رواية حارة القناص الجزء الأول للكاتبة شروق حسن الفصل الحادي والعشرون
وكأنها بكلماتها سكبت الوقود على النار لتشتعل، وكأن النيران تلبست عيناه والغضب سيطر على جسده، وبلحظة واحدة كان يقف أمامها يُحيط برقبتها بكفه العريض ضاغطًا عليه بقوة، و آلبرت فقط يُراقب بإستمتاع، تلون وجه صوفيا بالحُمرة الشديدة، وكادت عيناها أن تخرجا من محجرهما من شدة ضغطه على عروقها النابضة، اقترب قاسم من أُذنها هامسًا لها بفحيح جاعلًا إياها تستشعر خطورة ذلك الماثل أمامها:
قولتي مين!
فتحت صوفيا فمها تحاول إلتقاط أنفاسها التي يحتبسها بين قبضتيه، لكن محاولتها بائت بالفشل، حتى شعرت بأن روحها كادت أن تُزهق، لم يُعيرها قاسم أي إهتمام؛ بل شدد من ضغطه عليها وهو يستطرد حديثه قائلًا: قسمًا برب محمد عينك لو جَت بالصدفة على أخويا لهتشوفي عذاب عُمرك ما شوفتيه في حياتك، ومش هقتلك لأ، هقطعك حِتت يا صوفيا ومش هتلاقي اللي يلمك.
رضخت له صوفيا توميء له بهستيريا شديدة، لكن غضبه لم يقل، وكأنها بجُملة واحدة منها استطاعت إخراج الوَحش الذي بداخله، لا يُشفق على مَن يمس أخيه بنظرةٍ واحدة لا تعجبه، بإمكانه قتلها الآن وقتل جميع أفراد عائلتها إن أراد هو ذلك، لكن دورهم لم يَحِن حتى الآن.
شعر قاسم بيدٍ تجذبه بقوة، وصوت آلبرت يصدح قائلًا ببرود: ليس الآن قاسم، فلننتهي مما نريد وبعدها سأتركها لك لتقتلها أنت.
انتبه قاسم لوجه صوفيا الذي تحول للزُرقة، فدفعها عنه بعيدًا بإشمئزاز وكأنها حشرة قذرة لا قيمة لها، رفع إبهامه لها يُحذرها بقسوة قائلًا: ما بلاش تتحديني أنا، صدقيني أنا لدغتي والقبر وهحول حياتك لجحيم.
تنفسدت صوفيا الصعداء بعدما تركها، لكن هذا الدوار الشديد الذي داهمها فجأة جعل المكان يدور بها بقوة شديدة فمالت على جسدها فاقدة للوعي.
كان الإثنان يُراقبانها ببرود صقيعي، حتى استدار آلبرت ل قاسم يسأله بهدوء وكأنها كائن مُشرد: هل ماتت؟
نفى قاسم برأسه لاويًا شفتيه بإمتعاض: لا، من المؤكد أنها قد فقدت وعيها، اللعنة عليها ليتها تموت.
اقترب آلبرت منه قليلًا ضاربًا إياه على صدره بربتات خفيفة، ثم أردف بعتاب مصطنع: يا رجل أنت قاسٍ حقًا، ليتك طيب القلب مثلي هكذا.
رفع قاسم حاجبيه وهو يُطالعه بإستنكار، ثم أردف أثناء خروجهم من هذا المخزن المُتهالك: يا لك من رقيق القلب عزيزي آلبرت؟ أخشى أن تكون تأذى نظرك مما شاهدت.
غمز له آلبرت بمشاكسة وهو يقول: هذا ما حدث بالفعل، والآن دعني أذهب لأبحث عن مُتعتي.
قال الأخيرة بخبث وهو يصعد لسيارته، وكذلك فعل قاسم المثل ضاحكًا بسخرية، وبعدها انطلق كلاهما بسيارتهما ولكل منهم وجهة مختلفة عن الآخر، عاد قاسم بذاكرته عندما علم بأن جون وفور لديهم أخوة، بل وهم يعملون لدى القوات الخاصة ببلدهم، أو بمعنى أصح مُجندين.
ارتفع صدى رنين هاتف فور الذي كان نائمًا على الأريكة في المنزل بعدما قضى ليلته يستمع إلى أحد الأفلام المُرعبة والتي يُفضلها كثيرًا، في ذلك الوقت خرج قاسم من المرحاض بعدما استيقظ مؤديًا حاجته، ثم توضأ ليُصلي فريضته، لكن استوقفه صوت هاتف فور الذي ارتفع بإلحاح مرة أخرى، طالع قاسم ذلك النائم بإمتعاض، والذي يحتضن الوسادة مُقبلًا إياها من الحين للآخر.
هز قاسم رأسه بيأس من أفعال صديقه الحمقاء ثم انتشل هاتفه من على الطاولة ينظر به، ليجد رقمًا دوليًا يظهر على شاشته، تعجب في بداية الأمر، لكن تعجبه لم يطول عندما أجاب على المتصل بهدوء: آلو؟
جاءه الصوت الصارخ من على الناحية الأخرى، والذي لم يكن سوى ستيفن الذي صرخ ظنًا منه بأن المُجيب شقيقه: أيها الأحمق اللعين، أُقسم لك بأن أُقطع جسدك أنت والغبي شقيقك عند رؤيتك، تقول لي بأنك في نُزهة وأنت بالأساس في مصر! أتظننا مغفلين يا هذا؟
تعجب قاسم بشدة من صراخ الطرف الآخر بتلك الطريقة، والذي أثار تعجبه أكثر أن كُلًا من جون وفور ليس لديهم عائلة وينتقمون لوالدهم من عائلة الأرماني، إذًا مَن هذا؟ وكأنه نطق ما فكر به سائلًا المُتصل عن هويته، ليقطب ستيفن جبينه بتعجب وهو يتسائل: مَن معي!
أجابه قاسم ببرود قائلًا: أنا مَن سألتك أولًا، مَن معي!
تشنج وجه ستيفن بإستنكار، وما كاد أن يُجيبه؛ حتى انتشل آلبرت الهاتف من يده مُتحدثًا ببرود شابه الآخير: أعطي هذا الهاتف للمغفل إذا أمكنك هذا.
غضب قاسم من نعت ذلك الدخيل ل فور بالمُغفل، لذلك صاح هادرًا به بغضب: أنت أيها الحقير مَن أنت لتسبه؟ أنا فقط من أنعته بالمغفل.
أنا وللأسف الشديد شقيقه، والآن هلّا أعطيته الهاتف إذا تكرمت!
نظر قاسم للهاتف بغباء، ثم حوَّل أنظاره ل فور النائم بغباء أشد، وعاد يُطالع الهاتف مرة أخرى، فكان مظهره في تلك اللحظة مُضحكًا للغاية، انتبه لشروده عندما استمع لصوت حشرجة آلبرت تأتيه من الناحية الأخرى، لذلك تحدث بثقة وهو ينفي: من الممكن بأنك أخطأت الرقم يا سيد، هذا المُستخدم ليس لديه أشقاء.
أتته سخرية آلبرت من الناحية الأخرى وهو يتحدث بلذاعة: هل قاما هذان الأحمقان بخداعك أنت الآخر!
ابتعد قاسم عن فور قليلًا حتى تسنح له الفرصة بمعرفة هوية چون وفور الحقيقية، وبعد ما يقرب من الساعة الكاملة في الحديث، ومعرفته بأن ل جون وفور خمسة أشقاء غيرهم، لكن بالطبع لم يخبره آلبرت بتلك اللحظة بأنهم مُجندين، بل اكتفى بتعريفه عن نفسه وكذلك فعل قاسم معه هو الآخر، وبعد تبادل أرقام الهواتف واستمرارهم للحديث لعدة أيام، اتفقوا على أن يأتوا لمصر و قاسم سيُجهز لهم كل ما يحتاجونه، لكن عليه تأديب هاذان الأحمقان أولًا، لكن ما كاد أن يُحاسبهم على كذبهم وتخبئتهم لأمرٍ هامٍ كهذا؛ حتى أتت الفاجعة التي تخص يمنى وانشغل الجميع بالأمر.
وصل قاسم إلى الحارة التي يقطن بها، ثم دلف إلى المنزل صاعدًا لوالدته مباشرةً، فتح الباب بهدوء ثم أغلقه مُجددًا وأقدامه تأخذه بشوقٍ إلى غرفتها، فتح الباب ببطئ ثم اقترب من الفراش الخاص بها فوجد نائمة وجسدها مُوصل بعدة أسلاك عديدة، كلما يراها بهذا المظهر يئن قلبه بألم على حالتها.
جلس على ركبيته أمام الفراش، ثم أمسك بكف يدها البارد مُقبلًا يدها بحنان شديد، أغمض عيناه يتنهد بتعب وكأن كل ما يحدث يؤلم قلبه حتى صاح بأنه لا يتحمل أكثر من هذا، ذلك العبء القابع فوق صدره يجعل منه عجوزًا انحنى ظهره من هول ما رأى في حياته، ابتسم بحنين عندما جال بخاطره ذكرى قديمة له وهو وعائلته حينما كان صغيرًا لا يحمل بقلبه ضغينة، تزامنًا مع هبوط دمعة حارقة على وجهه وكأنها تنعيه على تلك الأيام التي مضى زمانها.
كانت حياة جالسة على الفراش تستند بظهرها عليه، وعلى صدرها الأيسر يستند صهيب ببرائة، ومن الناحية الأخرى ينام قاسم هو الآخر، وأبيهم يجلس مُراقبًا إياهم بإبتسامة شغوفة، ورغم فقرهم إلا أن حياتهم كانت هادئة خالية من القلق.
مسدت حياة على خصلاتهما بحنان وهي تروي لهم حكاية أقل ما يُقال عنها بأنها خيالية، وبسمة صغيرة ترتسم على شفتيها تزامنًا مع إلتماع عينيها بحب وهي تُطالع زوجها الذي يُبادلها بنفس النظرات:
وبعد ما الأميرة حبت الحارس الفقير جِه اتقدملها، لكن أهلها رفضوا وكانوا عايزين يجوزوها واحد غني، هي مكنش همها الفلوس، هي كانت عايزة تعيش مع الحارس الفقير بس.
رفع صهيب نظراته لوالدته يسألها ببراءة: الحارس دا كان عسول يا ماما؟
ابتسمت حياة بخفة وهي تُقبل وجنته المُكتنزة بقوة، ثم أردفت بضحك: آه كان عسول زيك كدا.
اتسعت ابتسامة صهيب أكثر وهو يُحيط بخصرها، بينما أكملت حياة قصتها العظيمة كما تقول: وبعد ما اتحايلت على أهلها كتير إنها تتجوزه رفضوا تاني، فضلت الأميرة تعيط لأيام كتيرة، وامتنعت عن الأكل لفترة كبيرة، وبقى وشها دبلان من قلة أكلها، وبعد ما أهلها لاحظوا دا وافقوا أخيرًا، لكن بشرط؛ إنهم مش هيدوها حقها من الوِرث الكبير بتاعهم، وهي من غير ما تفكر وافقت على طول، عارفين ليه؟
تلك المرة أجاب قاسم ببرائة: عشان هي بتحب الحارس الفقير، صح يا ماما؟
فعلت حياة المثل معه وقبلته بحب شديد وهي تؤكد على حديثه: صح يا قلب ماما، الأميرة كانت بتحب الحارس أكتر من كنوز الدنيا بحالها، واتجوزوا الحارس والأميرة، وعاشوا في تبات ونبات، وخلفوا ولدين زي القمر.
وقف هادي من مجلسه مُقتربًا منهم، حتى جلس أمام ثلاثتهم، وعلى بغتةٍ أمسك برأس حياة مُكوبًا وجهها بين يديه، ثم قربها من شفتيه مُقبلًا جبينها بعشق لم يقل عبر الزمن، مُنهيًا فعلته بجملة واحدة ظلت مُتعلقة بذهن قاسم حتى الآن:
خليكِ عارفة إن الأميرة هي قلب الحارس، وإنه من غيرها هو ميسواش أي حاجة، الحارس من غير الأميرة زي الإنسان اللي من غير روح بالظبط.
هبطت دمعاته على كف والدته أثناء تذكره لتلك الأيام الجميلة التي جمعته بعائلته، قبل أن تأتي تلك الأمواج الهائجة وتُشتتهم جميعًا، فبات هو شريدًا بلا مأوى يُعاني ويلات الوحدة واليُتم.
شعر بيد والدته تربت على رأسه بحنان، وبسرعة فتح عيناه ليُبصر والدته التي كان ترمقه بحب، وبعدها صعد صوتها المُعاتب له: كفايا بُكى يا قاسم، سلم أمرك لله يا حبيبي وهو هيجيبلك حقك.
ارتعشت شفتي قاسم ببكاء ودموعه تُهدد بالهطول، قبل أن يرتمي على صدرها يبكي قهرًا على ما آلت إليها الظروف، قبَّلت حياة رأسه بوهن أثناء إغماضها لعينها حُزنًا على فلذة كبدها، كانت تستمع لشكاؤه لها ليلًا، ناهيك عن بُكاؤه والذي يرتفع أحيانًا لشهقات أثناء ترجيه لها بأن تستيقظ، وكلما حاولت فتح عينيها لطمأنته؛ تشعر بشيء يُقاوم حركتها ويُثبتها في مضجعها.
مرت رُبع ساعة تقريبًا وهم على نفس الوضع، حتى اعتدل قاسم من على صدر والدته حتى لا يتسبب في إتعابها أكثر، مدت يدها تمسح دموعه مُرددة بشفقة: كفايا يا نور عيني، أهو أنت شايف إني بقيت كويسة وأحسن من الأول، ليه غاوي تتعب نفسك!
أمسك بكفها مُقبلًا باطنه، قبل أن يُردد بقهر: محدش بيكون غاوي التعب يا أمي، بس كل الظروف بتقاومني ومش عايزاني أفرح.
وربنا راح فين من دا كله؟ إوعى تكون بعدت عن ربنا يا قاسم؟ إوعى الدنيا تكون نستك اللي خلقك، احنا يابني منسواش أي حاجة لولا نِعم ربنا علينا وستره لينا، مهما تمر بظروف وحشة ومهما تقول خلاص مش قادر أكمَّل إوعاك تبخل على ربنا بالعبادة.
اقترب منها قاسم مُقبلًا جبينها، ثم أردف بإبتسامة خفيفة بعدما هدأ قليلًا: متخافيش يا ماما، أنا لسه محافظ على كل حاجة أنتِ علمتيها ليا وأنا صغير، منستش ربنا ومحافظ على صلاتي وبصوم رمضان وبطلع زكاة كمان.
كوبت حياة وجهه بيدها قبل أن تردف بفخر: ربنا يريح قلبك يا نور عيني ويخلي في كل خطوة سلامة ليك يارب.
أغمض قاسم عينه بإستمتاع وهو يُردد بتبجيل: ياه يا أمي، هو دا اللي كنت محتاج أسمعه منك يا ست الكل.
تمدد قاسم بجانبها بتروٍ حتى لا يؤذيها، ونام على كتفها مُستمتعًا بدفئها وحنانها التي لا تبخل بإغداقه بها، وكذلك هي سحبتها غفوتها للأعماق، ولكن قبل أن تذهب كُليًا سألت عن صهيب، ليُطمئنها قاسم بأنه بخير وسيأتي لها غدًا حتى يراها.
العشقُ لعنة تضرب الأفئدة، والقلبُ يهوى من الحبيب أن يقتربُ، وإذ به الحبيب لا يشعر بالفؤادِ، فإذ به القلب ينساق خلف العقلِ.
انقضى الليل بكل صرخاته المُتألمة، وسطعت الشمس بنورٍ جديد مليء بالأملِ، دلف يحيى للغرفة التي تقبع بها يمنى ببطيءٍ شديد، راميًا نظرة عابرة على أهلة التي تستند على الأريكة برأسها تنام بعدم راحة، وقف أمام فراشها وبعدها جذب المقعد بحذر وجلس عليه حتى بات لا يفصل بينهما سوى القليل.
ابتسم يحيى بحنان وهو يُراقب تعابيرها الشاحبة، مرَّ ما يقرب أسبوع كامل على مكوثها بالمشفى، واليوم هو موعد خروجها، كم يرقص قلبه طربًا وسعادةً بتلك الأخبار التي تُبهجه، مدَّ يده ليُبعد خُصلة شاردة على عيناها، يتشرب ملامح وجهها ليُوشمها بقلبه، هو كان حبيبًا، والآن أصبح عاشقًا ولهانًا لها، رفع جسده قليلًا مُقتربًا منها ثم قبَّل جبينها بحنان، تبعه بقوله المُشتاق بهمس قائلًا:.
معرفتش إن غلاوتك في قلبي كبيرة كدا غير لما شوفتك سايحة في دمك، ساعتها حسيت بقلبي بيتكسر وأنا واقف متصنم مش عارف أعمل إيه.
تنهد بقوة ثم رفع كفها لفمه يُقبله بحنان: سلامتك يا روح قلبي، إن شالله تيجي فيا وأنتِ لأ، ميهمنيش غير إنك تكوني بخير.
وقف من مضجعه ثم ربت على خصلاتها بعشق، وما كاد أن يهبط ليُقبل جبينها؛ حتى شعر بيد تجذبه بعيدًا عنها وصوت يصرخ به: أنت بتعمل إيه هنا يا حيوان؟
انتفض يحيى بفزع صارخًا برعب، ثم استدار ليجد قاسم واقفًا يُحدجه بنظراته الحارقة، ابتلع يحيى ريقه بتوتر ثم نظر حوله قائلًا بدهشة غبية بعض الشيء: يا ساتر يارب! أنا إيه اللي جابني هنا؟
أمسكه قاسم من ياقة ملابسه وهو يُردد خلفه بسخرية: وحياة خالتك؟ مش عارف إيه اللي جابك هنا؟ يعني أنت مش جاي تشوف يمنى؟
هزَّ يحيى رأسه ينفي بقوة تلك التُهمة البشعة التي يُلفقها إليه هذا الظالم: لأ طبعًا إيه الكلام اللي أنت بتقوله دا؟ أنا خير اللهم اجعله خير كنت نايم في الجامع اللي تحت، صحيت لقيت نفسي هنا.
انزعجت أَهِلَّة من الصوت العالي الذي يرتفع بالغرفة، فتحت عيناها ببطئ لتعتاد على الإضاءة، ثم حدجتهم بتعجب مُتسائلة بضيق: في إيه بتتخانقوا على الصبح ليه؟
نظر لها قاسم فوجدها تُحاول أن تفتح عيناها بصعوبة، لذلك تشدق بلين: متشغليش بالك أنتِ ونامي، وأنا هاخد المُهزق دا ونطلع برا.
أمسك يحيى بيد يمنى صارخًا: لأاا مش هسيبها، أنا ما صدقت استغل الفرصة وهي نايمة.
استمع يحيى لشهقة تأتي من خلفه، لذلك استدار فوجد يمنى تفتح عينها بصدمة مما سمعته للتو، وقد خيَّل لها عقلها ما فعله بها أثناء نومها وهي لا تشعر بشيء، رسم يحيى ابتسامة بلهاء على ثغره، ثم رفع يده مُشيرًا لها بأصابعه: هاي يا بيبي!
شعر يحيى بشيء صلب يُقذف بوجهه، تبعه صراخ يمنى الحاد: استغليت الفرصة وأنا نايمة إزاي يا قليل الأدب!
نفض يحيى يد قاسم عنه، ثم استند بيده على خصره قائلًا بتشنج: هو مين دا اللي قليل الأدب يابت! وبعدين مش تحمدي ربنا هو كان حد معبرك من أصله! دا أنا اللي هنتشلك من حياة العزوبية البائسة اللي أنتِ عايشة فيها، ناس قليلة الأصل صحيح.
قال الأخيرة بسخط، قبل أن يذهب رامقًا إياها بقرف وكأنها هي المُخطئة وليس هو، فغرت يمنى فمها بصدمة وكأنها لا تُصدق ما تفوه به الآن، لتستمع بعدها إلى صوت قاسم الحانق: سيبك منه دا عيّل أهطل.
استفاقت أَهِلَّة قليلًا مم نعاسها، ثم وقفت مُقتربة منهم لتجلس بجانب يمنى التي مازالت تنظر للباب ببلاهة، بينما هي نظرت ل قاسم وما كادت أن تتحدث عن سبب وجوده؛ حتى وجدته يغمز لها بمشاكسة: صباحك فُل يابا.
نظرت له أَهِلَّة بدهشة من طريقته الغريبة والتي تغيرت معها كُليًا، ثم أجابته بضحك: صباح النور يا عم.
طالعتهم يمنى بإشمئزاز أثناء إعتدالها في مكانها، ثم علقت على حديثهم ساخرة: صباح التكاتك والعربيات الكارو.
طالعها قاسم بطرف عينه بلامبالاة، قبل أن يُمازحها بطريقة جادة قليلًا: بس يا عسولة وخليكِ في حالك، مش كفاية مجرجرانا وراكِ بقالك أسبوعين ومتلكمناش!
أجابته يمنى بتعنت: محدش قالك والله أقعد معايا.
رد عليها بسخط قائلًا: ما هو للأسف الشديد أنا اللي عاملك العملية، وللأسف الشديد تاني إنك أخت خطيبتي، وللأسف الشديد تالت إني مخلصتش عليكِ واحنا في العناية.
رفعت يمنى حاجبيها بغيظ، قبل أن تنظر ل أهلة مشيرة لها بإصبعها تجاه قاسم: شايفة المُعاملة؟ عشان متجيش بس تقولي عليه إنه طيب وكتكوت و...
قاطعتها أَهِلَّة وهي تسعل بقوة، في نفس الوقت الذي رفع فيه قاسم حاجبيه بعدم تصديق مما يُقال خلف ظهره، فتح فمه ليتحدث؛ فوجد ذاته يُطالع أَهِلَّة بتشنج قائلًا: طيب وكتكوت! بقى أنا في الراحة والجاية عمَّال أقولك كفاءة وأنتِ تقولي عليا كتكوت!
مطت أَهِلَّة شفتيها بحنق وهي تُجيبه: وماله الكتكوت يعني ما هو حلو وخلاص!
رد عليها بعناد: لأ مش حلو.
عاندته هي الأخرى بقوة: حلو.
لأ مش حلو.
حلو.
لأ مش حلو.
حلو.
طب وأنا؟
حلو.
تنستري.
قالها بعبث شديد، وبعدها أطلق ضحكات عالية على ملامح وجهها المُنصدمة من عبثه الخبيث معها، لتُحاول هي مُداراة ما قالته بحماقتها مُصححة حديثها: على فكرة أنت خدعتني وأنا لا أسمح.
لأ حقك عليا يا غالية تعالي وأنا أصالحك.
قالها الأخيرة بمكر فاتحًا كِلتا يديه يُمثل باحتضانها، لتبتعد هي بهلع عائدة بخطواتها للخلف وهي تسأله: أنت هتعمل إيه؟
تهدل ذراعيه بيأس مصطنع وهو يُجيبها: مش أنتِ زعلانة مني؟ يبقى واجب عليا إني أصالحك.
نفت بسرعة وهي تقول: لأ لأ مش زعلانة. مين قال إني زعلانة.
نفخ بقلة حيلة قائلًا ببراءة: براحتك، أنا كان غرضي مصلحتك.
طالعته أهلة بشك وهو يُراقبها بعيون ذئب بريء، و يمنى تُطالعهم ببلاهة شديدة على ما يفعلونه، ليُقاطع حرب النظرات تلك هو فتح الباب فجأةً، تبعه دخول يحيى المُفاجيء والذي هلل بصياح: هلا والله. اشتقتولي ص. آااه.
قاطع حديثه إحتضان إحدى المزهريات البلاستيكية لوجهه، تبعه صياح قاسم به: برا يا حيوان.
طالعه يحيى بغيظ، قبل أن يُمسك المزهرية ويُعيدها له بنفس القوة، لكن ولحُسن حظه بأنها اصطدمت بذراعه لا بوجهه، نظر قاسم ل يحيى بغضب شديد، قبل أن يتجه له بغضب و يحيى هرول أمامه للخارج بفزع، لكن قاسم لم يتوقف عند هذا، بل استكمل ركضه خلفه فبات الإثنان يُهرولان خلف بعضهما البعض في ممرات المشفى، تاركين ضحكات الفتيات تصدح خلفهم من مشاكساتهم اللطيفة والتي تحدث عادةً.
أُقسِم بأنني لم أُفكِر في خيانتك ولو لمرةٍ واحدة.
قالها چون برجاء ل لوسيندا لتفتح الباب الذي تُغلقه منذ أن عادت من الخارج، لتصرخ به لوسيندا ببكاء مزقه: أومال مين جوليا دي يا خاين!
آه. أومال مين چوليا دي يا خاين؟
رددتها مهرائيل التي كانت تجلس على الأريكة تُمسِك إصبعًا من الموز تتناوله وهي تتطلع إليهم.
لم يُعيروها إنتباه، بينما أكملت لوسيندا حديثها قائلة ببكاء: طلقني يا جون، طلقني يا خاين.
ومرة أخرى تُردد مهرائيل الحديث خلفها: آه. طلقها يا چون، طلقها يا خاين.
استدار لها چون يُطالعها بغضب حارق، لتبتلع هي ما بفمها قائلة بتبرير: خ. خلاص متطلقهاش هي في الآخر مراتك.
اللعنة عليكِ، اصمتي علَّ يتوقف الطعام بحلقك ونتخلص منكِ.
صاح بها بغضب عندما نفذ صبره منها، ليستمع بعدها إلى صوت لوسيندا الباكي من خلف الباب: وكمان بتزعق لأختي وبتستغل طيبتها! للدرجادي مش طايقنا!
مسح چون على وجهه بغضب، ثم استدار جهة الباب مرة أخرى، وكاد أن يُصالحها؛ لكن قاطعته مهرائيل التي تشدقت ببكاء: تعالي شوفي يا لوسي جوزك بيعمل فيا إيه؟ دا شوية شوية ويطردني من البيت.
في تلك اللحظة دخل آلبرت ومعه إخوته، والذي ما إن رآها ورأى قشور الموز المُرتمية على الأرضية المُتسخة؛ حتى صاح بإستنكار مُوجهًا حديثه لها: ما هذا يا فتاة؟ تُشبهين أنثى القرد في موسم التزاوج.
تشنج وجه مهرائيل من حديثه، وتلك المرة وقف الطعام بحلقها مما أدى إلى سُعالها الشديد، لم يُعيرها أيًا منهم أي إنتباه، بل دلف الثلاث شباب إلى الغرفة التي تجمعهم، بينما اتجه آلبرت نحو الأريكة يرتمي عليها بإنهاك قائلًا بسعادة:
عسى أن تزهق روحك وتصعد إلى السماء.
طالعته مهرائيل بنظرات حارقة ظنت بأنه مُخيفة، لكن بالنسبة له كانت مُضحكة وللغاية، خاصةً وأن فمها كان مُملتيء بالطعام ووجهها أحمر من شدة سعالها.
وعلى الجانب الآخر، تودد جون إلى لوسيندا التي قامت بفتح الباب، وبعد خمس دقائق فقط انتهى من مصالحتها، قبَّل چون جبينها وهو يسألها بعتاب صعد على أنه غزل:
قولي لي كيف أنظر للظلام وأنا أملك القمر! فوالله لا يحلو يومي إلا وأنا أنظر لمحياكِ.
أخفضت لوسيندا رأسها بحزن، ثم تشدقت بغيرة شديدة لكن بصوتٍ ليِّن: أومال مين چوليا دي؟
زفر چون بضجر وهو يروي لها علاقته بالمدعوة چوليا: تلك ال چوليا ما هي سيدة تبلغ الخمسون عامًا وقد وقعت بحبي.
فرغت لوسيندا فاهها بصدمة قائلة بعدم تصديق: بتتكلم بجد؟
أومأ لها جون يؤكد على حديثه، لتهمس وهي تنظر إليه بخجل: يعني كل النكد دا عشان ست عجوزة عندها خمسين سنة!
ومرة أخرى يوميء لها چون بالإيجاب، لتشعر بالخجل من ذاتها، فاقتربت منه على بغتة ثم احتضنته قائلة بإعتذار: خلاص أنا أسفة متزعلش مني، بس أنا الغيرة عمتني وأنت عارف إني بحبك.
أحاطها بها بقوة مُقربًا إياها من قلبه أكثر: لا أريد اعتذارات لوسي، أريدُ فقط أن أرىِ عيناكِ تدمعان سعادةً وليس حُزنًا.
شددت لوسيندا من عناقه، وما كادت أن تتحدث؛ حتى استمعت إلى صوت شقيقتها الصارخ بغضب: سامحتيه يا عديمة الكرامة! متبقيش تيجي تعيطي بعد كدا بقى.
ابتعد چون عن لوسيندا قليلًا ناظرًا ل مهرائيل بغيظ، فجذب يد زوجته خلفه ثم خرج من المنزل وهو يُتمتم ببضعة كلمات لم يفهم أحد مغزاها، بينما هبّ آلبرت من مضجعه، راميًا نظرة عابرة ل مهرائيل قائلًا بإمتعاض: جروٌ عديم الأدب.
يُقال أن الأماني حُلم يصعب تحقيقه، وها هو الحُلم يتحقق الآن، حينما اجتمع القناص والقاتلة المجهولة تحت مُسمى شرعي لم يكن بالحسبان، لا يوجد اسم واضح لعلاقتهم الغريبة، لكن ما يتضج هو أننا سنعيش رحلة جديدة كُليًا على جميع الأطراف:
بارك الله لكما وبارك عليكما وجمع بينكما في خير.
والآن باتت زوجته قانونيًا، ها هُم اتحدوا ليُصبحوا بقوة أشد، هُناك إعصارٌ قادم، إعصارٌ سيُحطم الجميع بلا إستثناء، غايتهم واحدة، وهدفهم مُحدد، أعينهم تنطق بالثأر، وبسمتهم تنُم على الشر، ووسط كل ذلك سنبدأ رحلة علاج جديدة مع الطرفين، ستكون مُختلفة بشكلها الخاص، شكل يليق ب القناص والمجهولة النارية.