدة، ولا أقولك اثنين هات اثنين طعمها حلو اوي الله يخربيتك يا قُصيّ.
سألها باستفهام: اثنين من ايه يا حضرتك؟
كادت ترد لكن صدح صوت هاتفها، أخرجته من الحقيبة بسرعة وردت بهدوء: الو، نادين! ايه ايه مش فاهمة؟
ـ أحسن دلوقتي؟.

سأله قُصيّ باهتمام بعد أن ارتشف آدم قرص الدواء مباشرةً ليرد عليه ساخطاً: أحسن منين أنا لسه واخدها دلوقتي لحقت تعمل مفعول؟
رد عليه بغلظة وهو يقف: هششش خلاص أقفل أنا غلطان يلا قوم روح ونام شويه هتبقى كويس..
أومأ ووقف معهُ يتثاءب بكسل متمتما بصوتٍ أجش: هروح لتالين الاول وتليفونك كان بيرن شوف مين.

سارا معا إلى الخارج، استقل آدم سيارته وذهب وفعل قُصيّ بالمثل، أدار المحرك وكاد ينطلق لكن توقف قليلا عِندما سمع صوت ناعم يهتف بإسمه، هزَّ رأسهُ وزفر ظنا أنه يتوهم وانطلق، نظر في المرآة الجانبية أثناء قيادته ليعقد كلا حاجبية وبدأ في الضحك بخفة عِندما أبصر لمار تركض في الخلف تلحق به بأنفاس متسارعة وهي تكاد تختنق، تلك الفتاة مسلية لا تشعره بالملل.

صف السيارة جانبا وظل مراقبا إياها في المرآة مقهقها عليها وهي تقترب وقام بفتح باب السيارةِ لها عندما إقتربت، صعدت بجانبه وهي تلهث ممسدة صدرها بخفة وهي تهز رأسها بقوة، أغلقت الباب وصاحت بحلق جاف وهي تجفف جبينها: مِـ، مشيت بسرعة ليه؟ سوق وروح لنادين بسرعة..
أدار محرك السيارة وبدأ في القيادة سائلا بقلق: ليه في ايه؟

أخبرته سريعًا وهي تعبث في الهاتف تحاول الاتصال بـ عمّار ومازالت تلهث: كـ، لمتني، دلوقتي ومنهارة من العياط بتقولي ليلي خرجت من الصبح راحت لـ عمّار ومن ساعتها مرجعتش ولما خرجت تبص على عربيتها لقيت شنطتها واقعة في الأرض مسروقة ومفيهاش أي حاجة.
أسرع أكثر بقلق وقال بتشوش: بس عمّار سافر من بدري؟ ولما مشي مكنتش معاه راحت فين؟
في هذه الأثناء في المطعم.

شعر جاسم وكأن سطلا من الماء المثلج سقط فوق رأسه، لا يستوعب ما تفوهت به الآن!، فقط لمَ هي المسئولة عن كل آلامه والخذلان الذي يتعرض إليه؟ إلى متى سيظل يتحمل ويطمس الحقيقة ويكظم غضبه بداخله إلى متى؟ هل تريد أن تجلطه! أم تريد موته لتتصرف تلك التصرفات.

قذف الأوراق أمامها وأعاد حديثها الذي قذفته في وجهه دفعة واحدة وهو يحدق في كوب المياه مستنكرا: يعني روحتي لدكتور تتعالجي! واشتغلتي هنا وسبتي الشغل هنا واشتغلتي مع الدكتور! و دلوقتي هتسافري مع الدكتور! وانا كل يوم بكلمك ولا قولتي حاجة وجاية تقولي دلوقتي عشان هتسافرى معاه مش كده؟!
أومأت بحركة بسيطة غير ملحوظة وزاغت عيناها وأطرقت برأسها وظلت تعتصر أناملها بقوة وتوتر وقد جف حلقها من إنتظار بقية حديثة..

تمعن النظر إليها بوجه مكفهر والدماء تغلي في عروقه بسبب صمتها وللحظة شعر بالكره تجاهها، يكفي استغلال لقد سئم واكتفي.
سألها بنبرة غليظة مستهجنة وعلا صوته: مقولتيش ليه؟ مش كل يوم بكلمك؟ أنا لسه بالنسبالك ولا حاجة؟ ولا كُنتِ هتسافرى من غير ماتقولي وأتفاجئ أنا لما أجي؟

أدمعت عيناها ولم تجرؤ على رفع رأسها إليه قط ليصرخ بها بنبرة جهورية صب بها جام غضبه أجفلها وجذب الأنظار إليهما: لا ارفعي عينيك وبصيلي؟ أنتِ عايزة مني ايه ها؟ مش كفاية اللي بعمله عشانك ولسه بعمله؟
انسلت عبراتها وتلفتت حولها بإحراج وهذا لم يزده سوى غضبا ونبذا كأنه لم يقل شيء وكل ما يهمها نظرة الجميع إليها فقط وهو لا شيء، هو نكرة.

هزَّ رأسه بتفهم وهو يضع أنامله فوق شفتيه هازا قدميه بقوة وعيناه متسعة بانفعال أخافها جعلها تتحاشي عيناه وتوقفت الكلمات في حلقها قبل أن تخرج حتي.
شملها بنظرةٍ مستحقرة لن تنساها طوال حياتها ثم هدر بسأم وهو يقف: أنتِ طالق يا عشق، وتتبع قوله بمغادرته المطعم بأكمله..

ظلت متجمدة محلها كالصنم تحدق في العدم دون أن تطرف قط وعبراتها تشق طريقها فوق وجنتيها الشاحبة وكلمته ترن في أذنيها بقوة، لقد تخلى عنها دون أن يفهم، ظن أنها ستذهب مع الآخر لأنها أحبته أو لأنه لا يهمها، خسأ تلك المرة.

علا صوت الهمهمات وتكاثرت النظرات المعبرة إليها لتستفيق وتنتبه على نفسها، نظرت حولها برؤية ضبابية ثم وقفت وقضمت شفتيها كاتمه شهقاتها بصعوبة تخضن وجهها إثرها وأخذت الأوراق و خرجت راكضة نحو شقتها..

هرولت أحد النادلات إلى غُرفة مديرها بعد ذهاب عشق، طرقت الباب ودخلت سريعا لتشهق بتفاجئ عِندما رأت رئيسها يتنقل في الغرفة بكرسي متحرك وإحدى ذراعيه مكسور وقدميه كذلك ورأسهُ مضمدة ووجهه مكدوم لا يتبين لهُ لون..
تداركت تفاجئها أمام نظراته الجامدة وقالت بهدوء كما أمرها أن تأتي لهُ بأي شيء يحدث في الخارج: عشق.

إرتجفت اوصالة عِندما سمع بإسمها، كاد يصرخ بها ويطردها لكن شفتيه لم تسعفه بالتحرك بتاتاً فصمت وسمع قولها: عشق كانت بره مع جوزها باين واتعصب عليها وقام طلقها ومشي..
اتسعت عينيه بقوة وهتف بانفعال ومقلتيه تكاد تخرج من محجريها: هاتي، هاتي، في كارت، على المكتب هاتيه بسرعه..

هرولت إلى المكتب وأتت به سريعا، ناولته إليه كأنها تذكره بعجزه فحدجها بغضب وطلب منها بازدراء وهو يحرك ذراعه متأوها بقوة: اتصلي بيه، اتصلي قوليله شوقي بيقولك عشق أطلقت وكفاية عليه كده..
تنحنحت وأومأت بطاعة ثم جلست على الأريكة وقربت الهاتف الأرضي منها وهاتفته.
اتسعت عيناه وضغط المكابح بقوة لترتد لمار إلى الأمام صارخة بفزع وكاد تسقط عن مقعدها لكنها تماسكت وتشبثت في حزام الأمان..
ـ مظبوط الكلام ده؟

خرج صوته مشدوها يغلفه التلهف من الخبر.
ليصله تأكيد الفتاة وقصها عليه كل ما رأته في الخارج. فلم يكبح ابتسامته الجذابة ولم يستطع إخفائها كذلك، فعشق حرة وكل شيء سيسير كما خطت لهُ.
ـ بيقولك كفاية عليه كده؟
ضحك بقوة وهو يرخي رأسهُ إلى الخلف مخللا أنامله في شعره وعقله يطوف به بعيدًا حتى ناظرته لمار بتعجب وظنت الفتاة أنه لن يرد عليها!

استقام وعاد للقيادة براحة قائلا بهدوء وعينيه تومض بإصرار: لو طلع الكلام ده صحيح هعالجه على حسابي كمان.
أغلق الهاتف وضاعف سرعته بحماس كي ينتهي سريعا ويذهب إليها، كان الفضول يشع من عينيها وهي تراقبه لكنها تماسكت وأبت السؤال والتدخل فيما لا يعنيها.

في مكانٍ آخر، في محراب الفساد، المكان الممتلئ بأكثر الأشخاص فسادًا، العالم الذي ترتكب فيه المعاصي والخطيئة كـ طرفة عين، الذين يعثون في الأرض فسادا ويجتمعون معًا ليلا يتراقصون مع الشياطين.
في هذا الملهى الليلي كانت تجلس جـنّـة مع سامي فوق أحد الأرائك المخملية وأمامها منضدة موضوع فوقها خمر، مستعجبة وجوده هُنا في هذه الساعة من النهار والملهى فارغ تمام!

هتفت باستفهام قبل أن ترتشف بعض المياة: بردو مش هتقول بتعمل ايه هنا دلوقتي؟
رد بإبتسامة متملقة وهو يكسب إليه كأسا: ده مكاني حاليا عايش هنا ليل نهار.
أومأت دون تعقيب وعيناها تجيل في أرجاء المكان بتفحص ثم سألته باستفهام وهي تضع ساق فوق الأخري تكتف يديها أمام صدرها: مالك بقي؟ في الفترة الاخيرة كل ما أكلمك تتهرب وساعات مش بترد حصل ايه؟

قذف قطعة الثلج في الكأس بغضب وهدر بوجوم: بسبب الاتفاق اللي لغيتوه بمزاجكم!
قطبت مابين حاجبيها بعدم فهم وسألته مستنكرة: محدش لغى حاجة هتهزر؟
صاح بنبرة محتدة: لا قُصيّ لغاه وقلي مفيش عشق يبقى أرد عليكِ ليه؟

ضحكت بسخرية حتى أدمعت عيناها ثم قالت باستخفاف وهي تتناول مكعب ثلج صغير: قُصيّ هو اللي اتفق معاك من الأول بردو؟ الاتفاق كان بيني وبينك وبابا سيبك من قُصيّ خرج منها وخليكِ معايا، وتتبع قولها بقذف مكعب الثلج داخل فمها تسحقه سحقا بين أسنانها أمام نظراته العابثة.
لوكت بلسانها داخل فمها ثم أشرت على شفتيها وسألته: شُفت انا عملت ايه في الثلج؟

أومأ بخبث وهو يميل برأسه لتستطرد بـ شر: أنا عايزة عشق يحصلها كده؟ فاهمني؟
أومأ بتفهم متواطئا معها والخبث يشع من مقلتاه، هامسًا برغبة مريضة و أنامله تداعب حافة الكأس: هي بس تُقع تحت ايدي واكون معاها في مكان واحد.
نظرت إليه بنظرة ذات مغزى تحمل ثقة لا متناهية وأمرته بحركة من رأسها: افتح موبايلك وأتفرج على الصور اللي بعتهالك دلوقتي.

انصاع وفي ثانية كان يقرأ الصور الخاصة بنتائج تحاليل قُصيّ بهدوء وتركيز سرعان ما تحول إلى سخرية وحنق أثناء قوله باستصغار: مبروك كويس إنه وخف والنتايج كويسة كمان!
زفرت بحنق وزجرته بحدّة وانفعال: طالما مش فاهم متتكلمش، الصور دي هتاخدها لحد موثوق شاطر يقدر يغير النتايج دي ويكتب اللي احنا عاوزينه وتخلصهم وتبعتهملي تاني تمام؟
أومأ بتفهم وعاد يقلب بينهم بتفكير ثم سألها بعدم فهم: بس لزمتهم إيه؟

ابتسمت بجانبيه وهمست بمكر: الصور دي اللي هتجيبلك عشق لحد عندك.
همس ببسمة قبل أن يرتشف كأس الخمر: أحب كده..
في منزل ليلى الآن..
زفر قُصيّ بقوة وهو يذرع الحديقة ذهابًا وجيئة بنفاذ صبر منتظرًا رد عمّار على الهاتف وصوت بكاء نادين الحارق يصل إليه من الداخل..
تنبهت حواسه عِندما سمع صوت الهواء القوي يشوش عليه السمع ظنًا أنه تحدث وقال شيء لكنه لم ينبس ببنت شفة قط..

فسأله بقلق عِندما لم يسمع صوته وظل الهواء وصوت القيادة قائما: عمّار أنت كويس؟ سامعني طيب؟
أتته همهمه واهنة بالكاد سمعها ليسأله بقلق: ليلي معاك؟
اجابه بنبرة خالية من الحياة: لو حصلها حاجة هقتله.
عقد كلا حاجبيه بعدم فهم وسأل مستفسرا: هي مين؟ عمّار، الو؟ يا بني أدم؟ استغفر الله العظيم يارب..

أغلق الهاتف وجلس فوق الأرجوحة يفكر قليلا يجمع الخيوط مع بعضها البعض، فإن كان الهدف سرقتها لقاموا بخطف الحقيبة والركض وانتهي الأمر فلن يأخذوها هي!
اتسعت عيناه ووقف فجأة عِندما أدرك ما يحدث، ليس متأكدا تماما من هذا لكنه التفسير الأقرب لمَ يحدث.

هرول إلى الداخل سريعًا، فكانت نادين تنتحت في أحضان لمار بصوتٍ مبحوح ووجه شاحب وأعين حمراء كانت حالتها مزرية، هبت واقفة وهرولت إليه عِندما لمحته يتقدم وإمارة الأسف ترتسم على وجهه..
أمسكت يده وضغطت عليها بقوة سائلة بتلهف وعيناها تفيض من الدمع: فين؟ لقيتها، لقيتها مع عمّار؟

هزَّ رأسهُ بأسف ومسح على شعرها برفق، ليعلو صوت بكائها مجدداً وتنكس برأسها فهدئها بتمسيد ذراعها بحنان هامسًا برفق: بصي يا نادين، هي مش مع عمّار وعمّار دلوقتي في الطريق ولوحده تمام.
أومأت بتفهم ليستطرد بنبرة مطمئنة قليلا أمام نظراتها الزائغة: انا دلوقتي هدور عليها في كام مكان كده ولو ملقتهاش يبقى مش هنلاقيها غير عند شخص واحد بس.
رفعت رأسها وتمتمت بلهفة: فين؟

وضع يده في جيب بنطاله وقال بعدم تأكيد وهو يحك منحدر أنفه: عند جدك أكيد خطفها..
توقفت عن النحيب واتسعت عيناها وهمست بنبرة مرتعشة جازعة وبداخلها تتمني ألا يكون هذا صحيحا: ليه بتقول كده؟
تنهد وقال بإنزعاج: لأن اللي حصل عند عمّار فجأة وبعدين هي تختفي يبقى أبوها عمل حاجة وهو المسؤول.
تغضن وجهها ووضعت يدها فوق قلبها بخوف هامسة بصوتٍ مبحوح: وهو حصل ايه عند عمّار؟

تنهد وأحاط كتفيها وأجلسها على الأريكة برفق محاولا بثها بالطمأنينة: لما نتأكد الأول يا نادين، متقلقيش هنلاقيها وهتبقى كويسه، واستدار ينظر إلى لمار سائلا إياها: معندكيش مشكلة تباتي معاها يا لمار صح؟
أومأت وهي تجاورها في الجلوس ثم ضمتها إلى صدرها ورفعت يدها تمسد ظهرها براحة يدها برفق قائلة بهدوء: لأ مفيش مشكلة متقلقش عليها..
أومأ بامتنان وقال قبل أن يغادر: هبقي اتصل واطمنكم لو وصلت لحاجة..

اندثرت الشمس خلف القمر وأطبق الليل وخيم الظلام، والوضع ظلّ كما هو عليه، الجميع متحيرين مهمومين..
خرج قُصيّ من المستشفى لاهثًا و جبينه يتفصد عرقًا مرهقًا أيما إرهاق، مُنذُ ساعات يبحث وقد كلف رجاله تبحث ولم يتوصل لأي شيء كأنه يبحث عن شبح، أخذ قنينة المياه من نافذة السيارة المفتوحة و أفرغها فوق أسهُ من فرط الحرارة التي يشعر بها بسبب سعيه وحركته المتكررة.

لفح وجهه نفحة هواء مداعبه جعلته يفتح أزرار قميصه العلوية للهواء زافرا بحرارة ثم أخرج هاتفه وهاتف لمار..
ـ الو، ايوه يا لمار، لا ملقتش حاجة هي عاملة ايه دلوقتي؟
قالت بحزن وهي تمسح على شعرها برفق: نامت من كُتر العياط، أنا زعلانه عليها أوي.
تنهد وقال مواسيا: هنلاقيها إن شاء الله خليكِ جنبها بس لحد ما أعرف أوصل لـ عمّار وكل حاجة هتتحل تمام. مع السلامة.

أغلق الهاتف وأخذ شهيقًا طويلا مُزِج برائحه عرقه، تأفف وحرك ياقة قميصه بإنزعاج شديد، فهو يُريد الذهاب إلى عشق ولن يذهب إليها برائحته هذه، وإن عاد إلى المنزل كي يستحم لن يستطيع الذهاب لمَ؟، لأن جـنّـة ستخرج إليه من العدم وتتدلل وتخبره أن يحملها كي لا تصعد السلالم ويتضرر الطفل، ثم تأخذه غرام كي يلعب معها ويقص عليها قصة الأميرات قبل النوم ثم يأتي دور ريمة، إنهُ محاصر بالنساء لن يذهب إلى مكان إن عاد إلي المنزل.

حك طرف ذقنه بتفكير ثم حسم أمره وهاتف آدم: حبيبي يا حبيبي أنت في البيت؟
وصلت إليه صوت قهقهاته تلاها رده الماكر: عايز إيه يا قُصيّ؟
تنهد وقال بسخرية وهو يدلك عنقه: عايز استحمى يا آدم ممكن؟
رد ساخطًا: ايوا أعملك ايه يعني؟ اجيبلك ليفة!
غمغم قُصيّ وهتف باستياء: وحشة وحشة هاجي استحمي عندك..
ـ لا..

ارتفع كلا حاجبيه بتفاجئ وهتف بذهول: بتقولي لأ؟ بس خلاص خلصت شكرا يا صاحبي، وتبع قوله أن أغلق الهاتف وصعد إلى سيارته وذهب..
صاح آدم بتعجب: الو، يالا، يا متخلف!
أعاد الاتصال به لكنه كان يغلق في وجهه.
زفر وجرب مهاتفة تالين بإحباط لأنه لم يذهب إليها ليتم الرد عليه بسرعة، اعتدل في جلسته بانتفاضة وارتبك وخفق قلبه أثناء سؤاله بلهفة: تالين؟

تبسمت حياة وردت عليه بنبرة ناعمة متملقة: لأ مش تالين حياة أختها تالين نايمة..
قبض على شعره بقوة وابتسم بعصبية وآثر الصمت بينما هي كانت تميل برأسها وتلعب في خصلات شعرها باستمتاع، تستمع لأنفاسه الثائرة حتى دخلت تالين عليها الغرفة، اتسعت عيناها وحمحمت سريعًا ليقول بإحباط: تمام سلمي عليها مع السلامة.
لم ينتظر ردها وأغلق الهاتف وقذفه بغضب.

لترفع الهاتف بسرعة بديهيه وتحذف رقمه قائلة بارتباك عِندما رأت نظرات تالين المستفهمه: انا بس كُنت بكلم صحبتي عشان مش معايا رصيد..
أومأت تالين بتفهم وربتت على وجنتها بنعومة وابتسامة حانية تعتلي ثغرها، لتهمس حياة سائلةً بحزن: إحنا رجعنا هنا تاني ليه؟
همست برفق تطمئنها وهي تربت على ظهرها: عشان ده بيتنا يا حبيبتي، ومتقلقيش من حاجة هتكملى دروسك وتعليمك وهيجيلك كل اللي أنتِ عايزاه.

عدَّل آدم موضع الوسادة فوق الاريكة وتمدد متوسدا إياها بخيبةٍ دافنًا وجهه فيها شاعرا بطيف تالين يحوم حوله، رائحتها عالقة فوقها لأنها تحب أن تعانق الوسائد دوما أثناء جلوسها، كاد يذهب في ثباته العميق ويحلم بها لكن رنين جرس المنزل أزعجه كما كل شيء في حياته يزعجه.
وقف بغضب مغمغما بكلماتٍ غير مفهومة في طريقة ليرى من الطارق، فتح الباب بتهجم ليفرغ فمه بذهول ثم قال بابتسامة: قُصيّ أنت مش زعلت؟

ازاحه من أمامه وهتف بدون تعبير وهو يسير بغرور صوب دورة المياة قاذفا قميصه فوق السلم وهو يصعد: مين ده اللي يزعل حضرلي هدوم عقبال ما أخرج.
قهقهة وذهب خلفه مغمغما بسخط وانحني يلتقط قميصه متذمرا: هلم وراك أنا بقي يا معفن.
بعد نصف ساعة..
قلب قُصيّ كنزة آدم بملامح غير راضية وهتف بنزق: ايه ده أنا عايز قميص؟

نظر إليه بدون تعبير وصاح بحنق: شحات وعايز فينو؟! بقالك نص ساعة بتنقي بنطلون ودلوقتي ومش عاجبك التيشيرت!
رد بإزدراء وهو يرتديه على مضض: ماهو هتبدأ بـ تيشيرت وبعدين تديني فيزت عليه صح ولا لأ؟!
لفظ آدم بتهكم: فيزت؟ ده جاكت صوف يا حلوف! طب والله أنت مش بتفهم وإقلع الهدوء دي بقي يلا مش هتلبس حاجة من عندي..
قهقهة قُصيّ وهتف بوداعة: مالك بس قفوش ليه النهاردة فين الفيزت..

صرَّ على أسنانه بغضب وصاح بعصبية: متقولش فيزت!
ضحك قُصيّ و ارتدي السترة الصوفية ذات اللون الأسود فوق الكنزة البيضاء بعدم رضي ثم سأله بسخرية: معندكش سلسلة بقي ابغي سلسلة لو سمحت.
حذره بنفاذ صبر وهو يرشقه بنظراتٍ ساخطة: كلمة كمان و هطردك بره فاهم؟
أومأ بطاعة وهو يضحك ثم نثر بعضًا من عطره ليتذمر بضيق: ايه الريحة كمان بقي!

طفح الكيل به ووقف واختطف زجاجة العطر من يده وقذفها بغضب ودفع به للخلف وطرده بحزم: يلا بره والله ماهتحط..
ضحك بتفاجئ وطرف بتعجب وهو يشعر بجسده يدفع للخارج ليصيح مستغيثًا: لا لا استني بس أنا صاحبك!
هزَّ رأسه نافيا بإصرار عازما على طرده هادرًا بغلظة: والله ما عايز أعرفك تاني يلا بره أنا استحملتك كتير.

صفق باب الغرفة خلفه لينفجر قُصيّ ضاحكا في الخارج، سرعان برر موقفه من بين ضحكاته التي جعلته يضع يده على بطنه من الألم الصادر إثرها: آدم أنا بس عايز أقولك إني مش بتنمر عليك! مش بحب النوع ده أنا حُر يا أخي الله؟
حذره للمرة الآخيرة بحنق: قُصيّ لو مسكتش هخرج أطردك من البيت كُله.
توقف عن الضحك وصاح من الخارج: طيب أنا هاخد الكوتش الأبيض بتاعك لمحته وانا طالع يلا سلام.

خرج قُصيّ وذهب إلى عشق في الوقت الذي كان جاسم يجلد ذاته في سيارته المصفوفة جانب الطريق يفكر في الغباء الذي ارتكبه طوال تلك الساعات، لقد تسرع الغبي تسرع لمَ فعل هذا؟ الألم الذي اجتاحه لم يكن يحتمل قط، يشعر أنه لا يستحق ما يحدث معهُ! لم يفعل في حياته ما يستدعي لكل هذا، ما الذي يجبره على التحمل؟! هذا الحُب العقيم يضره فقط اللعنة عليه.

ضرب جبهته بمقود السيارة بقوة ثم أدار المحرك وذهب في طريقه عائدا إليها كي يعتذر ويطيب خاطرها لأنها لا تهون عليه.

في هذه الأثناء في شقة عشق..
كانت جالسة أرضًا فوق البساط الدافئ، تتكئ بظهرها على الأريكة وعيناها معلقة على الأوراق التي تركها جاسم، ونسمات الهواء الآتية من شرفتها المفتوحة تداعب شعرها المتطاير حول وجهها بنعومة، لا تستطيع وصف ماهية شعورها بعد أن حصلت على الطلاق لكنها متأكدة أنها ليست بتلك السعادة ولا الفرحة.

لقد حصلت عليه متأخرًا في الوقت الذي لم يكن يهمها إن كانت مطلقة أم متزوجة، إنها آسفة لجاسم لأنهُ يتألم بسببها ويظنها تكرهه وأحبت غير قُصيّ ولم تفكر به وستذهب مع شخص آخر ثالث، فإن وُجد ضحية في هذه القصة فـ بالنسبةِ إليها هو جاسم وبلا منازع، لا تصدق إلى الآن أن خالتها تركت كُل شيء دون إذلالها أكثر!، أصبحت ثرية وتملك الكثير الآن، يمكنها أن تبدأ من جديد، يمكنها تأسيس شركة خاصة بها، ويمكنها أن تصبح شريكة عمل لـ قُصيّ وهذه الفكرة أثارتها وجعلت زاوية شفتيها ترتفع بجانبيه وهي تحلق بعيدًا بسقف طموحها وآمالها.

ارتجفت فجأة من قوة الرياح المتزايدة، وقفت على ركبتيها ولملمت الأوراق و أعادتهم داخل المظروف برتابة وتركته فوق المنضدة وسارت ناحية الشرفة كي تغلقها لكن استوقفها رنين الجرس، توقفت عن التقدم وابتسمت بإشراق وهرولت إلى الباب ظنا أنهُ جاسم وهي لن تتركه حتى يكون راضيا عنها هذه المرة.

فتحت الباب بإبتسامة تلاشت كـ رماد تناثر في الهواء، اتسعت عيناها بقوة وهي تراه ممتثلا أمامها يبتسم في وجهها آسرا إياها بجاذبيته المجفلة لقلبها المسكين الذي لم يعرف غيره بعد، جاذبية تماشت كثيرا مع المكر الذي يقدح من عينيه، مكر يحمله بينة بريئة.

اهتز كيانها وبدأ قلبها في لكم قفصها الصدري بعنف كما إعتاد، متراقصًا بقوة معبرًا عن سعادته برؤية مالكه، تداركت تفاجئها وبلعت ريقها بحلق جاف وجالت مقلتيها في غير مكان وحاولت قدر المستطاع أن تبدل نظرتها العاشقة المتلهفة لأخرى لا تعرف كنهها لكنها لا تُريد أن يرى الحب في عينيها مجددًا، لن تعانقه، ولن تتحدث معهُ، لن تجعله يخطو خطوة واحدة للداخل ليس وهي وحدها.

ضمت قبضتها فوق المقبض الذهبي ودفعت بالباب للأمام غالقةً إياه في وجهه لكن قدمه التي وضعها في المنتصف بين الباب والحائط أحالت هذا.
دفعه إلى الخلف ودخل وصفقه خلفه بعنف لتفزع وتترنح تلقائيًا عائدة للوراء بجزع وعيناها تطلق شرارًا محذرا تجاهه أن يقترب منها أكثر.

تقدم منها بخطواتٍ متباطئة، يطالعها بنظراتٍ شمولية لم تريحها بتاتاً وعلامات الغضب تتجلى فوق ملامحه سائلا بذهول كأنه تعرف لصدمة: بتقفلي في وشي يا عشق! ده أنا لبست فيزت عشانك؟
ـ أنت جاي ليه؟ عايز إيه؟
قالت بنبرة مهزوزة ومازالت تعود للخلف بظهرها، تحذره بنظراتها أن يقترب أكثر بينما هو كان يراها إياك أن تتوقف عن التقدم قط قاربت على الوصول للشرفة مبتعدة أكثر بينما قلبيهما كانا في غاية القُرب.

أتاها رده الساخر: جي عشان جمال عيونك هاجي عشان إيه يعني؟
اكفهر وجهها بغضب وتوقفت ليتوقف هو الآخر في منتصف الغرفة مستمعا إلى قولها الحاد بنظرات عابثة: أخرج بره يا قُصيّ مش عايزة أشوفك ولو مخرجتش هصوت وهلم عليك الناس إنت فاهم؟
تألقت إبتسامة جانبية على زاوية شفتيه وعاد للسير بإصرارٍ وعزم لم يشعر بهم قبلا بقدر شعوره الآن، دون أن يكترث لأي لعنة تفوهت بها.

اندفعت للخلف بهلع لتصرخ بفزع حقيقي بعد تعثرها بطرف البساط غفلة، أغمضت عيناها بخوف ورحبت بالأرض الصلبة التي لم تمسها مع تخلل رائحة ذلك العطر الغريب أنفها واختراق صوته الموبخ لأذنيها الذي أحيا ذكرياتٍ ظنت أنها اندثرت لمجرد ابتعادها عنهُ: قُلتلك ميت مرة بطلي تتغابي وترجعي بضهرك هتقعي!

فتحت عيناها سريعًا بخوف ليقابلها وجهه الرجولي الحانق ووسامته المفرطة التي تتزايد يوما بعد يوم، اهتزت مقلتيها وتحركت بعدم راحة قاصدة التملص من بين يديه لكن قبضته كانت تشتد حول خصرها من فوق منامتها الحريرية شاعرا بنعومة جسدها أسفل يديه وابتسامته المتسلية تتسع أكثر.
زفرت بضيق ورفعت يديها تدفعه من منكبه بقوة صائحة بغضب: إبعد عني يا قُصيّ وإمشي لو سمحت ممكن؟
هتف بإسمها بنبرة ناعمة لا تقاوم: عـشـق!

وما ذنب قلبها بكل هذا كي يظل ينتفض كل ثانية وأخرى في حضرته؟!
رفعت عينيها إليه مترقبة ما سوف يقول،
كي ينطق أسمها بتلك الطريقة المذيبة للقلب!، في محاولة مستميتة لتخطي حركة شفتيه وبحة صوته الرجولية المرجفة لقلبها.
ليسألها باهتمام شديد كأن حياته متوقفة على إجابتها: حلو الفيزت؟

تيبست قليلا متفاجئة بإنذهال قبل أن تضحك بصوتٍ ناعم رقيق، أومأت بهز رأسها بخفوت وأضافت على قوله بإبتسامة شغوفة: وحلو البرفيوم الجديد..
ابتسم بعبث لأنها لاحظت هذا وقال بغرور: والله يا عشق not My style بس ده للشديد الأوي بقي، كويس إنه عجبك.
يمزح معها! وكيف لا يعجبها وهو من يرتديه بنفسه؟ هو من جعل الملابس رائعة وليس العكس، يستطيع هو أن يجعل من الخرقة البالية حرير عليه، يمزح إبن رشدان بالتأكيد يمزح!

كان نظرها معلق على وجهه أثناء شرودها دون أن تنتبه ليعيد الهتاف بإسمها بنبرة أكثر رقة ونعومة هائمًا في تفاصيليها متأملا ملامحها بعشقٍ جارف: عـشـق!
أطلقت أنفاسها المرتجفة دفعة واحدة وشعرت بالحرقة تجتاح مقلتيها و أغرورقت عيناها بالدموع لتهمس بنبرة مرتعشة مضنية وهي تهز رأسها للجانبين: قُصيّ إمشي، أنا كل ما بتقدم خطوة من غيرك بترجعني ألف خطوة لما بشوفك حرام عليك!.
رفقت قولها بإنكاس رأسها بخزي..

فرفع ذقنها المُرتجفة بإبهامه كي تنظر إليه كما الحال مع جسدها وسألها بهمسٍ بإبتسامة عاشقة وعينيه تخترق فيروزتيها الصافية بل قلبها: تتجوزيني يا عـشـق؟

في الصعيد...
لم يكن الجميع نياما ينعمون بالراحة، ولم يكن الهدوء يعم المكان، بل صوت صرصور الحقل كان يصدح يملأ المكان بشكلٍ مزعج هو ونقيق الضفادع المتعالي، حفيف أوراق الشجر المتساقط، زمجرة الرياح، مشاجرات الكلاب مع القطط وسط الطرقات ونباحهم بصوتٍ مُخيف ونظراتهم المعبرة.

وسط كُل هذا كان يوجد حارسين يتسامران أثناء إرتشافهما شاي دافئ أمام النيران المشتعلة قبالة بعضهما البعض بجانب بوابة المنزل من الداخل، لم يكن هذا هدوءا لكنهُ كان هدوء بالنسبةِ إليهم.
في الغرفة في الطابق الثاني، كانت تفترش الأرض بجسدها، فاقدة الوعي تمامًا لا تدري مايحدث حولها ولا أين باتت الآن؟! رُبما تفزع عِندما تستيقظ ورُبما لا.

هبت رياح شديدة من الشرفة لفحت جسدها الدافئ، ظلت قابعة محلها دون حراك لكن البرودة التي دبت في أنحاء جسدها أثلجت أطرافها أفاقتها.
فارقت بين جفنيها بثقل وهي تئن، حركت رأسها ببطء تستكشف المكان لتشهق بفزع و يختض قلبها وتنتفض جالسة باستقامة، بأعين متسعة كأن النوم لم يجافيها قط.
حركت جسدها عائدة إلي الخلف بهلع حتى التصق ظهرها في الحائط بجزع ومقلتيها تتدحرج في أرجاء الغرفة بتفحص، فماذا تفعل هُنا من جديد؟

شهقت بخضة كانت بمثابة صرخة انفلتت من بين شفتيها عِندما رأت صورها وهي تعانق عمّار تفترش الأرض أمامها، يا إلهي قلبها سيتوقف من الخوف.
انسلت عبراتها واحدة تلو الأخرى ومدت يدها تُمسك إحداهن بين أناملها تفكر بعجز فيما سيحدث لها وهي تحملق في الصورة بأعين جاحظة، أخطأت من البداية عِندما فكرت أنها حُرة طليقة تفعل ما تُريد، والدها سوف يضربها حتى الموت بالتأكيد، لن ترى أحبائها مجددًا.

مزقتها بعنفوان وهي تشهق بحرقة ثم قذفتها وغمرت وجهها بين راحتي يديها وظلت تنتحب ضاربة رأسها في الحائط بحسرة، فسعادتها لم تكتمل يوما لم تكتمل هي منبوذة.
اعتصرت قلبها النابض بقبضتها بقوة راغبة في انتزاعه والموت كي تحصل على راحتها الأبدية.
صوت مقبض الباب أجفلها، حشرجة صدره أثناء سعاله وهو يدخل وصلت إلى مسامعها أرجفتها.

رُبما لم تعد تهابه كثيرًا، ولا تشعر بنفس درجة الخوف مثل المرة السابقة، ولا تخنقها الغرفة، لكنهُ مازال هو لم يتغير ولن يتورع عن التفنن في تعذيبها.
جلس القرفصاء أمامها وابتسامته الشيطانية المألوفة تتسع مراقبًا إهتزاز مقلتيها باضطراب، لينقبض قلبها واسبلت جفنيها بخوف ووتيرة أنفاسها بدأت في العلو وصدرها ينقبض وينبسط بقوة.
سألها بهمسٍ مبطن بلومٍ ساخر: حلوه الصور يا بت أبوكيّ؟

انسلت عبراتها بخوف وهمست بصوتٍ متحشرج وهي تراقب ملامحه القاسية: آسفة، أنا آسفة..
مدّ يده الخشنة إلي وجنتها لتنتفض من ملمسها ويعلو صوت نحيبها منكمشة على نفسها برعب ظناً أنه سيضربها. لكنهُ جفف عبراتها بنعومة لم تليق به بتاتاً أثناء قوله مترفقًا بحالها أخافها أكثر: لاه لاه لاه متبكيش عاد ولا تخافي وجاوبي عاتحبيه؟

شحب وجهها وزاغت عيناها وتوقفت الكلمات في حلقها عاجزة عن الرد ليبتسم بارزًا أسنانه الصفراء هامسًا بنبرة مطمئنة جعلتها تتوجس: جولي متخافيش.
هزت رأسها بهيستيريا نافية ليبتسم ويده تزداد رقة فوق بشرتها كي تطمئن وعيناه تومض بإصرار هاتفًا بصدق: وحياة الغالية اللي ما هحلف بيها كذب ما هاجي جارك بس جولي، عاتحبيه؟

ترددت أيما تردد، وكيف لا تتردد وهو متربصا بها، لكن ذكره لوالدتها ينم على صدقه، فمهما وصلت درجة دنائته لن يأتي بسيرة والدتها عبثًا، هو لم يحب في حياته أحدا بقدرها ومنذ وفاتها توحش وأصبح غير قابل للترويض.
في النهاية سيعرف شاءت أم أبت فلما الكذب؟
أومأت بحركة بسيطة وهي توصد جفنيها بقوة منتظرة وابلا من الصفعات التي ستتساقط عليها لكن صوت أنفاسه الهادئة هو ما كان يضرب بشرتها..

فتحت عيناها بجزع لتفرغ فاه رغما عنها! إنه يبتسم في وجهها وهذا لا ينم على خيرٍ البتة!
بللت طرف شفتيها وازدردت ريقها بصعوبة وطرفت بشكلٍ متكرر ومعدتها تتقلص بألم بسبب توترها المُفرط وبدأ قلبها في التألم.
انتقلت أنامله إلي ذقنها وأمسك بها بخفة وهمس بمزاج رائق وشفتيه ترتفع بجانبيه: هجوزهولك هجوزهولك يا حبيبة أبوكيّ.

خفق قلبها بعنف ونظرت إليه بعدم تصديق وتذبذب ليقرأ اللهفة في عينيها التي تطالعه دون خوف وجزع بل بترقب وكُله فقط كان لأجل عمّار.
ابتسم بخبث واستطرد لتفهم سبب هدوئه الغير مُبرر: بس بشرط..
إهتزت مقلتيها وشعرت بعدم الإرتياح وبدأت أنفاسها في التثاقل شاعرة بالإختناق والألم في آنٍ واحد وهي تحاول استنباط الحقيقة.
وبهدوء شديد همس بتواطئ: تجتليه..

توقفت عن التنفس لوهلة ثم هزت رأسها بعدم إستيعاب وهي قاب قوسين أو أدني من الضحك.
أعاد مجددًا كي يقطع الشك باليقين ولا يساورها أي فروض: هجوزهولك عشان تجتليه مش عشان تحبي فيه واعية للحديت؟
هزت رأسها بذهولٍ ثم صاحت بهيستيريا وشراسة: لأ لأ مش واعية ومش سامعة مستحيل أعمل كده مستحيل ده عمّار عمّاااار؟!
ضحك بخشونة ووقف يناظرها في علو بنظرة ذات مغزى قائلا بخبثٍ يُخيرها: لو مش هتجتليه يبجي هتعملي حاجة تانيِة!

أوقف السيارة أمام المنزل وكان الغضب قد وصل لذروته، اللهيب يتأجج بين جنبات صدره وعقله لا يتوقف عن ضخ الأفكار السامة ووضع الافتراضات السيئة.

وشحنه بالغضب وحضّة على الذهاب وقتل خليل كي ينهي هذا الصراع، الساعات السابقة مرت كـ دهر فكان يشتت نفسه عن التفكير طوال الوقت، فآخر ما يرغب به هو تلويث يده بدماء خليل، إنهُ أقل من أن يبذل مجهودا في قتله، يريد أن يقهره، أن يري الحسرة في عيناه قبل أن يقتله تلك هي رغبته الجامحة..
حرك يده إلى المقبض وكاد يترجل لكنه تمنع وأخرج مسدسة ووضعه في حزام بنطاله وصدره يعلو ويهبط بعنف وتابع قيادة إلى منزل خليل..

صوت بكاء دهب بذلك القهر يقهره، يرن داخل أذنيه ولا يستطيع تجاهله، فإن دلف وأطمئن على والدته سيهدأ وهو لا يُريد الهدوء يرغب في حرقه حيًا.

ضغط فوق المكابح بقوة لتتوقف السيارة أمام بوابة المنزل الحديدية بعنف إثر إحتكاك إطار السيارة بالأرض مُخلفة صوتًا مزعجاً كأنه افتعل حادث!، ترجل باستقامة وصفق باب سيارته وتقدم من البوابة متجهما ونظراته تنذر بالشر بأنفاس لاهثة ثقيلة، دفع الباب بعنف ليصدر صريرا جذب انتباه الغفيرين، وقفا بتفاجئ متوجسين منهُ خيفة عِندما ابصروه.

تقدم أحدهما يسأله ما الخطب فلكمه بعنف أطرحه أرضًا لترتطم رأسهُ بصخرةٍ ويفقد الوعي، فرفع الآخر بندقيته وحذره بقوة وهو يتحرك في مكانه بخوف: وجِف عندك!
استمر في التقدم وابتسامة مخيفة تعتلي ثغرة وتتسع حتى بدت نواجذة، كاد يضغط الزناد ليباغته عمّار بإمساكها وضرب فكة بها ليترنح للخلف، ثم لكمه وضربه بمؤخرتها في رأسهُ ليجاور صديقة، وقذفها من يده وذهب.

لم يطرق الباب بل هرول ناحية الشجرة المرتفعة المقابلة لشرفة ليلى وبدأ في تسلقها كما اعتاد في صغره والجحيم متجسد في عينيه، خشي أن يجد الشرفة مُغلقة لكن من حسن حظة وجدها مفتوحة على مصراعيها وخليل يدور حول نفسه ومن ركنٍ لآخر يدخن بشراهة ويبدو عليه التفكير بعمق.

قفز على سور الشرفة وتشبث بقوة حتى صعد واستقر في الداخل، تسلل وراقبه بثقب في الخفاء حتى إقترب من الشرفة مستمرًا في استنشاق لفافة التبغ بإفراط ليجد عمّار يخرج إليه من العدم ووضع رأس المسدس فوق جبهته.
ضحك خليل بسعادة غير مبررة وسأله باستفهام نافثًا في وجهه أبخرة التبغ: جاي تجتلني؟
ضغط عمّار الزناد بخفة وهو يكز على أسنانه بوجه مكفهر سائلا بنفاذ صبر: عاوز تجتل أمي ليه؟ مجدرش عالرجاله؟

ضحك خليل مجلجلا تلك المرة بقوة مستفزا إياه أيما إستفزاز جعل عروقة تنفر وترتفع زاوية شفتيه بحقد وتشتد قبضته فوق المسدس.
هتف بسخرية وهو يدفع المسدس بيده من فوق جبينه: لاه لاه متجولش إكده عاد، رجالتي تعاركو في السوج واتصابت بالغلط مش مقصودة!
انتفخت أنفه بعصبية هادرًا بخشونة: جد؟
أجاب مؤكدًا بثقة: جد الجد مش مقصودة عاد.
أجابه بنفس الثقة وهو يعيد رفع المسدس في وجهه: بس أني هجتلك.

أومأ بتفهم واستسلم قائلا وهو يتنحى جانبًا قاصدًا أن يريه ليلي وهو يبتسم بتسلية: إجتلني!
أنقبض قلبه بخوف وجحظت عينيه وتهدل ذراعه مبصرًا وقوفها خلفه، من الغريب أنها كانت بخير، تقف دون خوف، لا أثر للصفع على وجنتيها، لا ترتجف ولا حتى فاقدة الوعي مثل سابقًا، فقط كان يظهر على وجهها آثار البكاء لا أكثر.
راقب خليل تذبذبه بتشفي هازًا رأسهُ بسخرية، فمن يُريد القضاء على رجل فعليه بإمرأته.

كان في رأسهُ آلافا من الأسئلة التي إستطاع التحكم بها عدى سؤاله الأهم فلم يعرف كيفية كبحه، بل تمتم بدون وعي مراقبًا تقدمها بعدم استيعاب: أنتِ إيه اللي جابك هنا؟
لم تجيبه وتريح قلبه الملتاع، بل تقدمت منهما بثبات ظاهري بينما داخلها يرتعد من الخوف، بقلبٍ مضني تقدم قدم وتؤخر الآخرى، وتلك العينان العاشقة تطالعانه بأسف كابحة عبراتها عن الانسياب.

صُعق وتحطم قلبه لأشلاء عِندما توقف بجانب والدها وتركته هو كـ غريب.
ظنَّ لوهلة أنها ستركض تستغيث به لكنها توقفت بجانب والدها دون خوف، ما تفسير هذا وتفسير وجودها وفي هذا الوقت تحديدًا؟
أحاط خليل كتفها لتنتفض بخفة لاحظها وكيف لا يلاحظ وهو لا يفعل سوى مراقبتها عن كثب عاجزًا عن التفوه بحرف من شدة صدمته.

قربها منهُ أكثر بحميمية كأبٍ يحنو عليها وهتف بإبتسامة سعيدة: بتي الغالية جات تفرحني وتجولي إنها سمعت حديتي ووافَجت وهتتجوزو..
نظر إليه بملامح مبهمة باردة ليرتفع كلا حاجبيّ خليل هاتفًا بتفاجئ: واه هي مجلتلكش ولِّيه؟ جولي يابتي جولي ياحبيبتي وسمعيه.
أومأت بطاعة ورفعت وجهها إليه قائلة بنبرة مرتعشة وهي تبلع غصة مؤلمة: جيت، عشان، عشان أقوله زهقت من التمسلية دي ومش هكمل.

رُبما علم إلى ما ترمي فاختلج صدره بقوة وسأل بنبرة مهزوزة لم يقدر على التحكم بها: تمسلية إيه؟
ازدردت ريقها وقالت باستخفاف مُتقن والعبرات تتلألأ داخل مقلتيها: التمسلية بتاعة جوازنا! هو اللي عايزني أتجوزك مش أنا، أنا عمري ما حبيتك هو اللي جابرني عليك.
أومأ وسألها بسخرية: هو اللي حفظك الكلام ده ولا حفظتيه لوحدك؟

ضحكت بسخرية وقالت بلكنة استصغار و إستهزاء في آنٍ واحد لم يكن عليها أن تتحدث بهما وهي ترفع خصلة متجعدة فوق شعرها تتابع إفساد ما بينهما: عمّار أنت غبي؟ لسه مفهمتش لحد دلوقتي اللي بيحصل؟ هقولك كام مرة بكرهك عشان تصدق؟ ده أنا قُلتلك بكرهك أكتر ما نطقت أسمك ياشيخ! إنت إيه؟ مش بتحس؟ معندكش دم ولا كرامة الاثنين؟!

ونظرت لوالدها واستطردت بسخرية مُفرطة عجزت عن تكذيب نفسها حتى وهي تقول: شوف وبعد كل الكلام ده كمان خمس دقايق وهيقولي تتجوزيني؟ أصل أنا بحبك مش هقدر أعيش من غيرك ويفضل يتحايل عليا ويتمسكن زي الأطفال بقي! أنت عيّل يا عمّار مش شايف نفسك ولا إيه؟

وانفجرت ضاحكة في نهاية حديثها ليشاركها ضحكاتها مجلجلا بصوتٍ قوي عجزت عن إدراك كم الألم الخذلان المنبعث منهُ إنه يحترق بالمعني الحرفي، تحولت ضحكاتها تلقائيًا إلى بُكاء هيستيري وهي تخفض رأسها واضعة يدها فوق جبهتها بارتجاف والأخرى فوق قلبها غير قادرة على كتمان شهقاتها أكثر.

توقف شادًا على شعرة بقوة كاد يقتلعه من جذوره بأعين جاحظة جحيمية وهو على وشك الجنون شاعرا بنفسه ينصهر وضربات قلبه تتعالى بشكلٍ غير طبيعي، فقط ما اللعنة التي تمنعه عن قتله الآن وأخذها من هُنا؟ يأخذها؟ لن يفعل عقابها أن تظل معهُ لا تستحق ما يفعله لأجلها لا تستحق، لم يؤلمه أحدا في حياته بقدرها ولن يغفر لها سيؤلمها بالمثل، السماح ليس تلك المرة.

هذا اليوم أسوأ يوم في حياته بلا مُنازع، يال فرحته بيوم مولده، رغبته في البُكاء اليوم فاقت طاقته حقًا ولم يعد يحتمل، هو على وشك خسران الإثنين الأقرب إلى قلبه في يومٍ واحد وهذا كثيرا عليه، قلبه يؤلمه بشكلٍ لا يوصف، لن ينسي إنحيازها لوالدها قط، ولن ينسى حديثها ويمر مرور الكرام مهما حدث، سواء بإرادتها أو رغمًا عنها، سواء قصدته أم لم تقصد لن يسامحها على نطقها بتلك الكلمات وتحطيمه بسهولة كأنه حجر أمامها لا يشعر،.

ستندم على هذا.
دفعها خليل جانبا بحنق بسبب إهتزاز جسدها هذا وهتف بدون تعبير وهو يصفق أمام وجهه كي يبعد عينيه عنها وينتبه إليه: فوج وعاود دارك بدل ما نادم على الرجالِة تاجي وتموت مكانك، أني هجدر لهفتك وخوفك على أمك ومش هعمل حاجِة المرة ديّ، وخليك فاكر إنك مش هتتجوزها غير على جثتي يا إبن الصعيدي..

لاحت ابتسامته مخيفة فوق شفتيه وسأله بتعجب وعيناه متسعة بشكلٍ مخيف كأنه مبهورًا بشيءً ما أثناء خلع سترته وقذفها أرضًا: وأنت مفكر إني هتجوزها صوح؟ فاكرني هتجوزك يا ليلي بعد اللي قولتيه، فاكرني هتجوزك..
ازداد نحيبها دون أن تلتقط أنفاسها وكادت تختنق وجسدها يهتز بعنف مستمعة إلى نبرته وتشديده على إسمها بقهرٍ وحسرة.

أومأ خليل إليه بنظرةٍ معبرة وانتقل بنظراته المتحيرة إلى تلك السترة بعدم فهم ثم رفع عينيه إلى عمّار مراقبًا إبتسامته الهادئة وصموده الذي يُحسد عليها وسط تلك الثورة لكن لم يتجاهل عيناه الدامية التي أخافته من القادم..

دسّ عمّار مسدسة داخل حزام بنطاله من الخلف وعروقه نافرة قبل أن يكشر عن أنيابه هادرًا بنبرة جحيمية صارخة وعيناه تغيب في ظلام شيطاني أثلج صدرها: مش هاتجوزها، وههملهالك إهنِه، بس بعد ما تتفرج على شرفك وهو بيتمرمغ في الوحل، تعالى، وتتبع قوله بسحبها من ذراعها بعنف كـ حيوان لتصرخ بذعر هاتفه بهيسيريا: لأ يا عمّار لأ..

كور خليل قبضته وهدر بخشونة: أرفع يدك عنها بدل مـ، زمجر ولكمة بعنف وهم بإمساك رأسه ضاربا إياها بأحد أعمدة السرير ليترنح ويسقط بضعف غير قادرًا على الحركة وبدأت الدماء تسيل من جانب رأسهُ والرؤية تتشوش ببطء..

حملها كالذبيحة وقذفها فوق السرير لتصرخ بذعر وركضت هاربة من براثنه وقلبها ينتفض داخلها بهلع، قفز من فوق السرير وركض خلفها مطاردًا إياها كـ فريسةٍ سهلة قبل أن تخرج من الغرفة، فتحت الباب سريعًا بأيدٍ مُرتجفة وهي بالكاد ترى من عبراتها غير قادرة على الصمود.

صرخت بانتفاضة عِندما تمزق قميصها من الخلف، فسارعت بالركض هاربة داخل الغرفة ليصفق الباب بعنف وتقدم منها بملامح شيطانية لتعود للوراء برعب، بخطواتٍ متعثرة تتوسله بعيناها أن يتوقف وصدرها ينقبض وينبسط بقوة مؤلمة لكنهُ لم يكن يراها من فرط غضبه.
لقد كذب عليها، أخبرها أنها رأت أسوأ ما به لكنها لم تري هذا الوجة الدموي قط، هي من تضطره ليخرج أسوأ ما به وتبكِ في النهاية.

اصطدم ظهرها بجذع السرير لتتوقف متوسلة بانهيار وهي تهز رأسها بضعف: أبوس إيدك يا عمّار متدمرش كُل حاجة، أنا ندي يا عمّار ندى.
سحبها من مقدمة قميصها بغتة لتشهق برعب وهي تجد نفسها تلتصق به تزامنا مع صراخه في وجهها بعنف مبصرة الجحيم المتجسد في عينيه واللهيب في أنفاسه وجنونة الشيطاني: مسمعش صوتك، مسمعش صوتك..

أومأت بهيستيريا وقدميها تهتزان بضعف على وشك أن تسقط لينحني كي يحملها فتمسكت في عمود السرير متشبثتًا به بقوة ضاغطة علي قدميها كأنها تزرعها في الأرض كي لا تتحرك، وكم كانت مثيرة للشفقة وهي تترجاه بتضرع: فوق يا عمّار ومتضيعش كل حاجة، أنا ندى يا عمّار ندى فوق.

قهقهة قهقهات مخيفة، يناظرها بعينان دامية جاحظة أرعبتها جعلت الدماء تتجمد في عروقها وهو يعتقل خصرها ضاغطًا عليه بقسوة لم تتحملها فصرخت متأوة بقوة، ليهدر في وجهها بوحشية وجنون جعلها تنتفض بين يديه: ندى بنته!، ندى!، ندى! ماهو عشان أنتِ ندى هعمل فيكِ كده.

تجاهلت آلامها وتشجعت ورفعت يديها واحتضنت وجهه كي ينظر إليها هاتفه بتوسل راغبة في إقناعه بيأس قبل أن يضيع كُل شيء وهي تشهق بحرقة: أنا بحبك والله بحبك.

زمجر بغضب وردّ بكره صافعًا يديها عنهُ بحدّة وقبضته تزداد قسوة فوق خصرها ساحقا عظمها سحقا مستمعا لصراخها المبحوح المتألم دون أن تهتز به شعره كأنه ينتقم منها بتلك الطريقة مشددًا على كل كلمة يقولها بغلظة: وأنا بكرهك، العيّل اللي معندوش كرامة ولا دم بيكرهك.

عانقته بقوة، تنتحب بصوتٍ مبحوح غير قادرة على التحمل معتذرة بندم لعلها تنتشله من ذلك الظلام الذي ابتلعه: أنا آسفة، والله آسفة، آسفة، مليش ذنب يا عمّار، لأ يا عمّار، لأ، لأ، لأاااااا...
صرخت بذعر وهي تشعر بيده الأخرى تلتف حول فخذيها ولم تعد قدميها تلامس الأرض، وهو لم يكن يسمعها، لم يسمع رجائها ولا توسلاتها والأهم إعتذارها.

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة