قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية حارة القناص الجزء الأول للكاتبة شروق حسن الفصل العشرون

رواية حارة القناص الجزء الأول للكاتبة شروق حسن الفصل العشرون

رواية حارة القناص الجزء الأول للكاتبة شروق حسن الفصل العشرون

بُكاءٌ وشهقاتٌ تخرج من فاهها تُحاول كتمها بكفها الصغير، أغمضت سهيلة عينيها تبكي بدون تصديق، وكأن الغمامة التي غطت عيناها قد انسحبت شيئًا فشيئًا، لتضح الرؤية أمامها وتظهر جميع الحقائق فجأةً، تنفست ببطئ تُحاول سحب أنفاسها المُنسحبة، ذنبها كبير وخطأها أكبر، أفعالها أودت بها إلى طريق مليء بالأفاعي السامة سحبتها لتُصبح واحدةٍ منهم، شردت أمامها بتيهة تُربع بيدها كالطفلة المُذنبة، ودموعها تهبط بكثرة وكأنها وجدت ذلك الملاذ الدافيء ليحتويها، هي جالسة في بيت الله عز وجل الذي أدخل الراحة لفؤادها، ربها الذي عصته، تجاهلته، وفعلت ما حرمه هو، لتأتي هي تجلس بخضم إرادتها داخل أحضانه على سجادة صلاتها.

شعرت بيدٍ توضع برفق على كتفها، استدارت ببطئ لتجدها عائشة تبتسم ابتسامة لطيفة ظهرت بها نغزاتها الجميلة، جلست عائشة أمامها ثم أمسكت بكف يدها برفق لتجذب انتباهها، رفعت سهيلة أنظارها إليها لتظهر بأنها حمراء مُتورمة من كثرة البُكاء، ليصعد صوت عائشة الرقيق وهي تُربت على يدها برفق: هَوَّني على قلبك ومتفكريش في اللي فات، احنا هنا في بيت ربنا ادعيله واشكيله زي ما أنتِ عايزة.

ارتعشت شفتي سهيلة أكثر وهي تُجيبها بصوتٍ باكٍ: بس. بس أنا عملت ذنوب كتير أوي. عملت ذنوب من الكبائر وخايفة ربنا ميتقبلنيش. أنا كل مرة بقول هتبقى آخر مرة، وبرجع تاني أكون ألعن من الأول.

خرج صوت عائشة التي قالت برقة: نِعمَ العبد هو الأواب، والمقصود بالأواب هنا اللي بيذنب وبيرجع لربنا تاني، تخيلي ربنا يكون عارف إن عباده هيضلوا الطريق وهيرجعوله تاني وهيسامحهم! تخيلي إن مكانة العبد الأواب عند ربنا كبيرة! ربنا بيقول في كتابه العزيز: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.

متيأسيش وتقولي ربنا مش هيغفرلي وتكملي في طريقك الغلط، كلنا بنغلط وبنتوب، وبنغلط تاني وبرضه بنرجع نتوب، إن الله لا يمل حتى تملوا، وأنتِ مملتيش، أنتِ خايفة من مقابلة ربنا وأنتِ كُلك معاصي.
كانت الأخرى تستمع لها بكل ذَرَّة بوجدانها، لتمسح دموعها التي تهطل بكثرة أثناء سؤالها الخافت: خايفة أرجع للذنب دا تاني، هو مش ذنب واحد بصراحة، هي ذنوب كتيرة.

ابتسمت عائشة نصف ابتسامة وهي تُجيبها بود: عايزة تمنعي أي ذنب وتفكري مليون مرة قبل ما تعمليه، يبقى لازم تحافظي على صلاتك، إن الصلاة تنهي عن الفحشاء والمُنكر، هتلاقي نفسك قبل ما تعملي أي خطوة في حياتك هتفكري إذا كانت صح ولا غلط، احنا عندنا خمس فروض في اليوم، والخمس فروض دول متوزعين على اليوم بشكل مُتناسق، يعني بين كل الصلاة والتانية حوالي 3 ساعات أو 4، يعني في الوقت اللي هتقعدي مع نفسك فيه والشيطان يبدأ يوسوس ليكِ بأفعال خاطئة هتكوني يا إما لسه مصلية يا إما هتصلي الفرض اللي بعده، و80% هتستحرمي تعملي الذنب دا.

صمتت قليلًا تأخذ أنفاسها ثم أكملت: مش بقول معنى كدا إنك مش هتغلطي، لأ هتغلطي وكتير كمان، بس هترجعي وهتقفي قدام ربنا وتعيطي تطلبي منه المغفرة، متزهقيش ومتمليش، طول ما أنتِ قاعدة ادعي وسبحي واذكري الله، هتلاقي أفكار وحشة كتير راحت من دماغك، هيبقى كل همك إذا كان الشيء اللي أنتِ مُقبلة عليه هيرضي ربنا ولا لأ، وأهم من الكلام اللي أنا قولته دا كله إن توبتك تكون نابعة من قلبك.

كانت سهيلة تستمع إليها بإنصات شديد، تشعر بأن حديثها يبث الراحة بقلبها المليء بالأوساخ، لقد ظهرت أمامها كمُنقذ انتشلتها من ظلامها، ابتلعت سهيلة ريقها بتوتر ثم تسائلة بصوت مُتحشرج: بس أنا كدا وبعد الذنوب دي كلها ربنا مش هيحبني!

ربنا لو مش بيحبك مكنتيش هتبقي موجودة هنا دلوقتي، أنا لما قولتلك تعالي ندخل من أول مرة أنتِ رفضتي وأنا اللي أصريت عليكِ إنك تدخلي معايا، ربنا بيبعتنا لبعض كهداية، يعني النهاردة أن أخدت بإيدك للطريق الصحيح، بكرا أنتِ هتكوني سبب في توبة حد تاني، وهكذا.
أومأت لها سهيلة بهدوء وهي تشرد أمامها دون حديث، شعرت بيد عائشة تسحبها خلفها وهي تقول لها بإبتسامة مُتسعة: تعالي يلا نحضر الدرس.

سارت معها سهيلة بعدم فهم بخطوات بطيئة لتواكب حركة عائشة الهادئة بسبب قدمها قائلة: درس إيه؟
أجابتها عائشة مُتجهة للناحية الأخرى من المسجد: درس الأبلة مريم بتتكلم فيه عن الدين وبتقدم لينا نصايح تنفعنا في الدنيا والآخرة، وصدقيني هتحبيها ومش هتملي من كلامها أبدًا.

رمت لها سهيلة إبتسامة لطيفة وهي تسير معها، حتى وصلا إلى تجمع صغير من النساء اللواتي يرتدين ثياب واسعة مُحتشمة، عضت سهيلة على شفتيها بخجل من مظهر ثيابها الضيقة التي تختبيء أسفل ثياب الصلاة الواسعة التي أهدتها لها عائشة، جلست بجانبها وانتظروا لثوانٍ، حتى أتت الفتاة المُدعوة ب مريم تعتذر منهم قائلة: السلام عليكم يا حفيدات عائشة، بعتذر منكم والله بس الطريق كان زحمة النهاردة شوية.

ردوا عليها السلام والتحية، لتجلس هي أمامهم ثم رفعت نقابها عنها ليظهر وجهها الحسن والذي يبدو عليه بأنها لم تتعدى الثلاثون من عمرها حتى الآن، توتر جسد سهيلة عندما طالعتها مريم لعدة ثوانٍ، ثم تسائلت مُبتسمة: عندنا وجه جديد هنا! إسمك إيه يا قمر.
أجابتها سهيلة بصوت خافت حَرج: اسمي سهيلة.
نورتينا يا سهيلة، أهلًا بيكِ في عيلتنا الصغيرة وبتمنى تستفادي بقدر الإمكان.

ابتسمت سهيلة بخفة وهي تُجيبها: إن شاء الله.
بدأت مريم الحديث بصوت هاديء يُدخل الراحة والطمأنينة في القلوب قائلة: بسم الله. والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمُرسلين. سيدنا محمد صلاة الله عليه وسلم.

توقفت قليلًا ثم قالت باسمة وهي تُخرج عدة أوراق مُستطيلة الشكل ومعها قلمها: اتعودتوا إني أنا دايمًا اللي أفتح موضوع الدرس، لكن المرادي الفكرة هتكون مُختلفة تمامًا، كل بنوتة فيكم هتاخد ورقة من اللي في إيدي دي وهتكتب سؤالها، ووقت تسليمها هتقلب الورقة بالضهر وهلغبط الورق ببعضه، طيب ليه يا أبلة مريم هتعملي كدا؟ هقولكم عشان كل إنسان فينا بيكون محتاج يسأل سؤال وخجله من اللي حواليه بيمنعه، وعشان نشيل الحرج دا من وسطنا هنعمل كدا، إيه رأيكم؟

نالت الفكرة إعجاب كثير من الفتيات، خاصةً سهيلة التي وجدت أخيرًا أحدًا تحكي له دون معرفة هويتها، بدأت مريم بتوزيع الأوراق مع أقلامها ثم دونت بها الفتيات كُلًا منها سؤاله، وبعد انتظار ما يقرب من الدقيقتين بدأت بلملمة الأوراق مرة أخرى.
قامت مريم بإعادة ترتيب الأوراق عما كانت بها، ثم بدأت بسحب أول ورقة عشوائية وقرائتها بصوت هاديء على مسامعهم: ما حُكم أخذ أموال من الزوج دون علمه بسبب بُخله؟

رفعت مريم أنظارها لهم تُحدجهم بإبتسامة طفيفة، ثم بدأت حديثها وهي تشرح بيدها: الموضوع دا له خيارين: يا إما أنتِ بتاخدي الفلوس من دون علم زوجك عشان تصرفيها على نفسك وتدلعي نفسك بيها، يا إما بيتك بيكون ناقصه مُستلزمات مُهمة وحطوا مليون خط تحت كلمة مهمة دي وأنتِ بتجيبي الناقص والمهم لبيتك، وفي الحالة الأولى فهو حرام شرعًا.

لو كان زوجك معاه فلوس لكن بخيل وأخدتي الفلوس وجبتي ما يشتهيكِ وما تُريديه من دون علمه، مع العِلم إن الحاجات اللي أنتِ جايباها دي مش هتفيد بيتك وعيالك بحاجة فدا حرام شرعًا وتُوضع تحت بند السرقة.

أما إذا كنتِ بتاخدي الفلوس لأن بيتك ناقصه حاجات كتير ومهمة، زي مثلًا الأكل، أو مثلًا هتغسلي ومش معاكِ فلوس الغسيل وجوزك رافض، الخلاط بتاعك بايظ ومش عارفة تعملي الأكل وزوجك رافض يديكِ فلوس فأنتِ أخدتي بدون علمه لكن في المعقول فدا يجوز.

بس بالله عليكم يا نساء خدوا بالكم من مقتدرات أزواجكم، فيه فرق بين إن زوجك بخيل، وإن زوجك فعلًا مش معاه فلوس، الرحمة شيء لا بُد منه، وأنا هنا بتكلم عن الراجل اللي معاه فلوس بس مش راضي يطلع منهم حاجة، مش الراجل اللي مش معاه فعلًا، فاهمين؟

أومأ لها الجميع ولكم نالت إجابتها إعجابهم جميعًا، سحبت مربم ورقة أخرى صفراء اللون وقرأتها بصوت خفيض: بزعق وبشتم في أهلي كتير بس بندم والله، أنا شخصية عصبية ومش بعرف أتحكم في نفسي ولا لساني.

امتلأت الحسرة على وجه مريم، قبل أن ترفع وجهها لهم مُجددًا وهي تقول بكامل الأسف: آه لو تعلمون فضل أبائكم! والله ما كنتم لتنظرون لهم نظرة غضب واحدة، جربوا أن تجلسوا وحدكم في المنزل ليومٍ واحد، لن تجدوا الحنان، لن تجدوا الدفيء، لن تجدوا الإهتمام، لن تجدوا مَن يُطعمكم، لن تجدوا من يسأل عن أحوالكم، دا ربنا عز وجل قال ولا تقل لهما أُفٍ! انتوا متخيلين! متخيلين إن محدش فينا هيدخل الجنة غير برضا والديه في الدنيا! متخيلين إن احنا من غير دعوة الوالدين كان زمان قابلنا عثرات مهولة احنا في غِنا عنها! طيب بلاش دا كله، اقفي قدام المراية وبصي لنفسك كويس وافتكري كلامك مع والدك ووالدتك، هل هتكوني راضية إن ولادك يعاملوكِ بنفس المعاملة! بعد تعب الحمل والرضاعة والحب والإهتمام والحنان والسهر والعياط لتعبك وغيره وغيره، هتكوني مبسوطة بمعاملة أبنائك ليكِ! لو لأ فأنتِ لازم تصلحي من نفسك، لازم تغيري أسلوبك، متقوليش أنا عصبية ومش بقدر أتحكم في لساني، لسانك دا والعياذ بالله هتتعلقي منه يوم القيامة بخطاف من نار، صلحوا علاقتكم مع والديكم، فوالله لو رحلوا غدًا عن هذه الدنيا سنظل في شقاء مدى الحياة.

كان جميع الأعيُن تدمع تأثرًا بحديثها، حتى أنها جائت في نهايته وتحشرج صوتها ببكاء، لكن تحاملت على ذاتها ونظرت للورقة الاخرى تقرأها بخفوت: ما حُكم قراءة الروايات الجنسية ومشاهدة الأفلام الإباحية!
الطرد واللعن من الجنة والعياذ بالله.

نطقت بجملة واحدة قوية كانت كفيلة بتسريب القشعريرة لأجساد كل مَن يجلس أمامها، خاصةً تلك التي انكمشت على ذاتها بهلع من إجابتها، رغم أنها تعرف الإجابة من قبل، لكن نُطق مريم لكلماتها بتلك القوة والحسم جعلوها ترتعش فزعًا.

أكملت مريم حديثها بذاتِ القوة: احنا مش هنقدر نستحمل خُطافين من نار يتعلقوا في عيوننا بسبب المشاهد الإباحية دي، وفيه حديث ضعيف بيقول إن اللي بيشاهد تلك الأفلام بيُحرم من الجنة 40 سنة، ورغم إنه غير مُؤكد إلا إننا هناخد منه حكمته، الإباحية تُسبب ضيق الرزق، ضيق المعيشة، فلا يجو للمسلم مشاهدة الأفلام الجنسية، ويجب عليه أن يبتعد عنها وعما يدعو إليها أو يقرب منها.

فقد قال الله عز وجل: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ {النور: 30-31}.

ومشاهدة هذه الأفلام تؤدي إلى قساوة القلب والغفلة، وقد رُوِي عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبيّ -عليه الصلاة والسلام- أنّه قال: (العينُ تَزني والقلبُ يَزني فزِنا العينِ النظَرُ وزِنا القلبِ التمَنِّي والفَرجُ يُصَدِّقُ ما هُنالِكَ أو يُكَذِّبُه)،.

لذا يجدر بالمسلم أنْ يُحصّن نفسه ويتغلّب على شهواته بقضاء أوقات فراغه بالطاعات والعبادات التي تُقرّبه من الله -سبحانه-، وليس بالأفعال التي تُؤدّي به إلى المُحرَّمات المَنهيّ عنها.

انتهت مريم من إجابة هذا السؤال ثم انتقلت للسؤال الآخر، غافية تلك تلك الشاردة والبعيدة بذهنها، هي من أقحمت ذاتها في ذلك المُستنقع، وهي كذلك مَن سيدفع الثمن غاليًا، انتهى الدرس وتفرق الجميع من مجلسهم واتجهوا للخارج، مثلما فعلت سهيلة التي خلعت الثياب الواسعة وارتدت معطفها التي كانت ترتديه قبل القدوم معها، رتبت ثيابها ثم اتجهت للخارج مع عائشة التي لاحظت شحوب وجهها وارتجافة يدها، وضعت عائشة يدها على كتفها سائلة إياها بقلق: مالِك يا سهيلة؟ أنتِ تعبانة!

طالعتها سهيلة بنظرات تائهة شاردة، لا تعلم بما تُجيبها، أتُخبرها بذنبها! أتُخبرها بفاحشتها! أم تتستر على ذاتها وتصمت! وبدون أي مُبررات انفجرت في البُكاء تحت نظرات عائشة المصعوقة من انهيارها المجهول بالنسبة لها، اقتربت منها عائشة على بغتةٍ ثم أخذتها للجانب قليلًا مُحتضنة إياها بقوة، ضمتها تُربت على ظهرها تُهدهدها بحنان كما لو أنها صغيرتها، و سهيلة استغلت هذا وأطلقت العنان لشهقاتها في التزايد، كما لو أنها وجدت مَن تشكو له رغم معرفتها لها منذ بضعة سويعات قليلة للغاية.

فيه حاجة مضيقاكِ طيب؟ طب أعملك إيه عشان تبطلي عياط؟ عشان خاطري كفاية خلاص.
نطقت عائشة كلماتها بقلة حيلة مُشددة من ضمها، والأخرى لا تستجيب لنداءاتها، كل ما يمر أمامها هو شريط معصياتها، معصيات كُبرى إن ماتت في لحظة فعلها لكانت وجهتها معلومة دون خِلاف، ابتعدت سهيلة عنها قليلًا ثم تشدقت بصوتٍ باكٍ خرج بصعوبة من وسط شهقاتها: ه. هكلم أخويا. ع. عايزة رائد.

هزت عائشة رأسها بسرعة تُوافق على حديثها، ثم انتشلت الهاتف الذي كاد أن يقع من شدة ارتعاشتها، وظلت تبحث عن اسم شقيقها الذي نطقته منذ ثوانٍ، حتى وجدت غايتها وقامت بالإتصال به، ثوانٍ وجاء الرد من الناحية الأخرى وصوت رائد يصعد مُمازحًا: حبيبة قلب أخوها، كنت لسه جايب في سيرتك يا غالية والله.

أمسكت عائشة بالهاتف جيدًا ثم قرَّبته من أُذن سهيلة التي ما إن استمعت إلى نداء شقيقها إليها، حتى تحدث باكية بشهقات عالية: را. رائد. رائد تعالى خُدني من هنا مش قادرة أمشي.
انتفض رائد من جلسته بفزع ثم صاح بقلق: مالك يا سهيلة بتعيطي ليه؟ طب. طب اهدي أنا جايلك حالًا، أنتِ فين؟، طيب مسافة السِكة وهكون عندك متقلقيش.

أنهى حديثه ثم هرول خارجًا من المشفى تاركًا ملك تنظر لأثره بتعجب، لكنها هزت كتفها بملامبالاة وهي تتجه نحو غرفة شقيقتها لتجلس بها حتى يأتي الجميع.
وعلى الجانب الآخر. حاولت عائشة تهدأة سهيلة المُنهارة، وبعدما هدأت قليلًا أخذت منها رقم هاتفها للإطمئنان عليها فيما بعد، وجلستا في أحد الأركان لحين يأتي رائد ويأخذها.

كانت عائشة تُحاول بث الطمأنينة لها بحديثها اللطيف أحيانًا، والمُمازح أحيانًا أخرى، حتى قاطع جلستهم قدوم فتاة نحوهم تقول وهي تُوجه حديثها ل سهيلة: هو. هو أنتِ سهيلة محروس؟
أومأت لها سهيلة بإيجاب، فتشدقت الفتاة بعجالة: طيب ممكن تيجي معايا عايزاكِ في موضوع ضروري.
هزت سهيلة رأسها بالرفض مُجيبة إياها بتعب: معلش خليها وقت تاني، أنا مش قادرة أتكلم مع حد دلوقتي.

كادت الفتاة أن تلح عليها؛ لكنها صمتت بالفعل عندما رأت معالم الإنهاك والتعب بادية على وجهها بالفعل، لذلك تحدثت بهدوء: طيب ممكن رقم تليفونك! هكلمك بليل لما تكوني هادية.
وافقت سهيلة بتخدر، وها قد بدأت نشعر بالدوار يجتاحها، لذلك تولت عائشة تلك المهمة وأعطتها رقم هاتفها الذي أخذته منها منذ قليل، وبعدها ذهبت الفتاة الأخرى في نية لمُحادثتها ليلًا أو غدًا صباحًا في ذلك الأمر الخطير الذي تُريدها به.

لنكُن أنا وأنتِ أبديان، لا يهزِمُنا الخِصام، ولا الوقت، ولا البُعد.
عاد كُلًا من قاسم وأَهِلَّة إلى المشفى بعد قضاء وقت لطيف قضوه كليهما في سعادة قليلًا ما تزور أفئدتهم، استدارت أَهِلَّة ل قاسم قائلة بإبتسامة جميلة: أنا هروح الحمام وهاجي وراك على طول.
أومأ لها مُبادلًا إياها بسمتها قائلًا بخفوت: ماشي متتأخريش.

هزت رأسها بخفة ثم استدارت لتدلف إلى المرحاض وهو يُتابعها بعيناه حتى اختفى أثرها من أمامه، وهُنا قادته أقدامه إلى غرفة يمنى وهو يُفكر في علاقته مع أهلة، تلك الفتاة تُحرك شيئًا داخله، لكن ليس حُبًا، لكنه إحساسًا بالمسؤلية تجاهها، كأنه مُعلمها وهي تلميذته النجيبة!

هز رأسه يُنفض تلك الأفكار عن رأسه دالفًا للغرفة التي تمكث بها يمنى رفقة شقيقتها ملك، التي لم تنفك عن الصمت ولو للحظة واحدة منذ جلوسها معها، جلس على المقعد المجاور لفراشها، ثم نظر ل ملك راسمًا على ثغره ابتسامة صفراء طالبًا منها بهدوء حتى لا تقوم بمعاندته: لو سمحت يا ملك سبيني مع يمنى لوحدنا شوية.

كانت ملك ترمقه بغيظ وهي تتذكر تدميرها لمستقبلها ومستقبل رجالها عندما أمر شقيقتها بمسح جميع الأرقام من على هاتفها، تشعر بالفراغ يُحاوطها من بُعدهم، ولترد له ما فعله قامت بتربيع يدها أمام صدرها قائلة بعناد: لأ مش خارجة، وبعد إذنك يا جوز أختي ملكش دعوة بيا تاني، اللي بينا لحد هنا وستوب.
طيب بركة. سيبيني مع يمنى بقى وورينا جمال خطوتك.

قالها قاسم باستفزاز، لتُطالعه ملك بغيظ صارخة دون وعي: لأ مش خارجة وقولتلك ملكش كلام معايا تاني و...

ابتلعت باقي جُملتها برعب عندما لاحظت نظراته التي تحولت للحدة، ناهيك عن عيناه المُشتعلة من صراخها عليه بتلك الطريقة التي استفزته، ابتسمت ملك ببلاهة ثم أردفت بتلعثم وهي تهب من على مقعدها مُتحاشية النظر تجاه قاسم الذي كان مازال يرميها بسهام نظراته: يوه نسيت صحيح. هنزل أجيب أكل من تحت بقى عشان تاكلي. عن إذنكم.

قالت جملتها ثم هرولت تخرج من الغرفة مُسرعة قبل أن يتحول عليها، بينما استدار قاسم تجاه يمنى التي كانت تبتسم بخفة على مشاكسة الإثنين التي لا تنفك، ربَّع قاسم ذراعيه أمام صدره ثم طالعها بهدوء حارق: ها؟ احكي اللي حصل أنا سامعك.
قطبت يمنى جبينها بعدم فهم مصطنع، لتقول بجهل: أحكي إيه مش فاهمة!

رسم قاسم على ثغره ابتسامة جانبية مُتهكمة، قبل أن يُزمجر بها بغضب قائلًا: اِحكي يا يمنى أنا مش فاضيلك، وجو إن أنتِ مش فاكرة حاجة دا ميدخلش عليا بربع جنيه، أنتِ مغزوزة في بطنك مش في دماغك.
مغزوزة!

رددتها يمنى بإستنكار، ليؤكد قاسم على حديثه هاتفًا بقسوة: آه مغزوزة، أنتِ لو محكيتيش اللي حصلك ممكن يحصل معاكِ تاني أو مع واحدة من أخواتك، بس المرة الجاية الله أعلم هنلحقك تاني ولا لأ، ومش بعيد تكونوا انتوا التلاتة سوا، فعشان كدا انجزي واحكي وبلاش شغل اللوع اللي أنتِ جاية فيه دا.

كانت يمنى تستمع لحديثه بغضب في البداية، لكن مع تكملته تسلل القلق لقلبها شيئًا فشيئًا وإلى حدٍ كبير اقتنعت بحديثه، ابتلعت ريقها بتوتر قبل أن تبدأ قصَّها لكل ما حدث معها، بدايةً من مكوثها في المنزل لشعورها بالصداع والتعب، حتى دخولها على والدتها الغرفة الخاصة ب أَهِلَّة ووجدتها أخرى! لتُهرول خلفها تلك الدخيلة عندما قررت الصراخ وفضحها، ثم أمسكت بخصلاتها فجأة، وقبل أن تُدافع عن ذاتها شعرت بنصل حاد يُغرز في معدتها عدة مرات مُتتالية، ولم تشعر بعدها بما حولها.

كان قاسم يستمع إليها بإهتمام مُبالغ، وعندما انتهت هز رأسه بشرود يُفكر في حديثها بعُمق وغموض، رفع أنظاره إليه يرمقها بتمعن، قبل أن يتسائل فجأة: كان شكلها إيه الست دي؟
مطت شفتيها تُحاول إجبار عقلها على تذكرها، قبل أن تقول: هي كان شعرها عسلي كدا، وبيضة، وكمان عندها نمش على وشها، دا اللي لاحظته لما قربت مني أوي وأنا بحاول أدافع عن نفسي.
تمام.

كلمة واحدة خرجت من فم قاسم الذي ابتسم بخبث شديد وكأنه وصل لغايته، لكن قاطع أفكاره صوت يمنى المُتحشرج بقلق باكٍ: وماما فين يا قاسم؟ محصلهاش حاجة صح؟
ابتسم لها قاسم ابتسامة خفيفة قبل أن يُطمئنها قائلًا: متقلقيش هي بخير، أنا بعت فور دلوقتي يجيبها بنفسه عشان تطمن عليكِ وأنتِ كمان تطمني عليها.

مسحت دمعاتها التي كانت على وشك السقوط وها قد اطمئن قلبها براحة كبيرة، توجه قاسم ناحية الباب للخروج، لكنه توقف فجأة مُستديرًا لها وهو يتسائل بترقب: كدبتي ليه وقولتي إنك مش فاكرة حاجة؟
أجابته ببساطة وهي تهز كتفها: عشان أَهِلَّة متعرفش وتقلق على ماما، هي أصلًا قلبها بيوجعها من أقل حاجة فمكنش ينفع أقولها على حاجة زي دي.

هز رأسه بخفة وهو يُفكر بأن هؤلاء الإخوة الثلاثة لا يحملون سوى الحب في قلوبهم كُلٍ منهم تجاه الآخر، استدار ليفتح الباب؛ فوجده يُفتح بواسطة أَهِلَّة التي ابتسمت في وجهه بخفة وهي تسأله: رايح فين؟
كنت خارجلك لما اتأخرتي.

إجابة بسيطة لكنه‍ا كانت كبيرة بالنسبة لها، أفسح لها الطريق فدلفت هي ودلف هو خلفها يجلس على الأريكة العريضة عليها، بينما اتجهت أَهِلَّة نحو شقيقتها تجلس أمامها على الفِراش وهي تسألها بقلق: بقيتي كويسة!
طمأنتها يمنى مُبتسمة بخفة قائلة: آه يا حبيبتي متقلقيش.

اطمئنت أَهِلَّة أكثر عقب حديثها، ثم ابتعدت عن فراشها بعد أن ساعدتها على التمدد براحة على ظهرها لترتاح قليلًا، وبعدها اتجهت نحو الأريكة التي يجلس عليها قاسم لكن بمسافة كبيرة نسبيًا، لاحظ جانب وجهها المُبتل فعلم بأنها لم تدلف للمرحاض لقضاء حاجتها؛ بل لتقوم بغسل يدها ووجهها بقوة، وتلقائيًا انتقلت عينه نحو يدها ليلمح الخاتم الذي أهداه لها يُزين إصبعها.

أغمض عيناه يسحب أنفاسه بقوة ثم زفرها على مهل، غامت عيناه يُفكر في حياته القادمة وخطواته التي يجب أن يتجه نحوها بعناية، تبقى على زواجه ب أَهِلَّة أسبوعًا واحد، وبعدها بيومان سيُسافران لروسيا لإستكمال رحلة إنتقامهم هناك بعد القضاء على كل مُملتكات عائلة الأرماني هُنا بمصر، ليقضوا على باقيها والموجوة في روسيا، ومن حُسن حظه بأن وجد مُبرعًا لوالدته يمكث في روسيا أيضًا، ليُقرر في متابعة حالتها هُناك ولن يأتي إلا أن تتعافى كُليًا.

وبجانبه مُباشرةً كانت تستقر أَهِلَّة، تُحاول الوصول إلى فاعل جريمة شقيقتها، تُقسم بأنها لن ترحمه إن توصلت إليه، ستُذيقه من العذاب ألوانًا حتى لو توصل الأمر إلى قتله، هي بالأساس قد قتلت رفعت الأرماني من قبل، ولن تبخل بالقتل مرة أخرى من مَن يؤذي عائلتها ولو بخدشٍ واحد.

بينما تلك النائمة على الفراش كانت بعالم آخر غيرهم، تلك الحادثة ذكرتها بما مضى وحدث من قبل، اِلتوت شفتيها بسخرية وهي تُغمض عينها لتتذكر ما حدث سابقًا، وكأنها تتعمد في تذكره حتى تزيد فكرة الإنتقام أكثر، الإنتقام في قاتل والدها كالحبيب والذي كان مُقربًا إليها لدرجة لا توصف، لقد شهدت مقتله ولم تُخبر أي شخصٍ عما رأت، قاسمة بأن تنتقم وحدها من المتسبب من تعاستهم، وتلك الجملة التي ارتفع صداها يتكرر في أذانها تُشعل النيران بصدرها أكثر وأكثر:.

حظك إنك وقعت في طريقنا يا شاهين، واللي يقع في طريق مختار الأرماني و صادق مهران يستاهل اللي يجراله.

أنهى مختار حديثه ثم أطلق رصاصاته بصدر شاهين، ليتبعه صادق ويُطلق على رأسه يتأكد من موته، وصدى ضحكاتهم يصدح في الأرجاء غافلين عن تلك التي تختبيء خلف كومة الأخشاب ليُكتَب عليها أن تشهد مقتل والدها الحبيب، لتفقد النُطق بعدها لعدة سنوات ويظن البعض بأنها تعرضت لصدمة فقدان والدها لذلك فقدت صوتها، لا يعلمون بأن الحقيقة أبشع من ذلك بمراحل.

خرج الجميع من أفكاره الخاصة عندما شعروا بباب الغرفة يُفتح ويدلف من يحيى مُبتسمًا بإتساع، نظر لأوجه الجميع مُتحدثًا ببلاهة: متجمعين عند النبي إن شاء الله يا رجالة.
عليه أفضل الصلاة والسلام.
نطق بها الجميع مُبتسمين بخفة، وبعدها اتجه يحيى صوب يمنى يجلس على المقعد المجاور لفراشها وبيده العديد من الحقائب البلاستيكية السوداء، طالعها بنظراته الشغوفة قبل أن يتسائل بمزاح: عاملة إيه يا أخرة صبري؟

أجابته يمنى ساخطة: الحمد لله ياخويا.
جعد يحيى جبينه بسخط مُرددًا كلمتها الأخيرة يإستنكار: أخوكِ! لأ أنتِ صدقتي ولا إيه! احنا أصلًا متجوزين عرفي وأنتِ مراتي بس متقوليش لحد بقى.
كل هذا كان تحت صدمتها من حديثه الأبله، وصدمة أهلة كذلك وضحكات قاسم العالية التي انطلقت في الأرجاء، حاولت يمنى الإعتدال من مضجعها ثم وبخته قائلة: في إيه يا يحيى إيه الكلام اللي أنت بتقوله دا؟

لم يُبالي بصراخها ولا بغضبها الذي كان يظهر واضحًا على محياها، بل ثبت بصره عليها طالبًا منها بتيهة عاشقة: قولي يحيى كمان مرة كدا؟ وعهد الله هتخليني أكتب عليكِ دلوقتي.
فتحت يمنى عيناها بعدم تصديق منه، تشعر بأنه مختل أو ما شابه! بينما ضحكات قاسم ترتفع أكثر حتى بات لا يستطيع السيطرة على ذاته، نكزته أهلة في كتفه تقول له بعتاب: بس يا قاسم كفاية ضحك، يمنى كدا هتتضايق.

أجابها قاسم من بين ضحكاته التي خفتت قليلًا: مين دي اللي تتضايق! دي قادرة وميقدرش عليها غير ربنا، والمتخلف دا ملقاش غيرها عشان يحبها!
رمقته أَهِلَّة بضيق من طريقة تحدثه عن شقيقتها، فأشاحت بوجهها عنه ولم تُعيره أي إهتمام، قرر مُشاكستها فاقترب منها قليلًا حتى بات على مقربة منها قائلًا بعبث: بقولك إيه؟

انتفضت هي من مكانها عندما شعرت بصوته قريبًا منها للغاية، لتنظر له بعدم تصديق من إلتصاقه بها بهذا الشكل، وتلقائيًا حوَّلت أنظارها تجاه شقيقتها فوجدتها مُنشغلة مع يحيى الذي يُشاغبها كعادته، عادت بنظراتها له لتجد نظرة عابثة جديدة عليه كُليًا، ثم أردف بعدها مُتسائلًا بمكر: بتعرفي ترقصي؟
شهقت هي بعنف وهي تضرب على صدرها تزامنًا مع قولها المُنصدم: يا مصيبتي؟

أكمل حديثه العابث وهو يُطالعها على نظريته العلمية من وجهة نظره: يعني أنتِ عارفة إن جوازنا بعد أسبوع وحركات كدا بقى، فأنا كعريس المفروض أطمن على مستقبلي وأملاكي وممتلكاتي وأعرف لو كنتِ بتعرفي ترقصي ولا لأ.
وببلاهة هزت رأسها بالنفي وهي تُخبره: لأ مش بعرف، بس ملك بتعرف.
رفع حاجبه بإستنكار وهو يتسائل بحنق: وهي ملك اللي هتبقى مراتي ولا أنتِ؟

فكرت قليلًا، وبعد بُرهة من الصمت اقترحت تسأله قائلة: يعني أخليها تعلمني؟
اِدعى قاسم البراءة وهو يهز رأسه بنعم: ياريت والله، أصل قولي إن أنا وأنتِ مثلًا هنتجوز لمدة ست شهور، وأنتِ كأنثى المفروض تحاولي تشتتي إنتباهي عشان مش أبص برا.
هزت كتفها بلامبالاة وهي تعود بجسدها للخلف بسبب إقترابه الزائد: ما تبص.
يعني مش هتغيري عليا؟
لأ.
ولا هتضايقي؟
لأ.
ولا هتحاولي تلفتي إنتباهي؟
لأ.
دا أنتِ حلوفة.

قالها مُغتاظًا من برودها أثناء إبتعاده بجسده عنها، لتعود هي تجلس بتلقائية كما كانت جالسة قبل إقتحامه لها منذ عدة ثوانٍ، تركته يُتمتم بغيظ بصوت خفيض، وهي تُراقبه بطرف عينيها، يبدو أن ذلك ال قاسم ليس كما يبدو، بل يخفي خُبثًا ومكرًا وقحًا خلف شخصيته الجادة، وهذا ما ظهر لها واكتشفته الآن.
بينما قاسم كان يهمس لذاته مُتمتمًا بغيظ: يعني يوم ما أتجوز. أتجوز واحدة مش بتعرف ترقص! دا إيه الفقر دا يا ربي!

وبعدين بقى يا آلبرت ياخويا أنا كنت ولية ظالمة ومفترية ومش بسيب حقي، دا في مرة واحدة صحبتي كانت بتغير مني موت موت كدا، حاولت تحرجني قدام صحابنا قومت جبتها من شعرها بنت كوم شكاير ورق العنب دي، مسبتهاش غير ما خليتها قرعة.
هتفت مهرائيل بتلك الكلمات وهي تجلس على الأريكة بجانب آلبرت الذي أرجع رأسه للخلف مُغمضًا عينيه بصداع من حديث تلك المقيتة التي تجلس جانبه والتي لم تنفك عن الصمت للحظة واحدة.

بقولك إيه أنا ارتحتلك، استنى أحكيلك عن مغامراتي.
صمتت قليلًا ثم اعتدلت مُتربعة في مضجعها واضعة كومة كبيرة من الفشار في فمها ثم استرسلت حديثها قائلة: في مرة واحنا في التدريب واحد غبي ضايقني، قومت أنا قولت لأااا لا عاش ولا كان اللي يزعق ل مهرائيل وقومت شتماه، هو سمع الشتيمة من هنا وودانه طلعت دخان زي الطور الهايج، طبعًا فكرتني خُوفت صح! لكن لأ. أنا قربت منه وقومت مشمرة هدومي ووقفت قدامه.

صمتت وكأنها أنهت حديثها، بينما هو طالعها بطرف عينه وهو يسألها: وبعدها!
مطت شفتيها بحنق وهي تدس حِفنة أخرى من الفشار داخل فمها قائلة: لفعني قلم لزقني في الحيطة والله.

غضب آلبرت مما تقصه، رغم إنه لا يطيقها ولا يُطيق وجودها؛ إلا أنه يكره أن تُضرب فتاة أمامه بكل تلك القسوة التي ترويها، لكن ما قصته بعد هذا جعله يشعر بالفخر تجاهها، وذلك عندما استرسلت حديثها قائلة بشماتة: بس أنا طبعًا مسكتش وخليته راجع من شغله بليل وسلطت عليه رجالة عجزوه.

صفق لها آلبرت حانقًا من كثرة حديثها: أوه يا فتاة! أنتِ رائعة. بل أكثر من رائعة. بل أكثر أكثر من رائعة. هلَّا تتركيني وشأني الآن من فضلك!
قطبت مهرائيل جبينها مُتسائلة بتعجب غبي: أنت زهقت مني ولا إيه!
أشار آلبرت لذاته بصدمة مُصطنعة قائلًا: يا إلهي! من قال ذلك واللعنة!
تهدل كتفيّ مهرائيل بحزن مُجيبة إياه ببراءة: أصل دايمًا يقولوا عليا إني لكاكة، مع إني والله مش كدا.

مصمص آلبرت على شفتيه بشفقة مصطنعة: كم أن البشر سيئون حقًا يا فتاة! كيف يقولون هذا الحديث القاسي لفتاة بريئة مثلك!
أخرجت مهرائيل نفسًا عميقًا من داخلها مُتنهدة بيأس: هيروحوا من ربنا فين بس!
قالتها ثم نظرت له بحماس قائلة بإبتسامة واسعة وحديثًا جعله ينتفض بصراخ من جانبها: وبما إنك مزهقتش منك فتعالى أحكيلك عن طفولتي العزيزة.

هبَّ من مكانه بعيدًا عنها وهو يصرخ في وجهها بحنق، ساخطًا على قدره الذي جمعه مع فتاة تُصيبه بالصداع دائمًا: اللعنة! لا أريد سماع أي شيء عن طفولتكِ العظيمة أيتها الخرقاء، فقط أُتركيني وشأني أيتها الجرو الصغير.
تابعت مهرائيل رحيله بغضب مُجعدة جبينها بغضب وهي تهمس لذاتها: هو ماله!

وصل رائد إلى الجامعة وخصيصًا عند المكان الذي طلبت منه شقيقته القدوم إليه، نظر حوله بتيهة يحاول لمح طرفها، وبعد دقيقتين من البحث وجدها جالسة بجانب فتاة غريبة عنه ترتدي ثيابها مُحتشمة سوداء ووجها يُغطيه النقاب.

اقترب مُهرولًا من شقيقته التي ما إن رأته حتى أسرعت إليه تحتضنه ببكاء، اِلتقطها رائد في أحضانه مُربتًا على ظهرها وهو يُشدد من إحتضانها، بينما هي كانت تبكي وهي تضمه أكثر وكأنها بهذا العناق تعتذر منه عن الذنب الذي افتعلته في حقها وحق عائلتها بدون قصد.
بس بس أنا معاكِ كفاية عِياط، خلاص يا حبيبتي عشان خاطري حقك عليا، قوليلي بس مين زعلك وأنا هكسرلك دماغه نصين.

ومع كل كلمة وكل إعتذار يخرج من فمه كان يزداد شعورها بالذنب تجاههم، هي حقيرة ومُختلة، هي من وضعت ذاتها بمثلك ذلك الموقف، هي مَن أضاعت برائتها بأفعالها وإنسياقها خلف حفنة من الأوغاد، هي ولا أحد غيرها.
رفع رائد نظره للفتاة التي كانت تُجالسها، ثم سألها بقلق: هي مالها بتعيط ليه!
هزت عائشة كتفيها بجهل وهي تتحاشى النظر إليه: مش عارفة والله، من لما خرجنا من المسجد وهي مبطلتش عياط.

رمق رائد الفتاة لثوانٍ صامتة دون أن يتحدث بشيء، ثم حوّلها لشقيقته يُجفف لها دموعها التي ملأت بها وجهها مُتسائلًا: بقيتي أحسن؟
هزت سهيلة رأسها بالإيجاب ووجهها أحمر بشدة من قوة بكاؤها، ثم ابتعدت عنه مُقتربة من عائشة التي ابتسمت لها بخفة لكنها لم تراها بسبب غطاء وجهها، ثم احتضنتها مُرددة بحب: شكرًا يا عائشة، شكرًا بجد.

بادلتها عائشة العناق قائلة بود: العفو يا قلبي، أنا موجودة دايمًا وقت ما تحتاجيني هتلاقيني.
ابتسمت لها سهيلة بإتساع، ثم رحلت مع شقيقها الذي رمى نظرة عابرة ل عائشة التي لم تُعيره أي إنتباه من الأساس.

يا بنتي خليني أأكلك صدقيني هتندمي.
هتف بها يحيى الذي كان يحمل قطعة صغيرة من الدجاج يُريد إدخالها غصبًا داخل فم يمنى التي كانت ترميه بسهام غاضبة وهي تصرخ به:
يا يحيى أنت بتعمل إيه أنت شايفني مشلولة!
قالتها بصراخ من تعنته وإجباره لها على الطعام، لتجده قد نظر لها بجدية شديدة عكس شخصيته، ثم صاح بها ناهر بغضب:
بنت! أنتِ إزاي تتكلمي مع جوزك بالطريقة دي! طيب. روحي وأنتِ طالق.

أطلقت يمنى زغرودة عالية عقب طلاقه المُزيف لها، ثم صاحت مُهللة: زغرطي يا أَهِلَّة، زغرط يا قاسم، زغرطي يا بت يا ملك الموكوس طلقني.
قطبت ملك التي دخلت الغرفة للتو جبينها بتعجب، ثم اقتربت منها مُتسائلة: هو مين دا اللي طلقك!
صمتت قليلًا عقب سؤالها، ثم شهقت بحدة وهي تلطم على صدرها قائلة: اتجوزتي عُرفي يا يمنى؟
عُرفي!

خرجت تلك الكلمات من فم نبيلة التي جاءت لتوها مع فور الذي يحمل شطيرة كبيرة نسبيًا في يده يأكلها بنهم، بينما هي استمعت لآخر حديث لفظته ملك.
اقتربت نبيلة من فراش يمنى وهي تتسائل بصدمة: اتجوزتِ عُرفي يا يمنى؟ عُرفي!
كادت يمنى أن تنفي حديثها بهلع، فاستبقها يحيى الذي أردف بحزن زائف: متزعليش يا طنط، أنا عندي إستعداد أكتب عليها دلوقتي وأصلح غلطتي.

اشتعلت النيران بعيني نبيلة التي اقتربت منه على بغتةٍ، مُمسكة إياه من ياقة قميصه تهزه بعنف وهي تصرخ به: آه يا سافل يا حقير، ضحكت على بنتي يا حيوان واتجوزتها عُرفي!
نفى يحيى عنه تلك التُهمة البشعة مُدافعًا عن شرفه وهو يقول ببكاء مصطنع: لأ يا طنط لأ مسمحلكيش، هي اللي استغلت إني يتيم وقالتلي تعالى معايا ماما تعبانة عايزة تشوفك، وأنا عشان طيب وعلى نياتي صدقتها، صدقتها وروحت معاها و...

قطع حديثه وهو يضم ثيابه له يُكمل مسرحيته السخيفة قائلًا: ضحكت عليا وخدعتني. قالتلي الشقة فاضية وماما راضية. منها لله كسرتني وأنا اللي كنت شمعة منوَّرة.
تأثر فور بحديثه فاقترب منها يضمه من كتفه وهو يُربت على ظهره بحنان، بينما حوَّل أنظاره تجاه يمنى ينهرها بقسوة: تبًا لكِ يا فتاة، لقد لوثتِ شرفه في الغُبار أيتها القاسية.

وضع يحيى يده على وجهه ليُخفيه، ثم هز كتفيه بطريقة مُبالغ بها وكأنه يبكي وصوته يصعد مُستغيثًا: لقد ضحكت عليّ يا فور، سلبت مني شرفي وأغلى ما أملك وتركتني وحيدًا.
تجعد وجه فور بحزن على ذلك الفتى الذي عانى الكثير، ثم همس له يُهدهده بحنان: حسنًا يا عزيزي لا تحزن، سنُجبرها للزواج بك والحفاظ على شرفك.

انتفضت يمنى من مكانها بقوة مما أدى إلى تأوهها بألم بسبب جراحة معدتها، ليهرع إليها يحيى بهلع يقف جانبها وهو يُربت على خصلاتها بحنان قائلًا: خلاص إهدي هنفضل متجوزين في الحرام.
انبعثت النيران من عين يمنى ثم جذبته من ثيابه تهزه بعنف وهي تصرخ به: يمين بالله يا يحيى لو ما مشيت من قدامي دلوقتي هضيعلك شرفك فعلًا.
لم يهتم يحيى بما تقول، بل وضع إصبعه في عينها وهو يتحدث بإنبهار: إيه دا أنتِ عينيكِ عسلي!

صرخت يمنى بألم عندما وضع إصبعه داخل عينها تبعده بقوة، بينما قهقه قاسم عاليًا وهو يجذب يحيى إليه قائلًا بمزاح: تعالى يخربيت معرفتك، هتعميها عشان عينيها عسلي!
ارتسمت إبتسامة واسعة على ثغر يحيى مُبررًا موقفه: أصل هفهمك، العيون العسلي دي عاملة زي الشاي بلبن، فلما تيجي تغازلها أو تقولها شِعر بيكون شِعر نضيف وراقي كدا.

ذهبت نبيلة تجاه ابنتها ثم ضمتها لصدرها، قائلة وهي تنظر بحنق تجاه يحيى: نضيف وراقي! ومنك أنت!
أغمضت يمنى عيناها تُحيط بخصر والدتها بقوة علها تُعوض تلك اللحظات التي عاشتها بجحيم في بُعدها عنها، مسدت نبيلة على خصلات يمنى، ثم قبلت جبينها بإشتياق وتخفيفًا من وجعها.
في تلك اللحظة دلف چون ومعه لوسيندا يُحيط بكتفها، ثم اقترب من فور يُعطيه حقيبة الطعام التي جلبها له: خُذ يا أخي وكُل كيفما تشاء.

حدجه فور بتأثر ثم أخذ منه الطعام وهو يقول بقهر: يا أخي شكرًا لك حقًا، آه لو تعلم أنني لم آكل منذ الصباح! لبكيت تأثرًا بحالتي المسكينة.
تشنج وجه الجميع بإستنكار وهم يُطالعون الشطيرة التي يُمسكها بيده الأخرى، بينما صعد صوت نبيلة التي ارتفع بسخط: مسكين دا يا أبو مسكين! أومال مين دا اللي أول ما جِه عندي دخل على التلاجة على طول!

وقفت أَهِلَّة لتقترب منهم، قائلة وهي تُوجه حديثها لفور: خلصت خزين البيت يا فور ولا لسه؟
نفى برأسه حانقًا: أُقسم بأنني لم أفعل، لقد تركت بيضة كاملة في الثلاجة وأكلتُ أنا الجُبن وباقي البيْض والشانلون.
مالت ملك عليه قليلًا تُصحح كلمته: اللانشون.
أجل اللانشون، كفى ظُلمًا في مسكينٍ مثلي، ألا تُؤلمكم قلوبكم عليّ!
نكزه قاسم في جانبه وهو يقول بسخرية: ما خلاص يا أو ر.

طالعه فور بغيظ، لكنه لم يهتم وأخذ حقيبته العزيزة المليئة بالطعام ثم اتجه بها نحو الأريكة يجلس عليها وحده.
قاطع حديثهم دخول رائد مع سهيلة التي ما إن رأتهم حتى ابتسمت بخفة رغم تورم عينيها، بينما رائد كان وجهه عابسًا بسبب حزن شقيقته وضيقها من شيء مجهول رفضت إخباره به، رحَّب بها چون مُهللًا: أوه كيف حالك يا فتاة، لم أراكِ منذ زمن.

ردت عليه سهيلة ساخرة وهي ترمق الجميع بغيظ: قال والبعيد بيحس يعني! مش بتيجوا عندنا غير لما تكونوا عايزين تاكلوا ومش معبريني.
برر لها چون أثناء إقترابه مُعتذرًا منها بأسف: أنا آسف حقًا يا فتاة، لقد كنت مشغولًا طيلة الفترة الماضية للغاية، لا تحزني أرجوكِ.
رفعت سهيلة رأسها بعنهجية مُصطنعة وهي تُربع من يدها أمام صدرها قائلة بغرور: إعتذارك مرفوض يا أستاذ چون، أنت جرحتني.

تشنج وجه چون بإستنكار تلك المرة، ثم أجابها حانقًا: يا فتاة هو أسبوع واحد فقط الذي لم آتي به إلى منزلكم.
ولو. لازم تيجوا وتطمنوا عليا.
مط چون شفتيه بعدم إقتناع، ثم عاد بجسده قليلًا جاذبًا لوسيندا من يدها ليُوقفها جانبه، ثم عرَّفها لها قائلًا بإبتسامة واسعة: وإن قُلت لكِ بأنني قد تزوجت!

ارتسمت الدهشة على وجه سهيلة، ثوانٍ وكانت ضحكاتها المُتحمسة تعلو المكان وهي تقترب من لوسيندا تحتضنها بعدم تصديق: اِحلف كدا، بقى القمر دي بقت مراتك؟
ضحكت لوسيندا عاليًا وهي تُجيبها بخجل: أنت اللي قمر والله تسلميلي.
مصمصت سهيلة على شفتيها وهي تبتعد عنها قليلًا، ثم تشدقت بحسرة: وكمان محترمة! عيني عليكِ وعلى حظك الهباب يا بنتي.

قهقه چون عاليًا ضاربًا إياها بخفة وهو يقول بمرح: يا فتاة أنتِ تظلمينني حقًا، فأنا الأكثر إحتراما ووقارًا من بين الجميع.
بأمارة چوليا يا بتاع چوليا.
أردفت بها سهيلة بضحك، فكاد چون يرد عليها بمزاح مثلها تمامًا؛ إلا أنه انتفض مثلما فعل الجميع عندما استمع لصراخ لوسيندا والتي تحولت كُليًا من هرة وديعة إلى أفعى سامة عند إستماعها لحديث سهيلة المازح، لتقول بصراخ وبطريقة جديدة يكتشفها هو الآن:.

نعم! جوليا مين يا روح خالتك! أنت بتخوني يا چون! بتكلم بنات غيري! دا أنا هخلي يومك هباب النهاردة، أصل مش أنا اللي أتخان وأقعد أبكي على الأطلال، دا أنا هخليك أنت ذات نفسك من ضمن الأطلال دي.

كان الجميع يرمق تلك الفتاة التي كانت تتسم بالهدوء والخجل بدهشة، لقد تحولت كُليًا بالفعل! وكأن تم تبديلها أو تبديل شخصيتها المُسالمة، ابتلع چون ريقه يرمقها بقلق، وكاد أم يتحدث؛ لكنه سبقته نحو الخارج وهي تُتمتم بكلمات ساخطة ومتوعدة له وهو ينطلق خلفها لمُلاحقتها.
نظرت سهيلة لأثرهم ببلاهة، قبل أن تلوي شفتيها بضيق وهي تُضيف بإستنكار: قموصة مراته دي أوي.

طالعها الجميع بإستنكار، لترسم هي بسمة غبية على فاهها تبعها بقولها الأحمق: منورين والله يا جماعة.
ضحك الجميع عاليًا على ما حدث منذ قليل، لكن قاسم لم يكن معهم، بل كان يتفرس وجه سهيلة الذي يظهر عليه التعب والإرهاق، لذلك اقترب منها واضعًا يده على رأسه يسألها بحنان: أنتِ كويسة!
انتبه الجميع لفعلته، لتبتلع سهيلة ريقها بتوتر غاصبة إبتسامة على ثغرها: آه يا قاسم كويسة، بتسأل ليه!
أومال باين عليكِ معيطة ليه!

وتلقائيًا وضعت سهيلة يدها على عينيها تتلمسها بخفة، قبل أن تُجيبه بتلعثم ظهر واضحًا على نبرتها: ل. لأ. مفيش حاجة. شوية إرهاق بس مش أكتر.
لم يقتنع قاسم بإجابتها ولو واحد بالمائة، لكنه ورغم ذلك هز رأسه بإيماءة صغيرة وهو يُخبرها بحنان: تمام. لو عايزة تحكي حاجة فأنا هبقى موجود وهسمعك.

طالعته يمنى بإمتنان وعيناها تلتمع بشغف من حنانه على كشقيقها تمامًا، قبل أن تشكره بود قائلة: ربنا يخليك ليا يا قاسم أنت و رائد، من غيركم كنت هتوه والله.
اقترب من رائد مُقبلًا جبينها بحنان قائلًا بحب: احنا دايمًا معاكِ يا حبيبتي، وقت ما تعوزينا هتلاقينا معاكِ وفي ضهرك دايمًا.

وفي وادٍ آخر، كانت عيني أَهِلَّة تستقر حيث موضع يد قاسم، حيث يضع يده أعلى رأس سهيلة، كانت تظن أن الإهتمام من نصيبها هي فقط، لكن يبدو بأنه ينال الجميع، ربعت ذراعيها أمام صدرها وهي تَرمقه بحنق شديد، ورغم ذلك لم تتحدث وفضلت الصمت.

استغلت سهيلة بإنشغال الجميع معًا، وذهبت لتجلس على الأريكة حينما داهمها صداع رأسها أكثر، رمت ابتسامة خفيفة تجاه فور الذي بادلها بأخرى واسعة، استندت برأسها على ذراع الأريكة مُغمضة عينيها بتعب، لتستمع لسؤال فور القلق والذي كان يُتابعها بإهتمام: ما بكِ هايلة؟ لِمَ أنتِ حزينة بهذا الشكل.

وبدون وعي ضغط فور على جُرحٍ لم يلتئم بعد، لتتجمع طبقة كثيفة من الدموع داخل حدقتاها لاحظها بسهولة، وبهلع كبير اقترب منها يسألها برعب: هايلة لِمَ تبكين يا فتاة!
لم تجيبه واكتفت بالصمت، لم يجد ما يقوله لمواساتها، ليُمسك هو بشطيرته يقسمها لنصفين، ثم مدّ يده لها بالنصف الكبير قائلًا بلُطف: حسنًا لا تبكي هايلة، فلنتقاسم الشطائر لأجلك عزيزتي.

ضحكت سهيلة من وسط دموعها وهي تقول بمزاح: أنت لم تفعلها من قبل يا فتى، كيف تُفرط في شطائرك بتلك السهولة.
هذا لأجلك فقط، حتى لا تبكين مُجددًا.
قالها بقلق عندما لاحظ دمعاتها بدأت بالتجمع مُجددًا، بينما هي طرب قلبها بشدة لكلماته، لأجلها هي! نفضت سهيلة تلك الأفكار الخبيثة التي تتسلل لعقلها، ثم انتشلت من الشطيرة وهي تشكره بخفوت وهي تبتسم: حسنًا. شكرًا لك فور.

ابتسم لها فور قبل أن يقول بلطف: إن أردتِ المزيد قولي لي، لن أتأخر عنكِ صدقيني.

عاد الجميع لمنازلهم بعد يوم طويل مُمتليء بالصخب، حتى أتت الساعة المُنتظرة لخروج روح القناص من مضجعها.

خرج قاسم من المنزل بعد منتصف الليل واضعًا قناعه على وجهه وثيابٍ سوداء تُخفيه وسط هذا الليل الحالك، يُقسم بأن يجعل أيام جميع أعدائه بتلك البشاعة، لن ينام مُرتاحًا حتى يجد أجسادهم القذرة أسفل التُراب، دخل إلى مكانٍ مجهول مليء بالخُردة، ثم دلف لداخل المخزن المُتهالك الموجود داخله، اقترب من تلك البُقعة الصغيرة المُنيرة بضوء طفيف للغاية، حتى لمح جسدها الذي يئن بتعب أمامه، وصوتها المُتألم يُصيبه بالإنتشاء، اقترب منها أكثر حتى لاحظت هي تقدم أحدهم منها، رفعت أنظارها برعب تُطالعه بهلع، وقبل أن تسأل عن هويته سبقها هو بإبتسامته المليئة بالشر: مرحبًا بكِ صوفيا.؟

رفعت صوفيا أنظاره له تُطالعه بدون تصديق، القناص الذي كان يقوم بقتل عائلتها أمامها الآن! ابتلعت ريقها بخوف بدأ يتسلل داخل أوردتها بقوة، لذلك خرج صوتها ثابتًا رغم إهتزازه الطفيف وهي تقول ساخرة: ما خلاص بقى عِرفت أنت مين، إيه لازمتها تخبي وشك!
معاكِ حق.

هتف بها ببساطة قبل أن يخلع القناع عن وجهه ويظهر هو من خلفها بنظراته التي تُشبه السهام من قوتها، اقترب منها قليلًا حتى انحنى عليها هامسًا لها بما جعل جسدها يرتجف خشية منه: نهايتك على إيدي يا صوفيا، هخليكِ تتمني الموت ومتطوليهوش.
ردت عليه بنبرة مُتحدية وهي تُجيبه بقوة: مش هتقدر. مش هتقدر يا قاسم صدقني، أنا اللي هحول حياتك لجحيم وبكرا نشوف كلام مين اللي هيتنفذ.

ابتسامة واسعة تشكلت على ثغره، قبل أن تمتد يده لخصلاتها تجذبها للخلف بقوة أثناء قوله الهامس بفحيح: ويا ترى يا حلوة قبل ما تتحديني عارفة أنتِ بتلعبي مع مين!
أجابته بإستفزاز رغم ذلك الألم المُسيطر على رأسها من جذبه إياها: لأ مش عارفة. وعشان كدا حابة أعرف.

إلتوى ثغره بقسوة قبل أن يقترب من أذنها هامسًا بها بفحيح أرعبها: أنا لو سلمتك ل عيلة الأرماني وبعتلهم كل فيديوهات لياليكِ الحمرا مش هيكتفوا إنهم يقتلوكِ بس، لأ. دول هيتاجروا بيكِ زي الكلبة وهتكوني زي العبيد عندهم.

ابتعد عنها قليلًا يرى تأثير حديثه عليها، وبالفعل شعر بالإنتشاء عندما شاهد فزعها من كلماته، ورغم ذلك أكمل بدون شفقة: ولا تكوني عايزاني أبعت للجماعة إياهم ورق كل الصفقات المضروبة ولهفتي من وراها ملايين تعيشك في نعيم لسنين قُدام، ودول معندهمش ياما ارحميني وأنا مش هعرفك هما مين.

انطلقت ضحكاته عاليًا عندما شاهد زُعرها يتمثل أمامه بمظهر أدخل السرور لقلبه، ولم ينفك عن التواني لتعذيبها، بل أكمل بعد أن توقف فجأة بجمود وكأنه لم يضحك منذ عدة ثوانٍ، ثم أكمل بفحيح أفعى تستعد للهجوم على فريستها:
ولا أرحمك أنا منهم هما الإتنين وأقطع جسمك حِتة حِتة لحد ما تموتي من الوجع! وصدقيني أنا رئيف بيكِ وطيب معاكِ خالص.

استمع لكلاهما لصوت يأتي من خلفهما بسخرية قائلًا بعتاب: تؤ تؤ تؤ. ماذا تفعل قاسم؟ لِمَ تقوم بإخافة ضيفتنا أيها القاسي.
اعتدل قاسم في وقفته ونظر خلفه، ليلمح جسد آلبرت يظهر من بين الظلام الكثيف، تهدل كتفي قاسم بيأس مصطنع قبل أن يقول: لا أُخيفها يا رجل، أنا فقط كنت أُرحب بها.

أحاط آلبرت بكتف قاسم قبل أن يغمز له قائلًا: لم أعلم أن أخواتي المُغفلان يعلمان رجلًا بكل تلك الخطورة مثلك، تُشبهنا تمامًا وللعجب.
أجابه قاسم ببرائة: خطورة! عن أي خطورة تتحدث كفى ظُلمًا.
انتبهت حواسهم لصوت صوفيا الذي صدح وهي تضحك بعدم تصديق: يا ويلي ما الذي جمع بكما معًا!
الأقدار صوفيا، الأقدار يا حقيرة هي من جمعتنا للإنتقام من أمثالِك.

هتف بها قاسم بإشمئزاز، ليخرج صوت صوفيا مُحذرًا إياه: صدقني قاسم أنت لا تريد نسج عداوة معي، وإلا...
تركت باقي جُملتها مُعلقة، ليُكمل هو حديثها خلفها مُيضقًا عينيه ينتظر حديثها القادم: وإلا ماذا!
استرسلت حديثها بخبث شديد وهي تقول بخطورة: وإلا ستكون حياة أخيك صهيب هي الثمن.

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة