قصص و روايات - قصص رومانسية :

رواية حب خاطئ للكاتبة هاجر الحبشي الفصل الثالث والعشرون

رواية حب خاطئ للكاتبة هاجر الحبشي الفصل الثالث والعشرون

رواية حب خاطئ للكاتبة هاجر الحبشي الفصل الثالث والعشرون

تمتم بدون وعي وهو يهز رأسه باستنكار: يعني ايه الكلام ده؟
همست بنبرة مرتعشة بتلكؤ وهي تكتم أنينها وصدرها يعلو ويهبط في عنف: يعني، مش، بنت، انا مش بنت..
بهت وجهه والذهول أخذ نصيبه من ملامحه وخرج صوته خافتًا طاغيا عليه الصدمة: أنتِ بتقولي ايه؟

صرخت في وجهه بانهيار وهي تشد على شعرها: بقول مش بنت ايه اللي مش مفهوم بقولك أنـ، هوي على وجنتها بظهر يده بقسوة أدمت شفتيها ولم يتركها تسقط بل قبض على ذراعها وهزها بعنف وسألها صارخًا بعينين جحيميتين جاحظتين وهو يخفض رأسهُ إلي مستواها: أنتِ مستوعبة بتقولي ايـه؟

أومأت وهي تشهق بحرقة وأعادت كي تقطع الشك باليقين: مش بنت لأني لما كُنت في شرم قـ، ناولها اللطمة الثانية وهو يزمجر بغضب جام و عروقة نافرة من فرط الانفعال هادرًا بوحشية: شرم!، شرم!.
لم تحملها قدماها أكثر فانهارت وهي تبكِ بنشيج لكنه لم يتركها تسقط بل رفعها من فكها بقسوة ساحقًا عظام فكِّها سحقًا أسفل أنامله وهدر بغلظة شديدة: مين؟ مع مين؟ انطقي؟

أومأت بهيستيريا وعينا غائرة وسارعت بتحريك شفتيها وهي تلتقط أنفاسها بصعوبة بالغة: مـ، ع، معـ، مع
ـ عمّاااااار!، صرخت ليلى بفزع وهي تركض تجاهه بسرعة، نفضت يديه عن نادين بقوة لم يشعر بها لترتمي بأحضانها تنتحب وجسدها ينتفض من الخوف..
أدمعت عينيها وهي تُراقب حالة الذعر التي تلبستها فصاحت في وجهه بغضب وهي تعانقها بخوف: أنت اتجننت، ازاي تمسكها بالطريقة دي ياهمجي؟

شدّ شعرة بقوة وهو يدور في مكانه محاولا ضبط أعصابه كي لا يفتك بها هي الأخرى عديمة المسؤولية، هذا ماتحدث وحذرها منهُ، لايصدق لايصدق لا يستطيع أن يستوعب هذا!
انسلت عبراتها بحزن وهي تنظر إليه بخزي ثم صاحت بنفور دون أن ترحم غضبه الأعمي بل وجب عليها أن تنعته باسمه المعروف: أنت عمرك ما هتتغير همجي و هتفضل طول عمرك همجي..

صرخ بها بنبرة جمهورية افزعتها وهو ينتزع نادين من بين يديها بعنف تلاه دفعها بعيدًا دون وعي أسقطها أرضًا بقسوة: وأنتِ فاشلة ومش فالحة في حاجة، امشي، صرخ في نهاية قوله وهو يجرها خلفه بعنف إلى الخارج..
دفعها داخل السيارة بقوة وصفق الباب خلفها وركض حول السيارة واستقلها وانطلق بسرعة البرق وبقي فقط الغبار الذي خلَّفه خلفه..
تساقطت عبرات ليلى بمهانة وهي تنظر إلى نفسها باستنكار فما تلك الحالة؟

هرول إليها رامي دون تردد وأخذ بيديها وساعدها بالوقوف وهو يسألها بقلق: حضرتك كويسة؟
أطرقت برأسها وهي تسند جسدها على الحائط تبكِ بصمت ليظهر قُصيّ ويأخذها منهُ وهو يسأل مستفسرًا: في ايه؟ انت مين؟
شرع في الحديث و شرح له ماحدث: العريس زقها وخد العروسة ومشي، هو في ايه؟
شدت ليلي قبضتها على يده و توسلته بنشيج: انا عايزة بنتي يا قُصيّ عايزة بنتي..

أومأ وضغط على كفها بخفة يدعمها من خلاله كي تهدأ وعينيه تدور في المكان يبحث عنهُ ثم انتقل بنظره إلى الشاب الذي مازال يقف محله ينظر إلى ليلى بتأثر فأخرجه من شرودة بسؤاله ببعض التهكم: في حاجة؟
جفل ونظر إليه قليلا وهو يطرف بعينيه ثم هزَّ رأسهُ بنفي وتركه ودلف إلى القاعة..
ـ حوصول ايه يا ولدي فينهُ عمّار؟

توقفت ليلى عن النحيب وجففت عبراتها بكف يدها سريعًا وهي تبعد وجهها الى لجهه الأخرى ليجيب قُصيّ بدلًا عنها: عمّار يا عمي شكله خلع وساب الفرح وخد نادين معاه..
ـ إيه؟، هتف آدم بتفاجئ بعد أن توقف بجانب متولي الذي اكفهر وظهر الغضب على تقاسيم وجهه وهو يدب بعصاة الابنوسية أرضًا بقوة..
ليشرع قُصيّ في الحديث سريعًا كي يتخلص من هذا الجو المشحون: آدم خُد عمي وأم نادين ووصلهم وانا جاي وراك هجيب غرام..

أومأ آدم وهو ينظر إليه بتعجب فبادله قُصيّ النظرات بأخرى مستفهمة وهو يهز رأسهُ ببطء كي يفهم، فهزَّ آدم رأسهُ بلا مبالاة وهتف وهو يفتح لهما الطريق ثم ضرب كتف قُصيّ: أتفضل يا عمي اتفضلي يا ام نادين..
ابتسم قُصيّ وهو يبتعد عنهُ، فهذا هو سبب تعجبه احترامه على غير العادة فهي أم نادين أيضًا ليست ليلي فقط!، بحث عن لمار التي اختطفت غرام مُنذُ أن رأتها معهُ..

وثب داخل القاعة مجددًا وهو يراقب الطاولات بسخرية فهو لن يتحدث سيترك الجميع ينتظر يستحقون لأنهم جاءوا ليشاهدوا وتبدأ النميمة ليس أكثر من هذا..
توقف متأففًا وسط القاعة وعينيه تمسح جميع الطاولات بحثًا عن المجنونة المختفية، زفر وتحرك كي يذهب يبحث عنها في دورة المياة لكن أوقفه رامي عِندما توقف أمامه فجأة فتلامس جسديهما، نظر إليه قُصيّ بتعجب وشرع في الحديث بعجلة من أمره: في حاجة؟

تنحنح رامي ثم سأله بارتباك: هو، هو، حضرتك تِقرب للعروسة؟
شملهُ قُصيّ بنظرةٍ متعالية وهو ينفخ صدره ووضع يديه داخل جيب بنطاله وهتف بجمود وحاجبه الأيسر يرتفع بتلقائية: أه خير في حاجة؟

دلَّك رامي نحرة وتخضب وجهه من الخجل وتفصد جبينه عرقًا وهو يقول: انا، انا، انا، الصراحة شُفتها قبل كده وعجبتني وكُنت بدور عليها عشان اخطبها بس اتفاجأت بيها النهاردة عروسة! وزي ما حضرتك شايف الفرح باظ ومحصلش نصيب ممكن اتجوزها انا؟ طبعا بعد ما نرجعها من الراجل ده هو خدها بالطريقة دي ليه؟
تحمحم قُصيّ وشمله بنظرة أُخري تقيميه وضيق عينيه وهو يلقي عليه سؤالًا ظن أنهُ خبيث: وشفتها فين بقي يا امور أنت؟

ابتسم رامي بلطافة وهو يدخل احدى يديه في جيب بنطاله وهتف بثقة: انا رامي، شفتها في الصعيد كُنت عند صاحبي وكده ومن ساعتها وانا بدور عليها.
أومأ قُصيّ بتعالٍ ثم دار حوله كـ حلقة وهو يأخذ شهيقًا طويلًا أخرجه على دفعات و عِندما تحدث أخيرًا بعد أن جعل توتره يصل لذروته أمره بغطرسة: طلع موبايلك واكتب الرقم ده..

تهللت أساريره وأخرج هاتفه بارتباك وابتسامة بلهاء سعيدة تعتلي ثغرة ليبدأ قُصيّ بإملاءه الرقم بتسلية مراقبًا أنامله التي ترتعش من فرط التوتر..
سأله بلهفة وهو يبتسم ببلاهة: ده رقمها؟
ارتفعت زاوية شفتيه بسخرية وقال بحزم واقتضاب: معندناش بنات ترتبط بحد من غير رابط رسمي
أومأ رامي بطاعة وقال مؤكدًا على حديثة: طبعا وفي أقرب وقت هاجي أنا ووالدي العنوان لو سمحت ممكن؟

نظر لهُ قُصيّ نظرة خطيرة كأنه تعرض للسباب من قِبله ثم هتف ببرود: شهر، بعد شهر تكلمني ده رقمي ومش قبل كده، أنت عارف اللي حصل وده هيأثر على نفسيتها ازاي بعد شهر كويس..
وتركه وغادر وهو يبتسم لكن سؤال رامي الاخيرة وهو يحدق في رقم هاتفه أوقفه: حضرتك تقربلها ايه؟
استدار قُصيّ وأردف بابتسامة: خالها..

اتسعت ابتسامة رامي وهتف مجاملا: فعلًا انا لاحظت الشبه بين حضرتك ومامتها برا ماشاء الله عليكم انتوا الاثنين حلوين..
ارتفع كلا حاجبيه بتلقائية وهو يقهقه فعاد أمامه وهو يحك منحدر أنفه ثم سأله وهو يبتسم: بجد شبه بعض؟
أومأ رامي مؤكدًا وقال بثقة: جدًا..
ربت على كتفه وهمس بتواطئ: متقلقش لما تتقدم هقول في حقك كلام حلو، مع السلامه..
ـ: مع السلامة..

تمتم بهمسٍ لنفسه وهو يهز رأسه ببلاهة أثناء تحديقة في ظهر قُصيّ..
اصطدم بجسد لمار وهو يخرج بينما هي كان تدخل مع غرام فارتدت إلى الخلف وأوشكت على السقوط وقد جحظت عينيها لكن يد قُصيّ التي أحاطت خصرها حالت بين ذلك..
رفعها سريعًا بجزع و سألها و وهو يبعد يديه: أنتِ كويسة؟ كنتي فين؟!

نظرت إليه بغيظ وهي تضع يدها على قلبها تُهدِّأ من روعها وهي تأخذ شهيقا وزفيرًا ببطء وببرودٍ قالت وهي تقلده وتقلب عينيها في آنٍ واحد: كنتي فين؟ طب أخد نفسي الأول!، عقد يديه أمام صدره وحدق في السقف وهو يدحرج عينيه منتظرًا إياها كي تهدأ..
صاحت فجأة عندما رأت القاعة فارغة منهم: ايه ده؟ راحوا فين؟
ابتسم وحرك شفتيه للرد لكنها أوقفته قائلة بتوجس: اوعي كتب الكتاب يكون اتلغي والدنيا باظت؟

ضحك بسخرية وهو يومئ وهتف: بالظبط باظ..
هتفت بإحباط وتقاسيم وجهها تبدلت للحزن: يعني الاول عيد ميلاد ليلى و دلوقتي كتب كتاب نادين!، انا نحس ولا ايه؟

ضحك بخفة وهو يراقب وجهها النقي المتأثر ثم هتف مواسيًا: لا مش أنتِ النحس كُل الموضوع أن عمّار في حياتنا بس، عادي عادي بُكره تتعودي، يلا بينا يلا يا غرام، وانحني وحمل غرام وهذا جعل لمار تقبلها بقوة وشغف وهي بين يديه وهذا جعله يسألها مستفهما باندفاع: مخلفتيش ليه؟، بهت وجهها وإجتاحها حزنا عميق لتنظر إليه بملامح منكسرة حملت بين طياتها الكثير من الألم وهي تقاوم رغبتها في البُكاء لكن حرقة عينيها والسُحب الكثيفة التي سارعت بالتكدس حالت هذا، استطرد وهو ينزل غرام أرضًا كي تسير على قدميها معهُ: يعني كنتي تتسلى بدل الوحدة!

إهتز صدرها من الألم وانسلت عبراتها واحدة تلو الأخرى بعذاب وهي تضم شفتيها المرتعشة عاجزة عن الرد عليه، رفع رأسه كي يكمل بقية حديثة بابتسامة كأنه لم يقل شيء لكنها تلاشت عِندما رأها فهتف بتعجب: لمار؟
أطرقت رأسها بألم وهي تهزها بأسي ثم التفت وغادرت بخطواتٍ سريعة ورؤية ضبابية..
صاح باسمها بصوتٍ مرتفع مستنكر: لـمــار!
زفر بانزعاج وهو يحدق في ظهرها حتى اختفت وخرجت من الفندق نهائيا، هو بماذا أخطأ؟

زمت غرام شفتيها وسأله بخزن طفولي: هي بتعيط ليه؟
تنهد وهو يحملها وهرول إلى الخارج عله يجدها ويوصلها بينما يقول: مش عارف والله يا حبيبتي، أنتِ حبتيها؟
أومأت بابتسامة مشرقة وهي تقص عليه بحماس جعله يبتسم: اوي اوي عشان كُل شوية تبوسني هنا وتقولي أنتِ جميلة..

ابتسم قُصيّ بحنو وقبَّل وجنتها التي تؤشر عليها بسبابتها الصغيرة قبل أن يضعها فوق مقعد السيارة: طبعا أنتِ جميلة عندها حق، واهي اختفت ومش هنوصلها، تعالي نروح عند عمو عمّار عشان نشوف هبب ايه؟
سألته بلطافة وهي تطرف بأهدابها الكثيفة التي تظلل عينيها البُنية: يعني ايه يهبب يا بابي؟
ضحك وأدار المقود بينما يقول: اممممم يعني بيلعب يا حبيبتي بيلعب..

توقف عمّار بالسيارة على جانب الطريق، شاعرًا بالحرارة تغزو جسدة من فرط العصبية والانفعال، فتح النافذة إلى آخرها وهو يستمع إلى نحيبها الحارق بجانبه الذي كان يطرب أذنيه طوال الطريق، لم تتوقف لحظة وتلتقط أنفاسها كالبشر بطبيعية بل كانت تسعل باختناق وتبكِ بعويل دون توقف، خلع سترته بقوة وقذفها على الأريكة الخلفية بأعصاب مشدودة وبدأ بفك أزرار قميصه العلوية بحركة عصبية لأنهُ يختنق..

بينما هي كانت تنتفض على المقعد وهي تضم نفسها رهبةً وخوفًا منهُ كـ فرخٍ صغير سقيم..
أسند مرفقة على المقود ومسح وجهه بعصبيه وهو يحدق في الخارج في محاولة مستميتة للهدوء لأنهُ يُجب أن يهدأ كي يتحدث، العصبية لن تُفيد..
هدر بشدّة دون صياح كي لا ترتعب أكثر من هذا: امتي وفين؟

هزت رأسها بأسي وندم وهي تغمر وجهها راحة يديها التي بسطتها والأخرى التي مازالت تشد بها على ساعة اليد التي تحملها مُنذُ ساعات، الحمل الثقيل الجاثم فوق صدرها الذي وأخيرًا ستتخلص منهُ، هي لم تعاني بحياتها بقدر مُعاناتها وهي تنظر إليها..

حركت شفتيها وشرعت في الحديث وهي تشهق باختناق: في، في، في شرم، من كام شهر، سافرت مع صحابي، ونزلنا في فندق بتاع ابو صحبتي هي عايشة دايمًا هناك وتعرف كل الشباب اللي بينزلوا في الفندق تقريبا، كُنا سهرانين مع بعض على الشط عادي كُلنا سمعنا فجأة أخين بيتخانقوا مع بعض جامد وواحد منهم ضرب التاني وبغباء ضرب قاسي اوي ميستحملوش واحد متربي وعاش طول عمره في أمريكا..

ضحك عمّار بعدم تصديق وهو يخلل أنامله داخل شعره لتضحك معهُ بهستيريا وعينيها تفيض من الدمع، لقد فهم ما ترمي إليه فهم كُل شيء، ليس من المفترض أن يكون القدر ضده بهذه الطريقة، أسند ظهره على المقعد وأرخي رأسه إلى الخلف بأسف من أجله ومن أجلها ومن أجل الجميع، إلى من لم تجد السعادة طريقها إليهم هو آسفًا لهم..

استطردت بعذاب وهي تنظر إلى وجهة الباهت: سألت صحبتي مين دول قالت لي ده آسر متولي الصعيدي، شهقت بحرقة وتابعت بانهيار بعينان زائغة وصوتها يعلو بعويل: واللي ضربه ده اخوه الكبير عمّار مش عاجبه حاله ولا اللي بيعمله كل ما ينزل مصر يقضي يومين بنات وخمرة واخر سفالة وقلة أدب، اخوه أحسن منه بكتير ورغم اللي آسر بيعمله لسه بيحاول معاه ويقنعه يبقى حد كويس بس زي ما أنتِ شايفة بينفخ في قربة مقطوعة، قالتلي إنك دكتور محترم وابوك بيحبك مش زيه ده بناءا على الكلام اللي بيفضل يقوله وهو سكران، هو المنبوذ اللى مينفعش يحط رجله في البلد واللي ربته واحدة وخدته ومشيت وانت اللي فضلت معاه وطاير بيك طير ومش شايف غيرك، حذرتني منه وقالت لي مالكيش دعوة بيه ولا تتكلمي معاه وتديله وش وانا سمعت الكلام واصلا انا مليش كلام مع الولاد ولا بصاحبهم بس هو اللي جه اتكلم معايا وعرض عليا خمرة..

توقفت تلتقط أنفاسها واستطردت وقد تخضنت عيناها: قولتله مش بشرب اتبسط وضحك بسذاجة ويمكن شكر فيا كمان وراح جبلي عصير كوكتيل مكسفتهوش وخدته منه شربته والوقت ضاع ولقيت نفسي الصبح في الاوضة لوحدي..

أسندت رأسها فوق النافذة بإنهاك وعبراتها تنهمر واسترسلت: قلبي كان هيقف من الخوف بصيت لنفسي لقيت هدومي زي ما هي شكرت ربنا وقُلت الحمد الله محصلش حاجة وانا كويسة بس لقيت، لقيت دم على السرير والساعة بتاعته واقعة في الأرض، الدنيا دارت بيا ودماغي وقفت معرفتش اعمل ايه ولما ارجع أقول لـ مامي إيه؟ قررت أخلص نفسي من كل ده وجريت على البلكونة وكنت هموت نفسي والله، وقفت على السور وكان بيني وبين الموت خطوة واحدة واحدة بس لحد ما شُفتك قدامي واقف على الشط، نزلت وبعدت عن البلكونة ووقفت أفكر في المصيبة دي هحلها ازاي؟ ملقتش حل غير اني اقرب منك واتعرف عليك بما أنك كويس وأخلاق اقولك اخوك عمل فيا ايه حتى لو اطريت اني اتجوزك بس لما فكرت تاني قُلت انك ملكش ذنب اني اقرب منك لأي سبب فا قررت أقولك الحقيقة على طول في اقرب وقت، لكن اتفاجأت لما أنت طلبت تتجوزني وطلبت تقابل أهلي، والله حاولت مكذبش و أكون صريحة بس أنت اللي طلبت تتجوزني وكانت فُرصة عشان كـ..

صرخت بألم عِندما سحبها من جذور شعرها بقسوة وهدر بجنون: أنتِ عارفة لو كنت اتجوزتك وعرفت حاجة زي دي كُنت هعمل فيك ايه؟
وضعت يدها على يده بألم وهتفت بتقتير وثقة وهي تنظر إليه باستسلام: كُنت هتسمعني مكنتش هتظلمني هتسمعني الأول كُنت هتسمعني..
اللعنة على هذا ما تلك الثقة العمياء التي تملكها؟!

أرخي قبضته عن شعرها ودفع رأسها بعيدًا تاركها تنتحب وهو يصِر على أسنانهُ بعجز، أيعاقبها هي أم شقيقة أم والدتها التي تتركها تذهب هُنا وهناك ببساطة دون أي قلق..
رفعت رأسها وأمسكت يده تستغيث به وهتفت بأسي تتوسله: عمّار أنا آسفة، سامحني..

سحبها من مؤخرة رأسها وقربها أمامه وهتف بقسوة واستنكار: بتتأسفيلي أنا! أنتِ دمرتي حياتك ومستقبلك أتأسفي لنفسك اللي ظلمتيها معاكِ! تقدري تقوليلي استفدتي ايه من سفرياتك؟ ها يا تتجمعي مع اصحابك في سفر يا اما لا علاقتكم سفر وبس! هي دي الصداقه بالنسبالك؟! أصحابك فين دلوقتي؟ كانوا فين لما فقدتي وعيك وطلع هو بيكِ كانوا فين؟

اخفضت رأسها فوق قبضته وهي تعتذر بصوتٍ مذبوح: أنا آسفة، سامحني، والله انا مش فاكرة حاجة ولا مصدقة لحد دلوقتي اللي حصل بس بس يا عمّار أنت كُنت أملي الوحيد والسبب اني لحد دلوقتي لسه عايشة، انا بحبك اوي والله بس مش الحب ده، انا اتربيت من غير أب الوقت اللي شوفتك فيه مكنتش محتاجة غير أب ورغم فرق السن اللي مش كبير اوي كنت شايفاك سند ليا، متقساش عليا بالله عليك انا تعبانة ومـ، ضمها إلى صدره بقوة لتحوط خصره وتتشبث بقميصه من الجانبين بضعف وجسدها ينتفض من كثرة البكاء تستطرد بتعب وهي تدس رأسها في كتفه: كُنت هقولك أكتر من مرة بس الدنيا كانت معقدة، من ساعة ما دخلنا بيتك بدأت المشاكل وطلع عندي جِد بيكرهنا، وأنت طول الوقت مع صحابك يا اما بتدور على مامي عشان تُجر شكلها، ومش هكذب عليك ساعات كُنت بخاف منك وكرهتك لما عرفت اللي أنت عملته فيها عشان تقبل بيك وتسافر معاك وبعدين ضربتها قدامي، حقيقي يا عمّار انا كان نفسي أولع فيك في اللحظة دي. أنت متعرفش هي عملت ايه عشاني، بس مقدرتش اتكلم لأني كُنت محتجالك اكتر والموضوع عدي لما صالحتني، بس مكنتش صافية من ناحيتك لسه لكن تصرفاتك والتناقض اللي عندك خلاني انسي واحبك تاني، في الأول كان عندي استعداد اتجوزك من غير اي اعتراض، لكن بعد ما شُفت نظراتك ليها وتصرفاتك والتغيير اللي حصلها هي كمان عرفت إنكم و قعتو في الحب و أنا اللقمة اللي واقفة في الزور، من أول لحظة يا عمّار وقعت عينك عليها عرفت إنها عجبتك و متضايقتش بالعكس أنت تستاهلها وهي أكتر واحدة محتاجة حد يبقي معاها و يحتويها في الوقت ده كفاية عمرها اللي ضيعته عليا وطفولتها التعيسة اللي مكنتش أعرف عنها حاجة! انا مش هسيبها تهمل نفسها بسببي، لو أنت مكنتش خدتني النهاردة وقومتني كُنت هقوم أنا لأني مقدرش أكون أنانية معاها أكتر من كده، أنت هتفضل أغلي حد دخل حياتي، أنت زي أبويا والله بحبك أوي..

مسح على شعرها بتأثر هابطًا بكفه على ظهرها بحنان كي تهدأ وتتوقف عن الانتفاض وهو يفكر بما قالت، مرَّت دقائق كانت كالسنوات عليهما حتى سكن جسدها وهدأت..
فصل العناق واحتضن وجهها بين يديه وسألها بهدوء: أنتِ كنتي لابسة ايه اليوم ده؟
أجابت بصوت منخفض وهي تشرد في ذكريات تلك الليلة: بنطلون جينز وتشيرت..
أعاد سؤالها بأملٍ دب داخله: وصحيتي كنتي بنفس الهدوم صح؟

أومأت وهي تجفف عبراتها ليسألها السؤال الذي خطر لها الآن: وايه اللي يخلي واحد ينام مع واحدة ويلبسها الهدوم ما كده كده هيهرب؟!
هزت رأسها بحزن وهمست بحيرة: بس، بس الدم!

أخذ الساعة من يدها عِندما لمحها، حدق بها مطولًا متوعدًا لهُ ثم نظر إليها هتف وهو يمسد ذراعها بحنان كي تهدأ: نادين أنا هروحك دلوقتي، مقدرش أوعدك أن مفيش حاجة حصلت عشان معرفش بس هجيب آسر وهعرف منه كل حاجة وكل المطلوب منك الحقيقة والصراحة، متكذبيش عليها وقوللها كل حاجة، لأنهُ لو حصل هجيب المأذون وهيكتب كتابكم لازم تكون عارفة ومستعدة لأي حاجة..

بهت وجهها وهزَّت رأسها بنفي وأمسكت كفه وقبضت فوقه بشدّة وتوسلت إليه بنبرة مرتعشة: مش هقدر أقولها حاجة زي دي مش هقدر كُنت قُلتلها من الاول!
سحب كفه من بين يديها وهتف بأسف: ولا انا هقول الكلام بينا انتهى..
تمتمت بعدم فهم مستنكرة: يعني ايه الكلام انتهى؟
أدار المقود و إعتدل بجلسته قائلا بكل هدوء: يعني الموضوع هيتحل و هسافر ومش راجع تانى كفايه لحد هنا..

انسلت عبراتها واحدة تلو الأخرى وهمست بندم: كل ده بسببي صح؟ بسببي المفروض تتجوزوا يا عمّار مش هسامح نفسي لو اتفرقتوا عمـ..
قاطعها بحزمٍ قاطع وهو يضم قبضته بقوة وعضلاته تتقلص من الغضب: نادين احنا متجمعناش عشان نفترق اقفلي الموضوع ده..
اسبلت جفنيها و ترجته بتضرع: انا مش هسامح نفسي يا عمّار..
هتف ببرود وهو ينطلق بالسيارة: متسامحيش..

توقف قُصيّ بالسيارة أمام منزل ليلى، ألقي نظرة حانية على غرام الغافية بجانبه، حملها برفق ثم مدد جسدها على الأريكة الخلفية براحة ثم لثَّم جبينها بحنان وترجل من السيارة..
قهقهة عِندما أبصر آدم يجلس على مقدمة سيارته ويحدق في حذائه أو الأرض لا يعلم رُبما شاردًا، لكنه متأكد أنهُ ينتظر جلاب المشاكل عمّار..
صاح وهو يتقدم منهُ جعله يرفع رأسهُ: آدم بتعمل ايه هنا؟

تنهد وقال باستياء: مستني عمّار بيه أبوه على أخره منهُ..
اقترب ووقف بجانبه ليطرح سؤاله وهو يفكر بعمق: يا تري مين دفع حق القاعة؟
نظر إليه آدم بدون تعبير و وكزه بمرفقه بسخط: أنت جاي ليه انا مش طايقك..
ضحك قُصيّ وشرع في الحديث بتسلية: جاي أوصيك، انا بكره مسافر ومعنديش حد يمسـ..
قاطعه قائلا بتهكم: رايح تجيب مراتك وولادك التانيين؟!

ضحك قُصيّ وهزَّ رأسه بنفي هاتفًا بأسف: ياريت بس معنديش للأسف مفيش، مسافر هعمل حاجة كده وجاي ولحد ما اجي أنت هتمسك الشغل أنت ولمار..
تهجمت ملامحه ودفعة من جانبه بحدة غير مبررة وهو ينظر إليه برفض صائحًا بغضب: ولمار دخلها ايه بشغلك هو اي قرف وخلاص؟
رفع قُصيّ كلا حاجبيه وهتف بتعجب: قرف ايه معلش؟ دي لمار قمر!
صاح بسخرية وهو يربت على صدره: خلهالك القمر وملكش دعوة بيا.

زفر بسبب ضياع فرصته وقال بإحباط: ياريت بس مينفعش كانت تجيلى أيام الشقاوة..
زفر آدم وهدر بعصبية: قُصيّ أبعدها عني لو سمحت انا مش عاجبك يعني؟ وبعدين لمار ايه اللي طلعتلي في البخت كل ما اروح في حته الاقيها؟
غمغم قُصيّ وهو يحرك رأسهُ بسخرية مع حديثة وهتف بامتعاض: على فكرة أنت رخم يا يالا وبعدين ده شغل الشغل كتير و محتاج مساعدة مقولتش حِب فيها يعني انسان غريب؟

رفع آدم قدمه عن الأرض وردّ ساخطا وهو يدهس قدم قُصيّ بـ غل: انا اللي غريب ولا انت اللي عمال تنيل الدنيا تدي ليلي رقم ابو عمّار وتفرق في العنوان بتاعي ها؟ مين الغريب؟!
ضحك قُصيّ وهو يطلق صيحة متألمة ودفعه بعيدًا بقوة: بحاول أعمل خير وأوفق القلوب والله بس انتوا اللي منحوسين بقي دي مشكلتكم انتوا!.

زفر آدم بضيق وهو يخلل أنامله داخل شعرة ليبتعد إلى الخلف خطوتين بريبة عِندما إقترب منهُ قُصيّ حتى تلاصقا واستطرد بخبث وهو يضيق عينيه: وبعدين مالك كل ما اجيب سيرة لمار بتتعصب وتتلبش تكونش بتخاف من الستات؟ بتحب الرجالة يا آدم ولا ايه قولي بس قول انا ولا لمار؟!
قهقهة آدم ودفعه من وجهه بسخط لكنهُ لم يبتعد بل أعاد بإصرار وهو يبعثر شعره بتسلية: لأ لازم افهم فهمني؟

صفع آدم ظهر يده وهتف باستياء: بطل تنمر بقى وسيبني في حالي أنت عارف اني مش هحب حد تانى غير تالين متحاولش حركاتك مكشوفة..
تنهد قُصيّ وأردف بحزنٍ عليه: آدم أنت بتتعب نفسك على الفاضي! أنت لسه في بداية حياتك وتستحق حد يحبك ويخاف عليك مش بقولك لمار ولا بقولك حبها حب نفسك أنت، ولما تحب نفسك هتعرف تتصرف صح وتشوف الحياة بعين ثانية..
ضحك آدم وسأله بسخرية: اشوف نفسي زيك كده؟

ضحك قُصيّ وسأل مستفسرًا وهو يضع يديه بخصره قائلا بفخر: بس ايه رأيك فيا وانا شايف الحياة بعين تانية؟
قهقه وهتف بسخط: بتجيب عيال على طول مش بتضيع وقت..
لاحت ابتسامة حانية على شفتيه وهمس بشغف وبريق لامع يتلألأ في مقلتيه لاحظة آدم: دى احلى حاجة حصلت في حياتي يا آدم، تخيل أحسن منك ومن عمّار؟!
ضحك آدم وسأله باستنكار وهو يقبض على حاشية ردائة بقوة: يعني أفرح دلوقتي يعني ولا اعمل ايه مين اللي احسن؟!

كاد يرد لكن تخلل الهدوء صوت طفولي ناعس: بابي بتهبب ايه مع عمو؟
ضحك قُصيّ ونظر تجاه السيارة وحضها على الاقتراب: تعالي يا قلب بابي تعالي..
نظر إليها آدم وهي تترجل ببطء وقدميها الصغيرة تلامس الأرض ثم إلى قُصيّ الذي يراقبها بفخر وهتف باستنكار: بنتك متربتش يا قُصيّ!

صاح بفخر وهو يستقبلها: اه ماهي تربيتي يا آدم متوقع منها ايه؟ وبعدين انا قولتلها تهبب يعني تلعب وفاكره ان أنا وانت بنلعب شوفت البراءة يا خلاثي عليها..
مسح آدم وجهه هو يسحق شفتيه نظر إليه ثم إلي غرام التي توقفت ورفعت وجهها إليه بابتسامة وفتحت يديها على مصراعيها أمامه..
نظر إليها بربيه مراقبا رمشها بلطافة ووجنتيها المتوردة إثر النوم ثم سأل قُصيّ بهمس: ايه عايزه جنيه ولا ايه؟

ضحك قُصيّ وقبل أن يرد هتفت برقه وهي تقفز: شلني يا عمو..
ابتسم آدم وحملها برقة لتتسع ابتسامتها اللطيفة ثم صاحت بسعادة وهي تلامس شعره: شعرة حلو اوي يا بابى..
بعثر قُصيّ غرتها بابتسامة وقال بثقة: شديه لو تحبي كمان عمو مش عنده مشكلة صح يا عمو؟
ردّ آدم بابتسامة مبتسرة: طبعا مفيش مانع..

ابتسمت ولفت يديها الصغيرة حول رقبته و أراحت راسها فوق كتفه بسلام جعلته يتعجب ودفئًا غريبًا غمره فابتسم بحنان ونظر إليها ليربت قُصيّ على كتفه وهتف بحنو وهو ينظر إليها: هي كده بتحب الناس الخبيثة..
أغمض آدم عينيه بنفاذ صبر وهتف من بين أسنانه: يا الله يا ولي الصابرين..
قهقهة قُصيّ وهتف بجدية: لا بجد هي بتحب كل الناس زيي بالظبط..
غمغم بامتعاض وهو يربت على ظهرها: متشبهاش بيك بس..

لوي شدقيه وهزَّ كفتيه بتعالٍ لتهمس غرام بجوع: بابي أنا جعانة..
قرص وجنتها بخفة ثم زم شفتيه وهو ينظر إلى آدم نظرة استشف بها الخبث فهتف بعدم فهم: ايه؟
اقترب قُصيّ وهمس في أذنه: رضعها يا آدم..
ابتسم ابتسامة غير مريحة وأنزل غرام لتقف على الأرض بينما يقول: ثواني بس يا حبيبتي عشان أبوك زودها ومش هسيبة..
قهقه قُصيّ ولاذ بالفرار فلحقه آدم وركضت غرام خلفهما وهي تضحك بسعادة..

صاح بتحذير كي يتوقف عن الركض: يعني مش هعرف أجيبك يعني؟ والله يا قصـ، حـاسـب حـاسـب..
صرخت نادين وحذرته بفزع: حـاسـب..
ضغط المكابح بقوة وهو ينعطف يمينا بسرعة، زفر بأعصاب تالفة ثم أطفأ المحرك و ترجل من السيارة بغضب واضعا قدم في الداخل الأخرى في الخارج ووبخه بحدّة وهو يمسك باب السيارة: أنت حيوان؟ كُنت هفرمك دلوقتي؟

قهقهة وهو يخرج نفسه من حالة الصدمة والجمود التي تلبسته لبرهة عِندما رأي السيارة تقترب منهُ وهتف بثقة: غلطان وكمان بتشتم! و بعدين عربيتك تعرفني مستحيل تخبطني عيب عليك..
ترجلت نادين من السيارة وهرولت إلى الداخل دون حديث تحت مراقبة عمّار لها، قبض آدم على رقبة قُصيّ و اعتصرها أسفل ذراعه بقوة وهو يغمغم بغيظ: انت إيه يا عديم الاحساس أنت ما تفوق لنفسك بقي..

قهقهة قُصيّ وهو يرفع يديه محاولا إبعاد ذراعه صائحا بوجه محتقن: طب عبر عن حُبك صح وقُلي خُفت عليا يا أحول أنت، ايه ده معقول تالين!.
أرخي آدم قبضته ورفع رأسهُ بلهفة ليبتسم قُصيّ بخبث وبدل الوضعية وجذب رأسهُ أسفل إبطه وضغط عليها بقوة وصاح بنفاذ صبر: هو في ايه بقي انا ساكتلك من الصبح قرفتوني..

حاول التملص لكنهُ عجز فضرب معدته بخفة فـ أفلته وانحنى يتأوه بألم، عقد آدم كلا حاجبيه ظنًا أنه يبالغ برده فعله ثم ضغط على كتفه بخفة وسأله بقلق: قُصيّ أنت كويس؟
أومأ وهو يضغط على أسنانه بقوة، واضعًا يده على معدته كاد يتحدث لكن لمح غرام تركض وتدخل سيارة عمّار الذي استقر داخلها..

أدار عمّار المقود وكاد يذهب لكن استوقفه فتح باب السيارة وصعود غرام وجلوسها في المقدمة جواره، نظر إليها بتعجب ثم قال بدون تعبير وهو يرى ابتسامتها البريئة تجاهه: نعم؟
طرفت بأهدابها وابتسامتها تتسع أكثر، ابتسم وهو يدقق النظر في تقاسيم وجهها ملاحظًا الشبه الذي يجمعها بـ قُصيّ فـ قرص وجنتها بخفة وسألها بابتسامة: إيه؟

أمسكت كفه بين يديها الصغيرة قبل أن يبتعد وقبل أن تتحدث ادخل قُصيّ رأسهُ من النافذة وسأل بجدية: الرُخص لو سمحت؟
ضرب عمّار جبهته براحة يده جعله يبتعد وهتف باستياء: إكبر بقى إكبر..
مسد جبهته وأردف بازدراء: لأ انزلي عشان اعرف اتكلم انزل..
رفع عمّار كلا حاجبيه وفتح باب السيارة فأغلقه قُصيّ سريعا بتوجس وهو يقهقه: لأ بهزر بهزر خليك مش هقدر عليك، بس حصل ايه؟ قلبت الدنيا ومشيت في ايه؟

تنهد بـ هم وتهجمت ملامحه وسحب يده من غرام برفق ثم قال بضيق شديد: لما أروق يا قُصيّ مش دلوقتي اعمل حسابك بكره احتمال اتصل بيك تيجي تشهد أنت وآدم فين آدم؟
هتف وهو يصعد إلى السيارة وأجلس غرام على قدمه: هنا اهو خير!
أعاد وهو يحدق في الساعة يراقب مرور الوقت: بكره هتصل بيكم تيجوا هنا..
سأله آدم بعدم فهم: وأنت هتكون فين؟
أجاب وهو يمرر يده على وجهه: هجيب آسر..

تحمس قُصيّ وأدخل رأسهُ من النافذة مجددًا وسأل بفضول: حصل ايه حصل ايه؟
تأفف وكاد يلكمه وهو يهز رأسهُ لتسقط عينيه على غرام التي تحملق به بابتسامة والقلوب تتقافز من عينيها تجاهه فهتف باستنكار: بنتك مالها؟
نظر إليها قُصيّ وسألها بابتسامة: عجبك عمو ياحبيبتي؟
أومأت وصاحت بسعادة: عينه حلوه اوي يا بابي
он красивый
ضحك قُصيّ وهو ينظر إليه فجذبه عمار من حاشية ملابسه وسأله بانزعاج: بتشتمني صح؟

هزّ رأسهُ بنفي وهتف: لا بتقول إنك وسيم بس، يلا يا حبيبي ادي لـ عمو حضن عشان نمشي..
أومأت و القت بنفسها على عمّار ليحملها وهو يبتسم باتساع، قبلت وجنته ثم رفعت نظرها إلى عينيه بانبهار وضحكات رقيقة تهرب من بين شفتيها جعلته يضحك معها يروح عن نفسه قليلا قبل أن يصاب بالجنون..

قبل وجنتها بحنان ثم رفعها واخرجها من النافذة وهو يبتسم لتضحك بسعادة وهي تتعلق في رقبة قُصيّ، نظر إليهما عمّار وابتسامة دافئة تلوح على شفتيه وهو يتساءل بنفسه متى سيرزق بطفلة جميلة مثلها، إنهُ بسببها ليلي اللعينة، لقد حرمت عليه جميع النساء بعد رؤيتها، لقد أختارها منذ أن وقعت عينيه عليها والآن تتمنع عن الاقتراب، أن لم يتزوجها لن يتزوج غيرها، لكن الغبي غبي لمَ دفعها بتلك القسوة؟ لن ينسى ذلك التعبير الذي اعتلى وجهها في تلك اللحظة، دمر كل ما بناه بسبب غضب أهوج، همجي هو همجي ويعترف وهي معها حق، لكنها غبية ولا تعرف كيف تسير تلك الحياة، الدائرة التي أحاطت بها نفسها لم تخرج منها قط بل من يريدها يدخل إليها كما فعل هو وحقًا ستصيبه ذبحة صدرية من فرط السلام البساطة التي تعيش بها ولا تشعر بما يدور حولها من فساد، فقط برمجت نفسها على أن الجميع صالحون لن يقبلوا على أذيتها عداه هو، هو العدو الأوحد والجميع جيد عداه..

يأسف لها ولسنوات حياتها المتشابه، ويأسف لقوتها التي تتصنعها أمامه، هي ليست قوية لا تعرف حتى المعني العميق لها، لقد خاب ظنه وأحبط، سيء سيء كل شيء سيء! لقد بدأ يكره حياته..
زفر ومسح وجهه وهو يستغفر ربه ثم هتف بنبرة ثقيلة: انزل يا آدم عشان امشي..
نظر إليه بقلق ثم سأله: رايح فين؟ أنت كويس؟
أومأ وقال بهدوء: رايح المطار هستني آسر عشان جي..

هزّ قُصيّ رأسهُ بتعجب وهتف باستنكار: ليه تكدر نفسك من دلوقتي هناك لحد ما يوصل كتير روح ارتاح شويه وخد دُش و تبقي فكر بعدها تشوف وصل ولا لسه وبعدين هو صغير ما يجي عالبيت!
أدار عمّار المقود وهو يهز رأسهُ متمتما بنبرة متوعدة: لأ هستناه..
أومأ آدم بتفهم وترجل من السيارة بهدوء محترما رغبته لكن أوصاه قبل النزول: تبقي إتصل بـ أبوك على الأقل لأنه مش هادي..

أومأ عمّار بطاعة ولم ينتظر أكثر وانطلق وذهب في طريقه بسرعة، تقدم آدم منهما ثم ضم غرام إلى صدره بحنان وودعها بقبلاتٍ رقيقةٍ مثلها وغادر هو الآخر، لكن بعد حديث طال بينهما لمدة نصف ساعة تقريبا أشبه بـ نميمة على آسر لأنه جلاب مصائب أكثر من شقيقة..
بينما في الداخل، في منزل ليلى في غرفة الجلوس..

تخضنت وزاغت عيناها وهي تهز رأسها باستنكار ناظرة إلى ابنتها التي تنكس رأسها بغزي بعد قصّها عليها كُل ما حدث، لتنسل عبراتها دون وعي وهي تهمس بصوتٍ مبحوح: يعني ايه الكلام ده؟
كتمت نادين شهقتها وهمست بندم: آسفة..
توقفت عن التنفس لوهلة وهي ترى الصدق داخل عينيها الحزينة فكانت تلك إشارة كي تسقط محلها فوق المقعد كي تستوعب تلك الجائحة وهي تنظر إليها بخذلان..

ركعت على ركبتيها أمامها وتوسلت بنشيج: متعيطيش، انا مستاهلش، متزعليش نفسك بسببي
ضربت بكفيها على فخذيها وهي تهز رأسها وإمارة التعجب تعتلي وجهها وأعادت قولها باستنكار وهي تبكِ: مزعلش نفسي! وآسفة! بعد ايه؟
صكَّت وجهها بقوة واستطردت صارخة: بعد إيه؟ بعد إيه؟
أوقفتها نادين و أبعدت يديها عن وجهها هي تبكِ بحرقة متوسلة: متعمليش في نفسك كده بالله عليكِ متعمليش في نفسك كده..

سألتها بقلبٍ منفطر وهي تنتحب لائمة عليها بسبب هذا الخذلان وتدمير فرحتها بها: ليه كده؟ ليه؟ ده انا مش بتمنى حاجة في الدنيا أد إني أشوفك عروسة، ليه كده حرام عليكِ، قصرت معاكِ في إيه أنا ده جزائي؟ وفي الآخر بعد المصيبة رايحة تقولى لـ عمّار وأمك آخر من يعلم! اقرب واحده ليكِ متعرفش! للدرجادي بتحبيه! أخد مكاني في قلبك خلاص..

عيل صبرها ولم تستطع التحمل أكثر فإنفجرت صارخة بقوة وانكسار وهي تبكِ: انا مش بحب عمّار مش بحبه سامعاني! تقدري تقوليلي كنتي هتعملي ايه لما تعرفى؟ ها؟ هتعملي ايه؟ هتاخديني من ايدي وهتروحي بيتهم تشتكي من ابنهم ونعمل فضيحة ومحدش هيتفضح ساعتها غيري؟ ولا حتبلغى عنه واتفضح بردو؟ ولا هتستعينى بـ سعيد؟!.

توقفت تلتقط أنفاسها وهزَّت رأسها بأسف واستطردت بانهيار: أنا آسفة بس إمتي هتستوعبى إننا محتاجين راجل في حياتنا! أنتِ مش محتاجة أنا بقى محتاجة أب؟ رغم كل اللي بتعمليه عشاني بس مفيش حاجة عوضتني عنهُ النقص اللي حاسة بيه بيدمرني، عمرك ما قولتيلي لأ ولا خدتي معايا موقف حاسم في حاجة دايما اللي بقوله بيمشي واللي اطلبه يتنفذ مفيش مرة قلتي لأ وكانت لأ! حتى عمّار الشخص الوحيد اللي حبتيه سيبتهولي وكنتي هتجوزينا بسهولة وهو مش بيحبنى وأنتِ عارفة..

توقفت عن النحيب وهزت رأسها بنفي وتمتمت بتعجب بسبب هذا الاتهام المباشر وهي تعقد كلا حاجبيها بتشوش مبررة موقفها وعبراتها تنساب: ده عشانك! عشان بتحبيه وهتبقي سعيدة معاه!
سألتها بسخرية وهي تهز رأسها عاجزة عن التوقف عن البُكاء حتى بح صوتها: وعرفتي منين اني هبقى سعيدة معاه وهو مش بيحبنى؟ وسبق وأهانك وبردو قبلتيه لأني أصريت عليه طيب فين نظرتك؟ فين الصح والغلط طيب انا غبية معرفش حاجة أنتِ موجهتنيش ليه؟

ابتسمت بألم وهزَّت رأسها بتفهم وهي تنظر إليها عاجزة عن الرد لأنها محقة، لكن كل هذا كان لأجلها ولأجل سعادتها ليس أكثر..
همست بنوعٍ من السخرية وعيناها تفيض من الدمع وهي تضم يدها إلى صدرها: يعني انا السبب انا الغلطانة مش كده؟

هزت رأسها بهستيريا وأمسكت يدها بين يديها تضغط عليها بقوة بينما تقول بنبرة صادقة راغبة في الإقناع: لأ مش غلطانة ومش بأنبك، أنتِ بس حاولتي توفريلي كل سُبل السعادة عشان محسش بفرق واني اقل من حد وكان عندك حق، بس، بس، أنا كمان مغلطش عشان دي مش أول مرة أسافر مع صحابي ولأخر وقت انا كُنت محافظة على نفسي، ولا بصاحب حد ولا بتكلم مع حد و بعدت عن كل اصحابي اللي مش عاجبينك ده مش ذنبي وأنا مكنتش أعرف انه حاطت حاجة في العصير ومكنش في حل قدامي غير عمّار انا قولتله عشان هو اللي هيعرف يحل مشكلتي مش عشان بحبه أكتر منك..

هتفت بحسرة وهي تئن: والمفروض، إني، أفضل قاعدة مستنية عمار بيه لحد ما يجي يقولي بنتك مدام ولا لسه بنت مش كده؟
هزت كتفيها بقلة حيلة و قالت بانكسار وهي تلتقط أنفاسها بصعوبة: مفيش حل غير كده ووعد لما كل حاجة تنتهي انا هسافر ومش هرجـ، وصرخت بألم عِندما باغتتها ليلى ولطمت وجهها وصرخت فيها بجنون وشراسة: لو سمعتك بتجيبي سيرة السفر تاني والله هنزل فيكِ ضرب فاهمة ولا لأ؟

نظرت إليها نادين بعتاب وهتفت بلوم وهي تنتحب: جه متأخر اوي مضربتنيش من زمان ليه؟

غمرت ليلى وجهها بين يديها تبكِ بعجز غير قادرة على الحديث أكثر وقلبها يؤلمها وهي ترى إبنتها بتلك الحالة المضنية، أراحت نادين رأسها على ركبتيّ والدتها وهتفت بمقتٍ شديد لـ نفسها: وأنتِ صغيرة متعلمتيش ولا عشتي طفولتك بسبب أبوكِ، ولما اتجوزتي معشتيش شبابك وأيامك في دراستك بسببي، كِبرت وكِبرت مشاكلي وأنتِ زي ما أنتِ بتعملي كل حاجة عشاني، دخلت عمّار حياتنا وأذاكِ بسببي، أبوكِ لقاكِ بعد سنين وعذبك بسببي، حبيتي عمّار ومش هتتجوزوا بسببي، و دلوقتي مقهورة بسببي كل حاجة وحشة بتحصل بسببي..

كانت تستمع إليها وهي تمسح على شعرها برفق، فقلبها لا يستطيع أن يغضب منها ولا عليها، مهما حدث لا تستطيع أن تنبذها وتبعدها عنها، هي أثمن شيء في حياتها وهي من تحتاجها أكثر وليس العكس، وجودها هو السبب الوحيد الذي تحيا من أجله..
رفعت رأسها وسألتها بألم وهي تشعر بالكره تجاه نفسها يتضاعف: بتكرهيني؟ بتكرهي وجودي صح؟ بتتمني أموت مش كده ربنا ياخدني عشـ..

منعتها عن الحديث عندما كوبت وجهها بين يديها وهي تبتسم في وجهها بعذوبة بينما عبراته كان لها رأيًا آخر وهي تتسابق فوق وجنتيها وجنتيها: ششششش، ايه اللي بتقوليه ده! بعد الشر عنك، أنتِ أجمل حاجة حصلت في حياتي يا حبيبتي ومهما حصل عمري ما هبطل أحبك أبدًا، أنتِ سبب سعادتي في الدنيا دي كُلها من غيرك كُنت هبقى تعيسة..
سألت متحيرة سبب تلك التضحيات بينما هي لم تقدم لها شيء: ليه؟

جففت ليلى عبراتها برفق وهي تداعب وجنتها وهتفت بحنان أمومي: لأنك حته مني، أجمل حاجة ممكن تحصل لأي بنت أنها تبقي أم وتشوف حته منها بتكبر قدامها في يوم من الأيام..
لتهمس وهي تبلع غصتها: حتى لو من راجل مش بتحبه؟
أومأت ليلى بابتسامة مؤكده على قولها وهي ترتب خصلات شعرها المبعثرة: حتي لو مش بتحبه و متعرفهوش ومجبرة عليه النتيجة واحدة..

ازدردت ريقها بتأثر وسألت بمرارة: حتى لو الحته اللي كبرت قدامك خذلتك وضيعت تعب السنين وراح حلمك مع اللي ضاع؟
تحركت ليلى من محلها وجلست على ركبتيها أمامها ومن دون مقدمات ضمتها إلى صدرها بقوة لتجهش نادين في البُكاء، هي كانت تنتظر هذا العناق بشدّة منذُ أن وقفت تحكِ لها حكايتها المُشرِفة، تحتاج فقط إلى عناق يطمئنها..

أخذت تمسح على ظهرها بحنان وهي تكتم شهقاتها وتضم شفتيها حتى ارتجفت ذقنها وهي ترفع نظرها للأعلى تناجي ربها برجاء ألا يكون صحيح، فهي لم تفعل شيئا سيئًا في حياتها كي تعاقب عليه بتلك القسوة ليس في ابنتها لن تتحمل هذا..

رفعت كفها وأخذت تمسح على شعرها بحنان مواسية بنبرة مرتجفة مواساة كانت لنفسها قبل أن تكون إليها: نادين يا حبيبتي أنتِ قولتيلي إن في أمل أن يطلع مفيش حاجة حصلت صح، كلامك ده اللي مصبرني و حتى لو حصل مش هتخلي عنك متخافيش بس إن شاء الله هيطلع مفيش حاجة حصلت وهترجع كل حاجة لطبيعتها وهنلف العالم مع بعض لو حبيتي بس كفاية قلبي وجعني عليكِ..
رفعت رأسها وسألتها بانكسار: هتسامحيني لو حصل؟

هزت رأسها بإيجاب وأضافت بلهفة وهي تضغط على يديها كي تنظر إليها وتشعر بصدق قولها أكثر: ولو عايزة كمان نبعد من هنا و نمشي هنمشي..
ـ وأنتِ؟.
كانت تقصد عملها وحياتها بهذا السؤال
تبسمت ليلى بعذوبة وقبّلت يديها بالتناوب ثم همست بحنان بالغ وهي تنظر إليها: تغور الدنيا كُلها قصاد ضحكة منك..

ذُهلت من فعل والدتها لبرهة وظلت تحملق فوق ظهر كفها بصدمة عاجزة عن وصف ما تشعر به من حبٍ داخلها، أدركت الآن فقط أنهُ لم يُخلق بعد من سيحبها أكثر من والدتها، رُبما عجز لسانها عن التعبير لكن جسدها لم يعجز بل ضمتها بكل ما أوتيت من قوة وهمست بحب شديد وندمها يتفاقم: أنا بحبك أوي..

في منزل قُصيّ الآن..
أفرغت جـنّـة المياه الساخنة في الكوب ويدها ترتجف بشكلٍ ملحوظ وحرارة جسدها تتزايد، وجبينها يتفصد عرقا وقلبها يخفق بعنف شديد شاعرة بالوهن، و كل خلية في جسدها تصرخ ألمًا، خللت أناملها داخل شعرها بنفاذ صبر لينتهي بها المطاف تشده وهي تعض شفتيها بقوة بسبب تلف الأعصاب هذا، تُريد الحبوب تريدها، لا تستطيع التحمل والصمود أكثر..

أبعدت كل تلك الأفكار التي تحضّها على شراؤها مجددا وحملت المشروب الدافئ وبدأت ترتشفه على مهل بوجه شاحب وبرودة تجتاحها كالمحمومة، رُبما تهدأ قليلا وتبدأ في التأقلم فلن تعود له مجددا..
مرَّ على حربها مع نفسها دقائق حتى سمعت صوت الباب يفتح، نظرت بلهفة لتبصر غرام تفلت قُصيّ وركضت إليها عِندما لمحتها صائحة بسعادة: مامي مامي..

جلست جـنّـة القرفصاء وفتحت يديها على مصراعيها تستقبلها بحفاوة، ضمتها بقوة ثم وقفت بها وهي تستنشق رائحتها بانتشاء، أجلستها أمامها فوق البار وسألتها بحنان وهي تتأملها: حبيبتي عملت ايه بره؟
قوست شفتيها بحزن وهمست: انا جعانة..
ضمتها جـنّـة بحزن وسألتها وهي تربت على وجنتيها: بابا مأكلكيش بره؟
هزت رأسها بنفي وهي تطرف بعينها سرعان ما تبسمت وصاحت بفرحة: بس اتبسط اوي.

قبلتها جـنّـة برقة وهتفت بحنان: يارب دايمًا يا حبيبتي، خمس دقايق بالظبط وناكل سوى..
أومأت وهي تضم يديها الصغيرتين في حجرها تراقب والدتها بشغف وهي تتحرك أمامها كي تطعمها، بينما قُصيّ ألقي بجسده على الأريكة في غرفة الجلوس من التعب ولم يدري بما يحدث حوله وذهب في ثباته العميق بعد خمس دقائق فقط..

في هذه الأثناء داخل شقة لمار في الطابق الثالث..
كانت تفترش أرضيه غرفة الجلوس بجسدها تبكِ بصمت وشعرها متناثر حولها بطريقة تدعو أشهر الفنانين مهارة كي يرسموا تلك الآية في الجمال الممدة بإهمال، فـ قدميها لم تحملانها أكثر من هذا، ستظل تحزن وحدها وتبكِ وحدها ولن تتقاسم أحزانها مع أحدهم، لن تفرح مجددًا ستظل بائسة..
علا صوت نحيبها وهي تتذكر قول الطبيب الذي دمرها ودمر زواجها: للأسف أنتِ مبتخلفيش..

دار العالم بها وهي تسقط منهزمة على المقعد متشابكة الأيدي مع زوجها العزيز الذي تخلى عنها وانفصلوا بعد هذا..
أفزعها صوت هاتفها المرتفع الذي صدح فجأة، رفعت نفسها ولملمت شعرها المتناثر ووضعته على كتفها ثم أجابت بخفوت: ألو..
ـ الخاينة اللي نسيت أختها..

تبسمت لمار بحنان وهمست باشتياق: حبيبتي إزيك وحشتيني، بجد! أخيرًا هتتجوزوا أكيد طبعا جاية أنا هحضر شنطة هدومي وجيالك حالًا وحشتوني كلكم أصلًا، جوزي متقلقيش مسافر وقالي أجي اقعد معاكم لحد مايرجع أصلا بس أنا كُنت مكسلة بس هاجي دلوقتي، مع السلامة..

أغلقت الهاتف وهي تبتسم ثم جففت عبراتها العالقة فوق وجنتها وركضت إلى غرفة النوم وبدلت فستانها بقميص هفهاف وبنطال ثم رفعت شعرها ذيل حصان وأخذت القليل من الملابس وذهبت إلى منزل والديها..

في صباح اليوم التالي..
تأوه بألم وهو يرفع رأسه من فوق المقود الذي غفى عليه من أمس، لا يعلم الوقت كُل ما يذكره أن رأسهُ كادت تنفجر من الألم الذي شعر به من كثره التفكير حتى انتهى المطاف به نائمًا والهواء يصب عليه من النافذة جمد جسدة..
دلَّك رقبته من الألم وهو يئن، ترجل من السيارة بملامح مقتضبه ناعسة وهو يغلق عينيه نسبيًا بسبب ضوء النهار الساطع..

استند على مقدمة السيارة وهو يكتف يديه أمام صدره عاقدًا كلا حاجبيه وملامحه توحي بالشر، كان يقف يراقب من يدخل ومن يخرج منتظرًا ظهور شقيقة فهذا وقت وصوله كما حسب أمس، أبعد وجهه ونظر للجهه الآخرى عِندما أبصر أروي تجر حقيبتها خلفها متجه إلى الداخل يبدو أنها عائدة إلى موطنها أخيرًا، لقد أزعجته من كثره اتصالاتها حتى سأم ووضع الرقم في القائمة السوداء، هو فقط كان يُنفذ عرضه أمام ليلى ليس أكثر من هذا، فكَّر كثيرا أن يجعلها تتواصل مع آدم لكنه خشي عليه منها وآدم عند الغضب يتفوه بالترهات..

تثاءب من جديد وكاد يصعد إلى السيارة ينتظره في الداخل لكن توقف مشدودًا عِندما أبصره يتقدم وهو يتلفت حوله، يحرك رأسه بشجن مع الموسيقي الاجنبية التي يسمعها..

المفسد الذي لا يعرف ما خلَّفه ورائه يتقدم منهُ، وهو يبتسم باتساع يرتدي حذاء رياضي تابع لأحد الماركات العالمية، يضع يديه داخل جيب بنطاله خامة الجينز ممزق يظهر ركبتيه بسخاء، يعلوه كنزه سوداء وفوقها معطف جلدي ويطوق رقبته بـ عدة قلادات فضية عجز عمّار عن عدها، يرتدي نظارة سوداء أخفت نصف وجهه، وخلل أنامله داخل شعره اللامع بإعجاب وهو يتشدق بالعلكة داخل فمه، ومن دون حقيبة أيضًا فارغ الأيدي..

ضحك عمّار بعصبية وهو يمسد جبهته بقوة، لقد أخبره أن والده بين الحياة والموت ويريد أن يراه هل هكذا يبدي حزنه؟
فتح عمّار يديه على مصراعيها يستقبله بين أحضانه بحفاوة عِندما سمع صوت صياحه بابتسامة وهو يهرول إليه: حبيب قلبي وحشتني..
عانقه عمّار بقوة وقبل رأسهُ وهو يزفر براحة، لقد افتقده كثيرا تلك الفترة و إشتاق إليه الغبي الذي لا يهتم..
سأله عن حاله برفق وهو يضغط على كتفه: عامل ايه؟

ابتسم آسر بجاذبية من خلف نظارته حتى بدت نواجذه وهتف برضا: انا الحمد لله كويس، ثم تبدلت ملامحه لأخرى حزينه واستطرد: بس من ساعة ما عرفت ان بابا تعبان حقيقي وانا مش على بعضي ومتوتر جدًا
أومأ عمّار بشدّة وجاراه في حديثة وهو يهز رأسهُ كأن الإماءة لا تكفي ثم أنتزع سماعة الأذن منهُ وهتف بسخرية وهو يرفع كلا حاجبيه: واضح جدًا التوتر..

قهقهة آسر وبرر وهو يضرب صدره: والله قلقان بس مفيش مانع من اني اخفف عن نفسي شويه؟
هتف متبرمًا: تخفف عن نفسك بالأغاني؟!
رفع آسر نظارته فوق رأسهُ لتظهر خضراويه البراقة تحت ضوء الشمس وأردف ممازحًا بشكٍ يساورة مُنذُ أن رآه ومازال يتشدق بالعلكة: عمّار عينك كُلها غدر ونظراتك مش مريحة أنت هتقتلني؟
ابتسم عمّار وسأله بجدية ومقلتيه تتسع بانفعال: هو باين عليا اوي كده؟

أومأ آسر وقال وهو يتحرك في مكانه بعدم راحة: باين اوي اوي..
أخذ عمّار شهيقًا طويلًا وهو يمسح بكفه على ذقنه ثم سأله: أنت عارف اني بحبك اوي صح؟
ابتسم آسر وقال بثقة مغلفة بالحب: عارف جدا وانا كمان بحبك اوي..
ابتسم عمّار وهتف بتسلية: وعشان بحبك اوي جبتلك هدية..
فرك آسر يديه بحماس وقال بسرور: ايوه كده هو ده الكلام اتحفني بالهديه اتحفني..
ضحك عمّار وهو يهز رأسهُ بوعيد: طب غمض عينك طيب..

أنزل آسر النظارة فوق عينيه وهتف بجدية: اعتبرني اتعميت يلا وريني..
اتسعت ابتسامته وأخرج الساعة من جيب بنطالة الأمامي ورفعها أمام وجهه وهتف بحماس مماثل وهو يضرب كتفه: فتَّح..

رفع آسر النظارة بتفاجئ وهتف بابتسامة وهو ينظر إليها: الساعة دي جميلة كان عندي وحدة زيها بس وقعـ، تلاشت ابتسامته عِندما تعرف عليها أمام نظرات عمّار الخطيرة التي توحي بالشر، ابتلع ريقه بحلق جاف واستطرد ممازحًا وألوان قوس قد تجمعت في وجهه: ايه ده بتروح شرم من غيري يا خلبوص أنـ، آآآه، عاجلة عمّار بلكمة اطرحته أرضًا بعنف..

وضع يده على طرف شفتيه الدامية وهو يتأوه ثم بصق العلكة وصرخ به بغضب: ايه يا عمّار الغباء ده؟

سحبه من ناصيته بعنف ودفعه داخل السيارة وهو يعنفه بحدّة شديدة: قولتلك ميت مرة بطل القرف اللي بتعمله ميت مرة حذرتك وقولتلك بلاش هتقع في شر أعمالك لكن لأ الوساخة والفُجر بيجروا في دم أهلك، تتعلم من هناك القرف وتيجي تطبقة هنا وتضيع بنات الناس معاك عشان أنت (، ) ومشفتش تربية وأمك اللي فرحانه بيك معرفتش تـربـيـك..

صاح بتهكم وهو يخلع معطفه الجلدي الثقيل وقذفه خلفه وصدره يعلو ويهبط بعنف: هو ايه اللي حصل لكل ده يعني؟ حته ساعة لا راحت ولا جت مفيش حاجة ضدي..
لطم عمّار وجهه بعنف ولم يمهله فرصة التألم بل قبض على شعره الذي يتباهى به حتى كاد يقتلعه من جذوره سائلًا بنبرة جمهورية وهو يلصق وجهه في زجاج النافذة بعنف: أنت هتستهبل ياض؟ حصل حاجة بينك وبينها ولا لأ انطق؟
همس بصوتٍ مكتوم متألم: أيوه حصل حصل..

تركه وهو يرشقه بنظراتٍ مشمئزة ثم أخرج الهاتف و وضعه أمامه وحادث آدم عِندما بدأ في القيادة: ألو أيوه يا آدم ممكن تجيب مأذون وتيجي على بيت ليلى
ـ طيب و عمي؟
اتسعت عينا آسر وهزَّ رأسه بنفي عندما فهم الفخ الذي سقط به وتوسل إليه: لأ بلاش بابا هيكرهني أكتر..
عقد آدم كلا حاجبيه وهو يستمع لطلب والد عمّار بعد أن سمع صوت آسر فـ تحمحم وقال بهدوء: عمي عايز يقول حاجة لـ آسر.

حدقا الأثنان في الهاتف بانتباه كأنهما في انتظار تصريح مهم من رئيس الجمهورية ليقول والده بخشونة: الواحد لو كان خلَف خروف كان هياجي أبرك مِنيك، اني راجع البلد يا عمّار مش هضيع وجت على خِلفه الندامِة الفاجد خلِّص وحصلني..
أجاب عمّار بطاعة: حاضر..

ضحك آسر بسخرية وهو يسند رأسه على النافذة مقاوما آلامه المبرحة، ويكاد يبكِ من القهر الذي يشعر به، قسوة والده معهُ تدمره وتجعله يرى نفسه لاشيء، لقد حاول كسب وِده لكنه لا يشعر سوى بالكرة ينبعث منه تجاهه لن يحبه والده يوما قط، لم يعانقه ويخبره أنه إشتاق إليه، كان التوبيخ والتعنيف أولويته أكثر من أي جملة جميلة قد يتفوه بها ويطيب خاطرة المسكين، هو لم يحصل على شيءً منهُ سوى الأموال ووالدته الجميلة تأخذها منهُ و تقامر بها، لقد سأم حياته وكره تحكمها وتدخلها فيما لا يعنيها وكره كونه غير مرغوب به في أكثر الأماكن التي يحبها مع الأشخاص المحببين إلى قلبه لأنهم ببساطة من لا يرغبونه..

تابع عمّار قيادته بعصبية وسرعة وهو ينظر إليه بجانب عينيه كل برهة وأخرى مشفقًا عليه رغم كل ما يحدث يشفق عليه، لأنه يعلم أن أكثر ما يجرحه هو قسوة والده، يظن أنه وحده من يتعامل معه بتلك القسوة، يظن أنه يأخذه بذنب والدته و يكرهه دون سبب لا يعرف أن القسوة صفة من صفات والده، هذا مثير للسخرية فهو لم يتعرض لنصف ما تعرض له قط ويحزن، يا إلهي هو لم يرى منهُ شيء، من المفترض أن يشكر ربه لأنهُ لم يترعرع معهُ هُنا..

في هذا الوقت تحديدًا في منزل ليلى..
حركت جفنيها المتورمان ببطء وأفرجت عن أعين الغزال خاصتها الصافية التي تعكرت بالحمرة والحرقة من شدة البُكاء أمس، نظرت إلى وضعيتها واستقرارها على الأرض وعناقها لـ نادين النائمة براحة في أحضانها من أمس في غرفة الجلوس دون انتباه من إحداهما بل ذهبا في ثباتٍ عميق..

أبعدت ليلى شعرها الذي انسدل إثر فساد كعكتها حتى عاد لطبيعته وتموج بعض التموجات البسيطة سريعًا، ضحكت بسخرية وهي تمسك بخصله تحدق فيها بتركيز، حتى شعرها فشلت في تصفيفة جيّدًا كي لا يتجعد بسهولة دون مجهود حتى!، عمّار مُحق هي فاشلة ولا تفلح في شيء..

اغرورقت عيناها بالدموع و اجتاحها حرقة شديدة مؤلمة زادت من بكائها، وضعت يدها على شفتيها كي تكتم صوتها وتتوقف مازال هناك أمل يحلق حولها وستظل آملة، جففت عبراتها سريعا عندما شعرت بتحرك رأس نادين ضد صدرها فـ بدأت توقظها برفق: نادين يا حبيبي، قومي نامي فوق نادين..
همهت بنعاس وهي تتمتم بدون وعي: عمّار جي، هيجي..

وقفت ليلى وهي توقفها معها بأسي، ثم ساعدتها على الصعود و تكمله نومها في غرفتها، سطحتها و دثرتها أسفل الغطاء ثم ذهب وأغلقت باب الغرفة خلفها وكادت تذهب إلى غرفتها لكن صدح صوت الجرس، تحركت إلى الأسفل بقلبٍ مضطرب لتجد نادين اندفعت من الغرفة كـ صاروخ بعد صفق الباب بقوة و سبقتها راكضة إلى الأسفل..

فتحت الباب سريعا وهي تلتقط أنفاسها لتجد آدم يقف أمامها، نظرت إليه بعدم فهم فـ تحمحم وهتف مع توقف ليلي بجانبها تناظرة باستفهام: عمّار قلي أجيب مأذون وأجي استناه هنا وهو جي!.
دار العالم بـ ليلى لتترنح إلى الخلف بصدمة وتجهش نادين في البكاء وهي تنظر إليها بضعف هازة رأسها بأنكسار وأسي تخبرها من خلالها عن بشاعة ما فعلت وعن ما تشعر به..

كان عمّار في هذا الوقت قد شارف على الوصول، يقود بتركيز دون فتح أي حديث جانبي معهُ وهذا كان مطلوب كي لا يتبادلان الشتائم ويطلقون ألفاظا نابية تجاه بعضهم البعض..
شرد آسر في الطريق أكثر وخانته ذاكرته وعادت به إلى ذلك اليوم وأحداث تلك الليلة..

فتح غرفة الفندق بتمهل وهو يحوطها بقوة، جسدها مرخي ورأسها ساقطة على كتفه نائمة لا تشعر بما يحدث حولها، شدد قبضته حولها كي لاتسقط من بين يديه، دفع الباب بقدمه ثم حملها كـ عروس ليتهدل ذراعيها بجانبها ودخل بها ثم صفق الباب بقدمة..

وضعها فوق السرير بتمهل وهو يبتسم بانتصار ونظراته الجائعة الراغبة تمسح جسدها مرارًا وتكرارًا وهو يخلع ساعة معصمه ويضعها فوق الكومود بانتباه، شقت يده طريقها إلى وجهها الناعم يتحسسه باستمتاع وهو يزدرد ريقة رغبةً ومقلتيه تشع بانفعال، إنها ناعمة وبريئة كالأطفال سقطت في فخة بسهولة، إنها مغيبة تماما لا تشعر بما يحدث حولها ولن تشعر، رفع ذراعها واستحل لنفسه وقبل راحة يدها بعمق ليفزع ويفلت يدها لتسقط وتستقر بجانبها عِندما سمع صوت طرقات عنيفة فوق الباب، هبَّ واقفًا بوجه باهت ثم التقط الساعة وبدأ في ارتداءها بارتباك وهو يتساءل عن الطارق بصوت حاول جعله جديا ثابتا لكن كان مهزوزًا رغم هذا: مين؟

أتاه صوت صديقة المرتعب: إفتح بسرعة أنا سراج
فتح الباب بخفة والقلق تمكن منهُ ليندفع صديقة إلى الداخل بسرعة محذرا إياه بأنفاسٍ متقطعة: أمشي بسرعة أخو البت بتاعت السفرية اللي فاتت هنا وقالب عليك الفندق ولو لقاك هيقتلك..

اتسعت عيناه بذعر وأومأ موافقًا وسار معهُ إلى الخارج سريعا لكن توقف أمام الغرفة عِندما توقف رجل أمامهما ضخم البنية، لكم سراج بعنف أطرحه أرضا ثم أخرج سكين حادة ورفعها في وجه آسر وأخذ يتقدم منه بملامح متجهمة وعروق نافرة وأعين دامية ليعود آسر إلى الخلف تلقائيًا بترنح وهو ينظر إلى شفرة السكين اللامعة برعب وقلبه يتقافز داخلة هلعًا، تعرقل وسقط على ظهره لتسقط الساعة من بين يديه، بلع ريقه بحلق جاف وهو ينظر حوله بحيرة محاولا الهرب من هذا المأزق حتى لمح الشرفة، سيقفز لا يملك حلا..

وقف وركض سريعًا لكن الرجل سحبه من حاشية ملابسه من الخلف وقذفه على السرير وهبط بالسكين على قلبه لكن آسر رفع يده وصدرها فـ أخترقت راحة يده، تأوه بقوة وأخذت الدماء تتقطر فوق الملائه البيضاء وهو يضغط على رسغه بقوة بألمٍ لا يوصف، جأر الرجل ورفعها للمرة الثانية كي يقتله ويقتص لشرفة لـ تتسع أعين آسر بذعر حقيقي وهو يراقب يده تهبط عليه عاجزًا عن الدفاع عن نفسه جازما بأن حياته ستنتهي الآن وهُنا لكن توقفت بمنتصف الطريق عندما قفز سراج فوق ظهر الرجل وقيد رقبته وشوش عليه الرؤية بكفه وهو يصيح بصعوبة: اهرب بسرعة إهرب..

استعاد آسر رباط جأشة وسرعان ما هزَّ رأسه بسرعة بعد أن ألقي نظرة سريعة على نادين ولاذ بالفرار بعدها دون عوده، وكانت تلك المرة الأخيرة وقد اتعظ منها..
توقف عن التعمق داخل ذكرياته أكثر مع توقف عمّار أمام منزل غير منزله، بالتأكيد هذا المنزل الخاص بـ ليلي كما أخبر آدم لكن أين نادين هو لم ينسى إسمها بعد؟ غباء منهُ أن يعترف أنه أفقدها عذريتها لكنه فقط يريد أن يرى نهاية هذا..

ترجل عمّار من السيارة وأخرج معطفه الجلدي ثم قذفه عليه كي يرتديه وتقدم في السير ولحق به آسر دون اعتراض ولا حديث..
بينما في الداخل كانت نادين تجلس تنوح في أحضان ليلى بحالةٍ مزرية فوق الأريكة و ليلى كانت تكتم بكاءها من أجلها كي تهدأ، وآدم كان يجلس جوار الشيخ وهو يهز قدميه بتوتر ونظره معلق على ساعة الحائط..

صوت الجرس جذب انتباه الجميع، تبهت حواس ليلى واندفعت إلي الباب وفتحته سريعًا، أطلق آسر صفيرًا عابثًا وهو يشملها من أعلاها لأخمص قدميها بـ عينان تقدحان مكرًا لتبادله بأخرى نافرة مشمئزة وهي تتنحى جانبا كي يدخلا، دفعه عمّار من ظهره بقوة إلى الداخل عِندما طال تحديقة فيما يخصه..

تعثر وكاد يسقط لكنه تماسك و ابتسم باستفزاز كان إليها قبل أن يكون لـ عمّار و تقدم إلى الداخل كأنه منزله، اختلج قلب عمّار وهو ينظر إلي وجهها الباكِ الشاحب بتمعن وقلبه يعتصر من الألم بسبب حالتها، يتمنى لو يستطيع ضمها و مواساتها، لكن كُلما فكر بها ونظر إليها لا يرى سوى نفسه وهو يدفعها بقسوة، بالتأكيد أصبحت تكرهه الآن، لا يهم لا يحتاج إلى حبها بعد اليوم..

نظر إلى ثوبها المستفز الذي لم تبدله من أمس لـ ينتفخ أنفه وتنفرعروقة ساحقًا شفتيه سحقًا لكن ابتلع لسانه ثم تحرك من أمامها ولحق بشقيقة فلا يحق له أن يقول أي شيء فليصمت حتى تمضي تلك الدقائق بخير..
حدقت في ظهره بنوعٍ من الأنكسار وهي تقاوم رغبتها في البكاء، كانت تريد أن تسأل فقط أن كان ما حدث صحيحًا لكن هيئته كانت إجابة كافية كي تقطع أي أمل لديها وتصمت ولا تتحدث..

جلس آسر على الأريكة بأريحية كأنه في منزله ليبصر نادين التي توقفت عن البُكاء وقد جفت دموعها مُنذُ أن رأته الحقير عديم الشرف..
وكزه آدم في ذراعه وسأله بعدم فهم: أنت عملت ايه يا فقر؟
هزَّ كتفيه بجهل ومازالت البسمة تعتلي ثغرة ونظره معلق على نادين الجامدة في مقعدها تنظر إليه بكره وقلبها يتقافز داخلها خوفًا منهُ وهلع، ابتسم ومدَّ كفه إليها متحدثًا بابتسامة: نادين إزيك!

صفع عمّار كفه بحدَّة وهو يزجرة بنظراتٍ محذرة وجلس على الأريكة والشيخ يجلس بينهم، أخرج بطاقته الشخصية ثم لوح بها إلى آدم كي يخرج خاصته وهتف ببرود لشقيقة: خرج بطاقتك..
إنتفض جسد نادين عِندما وضعت ليلى يدها على كتفها بخفة، هدأتها وبدأت تمسح على ظهرها برفق لتعود للبكاء في أحضانها بألم وهي تراقب ما يحدث، هي تستحق كي لا تسافر لمكانٍ ما مجددًا..

هتف الشيخ وهو يحدق في بطاقاتهم الشخصية: فين الصور؟ وناقص شاهد وفين وكيل العروسة؟
ـ أنا الشاهد إتأخرت؟.
هتف قصي وهو يتثاءب بعد أن دلف من باب المنزل الذي تركته ليلي مفتوحاً ومازال بملابسه خاصة أمس ينظر حوله بنعاس، الجميع كان يرتدي نفس الملابس فليلتهم لم تكن جميلة..
هتف عمّار بهدوء وهو يمسد جبينه: أنا وكيل العروسة..

ابتسم آسر وهو ينظر إليه ثم انتقل بنظراته إلى ليلى وحكَّ ذقنه بتفكير ومقلتيه تجول بينهما بحيرة، ولاحظ عمَّار هذا لكن ليست نظراته من لفتت نظره بل ابتسامته الغير مبررة! ما الداعي لهذا الابتسامة! إنه في ورطة و سيتزوج عنوة ما الداعي للإنبساط؟
هتف قصي بهمسٍ إلى آدم ومازالت أثار النوم ظاهرة عليه: انا مش معايا بطاقة كفايه الثقة صح؟

هزَّ آدم شفتيه للجانبين بسخرية وحضه على الصمت: ماتقولش حاجة دلوقتي لسه عايز صور ليهم في وقت تروح تجيبها ده لو الجوازة تمت يعني..
أومأ قُصيّ وهمس مستفهمًا: هو حصل ايه بهدلتوا المأذون معاكم؟
تنهد آدم وهمس بنفاذ صبر: لما تفوق أبقي أفهمك اسكت دلوقتي بقي..
وقف آسر من محله وهتف بعجلة كأنه متشوق إلى هذا أكثر وهو يلوح بذراعيه فظهرت ندبته إلى عمّار: طيب أروح أتصور بسرعة واجي ولا أعمل إيه دلوقتي؟

نظر إليه عمّار بشك وأمره بدون تعبير وهو يحرك حاجبيه بخطورة: أقعد..
جلس بهدوء وهو يبتسم لـ يتفاقم كره ليلى و اشمئزازها منهُ وهي تنظر إليه بحقدٍ خالص تضم قبضتها بقوة..
بحث عن هاتفه داخل جيب بنطاله وقبل أن يخرجه طلب عمّار منهُ: هات إيدك..
نظر إلى يديه بتذبذب ثم مدَّ يده اليسري فـ هزَّ عمّار رأسهُ وأشار بسبابته على يده اليمني: الثانية..

بسطها إليه بعدم فهم ليسأله عمّار وهو يتحسس الندبة على راحة يده: حصلها ايه؟
سحبها ببطء وهو يبتسم بارتباك لـ يشدها عمّار بقوة وضغط على راحة يده كاد يسحقها وهو ينظر إليه بعينين جحيميتين قائلا من بين أسنانه دون مُزاح: بقولك حصل ايه ترد عليا!
تأوه بألم وهو يجذب كفه من بين يديه وملامحه تتقلص بألم لكنهُ لم يفلته بل كانت قبضته تشتد أكثر وهو يراقبه يتأوه ببرود..

صاح بألم: كنت، بهزر أنا وصاحبي اتعورت بس سيبني بقي!
سأله بتهكم وهو يلوي كفه بقسوة: آخر مرة شُفتك كنت كويس اتعورت امتى؟
هتف بسرعة بوجه محتقن وهو يضرب الطاولة بيده المحررة: بعد ما مشيت اتخانقنا..
رفع كلا حاجبيه وسأله بسخرية وقسوة ولم يخفف قبضته بعد: مش كنتوا بتهزروا مش شوية؟.
ضرب قدمه أرضًا متلويًا من الألم ثم توسله: عمّار، إيدي..

سأله بحزم للمرة الأخيرة صارخا ومتوعدًا له بنظراته الجامدة بالأسوأ: لآخر مرة هسألك حصل بينك وبينها حاجة ولا لأ؟
صرخ في وجهه بعنف: محصلش، محصلش حاجة سيبني بقي..
توقفت نادين عن البكاء و تبادلت النظرات مع والدتها و قلبها يخفق باضطراب، وقفت ليلى وتقدمت من محل جلوسهم في الوقت الذي وقف به عمّار وهتف وهو يقترب منه متخطيا الشيخ: لو سمحت يا عم الشيخ إبعدلي كده شويه..

ترك الأريكة لهما نهائيًا بعصبية وهو يراقب الأجواء ولا يعرف سوف يتم زواج هُنا أم لا..
سأله مشدودًا وهو يجلس بجانبه وقلبه يخفق بعنف إثر هذا القول المنقذ للجميع: أنت بتهزر؟
هزَّ رأسهُ بنفي وأردف بألم: لأ مبهزرش هو ده اللي حصل ملحقتش أعمل حاجة ومشيت..
نظر إليه بشك وسأل بانفعال: والدم كـ، قاطعه بضيق وهو يقبض ويبسط كفه بألم: واحد جه واتخانق معايا كان هيقتلني بس أنا صدرت إيدي اتعورت ونزفت وبعدين هربت..

توحشت ملامح ليلى وهي تقترب لـ يقبض عمّار على فكه بعنف وسأله بنبرة جهورية ثائرة أصابته بالطنين: و بتكذب من الأول ليه؟ شايفنا بنلعب؟
أجاب بنبرة مستفزة وهو ينظر داخل عيناه بتحدي: عادي قُلت اتجوزها و أعمل اللي معرفتش اعمله من الأول..

ضم قبضته بقوة وقد طفح الكيل منهُ لكنهُ لا يريد ضربه أمام الجميع يُجب أن يهدأ، وقبل أن يفتعل أي شيء وجد ليلى تهجم عليه تنبش بأظافرها لحم وجهه صارخة بقهر و عبراتها تنهمر: يا حيوان، يا حقير أنت فاكر نفسك مين عشان تلعب بينا يا خسيس..
حاول آسر إبعادها صارخًا بعنف: وشي يا بنت الـ...

تفاجأ من فعلها، بل تفاجأ الجميع وذهل من هجومها المباغت، رفع آسر يده وكاد يقبض على شعرها لكن عمّار فصل بينهما وأمسك يديها بقوة ودفعها خلفه دون حديث لكنها لم تهدأ، وقف آسر بغضب عِندما اندفعت و اقتربت كي تهجم عليه مجدداً فرفع يده كي يصفعها فأمسك عمّار قبضته وقام بلويها خلف ظهره بعنف ودفعها خلفه بحدّة هادرًا بوحشية: هتعمل ايه ها؟

هتف بتهكم طغى عليه المرارة: يلا اضربني عشان تبقي البطل قدام حبيبة القلب يلا اضربني، ولا أقولك إكسر دراعى أحسن..

إهتزت مقلتيه وهزَّ رأسهُ باستنكار واشتدت قبضته على ساعده لكن ليس غضبًا بل كان ينظر إليه بحزن، ماذا يظنه الغبي! أخر ما يفكر به هو صورته في أعين أي شخص، أن يظهر بطلا أمام من يُحبها هذا آخر ما يتطلع إليه! هو لا يدرك حجم المصيبة التي افتعلها ولا يكترث ويظن أنه المظلوم؟! أم لأن الأذية أتته من شخصًا عزيز عليه؟
وضع قُصيّ يده فوق قبضته عمّار وهتف بهدوء وهو يفصل بينهم: كفاية يا عمّار خلاص..

أرخى قبضته حول ساعده لـ يسحبه قُصيّ خلفه إلى الخارج، ويتحرك آدم بعملية مستعدًا للإعتذار من الشيخ الذي خرج من المنزل بحنق وهو يغمغم بكلمات غير مفهومة..

زفرت ليلى وهي تمسح وجهها بأنامل مرتجفة من فرط الانفعال بينما نادين كانت في عالم آخر موازي تبتسم ببلاهة وهي تضع يدها على فمها بصدمة، انتبهت ليلى عليها وعانقتها بقوة لتضحك بعدم تصديق وهي تصيح بسعادة و عبراتها تنساب على وجنتيها: أنا كويسة وسمعت صح مش كده؟
قبَّلت ليلى رأسها بحنان وهي تبكِ هاتفة بابتسامة سعيدة: الحمد الله يا حبيبتي الحمد الله..

تشبثت في ذراعيها وهي تريح رأسها على صدرها قائلة بعدم تصديق: أنا كويسة، أنا زي ما أنا
أومأت بقوة وهي تمسح على شعرها لـ تتوقف يدها وترفع رأسها عِندما سمعت صوت عمّار الجامد يقول قبل أن يذهب: أتمني تكونوا اتعلمتوا حاجة من اللي حصل..
جففت نادين عبراتها وهرولت خلفه لكن ليلى أمسكت يدها ومنعتها عن اللحاق به وهي تهز رأسها، توسلت نادين بنظراتها كي تتركها وهي تحاول التملص هامسه بحزن: عمّار هيمشي!

حررت يدها فقط عِندما سمعت صوت إغلاق الباب ثم همست بالمثل: سبية يمشي يا نادين خلاص، كل حاجة انتهت، و أجهشت في البكاء بعد قولها وانهارت وسقطت فوق الأريكة تنتحب نادبة حظها التعيس، فهي مُنذُ أن ولدت تعيسة لمَ ستكون سعيدة الآن؟ لا يهم..
أوقفه أمامه في الخارج وسأله بانزعاج بيِّن: إيه يا آسر حصلك إيه؟

أدمعت عينا الآخر وهتف بسأم وهو على حافة البُكاء: أنا زهقت واتخنقت، كل ما يشوفني يا قُصيّ يا يضربني يا يهزقني بيكرهني محدش بيحبني ولا حد عايزني، و بكي في نهاية حديثه وهو يطرق برأسه كـ طفلا ضائع تخلي عنه الجميع..
تنهد قُصيّ وعانقه بقوة مواسيًا بحزن: مين قلك كده؟ محدش بيحبك أد عمّار، أصل يا آسر عنده حق بردو أنت عندك عقل إجرامي بس غبي!

دفعه آسر بانزعاج وجفف عبراته بظهر يده وهو يرشقة بنظراتٍ غاضبة لـ يستطرد قُصيّ موبخًا إياه لكن حديثه كان ساخرًا أكثر فهو ما يعمد عليه دوما: طب بذمتك في حد يلبس نفسه مصيبة ويقول انا عملت حاجة هو معملهاش عشان يقضي يومين حلوين؟ أنت عبيط؟ مبتشوفش أفلام؟ متعرفش أن جوازك ده كان هيستمر خمس دقائق بس ولا هتلحق تشوفها حتى وبعدين هترمي عليها اليمين؟ مبتفكرش مستهتر لسه مستهتر وصغير مش هتكبر أبدًا!.

توقف عمّار عن التقدم عِندما رآهما ووقف يسترق السمع في زاوية وحده دون أن يلاحظه أحد في الوقت الذي ابتسم آسر بحزن وهتف بتأثر غلب عليه الحسرة: انا لما شُفت رقم عمّار متعرفش فرحت قد ايه، افتكرته هيقولي وحشتني خلاص بقي تعالي عيش هنا معايا وسيبك من هناك لكن زي كل مره بقع في نفس الفخ وباجي اضرب وامشي، اهتزت مقلتيه ولمعت خضراوية الحزينة واستطرد قائلًا بغصة: وابويا التاني اللي عمره ما خدني في حضنه وقلي كلمة حلوة وبالعافية لما يدخلني البلد عشان أشوفه ليه كل ده؟ ذنبي إيه أنا؟ مش هي اللي خدتني ولا أنا اللي مشيت معاها؟ أنا زهقت ومش عايز أعيش هناك تاني ومحدش قابلني هنا طب أعمل إيه؟

ضغط قُصيّ على كتفه وهتف بجدية: أنت عارف كويس أوي أن عمّار بيحبك بس تصرفاتك هي اللي بتخليه يتصرف معاك بالطريقة دي وعنده حق لأنه معندوش غيرك وأنت بدل ما تنزل عشان تقعد معاه بتسافر تُعط ومش عاجبك والمشكلة أنك مش بتعمل حاجة مفيدة تخليه يطمن عليك! لأ أنت بتروح تضيع البنات وتمشي يعني ومش ضامن حياتك حتى؟ افرض حد من البنات الكتير اللي ضيعتهم واحدة عملتلك فخ وجابتلك أهلها؟ دي فيها موت دي مش هزار! وشكلك جربت كمان وطول ما أنت كده خليك عارف مش هتشوف غير العنف، والبلد أنت عارف الحكاية خايفين عليك..

احتج معترضا بكل ما أوتي من تهكم: قولتهم يعلموني مسك السلاح وضرب النار بيضحكوا عليا لما أقول كل ما أقول كده!

ابتسم قُصيّ وبرر موقفهم: طب ما عندهم حق! إنت فاكر الإنه في مسك السلاح وخلاص! لأ يا حبيبي الموضوع أكبر من كده وأنت طايش وكُلنا عارفين هتاخده تلعب بيه ويمكن تقتل بيه الفراخ كمان، أما ابوك ده بقي معرفش أقولك إيه بصراحة عشان أنا شاكك إنه مش بيحب نفسه هو شخصيًا فا متزعلش منه هو كده، ولو على عمّار متظلموش معاك عشان هو مش مبسوط أوي كده أبوك مِمَرر حياته و مش سايبة في حالة تخيل بيطفى السجاير في وراكه..

ضحك آسر بخفة وضرب كتفه بانزعاج بسبب مزاحه وهو يخبره بـ مأساته ثم عقد يديه أمام صدره وهتف بجدية باغضًا تلك الحقائق التي تُسمم حياته كابحًا رغبةً شديدة في البكاء تجتاحه مجددًا: لو عمّار شايف إن حياته وحشة أوي تبقي قوله إن الفلوس اللي بيبعتها لما أطلب منه طبعًا بعد ما يديني كلمتين و يقولي بتصرفهم على القرف بتروح لـ أمه أمه الجميلة هي اللي بتاخدهم عشان تلعب بيهم قمار، قوله الهانم اللي أنت زعلان عشان سابتك لوحدك من غير ما تحن عليك أنا كُنت معاها عشرين سنه ومش بتحن عليا ليه؟ عشان زعلانه عليك، قوله إن أمك مش بتفتكر أن عندها إبن غير في حالتين بس لما تبقي مبسوطة أوي وده لما تكسب فلوس، ولما تبقي حزينة أوي وده لما تخسر وتيجي تطلب فلوس، ابتسم بسخريه واستطرد بنبرة مرتجفة والعبرات تتلألأ داخل مقلتيه: قوله إنها لما خدتني معاها خدتني مش عشان بتحبني لأ عشان تضمن الفلوس اللي بتاخدها بحجة وجودي معاها، عرَّفة إن حياتي مقرفة ومفيهاش حاجة حلوة بسببه ورغم كل ده عمري ما فكرت أكره بالعكس أنا بحبه أكتر من أبويا نفسه لأنه رغم كل ده حنين عليا، وانا طول الوقت ببقى مستني مكالمة بس مكالمة واحدة يقولي إرجع بس مش بيقول، هتقولي أبويا قاسي ومش بيحب حد بس بيسمع من عمّار لو عمّار عايزني كان رجعني وأقنعه بس هو مش عايزني، كور قبضته ولكم كتف قُصيّ بمزاح ليس في محله: واضح كده إنك أنت وآدم مش مخليينه محتاج أخوه و كده احسن، انا راجع للقرف تاني طمنه وقوله إني مش هرجع هنا تاني ولا هضايقه ولا هتصل بيه وهغير رقمي وكمان متخليهوش يبعت فلوس كده كده مش بستفاد منها، سلام، وتركه ومضى في طريقه مكسور الخاطر مثل كل مرة لكن هذه ليست كأي مره مطلقا..

صاح قُصيّ بتفاجئ عندما ذهب حقًا: آسر تعالي هنا يا حمار أنت غلط اللي بتقوله ده غلط!.
ردَّ صائحًا وهو يتابع سيرة: قوله إن ذوقه حلو وعجبتني..
قهقهة قُصيّ وسأله بفضولٍ قاتل: طب اشمعنا نادين؟
هذا السؤال استوقفه وجعله يستدير على عقبيه هاتفًا بقلة حيلة وهو يهز كتفيه: بريئة وانا جربت كُله إلا البراءة، وتابع سيرة دون أن يلتفت مجددًا..

همس قُصيّ وهو يضيق عينيه ونظرة معلق عليه: فاجر أوي الواد ده، تنهد واستدار يسأل عمّار الذي جلس أرضًا بعد سماع كل هذا منهُ بهذا القدر من الألم والقهر: هتفضل قاعد كده كتير؟
وقف ببطء بملامح يكتسيها الحزن لـ يمد قُصيّ يديه إليه قائلا بـ مواساه: حضني جاهز تعالي، ولمَ لا لن يتمنع و يأبي..
همس بأقصى درجات اليأس وهو يعانقه بقوة: انا عايز تربه أدفن نفسي فيها دلوقتي..

ربت قُصيّ على ظهره بقوة كانت بمثابة ضربات خفيفة وهو يشجعه: لأ يا وَحش لسه التقيل جاي ها هتخيب بسرعة ولا ايه اهدي كده و اسمعني..
ابتعد عنه وسأله بجزع: في ايه؟

تحتحم قُصيّ يجلي حنجرته وهو يضم قبضتيه معًا خلف ظهره ولا يعرف من أين يبدأ لـ يقول بضيق وهو يعقد كلا حاجبيه: بص يا عمّار أنا مش عارف أبدأ منين طالما اليوم نكد فا نكد بنكد بقي ماهو كده كده كُنت هتعرف وكمان محتاج حد يشجعني عشان أنا مش عايز أعمل كده حقيقي بس بردو مش عايز اسيبكم فاهمني؟
أوصد عمّار جفنيه بنفاذ صبر وهو يكور قبضته في الهواء والدماء تغلي في عروقة من الإنفعال..

همس بتحذير بسبب ضغط أعصابه التي سيفقد سيطرته عليها قريبا: قُصيّ متجننيش واتكلم على طول في ايه؟
زفر قُصيّ وصارحة بقوله سريعًا كان وقعها عليه كـ قذيفة حرب: عمّار أنا عندي سرطان والمفروض أسافر النهاردة عشان في عملية هعملها تيجي معايا؟
صمت هنيهة ونظر إلى وجهه بتمعن يبحث عن مزحةٍ ما لكنهُ لم يجد فـ تمتم بدون وعي وهو يهز رأسه ونظرة خطيرة تتلألأ في عينيه كأنه يسأله لمَ أنت مريض: نعم؟

أجاب قُصيّ بتوجس عِندما رأي نظرته: هو اللي جالي يا عمّار أنا مالي؟ شكلك مش هتيجي بقـ، عاجلة بلكمة عنيفة جعلت وجهه يلتف للجهة الأخرى وهو يتنفس بانفعال صارخًا به بحدّة: ودي محتاجه سؤال وتفكير؟
صاح قُصيّ شاكيا بيأس وهو يقف يمسد فكه بألم على حافة البُكاء: بهايم يا ربي بهايم، ربنا رزقني بأصحاب مبيعرفوش يعبروا عن مشاعرهم ليه كده يارب ليه، ده بيأذيني عشان خايف عليا ده يرضي مين ده؟

إبتعد إلى الخلف بتوجس عِندما انفجر عمّار في وجهه وهو يتقدم بعصبية ووجه مكفهر: ده امتي وازاي وبتقول دلوقتي ليه حالتك اتأخرت؟ وربي لو اتأخرت وأنت عارف ومطنش عارف هعمل فيك إيه؟
هتف قُصيّ بابتسامة سعيدة وحبه لهُ يتفاقم: طب والله بحبك وطالما حياتي مهمة هتعالج عشانك..
سحبه من حاشية ملابسه وقد عيل صبره منهُ، وعنفه صائحا باستنكار: أنت بتهزر؟ أنت فاكر نفسك هتاخد حُقنة؟

غمغم قُصيّ بلا مبالاه وهو يحرر نفسه: متكبرش أنت الموضوع بس وتديله أكبر من حجمه، لو هتسافر معايا جهز نفسك على بليل لأني ماشي النهاردة وهقول لآدم قبل ما أمشي لأني هسيبله الشغل..
ـ تقولي ايه؟.
هتف باستفهام بعد أن وقف أمامهما، بعد انتهائه أخيرا من الشيخ واعتذاره بلباقةٍ بالطبع..

تبادل قُصى النظرات مع عمّار وسرعان ما أخبره بمرضه و بالخطة، تشاجر معهُ ووبخه وعنفه وشتمه بألفاظ نابية وهو يكذبه حتى كاد يجذبه ويضربه لكن المشكلة لم تكمن هُنا بل كانت في احتجاجه وعدم رضاه: واشمعنا عمّار يروح معاك وأنا لأ؟

ارتفعت زاوية شفتيه بسخرية رغمًا عنه وأردف بتعجب: احنا رايحين نلعب يا آدم؟! أنت عارف عمّار مش بيفهم في الشغل بتاعنا والشغل كتير ولمار مش هتعرف تشيله لوحدها انا بعتلها رسالة وقولتلها بجد علشان الشغل كتير مش عشان تتعلق أنت بيها؟
هتف بعدم رضي وهو يعقد يديه أمام صدره: عايز ابقي جنبك انا التاني مش مهم الشغل يتحرق كله..

تنهد قصي وهتف بتعب: تصدق بالله انا هقعد و مش هتحرك وسيبوني أموت جنبكم بقي، ده إيه شغل الاطفال ده؟
نظر إليه آدم بدون تعبير ثم تركهما واستقل السيارة وغادر..
زفر قُصيّ وظل مراقبًا ابتعاد السيارة متمتمًا بحزن: زعل، انا لازم أصالحه قبل ما أمشي تكون أنت ودعت حبايبك..
سأله باستنكار مفاجئ كان أقرب للنبذ: حبايبي! معنديش حبايب أنا!..
أشر قُصيّ على منزل ليلى وهتف باستفهام: وليلي هتسيبها؟

أومأ وهو يتحاشى النظر إليه كي لا تفضحه عيناه شاغلا نفسه بـ حل أزرار قميصه العلوية لـ يباغته قُصيّ بسؤالٍ آخر: ولما ترجع مش هتجيلها؟
هزَّ رأسهُ بنفي وبرر وهو يرفع كمية: الصراحة إحنا مش متفاهمين هستناها لما تتم أربعين الأول يمكن نفهم بعض أكتر بعدها..
ضحك قُصيّ وهو يضرب كفيه معًا وسخر منهُ: أنت هتمثل عليا يا عمّار؟ أنت هتنطلها زي الفرقعلوز لما ترجع بلا نيلة وأنت مهزق كده..

قهقهة عمّار وقبض على رقبته وسأله بتهكم عندما تذكر: أنت قُلت ابويا بيطفي السجاير فين؟
هتف بتلقائية وثقة: في وراكي انا طبعا..
ضحك عمّار وهو يحرره لـ يسأله بفضول وهو يبتسم بصوت يشي بالحماس: عمّار انا بجد هموت لو معرفتش مين اللي دفع حق القاعة..
نظر إليه عمّار نظرة خاوية ثم أردف بندم: ما هو مكنش المفروض بردو أدوس فرامل اوي امبارح واسيبك تعيش اكتر من كده..
هتف من بين ضحكاته: بتموت فيا أنا عارف..

توقف آدم بجانب الطريق متأففًا عِندما صدح صوت رنين هاتفه، حدق في الرقم الغير مُسجل باقتضاب راغبًا في الإغلاق لكن شيءً ما داخله حضه على الرد: ألو، عمي أزيك؟ انا الحمد الله كويس..
أتاه صوته الهرم: انا جمعتلك الأوراق وشهادة الميلاد بتاعتك قابلني عشان تاخدهم يا ابني..

ابتسم آدم واتسعت مقلتيه التي أشعت ببريق مميز، وهتف بطاعة وهو يستمع إلى عنوانه: حاضر يا عمي مسافة السكة وهكون عندك مع السلامة، دار بالسيارة وغيَّر وجهته وهو يبتسم بإشراق بعد تعكر صفوه فيبدو أن وجوده وعدم سفرة لن يضر..

تقلبت في الفراش وهي تهمهم بنعومة، حركت جفنيها وأفرجت عن مقلتيها بابتسامة عذبة، عانقت شقيقتها الغافية بجانبها بحنان ثم نزلت عن السرير واتجهت إلى الخارج بعد ان اغتسلت كي تحضر فطور عائلي، لقد اشتاقت إليهم كثيرًا..
تحركت بـ آليه ودلفت إلى المطبخ البسيط مثله مثل شقتهم الصغيرة التي ملؤها الدفء وبدأت بتحضير الطعام..

استيقظت والدتها التي يناهز عمرها الخمسون بعد بعض الوقت، تقدمت من المطبخ كي تحضر طعام لأنها تأخرت اليوم في الاستيقاظ اليوم..
دلفت إلى المطبخ بتكاسل لتصرخ بذعر ووضعت يدها على قلبها من الخضة وهي تستعيذ من الشيطان الرجيم..
ضحكت لمار بصخب وهي تترنح في المطبخ ثم عانقتها بقوة واشتياق هاتفة من بين ضحكاتها بحب: حبيبتي يا ماما وحشتيني أوي..

عقدت كلا حاجبيها وأمسكت ذراعيها و ابعدتها عنها بعدم استيعاب ثم شملتها من أعلاها لأخمص قدميها بتفحص بعينا متسعة تتأكد أنها هي..
أدمعت عينيها وهتفت بعدم تصديق مُزِج بلوم: لمار! أخص عليكِ كُل دي غيبة؟ جيتى امتى؟
ضمتها لمار إليها بحنان وهتفت بأسف وحزن عميق: متزعليش مني عارفة أني مقصرة معاكم بس مشاغل الحياة بقى، جيت امبارح بليل وأنتِ نايمة وهقعد معاكم اسبوع تعويض في مكان ليا؟

ضربت ظهرها بغيظ بسبب سؤالها الذي بلا معنى وهتفت مؤكده: في طبعا ده كلام، البيت مضلم ومفيهوش روح من غيرك وحشتينا أوي يا حبيبتي..
همست بافتقاد شديد وهي تدس نفسها بأحضانها: أنتوا أكتر والله يا ماما، وحشتوني جدًا..
مسحت على شعرها بحنان وسألتها باستفهام: جوزك مجاش معاكِ ليه يا حبيبتي؟!

تبدلت ملامحها لأخرى منزعجة فـ فصلت العناق ثم شغلت نفسها بإخراج اواني الطعام وهي تقول بكذب متحاشية النظر إلى عينا والدتها كي لا تكشفها: مسافر يا ماما في شغل مرة تانية أبقى اجيبه معايا، يلا ادخلي اقعدي مع بابا في البلكونة عقبال ما احضر الفطار..
احتجت باعتراض ودفعتها خارج المطبخ وقالت بحنان وهي تربت على وجنتيها: لأ روحي أنتِ واقعدي معاه ده مكانك أنتِ وأكيد وحشك يلا روحي..

أومأت بابتسامة مشرقة ثم دلفت الشرفة إلى والدها..
تبادلا معًا أطراف الحديث بسعادة في الشرفة المُطلة على المقهى الشعبي أسفل المنزل..

توقفت عن الضحك وسط انغماسها في الحديث وتبدلت ملامحها لأخرى مهمومة ولمعت عينيها بالحزن وشردت لحظة تفكر في آدم ليس من المفترض أن تتعلق به أكثر من هذا وهو لا يكترث، تنهدت بيأس وهي تملئ صدرها بهواء نقي، تراقب التجمعات في الأسفل بهدوء لتشهق بتفاجئ وتجحظ عينيها مما ترى! فركت عينيها بقوة وهي تقف تاركة مقعدها وأمسكت بحافة السور وهي تدقق النظر في الأسفل على أحد طاولات المقهى الخارجية بفاه فاغر ونصف جسدها يخرج من الشرفة تقريبا مع التواء رقبتها، فماذا يفعل آدم هُنا مع صديق والدها؟.

سألها والدها المتعجب باستفهام: في ايه يا بنتي واقفه كده ليه هتقعى دخلى جسمك؟
هزَّت رأسها بنفي ونظرها معلق عليهم ثم قالت فجأة وهي تنظر إليه: مش ده صاحبك يا بابا ده قاعد تحت شوف..

التفت ونظر إلى الأسفل في الوقت الذي كان آدم يأخذ الأوراق من بين يديه بامتنان ليقول الرجل بحنين وهو يتطلع حوله: الحته اتغير اوي بعد ما أبوك مشي منها يا آدم حتي العمارة اللي كان قاعد فيها اتهدت وبنوها من الاول وجديد بس اجي للحقيقة الرجولة والشهامة لسه موجودين..

أومأ آدم وهو يستمع إليه بابتسامة بينما يرتشف قهوته ليستطرد وهو يضحك عندما لوح إليه والد لمار علامة كي يصعد إليه: ايه ده؟ مرحش الشغل النهاردة..
التفت آدم ورفع رأسه كي يري من هذا لتختبأ لمار في الداخل ويتابع بابتسامة وهو يقف: ده زميلي وكان يعرف أبوك كمان تعالي أما أعرفك عليه..
وقف آدم أمامه واعتذر بأسف: بجد مش هقدر لاني مش فاضى ممكن مرة تانية..
ردَّ عليه بنبرة لائمة: بقي أول طلب أطلبه منك ترفضة؟

تنهد آدم وانصاع إليه وأعرب عن موافقته بإيماءة بسيطة وسار خلفه مستسلما لأي شيء لأنهُ مديون إليه بالكثير حقًا..
هتف من بين أنفاسه المتلاحقة بتعب وهو يصعد الدرج: عنده بنتين ماشاء الله جمال ايه و أخلاق ايه، لو كُنت لسه عايش هنا كُنت جوزتك الكبيرة اللي اتجوزت بس يلا مفيش نصيب، ابتسم آدم وأومأ دون التعقيب وتابع صعودة خلفه..

قفزت لمار من محلها خلف الباب عِندما سمعت صوت الجرس وبدأت ترقص بسعادة وانتصار وهي تضحك ببلاهة حارصه على عدم رفع صوتها أكثر..
استعادت رباطة جأشها عِندما رنَّ الجرس مجددًا، رتبت غرتها ومسحت على شعرها الفحمي المنقسم للجانبين المسترسل فوق كتفيهل بنعومة كالحرير هامسة لنفسها بتحفز بكل عبارات الانتصارات والسعادة..

فتحت الباب بهدوء ليبتسم في وجهها ببشاشة وتعتلي الصدمة وجه آدم أثناء سؤاله عن أحوالها: لمار أنتِ هنا؟! ازيك يا بنتي وعاملة إيه مع جوزك؟
تدرج وجهها بألوان قوس قُزح السبع وهمست بتوتر بسبب وجود آدم: كـ، كـ، ويسة الحمد لله..
أومأ بابتسامة راضية ودلف وهو يتمتم: يستاهل الحمد..
ابتسمت ابتسامة باهتة وطلبت منهُ الدخول بتهذيب وهي تتنحى للجانب كي يمر: اتفضل يا عمي واقف ليه اتفضل..

دلف الرجل وآدم الذي تزاحمت الأفكار داخل رأسهُ خلفه يفكر بتشوش وهو يتلفت حوله، فكيف انتهي بها المطاف هُنا؟ ظن أنها من عائلة غنية!، لكن لقد أخطأ صديق والده في قوله وهو يصعد قال جمال وأخلاق! أي أخلاق هذه التي تجعلها تذهب إلى منزله و حتى لو كان لغرض الحديث فقط؟ ولمَ يسألها عن زوجها ألا يعرف أنها مُطلقة أم أنها تكذب على الجميع؟!

تأفف معنفًا نفسه وهو يستقر فوق المقعد أمام والدها بعد أن ألقي التحية ورحب به والدها بحفاوة، فهو لن يتدخل بها أو حتى يتحدث لن يفعل فهي ليست مهمة بالنسبة إليه فلتفعل ما تريده وتهواه..

كانت النية أن يتعرفوا ويذهب آدم سريعًا لكن جلوسهم معًا كان مسلي لدرجة جعلت آدم يجلس بأريحية متناسيا كل شيء يستمع إلى بطولاتهم والحديث عن الذكريات الغابرة كل تلك الاعوام بشغف حتي مرَّ الوقت وصدح آذان العصر، فصمت الجميع احتراما واستعد العجوزين إلى الذهاب والصلاة في الجامع في الوقت الذي أتت به لمار من الداخل بالقهوة للمرة الثانية بعد تقديم الشاي والعصير..

أجَّلها والدها ريثما يعودان وذهب بعد أن صاح ينبهه: الصلاة يا آدم تعالي..
أومأ آدم وقال بطاعة وهو يأشر إلى لمار كي تقترب: وراك على طول جي..
أخذت شهيقا طويلا ثم تقدمت لكن ليس لأجله بل كي تجمع الأكواب من فوق المنضدة الدائرية ليقوم بتحيتها بهدوء: أزيك يا لمار..
رفعت رأسها وردت التحية بثبات وبرود دون تلهف: الحمدلله كويسة..
استدارت كي تذهب لكن أوقفها سؤاله الذي لم يتحكم به: مش قايلالهم ليه أنك مطلقة؟

وضعت الأكواب من يدها بابتسامة لم يستطع معرفة كنهها إن كانت حزينة أم سعيدة أم متهكمة، تقدمت ووقفت بجانبه وأشارت إلى الجزار الذي يُقطع اللحوم في الأسفل بقوة وهي تقول بهدوء: شايف الجزار ده؟

نظر إليه بتفحص ثم عاد بنظراته إليها لتستطرد: ده بيحبني من وأنا في ثانوي تقريبًا، اتقدملي كتير بس رفضته كان هيفرشلي الأرض ورد بس أوافق، لكن موفقتش وقابلت جوزي في الجامعة حبينا بعض واتجوزنا بعدها هو اتجوز، دلوقتي معاه عيلين ومتجوز اثنين وبيبدل في التالته والرابعة لأنهم مش مخلفين منه، أخوه هيتجوز أختي آخر الأسبوع ولو انا قُلت اني اطلقت إحتمال أكون عروسته الجديدة..

هز رأسهُ وهتف بتهكم: وده ميدكيش الحق انك تكذبي على أهلك؟ وعلى فكره باباكي متفهم وبياخد ويدي وشايف الوضع قدامه اكيد مش هيجوزك جوازة زي دي؟!

ردت بشرود وهي تحدق في الأسفل: يمكن يكون عندك حق، بس أنا مش صغيرة ومطلقة ومش وحشة بردو، هرجع أعيش هنا ولسان الناس مش بيسكت وانا مش هستحمل أي كلام ولا زعل أمي عليا وغصب عني هوافق عشانهم، علشان كده فضلت بعيدة أحسن أكيد هقولهم في يوم الايام بس مش دلوقتي، وعلى فكره انا مش مطلقة بقالي كتير يعني فا ريح نفسك ونظراتك اللي بتتهمني من خلالها بكل اتهام واتهام عشان مش عارف تتحكم فيها، وتلا قولها حمل صينية الأكواب وذهابها إلى الخارج..

تأفف بضيق وهو يقبض على السور ثم ألقي نظرة أخرى على ذلك المتجهم المنغمس في تقطيعة بعباءة بيضاء مليئة بالدماء ومتسخة بغير الدماء..
تحرك للذهاب بعد أن ظل وحده في الداخل، أوقفته والدتها بقولها قبل أن يخرج من الباب: على فين أنت منورنا يا ابني..
ابتسم آدم وحرك شفتيه للرد لكن لمار هي من ردت بدلا عنه بدون ذوق: ده يادوب يا ماما يلحق صلاة العصر معاهم..

وكزتها والدتها في ذراعها بسبب قلة الذوق هذه وهي تبتسم في وجهه بتذبذب فبادلها ابتسامتها البشوشة بأخرى وتحرك من مكانه لكن توقف وسألها باستفهام: هاتيجي الشغل؟
هتفت مستفسرة بعدم فهم: شُغل إيه أنا في اجازة؟
نظف حلقة ثم بدأ حديث ولا يعرف لمَ: قُصيّ مكلمكيش في حاجة؟
هزت رأسها بنفي وقالت بهدوء والقلق بدأ يساورها: ليه في حاجة انا موبايلي قفلاه..

تنهد وقال بنبرة حزينة: قُصيّ تعب شويه و مسافر هيعمل عملية ومحتاج حد يمّشي الشغل..
أجتاحها حزنا عميق وبدي الخوف على ملامحها وهي تسأله بلهفة: هيبقى كويس؟ أنا هتصل بيه واكيد هاجي لو محتاجني في أي حاجة..
أومأ بتفهم ثم تحرك وقال قبل أن يغادر: مكانك موجود مع السلامة..
ـ مع السلامة، ردت عليه والدتها عِندما صفنت الأخرى بحزن، أغلقت خلفه ثم سألتها برفق وهي تضع يدها على كتفها: مين قُصيّ ده يا حبيبتي؟

همست بحزن: زميل وصديق، صديق شغل يا ماما
واستها برفق وهي تربت على ظهرها: ربنا يشفيه ويرجعه بالسلامة..
همست بتمني وهي تتحرك إلى الغرفة: أمين، أمين..

استقل آدم سيارته بعد إنتهاء الصلاة واستعد للانطلاق وهو يلعن نفسه وتصرفاته الغبية! فهو كان معترضًا على وجودها و كارها هذا، ماذا دهاه كيف يقف يسألها وهي لا تعرف حتى! والأنكى أن يخبرها أن مكانها شاغرا يعني فلتأتي دون تفكير؟! ستأتي الآن بفضله هو وليس بفضل قُصيّ، أحمق.

في منزل قُصيّ..
تساقطت عبراتها وهمست بحزن وهي تدس نفسها داخل احضانه: هتسيبني تاني يا بابي وهتتأخر عليا..
نفي وهو يمسح على شعرها بحنان وقبضته تشتد حولها بقوة: لأ يا حبيبتي مش هتأخر عليكِ والله على طول مش هتحسي أني مشيت وماما وريمة هيلعبوا معاكِ وهيفسحوكِ لحد ما أرجع اسمعي الكلام ومتتعبهمش اتفقنا؟

أومأت في بحركة بسيطة من رأسها وهي تضم قبضتها الصغيرة حول رقبته بقلة حيلة كأن قبضتها ستمنعه عن الذهاب، قبَّلها بقوة وأخذ شهيقًا ملئ برائحتها الطيبة فهو سيذهب فقط ليصبح بخير لأجلها هي..
وقف بهدوء ونظر إلى جـنّـة التي كانت تطرق برأسها بخجلٍ منهُ وهي على حافة البُكاء، مدَّ انامله أسفل ذقنها ورفع رأسها كي تنظر إليه وأوصاها برفق: خلي بالك منها..

أومأت و شفتيها ترتجف رامشة بشكلٍ متكرر كي تكبح عبراتها عن الانهمار لكنها فشلت، رق قلبه وهو يراقبها فعانقها بحنان وأخذ يربت على ظهرها بنعومة هاتفًا بخفوت: وخلي بالك من نفسك متتخانقيش أنتِ وريمة على غرام قُدامها..

حاوطت خصره بقوة وأعادت هز رأسها قبل أن تدسها بين رقبته وكتفه، أبعدها قليلًا وحدق في عبراتها بتعجب غير متجاهل شحوب وجهها المصفر ثم هتف وهو يجفف تلك العبرات بأنامله: بتعيطي ليه انا راجع مش ماشي خالص! مش هسيبلك الجمل بما حمل يا جـنّـة!
ضحكت، ضحكت بالرغم من نبرة التحدي التي استشفتها لكنها ضحكت وهي تنظر إليه بعشق، فهي لا تحتاج سوي وجوده معها فقط لا تُريد الإبتعاد..

داعبت وجنته بنعومة وهمست بهيام وهي تبتسم: ربنا يرجعك لينا بالسلامة يا حبيبي، متتأخرش علينا عشان عملالك مفاجأة..
نظر إلي ابتسامتها بعدم راحة ثم اغتصب ابتسامة لنفسه ولثَّم جبهتها بحنان لم ترتح لهُ مطلقًا وتركها واتجه إلى ريمة التي كانت تلومة بنظراتها الحزينة بسبب ذهابه..
ضمها إلى صدره بحنان لتهمس بندم: قُصيّ أنا آسفـ..

أصمتها عِندما قبل قمه رأسها واحتضن وجهها بين يديه وأردف بابتسامة حانية: متتأسفيش انا مش زعلانه، ولو عايزة تروحي لصاحبتك كام يوم روحي معنديش مانع..
هزَّت رأسها بنفي وهمست: لأ خلاص مش هروح، ممكن أبقي أروحلها في نص الاسبوع كام ساعة وارجع وهاخد غرام معايا..
أومأ بابتسامة وهو يتأملها و اوصاها برجاء: أنتِ عاقلة ياريمة بلاش خناقات ها..

ابتسمت ومسدت ذراعيه صعودا ونزولا بحركة ناعمة وأردفت مشاكسة: لما ترجع هتحكيلي كُل حاجة لأني مش مصدقة قصة الشغل ده ها؟
أبتسم وقرص وجنتها وهمس بطاعة: من عنيا..

بعد مرور أسبوع، في أحد المستشفيات في ألمانيا..
داخل غرفة العمليات..
كان قُصيّ مُسطح يرتدي ملابس المستشفى والأجهزة موصله بجسدة و عينيه تجول بين الطبيب الأجنبي والطبيب الخاص بوالده الذي أتي به إلى هُنا بتثاقل..
سأل ممتعضًا بعدم رضا: أنت بتعمل ايه هنا مش أنت اللي هتعمل العملية؟
ردَّ ساخرا وهو يبتسم أثناء ارتدائه القفاز الطبي: أنت شايف ايه هتفرج طبعًا..

تنهد بثقل وقال بانزعاج: مبحبش حد يتفرج على أعضائي لو سمحت سيب الدكتور يشوف شغله..
هزَّ رأسهُ بيأس وابتعد يتابع بعض الأشياء ليتقدم الطبيب الأجنبي من قُصيّ بعد أن أستعد ثم سأله بهدوء: هل هُناك في حياتك شخصًا مبهج؟
عقد قُصيّ كلا حاجبيه وهو يفكر وحرك شفتيه للنفي لكن توقف ولاحت ابتسامة مميزة على شفتيه عِندما خطرت لهُ المجنونة فجأة ليقول ببهجة عكس ما يشعر به من توتر: بالطبع يوجد..

ابتسم الطبيب وهو يومئ و استطرد وهو يقرب قناع الأكسجين من أنفه: حسنا سوف نقوم بالعد إلى عشرة معًا ثم ستقول إسم الشخص..
أومأ قُصيّ وهو يأخذ شهيقًا طويل من قناع الأكسجين لـ يثقل جفنيه أكثر وهو يعد مع الطبيب: واحد، إثنان، ثلاثة، أربعة..
أخذ شهيقا أطول بين كل رقم والآخر حتى غاب عن الوعي نسبيا: ثـ، مانية، تسعة، عشـرة، لـ، لمار..

وغاب نهائيًا عن الوعي وبدأت الجراحة في الوقت الذي كان عمّار يدور به حول نفسه في الخارج بقلق وهو يدعو لهُ أن يصبح بخير و يتعافي سريعا دون أن يتألم ويعاني من هذا المرض الخبيث..
مر أسبوع، أسبوعين، ثلاثة..
ـ هيا تمدد أرجوك..
طلبت منهُ الممرضة بيأس كي ينتهي من بقية فحوصاته، لكنهُ ظل جالسًا فوق جهاز الرنين يفكر فيما يحدث بريبة هناك ما لا يفهمه في حالته ويشك في ذلك الطبيب اللعين..

طلب منها برجاء وهو يشير إلى الخارج: صديقي في الخارج أريد أن أخبره شيئا يجب أن أراه أولاً أرجوكِ..
هزت رأسها بنفي وهتفت بتعب بسبب تملصة كالأطفال: أرجوك أنت نحن لا نمزح هنا يجب أن تكمل الفحوصات وبعدها ستذهب إلى صديقك لن تراه فقط..
تمدد بانصياع مستسلمًا وهو يفكر بتعب..
وفي هذا الوقت تحديدًا في غرفة الطبيب..

تنهد عمّار واعتدل في جلسته وهو يفكر كيف يخبره بهذا لكنه وحسم أمره وسأل الطبيب بعدم فهم: دكتور ده صحيح مش تخصصي بس حاسس إن في حاجة غلط بتحصل! يعني فين الكيماوي والإهتمام انا شايف انك بتتعامل مع الموضوع عادي وسايب قُصيّ يعمل كل اللي هو عاوزه ولا كأنه لسه عامل عمليه ومش أي عمليه كمان؟

ضحك الطبيب بصوتٍ مرتفع أصابه بالضيق وظهر بتجلي على وجهه جعل الطبيب يتوقف، تحمحم بخفه ثم تحدث بابتسامة بسبب نجاحه و إيقاع قُصيّ بالفخ: مين قالك كده يا عمّار؟ هنا بيهتموا بالمرضي جدًا بس على حسب خطورة الحالة وقُصيّ زي ما أنت شايف كده كويس..
هتف بتهكم وهو يهز قدميه بتوتر: مش فاهم؟ يعني ايه كويس؟
ابتسم الطبيب باتساع وأردف بسرور: قُصيّ معندوش سرطان، ده كان ورم حميد مش أكتر..

ابتسم عمّار باتساع من الأذن للأذن حتى بدت نواجذه وصاح بعدم تصديق: بتهزر!

ضحك الطبيب ونفى وهو يبتسم: قُصيّ لما جالي وهو تعبان و اشتبهنا في سرطان وقولتله حسيت باللاة مبالاة وعدم اهتمامه، فا حبيت ألعب عليه لأنه استسلم وخصوصا ان ابوه مات بنفس المرض تقريبا فا قال انا هموت انا التاني ومش مهم بقى! كُنت عارف إنه مش هيبص في النتايج بتاعته ولا هيجبها ولو جابها مش هيبص فيها فا هيصدق أي حاجة أقولها عشان كده شديته وجبته هنا عشان نخلص من المرض نهائى لأنه هيتحول لخبيث لو فضل وكان قُصيّ هيطنش عليه عارف انا الأشكال دي..

ـ لأ براڤو، براڤو، يا دكتور البهايم..
صدح صوت تصفيق قُصيّ عقبة قوله المتهكم..
راقب الطبيب تقدمه بابتسامة وهو يضجع على مقعده وهتف بابتسامة استفزته: أنت أول بهيم أعالجة حمد الله على السلامة..
كزَّ على أسنانه بنفاذ صبر وجلس مقابل عمّار وصاح بازدراء: بقي جايبني هنا عشان ورم حميد لا راح ولا جه..

ردَّ عليه ممتعضًا مستصغرًا إياه: الورم اللي لا راح ولا جه ده كان بيخليك تتمرغ زي الحمار من الوجع، اشكرني يا عديم الذوق والتربية..
قهقهة قُصيّ وصاح بتعجب: انا بتمرمرغ زي الحمار؟
ركل عمّار ساقة وحضَّه على الشكر: أشكره و إديله حضن يا حيوان أنت!
ابتسم قُصيّ وقفز من فوق المكتب وعانقه بقوة وصاح بامتنان: متشكر جدًا كُنت هموت من غيرك..
أبعده عنه بسخط وصاح باستياء: بتتريق بتتريق شُفت صاحبك!

قهقهة عمّار وبرر موقفه: معلش أنت عارفة هو مبسوط بيك بس زي ما تقول كده ربنا رزقك بواحد مش بيعرف يعبر عن مشاعره زي أصحابه بالظبط..
قهقهة قُصيّ وأزاح الأوراق بعيدًا وجلس فوق المكتب وربع قدميه وسأله عن وجهتهم القادمة: هنروح فين بقي دلوقتي؟
سأل عمّار الطبيب أولا: كده مفيش خطر عليه تاني يرجع لحياته الطبيعية و ياكل ويشرب عادي صح؟

أومأ الطبيب وقال مؤكدا: هو كده تمام خد وقته وبقي كويس و مفيش أي حاجة بس كُل سِت شهر يروح يحلل ويعمل فحوصات شاملة زي أي إنسان طبيعي ويرحمنا بقي..
أومأ عمّار بتفهم ووعده: متقلقش من النقطة دي انا هاخده بنفسي..
أومأ الطبيب وهو ينظر إلى قُصيّ ثم سأله بفضول: مين لمار دي يا قُصيّ..
قهقهة قُصيّ وقال بصدق: دي عصير مانجة فريش دخل حياتنا جديد صح يا عمّار؟

نظر إليه عمّار بعدم فهم وقبل أن يُجيب أجاب هو بدلا عنهُ وهو ينظر إلى الطبيب: أيوه صح هو قال آه، يلا نمشي بقي عشان زهقت..
استقلا السيارة معًا بعد بعض الوقت..
ربط قُصيّ حزام الأمان حول خصره ثم رفع رأسهُ ينظر إلى عمّار عِندما لم ينطلق، ابتسم عِندما رآه يبتسم في وجهه وهتف باستفهام: ايه؟
صفعة عمّار بخفة وعانقته بقوة هاتفا بامتنان: هتعيش يا حيوان، شعرك مش هيقع ومش هضربك على قرعتك زي ما تخيلت..

ضحك قُصيّ وهو يضرب ظهره بتوبيخ: وتضربني وتتنمر عليا ليه يا خرَّاب أنت؟ ياريت تعرف قمتى وتهتم بيا اكتر من كده وتتجوز..
دفعه عمّار عنهُ وهتف بحنق: وأنت مالك ومال جوازي الله!
احتج معترضًا عندما بدأ يقود بعدم إهتمام: ليا طبعا عايز أطمن عليك وأشوف عيالك الله؟! وهتروح فين لما نرجع مصر؟

قال بهدوء وهو يحدق في المرآة الخارجية: البلد هرجع البلد لأني من ساعة ماجيت معاك وأنا قافل التليفون والمفروض ابويا هيحج ومعرفش راح ولا لأ ولو راح لازم أرجع..
تبدلت ملامحه للضيق بسبب عدم رضاه عما يفعل ثم سأله: وليلي؟
مطّ شفتيه تزامنا مع هزَّ كتفيه وهتف بعدم اهتمام غير محنك البتة: مالها؟ اهي عايشة!.

نظر إليه قُصيّ بخبث لا يصدق أيا مما يقوله ليزفر بحدّة واستطرد بعصبية وغضب من نفسه: أنا زقتها ووقعتها يا قُصي تخيل!
رفع قُصيّ كلا حاجبيه بتفاجئ وسخر بصوتٍ مرتفع: لأ والله؟ زعلان عشان زقتها ومش زعلان عشان ضربتها بالقلم قبل كده وجريت وراها في الشارع حافي؟

هزَّ رأسهُ بنفي وهتف مبررًا والحزن بدأ بكتسي ملامحه: ده كان في وقته وكان زمان وندمت وقتها بردو مكنتش مبسوط، بس دلوقتي يا قُصيّ الوضع أتغير بقيت ضعيف معاها وبتعب من كلامها وهي لسانها عامل زي المبرد، كل مرة تقولي كلمة بتأثر فيا أكتر من اللي قبلها كأني بسمعها منها لأول مرة رغم إنها بتتكرر كتير فا أنا تعبت منها ومش هعرف أقرب دلوقتي خالص..

تنهد قُصيّ وهو يفكر في حلا لهُ لكنهُ استسلم وتركه دون أن يضغط عليه فهو يتحمل الكثير والنساء تحتاج مجهودا جبارًا في الطبيعة كي تستطيع التعامل معها وهذه مختلفة ويعرف أنها مستفزة يحتاج للابتعاد فترة كي يفكر بذهن صافي، فكر في آسر بتردد ثم سأله باستفهام: طيب وآسر مش هتصالحه؟

أجاب بجمود وهو يفكر في والدته: لأ هصالحه وهرجعه يعيش معايا كمان بس مش دلوقتي، وبطل زن بقي عشان هتضرب وخليك في نفسك وفكر في المفاجأة اللي مراتك عملهالك مش كُنت عايز تعرفها قبل ما تموت..
ضحك وخلل أنامله داخل شعره وأردف بتفكير وهو يريح ظهره على المقعد: أنا متشوق جدًا حقيقي ومتحمس لرجوعي بسببها..

في مصر الآن في منزل آدم...
كانت شهيرة تجلس ترتشف قهوتها بمزاج رائق خالي من الهموم وهي تبتسم بخبث، لقد حبكت خطتها النهائية ولن تفشل أبدًا مهما حدث ولن تسمح لها بالفشل، تلك ستكون النهاية لا محالة..
وضعت قدح القهوة من يدها فوق المنضدة عِندما رأت ينزل الدرج بالملابس الرسمية من أجل العمل..
صاحت بإسمه كي ينتبه على وجودها: مصطفي، صباح الخير يا حبيبي.

ابتسم مصطفي وغير وجهته واقترب منها، قبل رأسها بحنان ورد التحية: صباح النور يا ست الكُل..
ربتت على يده بخفة وطلبت برفق: أقعد يا حبيبي في حاجة مهمة عايزة أكلمك فيها..
اذعن وجلس بجانبها لتبتسم بتوتر متعمدة حتى تذبذبه وتبدلت ملامحها للأسف وهمست: مصطفي يا حبيبي أنت عارف أنا بحبك قد ايه عشان كده كان لازم أقولك مقدرش اشوفك متغفل أكتر من كده، عقد جبيته ونظر إليها باهتمام خالص لتستطرد: مصطفى تالين حامل..

ارتفع كلا حاجبيه و افترقت شفتاه عن ابتسامة رائعة وهتف بعدم تصديق: بجد يا ماما دي تغفيله فعلاً أنا لازم أروح أجيـ..
ـ حامل من آدم..

باغتته بقوله بقسوة دون رحمة ولا استحياء من الكذب وطعن شرف المسكينة بتلك الطريقة، تجمد محله وطل يحملق بها بصمت وقد لجم لسانه غير قادرا على الحديث لتستطرد مستغلة الفرصة كي لا يسأل كثيرا وتخبره بما تريد بحنكة: آدم بيحبها من زمان وجوزهالك وهو بيحبها وطول الوقت أنت مأمنه عليها وهمه بيخونوك من وري ضهرك يا مصطفي، تعرف أنه كان قاعد معاها طول الفترة اللي فاتت وأهلها جم الشقة قبل ما تروح أنت بيوم واحد بس تخيل؟ كذب عليك ولامك عشان تأنب نفسك ويفضل هو برئ؟ اهو دلوقتي ماشي مع بت شغالة معاه اسمها لمار وشكلها زي سالي ووقعته وهيفضل معاها بعد ما خانك وخان شرفك؟

تخضنت عيناه وشحب وجهه وهز رأسه بهيستيريا وعدم تصديق وصدره يعلو ويهبط بعنف انفعالي، ينظر إليها بنظرات مكذبة هامسًا بضياع وهو يبتلع غصة مؤلمة: لو كان بيحبها كان اتجوزها من الأول ليه يجوزهاني ويخوني بعد كده؟
تبسمت شهيرة وهمست بـ شر وكره شديد: عشان مش أخوك عرفت ليه؟

نظر إليها بصدمة مضاعفة وعينا جاحظة غير مستوعب كم المصائب هذه لتستطرد وعيناها تومض بالشر موسوسة كـ شيطان: ايوه أخوك من أبوك بس مش ابني، وفاكر أن دي فلوسه وكُل حاجة ملكة وبتاعته ومن حقه هو وبس، عايز يقتلك ويخلص عليك باتفاق مع تالين عشان ياخد كُل حاجة نسيت إنه هو اللي عرفنا عليها؟ وأهي واحدة لافت عليه وساب مراتك حامل منه وهيخليك كمان تربي إبنه بكل بجاحة شُفت؟!

اعتصر رأسه بين يديه بقوة وهو يخلل أنامله في شعره و صدرة يهتز بانفعال، وجسده متصلب كـ حجر، اكفهر وجهه و أحمر من فرط الغضب شاعرا بدمائه تغلي داخلة ليأتي دورها الأمومي المواسي تربت على كتفه هامسة بحزن شديد كـ حرباء تتلون:.

لو مش مصدقني رجعها وخليها تعمل تحليل DNA مش عايزه اكون ظلماها يا حبيبي، بس والله بقالى شهر بدور وراهم وببحث هنا وهنا لحد حا عرفت بس هنديها فُرصة رجعها وروحوا اعملوا التحليل وانا هديك عنوان العيادة اللي تروحها الدكتور اللي فيها شاطر اوي وعشرة عُمر روح شوف مش هنخسر حاجة، تساقطت عبراتها وهمست بنبرة مرتعشة متأثرة كي تتمم درامتها: يا ميلة بختك يا ابني يارب اطلع غلط وميطلعوش خاينين يارب..

في عمل قُصيّ في هذه الأثناء..
كان آدم يجلس فوق الأريكة في مكتب قُصيّ يدقق النظر في الأوراق التي بيده ولمار تجلس بجانبه تهز قدميها بتوتر ومن المفترض أنها تعمل لكنها كانت تضع الهاتف على أذنها و تقضم أظافرها وهي تحدق في السقف والتوتر يحوطها من كل إتجاه..

حاول تجاهل قدمها التي جعلته يتوتر هو الآخر لكنه عجز عن هذا، يعترف أنها جميلة، وخفيفة الظل، وبريئة وربما ظن بها سوء بسبب تصرف أهوج بدر منها لكنها مختلفة، هادئة كـ حمل وديع وثرثارة في بعض الأحيان، مزيج من أشياء جميلة رُبما تكون حلوه أو لاذعة لكنها هكذا لن تعرف سوى عِند الاقتراب، وهو آسف لن يقترب هي لا تحرك به شعره حتى! تالين تسيطر عليه بطريقة هو يتعجب منها كُلما رأي إمرأة جميلة ولا يتأثر..

سألها من بين أسنانه بنبرة نافذة: في ايه؟
تحدثت بحزن وسرعة وهي تنزل الهاتف عن أذنها كأنها كانت تنتظر السؤال لتنطلق: قُصيّ من ساعة ما سافر وانا بحاول اتصل بيه عشان أطمن عليه لكن كل ما اتصل ليكون مشغول او مقفول مش عارفة أوصله خالص، من ساعة ماشوفت رسالته تقريبا على الحـ..
قاطعها بحنق وليد اللحظة كي تتوقف عن الثرثرة وقد لاحظت هذا: بكره الصبح بالكتير هيكون وصل هو وعمّار متقلقيش نفسك..

أومأت بتفهم وهي تبلع غصتها ثم قالت بتهكم وهي تنظر إليه: على فكره ممكن تتكلم بطريقة أحسن من دي! ومتنساش أنك أنت اللي سألتني متقطعنيش وأنا بتكلم!.
ثم وقفت وحملت حقيبتها وهي تستطرد بدون تعبير: خلصت الشُغل اللي معايا وهمشي مع السلامة..
غادرت وأغلقت الباب خلفها، ليبرم شفتيه ورفع كلا حاجبيه ثم تمتم وهو يهز رأسهُ بلا مبالاه أثناء وضع الأوراق على فخذيه بعد أن وضع ساق فوق الأخرى: مع السلامة مع السلامة...

مرَّهذا الشهر على الجميع دون حدوث شيءً يذكر، ورُبما قد حدث ورُبما توقفت الحياة عند نقطة معينة وأصبح كل شيء يتكرر في حياة أحدهم، لكن الأكيد والشيء الحقيقي أن هُناك ماسيتغير في حياة قُصيّ عِند عودته، وربما عمّار، وربما آدم، كل ماهو متوقع أتٍ..
عاد عمّار إلى منزله في القاهرة، لم يعد بعد إلى الصعيد لكنه تحجج بالتعب وأنه سيذهب غدًا او بعد غد لا مشكلة لا أحد يركض وراءه..

أما الآن، قد عاد قُصيّ إلي المنزل، ولا يستطيع وصف ما يشعر به حقًا، ما حدث لطفًا كبيرًا ورحمةً من ربه، چل ما كان يفكر به أنه سيخوض الجراحة ويظل بخير لبعض الوقت ومن ثم سيكتشف أن الورم إنتقل إلى مكانٍ آخر وبقية حياته سيقضيها صراعاً مع المرض حتى الموت و للغرابة كان متقبلا كل هذا بصدرٍ رحب دون تذمر أو اعتراض، غريب لكنه كان مُريح كان سيعرف ما سيحدث في نهاية المطاف وكيف ستنتهي حياته لكن الآن هو سعيد و شاكرًا وحامدًا أنه بخير، لكن حياته إن استمرت على هذا المنوال سيتمنى المرض كي يموت ويرتاح، رُبما يكون الصراع مع المرض قد انتهى لكن صراع الحب والحقد لم ينتهي دائرة الإنتقام التي دخلها ستؤدى بحياته وحياة من يُحب في النهاية..

خرج من شروده على صوت يهمس بإسمه بالكاد التقطته أذنه وبصعوبة بالغة، توقف عن البحث عن مفتاح المنزل في الحقيبة ووقف باستقامة وأخذ يتلفت حوله وهو يعقد كلا حاجبيه بانزعاج..
أجزم أنه يهذي وانحنى على الحقيبة من جديد يبحث بتركيز ليجفلة صياحها بإسمه وهي تقفز خلفه: مفاجأة يا فوزي..
استدار بسرعة ليفرغ فمه ويبتسم بعدم تصديق عِندما رآها تقف خلفه، المجنونة كيف جاءت؟

ضربت كتفه عِندما طال تحديقة وهتفت باستياء وهي تضع باقة الزهور البيضاء في أحضانه: حمد الله على سلامتك..
ضحك والذهول مازال يسيطر عليه ومقلتاه تومض ببريق مميز، حمل باقة الورود وهتف بابتسامة صادقة وهو يقلبها بين يديه: أول مرة حد يجيبلي ورد..
ابتسمت نحوه برقة وعرضت عليه عرضًا بلكنه مميزة وهي تضع سبابتها وابهامها فوق ذقنها بتفكير: معنديش مانع كل يوم ابعتلك وردة مش خسارة فيك..

ابتسم وشكرها بامتنان: دي كانت مفاجأة جميلة بجد شكرًا لإهتمامك..
ابتسمت نحوه واندفعت وعانقته بقوة وحنان صادق، ليسقط فكه أرضًا وهو يقاوم رغبة جامحة في الضحك شاعرًا بتلك الذبذبات المضطربة داخله لكن سرعان ما بادلها عناقها وهو يسأل بتعجب: هو أنتِ اجتماعية مع كل الناس كده دايما يا لمار؟

فصلت العناق وهي تهز رأسها بنفي ثم هتفت بنبرة مرتجفة وأعين دامعة متأثرة: أنا بجد كُنت قلقانة وخايفة عليك، لما حد بيدخل حياتي أيا كان مين محبش اعرف عنه حاجة وحشة ولا يمسه أذى لأني بحزن، أهون عليا أموت الأول قبل الناس اللي بحبها..
تقلصت ملامحه بتأثر وهتف بنبرة دافئة وابتسامة حانية تعتلي ثغرة وهو يبعد خصله متمرده خلف أذنها: والناس اللي بتحبيهم حقيقي محظوظين بيكِ وبوجودك في حياتهم..

تبسمت برقة وهتفت بثقة وهي تستنشق ما بأنفها الوردية: عارفة..
ضحك وضرب جبهتها براحة يده وعرض عليها الدخول بسرور: تعالي ادخلي نشرب حاجة..
هزت رأسها برفض وقالت بأسف وهي تزم شفتيها: لأ وبما أن عمّار رجع فأنا رايحة عند ليلى افوقها واقولها أن عمّار رجع وكده لأني حزينة من اللي حصل..
أومأ بتفهم ووعدها بصدق: و وعد مني اني افوقلك آدم لما أشوفه..

ابتسمت بحزن وقالت بنبرة يائسة وهي تلوح بيدها: ولا تفوقه ولا متفوقهوش مفيش فايدة فيه، حمد الله على سلامتك مره تانية مبسوطة أنك كويس وبخير..
ابتسم وهتف بفرحة اجتاحته منذُ رؤيتها وهو ينظر إليها: والله انا اللي مبسوط جدا اردهالك في الأفراح ان شاء الله..
لوَّحت مودعه وغادرت سريعا كما جاءت صائحة بقوة جعلته يقهقه: مع السلامة يا قُصيّ..

راقب ذهابها بابتسامةٍ بلهاء ثم نظر إلى باقة الورود البيضاء وهتف لنفسه كي يوقظ زير النساء اللبق داخله: ورد، هي اللي جابتلك ورد يا قُصيّ، أنتِ خسارة في الرجالة والله..

تنهد وضغط الجرس لكن لم يأته رد، تأفف ومال يبحث في الحقيبة من جديد حتى وجده أخيرًا، وثب إلى الداخل بابتسامة رائعة إختفت عِندما وجد الهدوء يعم المكان، حطّ الحقيبة أرضًا ثم تقدم إلى غرفة الجلوس وعينيه تجول في المكان باحثا عنهم، أبصر جـنّـة تغفي فوق الأريكة، تقدم منها والابتسامة مازالت تعتلي ثغرة..

جلس على المنضدة أمام الأريكة وتأمل هيئتها قليلا، مازالت ترتدي منامات عارية حتى في عدم وجوده، تُحب هي أن ترتديها وهو كان يُحب هذا سابقًا أيضًا، من يراها وهي نائمة بتلك البراءة لا يصدق أنها هي نفسها وهي تتحدث عن عشق، مسح على شعرها بنعومة مستمعًا إلى غطيتها لينتقل بأنامله إلى وجنتها الناعمة يتحسسها ببطء وذكرياتٍ جميلة بينهما تطارده، تمر أمام عينيه كشريط ليختلج قلبه ويلكُم قفصه الصدري بعنف..

أبعد يده عنها كالملسوع لتهمهم بنعومة وهي تفرق بين جفنيها ببطء، طرفت قليلا وهي تنظر إليه تستجمع تركيزها واستيعابها لتبتسم بخمول هامسة بنعومة: قُصيّ إنت جيت؟
همهم بخفة وعادت أنامله تداعب وجنتها لتحرك رأسها بنعومة ضد راحة يده هامسة باشتياق: وحشتنا اوي يا قُصيّ..

ابتسم ولم يرد عليها لتبصر الورود في يده، فتنبهت حواسها أكثر ورفعت جسدها وجلست نصف جلسة وهي ترتكز على راحة يدها تصدر كتفها المتهدل عليه شعرها إليه وسألت باستفهام: الورد ده ليا؟
أومأ بثقة وقدمه إليه بصدرٍ رحب هامسًا بحب زائف: طبعا ليكِ اتفضلي..
أخذته منهُ بابتسامة رقيقة أثناء سؤالة وهو يتلفت حوله: فين ريمة وغرام؟

أجابت بهدوء وهي تسير بأناملها فوق رأس الورود ناظرة إليه بحنان: راحت لصحبتها وأخدت غرام معاها..
أومأ بتفهم لتسأله برقة وهي تبتسم بعذوبة: اشمعنا ورد أبيض يا قُصيّ؟
هتف بمشاعر جياشة عامدًا إلى السخرية وهو يمسح على شعرها: أبيض شبه قلبك يا حبيبي، حقيقي لو كان في لون أبيض من كده كُنت جِبت..

برمت شفتيها وقالت باستياء: براحتك يا قُصيّ اتريق براحتك، واتسعت ابتسامتها الناعسة فجأة مع ارتفاع كلا حاجبيها الكثيفان واستطردت بحنين: بس بردو وحشتنا..
سأل مستفسرا وهو يهز رأسهُ بسبب صيغة الجمع في حديثها: أنتوا مين محدش هنا؟
توهجت عينيها ببريق لا يراه كثيرًا ثم قامت بثني ساقيها أسفلها و امتدت يدها وأخذت كفه ووضعته فوق بطنها وهمست بسعادة غامرة وابتسامتها تتسع أكثر فأكثر: قُصيّ أنا حامل..

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة