رواية حارة القناص الجزء الأول للكاتبة شروق حسن الفصل الثاني والعشرون
بضعة كلماتٍ قليلة قيلت بعد أن دوَّن كل واحدٍ منهم اسمه بجانب الآخر، تبعها صوت الزغاريد العالية من فاه يمنى سعادة بشقيقتها، ليشرد يحيى بها قائلًا بهيام: كروان بيزغرط يخواتي؟
نكزه رائد في معدته بقوة موبخًا إياه: يابني أمها لو سمعتك هتطين الليلة فوق دماغك ودماغنا كلنا، و قاسم محذرنا كلنا قبل ما نيجي، فخاف على عمرك بقى.
جعد يحيى وجهه بحنق متشدقًا بسخط: حسبي الله ونعم الوكيل في الظالم والمفتري، حتى البت مش عارف أعاكسها بضمير.
بينما على الجانب الآخر. كان صهيب يُحاول أن يتلاشى نبيلة التي فوجئت بوجوده، ورغم أنها لم تتحدث إلى أنها كانت تُسدد له نظرات نارية بسبب آخر لقاء حدث بينهم، ذهب صهيب إلى شقيقه مُسرعًا ليحتضنه بقوة، ثم ربت على ظهره بخفة قائلًا بحب: ألف مبروك يا حبيبي.
شدد قاسم من عناقه وهو يُجيبه: الله يبارك فيك يا حبيب أخوك.
شعر صهيب بمن يدفعه بقوة عنه، نظر بحدة لمن دفعه بتلك الطريقة، لكن نظراته لانت قليلًا عندما لمح نبيلة بمعالم وجهها المُتشنجة وهي تُبعده بسخط: ما توسع بقى خليني أحضن جوز بنتي.
وباحترام غير معهود ابتعد عنها صهيب ليُفسح الطريق لها، رفع قاسم حاجبه بعدم تصديق وهو يرى أخلاق شقيقه الرفيعة، لكن قاطع سخريته هو احتضان نبيلة له مُوصية إياه بمشاعر أمومية جياشة: أَهِلَّة في عنيك يا قاسم يابني، هي يمكن تكون دبش حبتين تلاتة بس طيبة وعلى نياتها والله.
ضحك بخفة أثناء تقبيله لجبينها، ثم تشدق بطمأنينة لها: متقلقيش، دي هتبقى في عيوني.
ابتعدت عنه نبيلة براحة بعدما رأت الصدق في عيناه، ولكن قبل أم تذهب كُليًا من أمامه، نظرت ل صهيب المُتابع لحديثهم بإشمئزاز وهي تقول مُوجهة حديثها ل قاسم : نصيحة مني ليك يابني، ابقى اختار صحاب مُحترمين زيك مش أي حد والسلام.
رمت كلماتها ثم رحلت من أمامهم دون أن تُضيف كلمة أخرى، نظر صهيب لأثرها بغيظ مُتسائلًا بحنق: قصدها إيه الولية دي؟ والله أروح أفرتك المسدس في نفوخها.
أمسكه قاسم من ياقة ثيابه مُقربًا وجهه منه وهو يتسائل بشر: أنت عملت إيه!
أشار صهيب لذاته بصدمة مُرددًا بعدم تصديق: أنا؟ أنا معملتش حاجة طبعًا، دا أنا طول عمري محترم وطيب وفي حالي و...
قاطع قاسم حديثه مُتسائلًا مرة أخرى بتحذير: صهيب. بقولك أنت عملت إيه؟
ربَّع صهيب ذراعيه بحنق أثناء إمساك قاسم له من ياقة ملابسه، ثم اعترف له بتردد: اليوم اللي أنت بعتني فيه ليها بعد ما قطعت ليا شهر العسل أنا هبَّلت معاها في الكلام، كنت مفكر إنك بتقولي إنها أم خطيبتك عشان أروح أنقذها بالعافية.
جز قاسم على أسنانه بغيظ وهو يتحدث له مُعاتبًا: يعني ينفع كدا؟ تقول عليك متربتش ومش محترم بعد عملتك دي؟
أجابه صهيب ببساطة وهو يهز كتفه بلامبالاة: ما أنا فعلًا متربتش ومش محترم.
فكَّر قاسم في حديثه لثوانٍ، ثم تحدث بابتسامة واسعة: تصدق ياض معاك حق وأقنعتني! ولأجل صراحتك دي؛ هات حضن أخوي بريء.
قهقه صهيب عاليًا أثناء احتضانه لأخيه بحب شديد، فمهما فعل سيظل هو مثله الأعلى وقدوته في تلك الحياة البائسة، يحمل بين طيات قلبه الحب والإمتنان له، هو بإختصار لن يُعوَض مهما اقتحم الكثيرين حياته.
وعلى الجانب الآخر، كانت أهلة تجلس مع شقيقاتها و لوسيندا وكذلك مهرائيل التي أتت مع شقيقتها، وبجانب حبيبة التي أتت برفقة صهيب كانت تجلس سهيلة هي الأخرى، وعلى عكسهم تمامًا كانت حبيبة تجلس صامتة، حتى أنها لم تتحدث ولو بكلمة واحدة.
لاحظتها أهلة فابتسمت لها بخفوت وهؤ تتسائل بود: مش بتتكلمي معانا ليه يا حبيبة؟
توترت حبيبة من سؤالها المفاجيء، فأمسكت بكفيها معًا تضغط عليه بتوتر، ثم أجابتها بخفوت: ع. عادي. مفيش حاجة أقولها.
هبَّت ملك من مجلسها والتي لاحظت هي الأخرى توحدها بعيدًا عنهم، وبمرح جذبتها رغمًا عنها لتجلس بجانبها على الأريكة الأخرى، ثم تشدقت بمزاح: ياختي مالك قاعدة لوحدك كدا؟ أوعي تكوني خايفة مننا! دا احنا بنات في قمة الأدب والأخلاق والإحترام والله.
ابتسمت حبيبة بخفوت على حديثها المازح المُغلف بالود، لكن رغمًا عنها لا تسطيع إخراج ذاتها من القوقعة التي وضعتها بها والدتها دون رحمة، حتى باتت تخاف التعامل مع الجميع، ليس رهابًا منهم؛ لكن خوفًا من تلقي الخذلان مرة أخرى.
أمسكت ملك بقطعة من المُعجنات (الكحك) ثم وضعتها بفمها تُطعمها بعدما رفضت تناولها بنفسها، ثم تشدقت بمرح: يا بنتي كُلي دا أنتِ رُفيعة خالص.
ابتلعت حبيبة ما بفمها ونظرت لها بحزن ظنًا منها بأنها تتنمر عليها؛ مثلما كانت تفعل معها والدتها من قبل، لكن بخلاف أن والدتها كانت تقول لها بأنها أصبحت سمينة، رغم أنها كانت تظل لأيامِ عدة دون تناول أي شيء حتى تنال رضاها، تكونت طبقة شفافة من الدموع داخل حدقتاها، مما أثار ريبة ملك التي طالعتها بدهشة وهي تسألها:
أنتِ زعلتي مني؟
ومع سؤالها ارتعشت شفتيّ حبيبة ببكاء حاد، مما جعل ملك تسحبها لأحضانها مُرددة بإعتذار: طب خلاص والله أنا أسفة، أنا اللي عِجلة وتخينة عشان كدا شايفاكِ رفيعة.
ضحكت حبيبة من وسط بكاؤها، فظنت ملك بأنها تبكي أكثر، لذلك أردفت بحزن: طب والله مش قصدي أزعلك، أنا كنت عايزاكِ تتكلمي معانا بدل ما أنتِ ساكتة بس مش أكتر، والله أنتِ سكر وزي القمر متزعليش مني.
تدخلت معها مهرائيل التي تقدمت منهما هي الأخرى، ثم جلست بجانب حبيبة تُربت على ظهرها بحنان أثناء قولها: خلاص يا حبيبة كفاية عياط، رغم إني متعرفة على ملك بقالي أسبوعين بس هي طيبة والله ومش قصدها حاجة، هي بس عاملة زي الطروبش بترمي أي كلام وخلاص.
دفعت ملك يد مهرائيل بعيدًا وهي تقول بغيظ: طب غوري بقى يا بت أنتِ، مبقاش غيرك اللي يتكلم عن الدبش! مسم. عجايب والله.
تلك المرة هبت سهيلة من مضجعها ساحبة حبيبة لها بعيدًا عن ملك ومهرائيل ثم تشدقت بمسكنة: يا عيني عليكِ يا بنتي! إيه اللي جابك ووقعك مع العيلة دي بس؟ وبعدين ملقيتيش غير صهيب وتتجوزيه! عيني عليكِ وعلى حظك الهباب.
وكزتها حبيبة بخفة وهي تمسح دمعاتها المُتعلقة بأهدابها، ثم أردفت بحنق وصوت مبحوح: متشتمهوش.
كانت أَهِلَّة تُراقبهم وهي صامتة، يبدو بأنها ليست الوحيدة التي تُعاني، الجميع يُعاني ويخوضون حربًا عاصفة مع أمواج الحياة الهائجة، لا علينا سوى أن نكون أكثر لُطفًا مما نحن عليه.
وقفت أَهِلَّة من مكانها تُعدِّل ما وضعية فستانها الحريري الأسود الذي ارتدته رغم اعتراض الجميع، ثم اقتربت منهما مُتشدقة بإبتسامة هادئة ل حبيبة: متزعليش يا حبيبة احنا كلنا هنا جنبك وفي مقام إخواتك، وقت ما تكوني زعلانة وفيه حاجة مضيقاكِ تعالي إحكيلنا وإحنا هنبقى معاكِ دائمًا.
طالعتها حبيبة بإمتنان بعد أن هدأت كُليًا: شكرًا أوي بجد، وأنا كمان ارتحت ليكم بس مش متعودة على الأجواء دي مش أكتر، أغلب الوقت بكون لوحدي ومليش صحاب فعشان كدا باخد وقت على ما أتعرف على اللي حواليا.
أحاطت لوسيندا بكتفها قائلة بإبتسامة واسعة: وأديكِ اتعرفتِ علينا ياستي، وهنعمل أحلى شلة بنات على مر التاريخ.
في تلك اللحظة هرولت إليهم يمنى مُسرعة وهي تُمسك بهاتفها، ثم فتحت كاميرته قائلة بحماس: بالمناسبة السعيدة دي. يلا ناخد صورة مع بعض للذكرى.
نالت الفكرة إعجابهم، فارتصت جميع الفتيات حول أهلة التي جعلوها في المنتصف وهم يلتفون حولها، وبالأمام يُمنى تُمسك بالهاتف تُوجه كاميرته الأمامية على الجميع وهي من ضمنهم، أُلتقطت الصورة بجودة عالية، وتلك كانت أول صورة تجمعهم معًا، يبدو أن هُناك علاقة وطيدة قاربت على التشكل، ليكونوا هُم رباط صعب فكاكه.
نظر الجميع لبعضهم بسعادة، فصدفة جمعتهم دون حُسبان، وقد كانت صداقتهم غريبة بعض الشيء، كثرتهم سر قوتهم، وهدفهم واحد على الأغلب،
أهلة، يمنى، ملك، سهيلة، حبيبة، لوسيندا، مهرائيل هكذا هُم كانوا، سُباعي المغامرات.
دخل في تلك اللحظة قاسم ومعه الجميع، ليُلاحظ الصورة التي جمعت الفتيات بهاتف يمنى، لذلك وجَّه حديثه لهم بعتاب: يعني اتصورتوا من غيرنا؟
اقترب رائد من شقيقته ضاربًا إياها على رأسه بخفة، ثم وبخها قائلًا: بتتبري مني وبتتصوري من غيري؟ إخس عليكِ إخس.
وضعت سهيلة يدها مكان ضربته بألم طفيف، ثم غمزته بمشاكسة: ومالو. نتصور كلنا تاني.
ذهبت ل يمنى ثم أخذت الهاتف منها بعد أن استأذنتها، وبعدها ذهبت ل نبيلة التي كانت تقف بجانب چيهان والدة رائد تُتابعهم بابتسامة طفيفة طالبة منها باحترام: ممكن يا طنط تصورينا بعد إذنك؟
أخذت منها نبيلة الهاتف بصدرٍ رحب، قائلة بسعادة: بس كدا؟ دا أنا عيوني ليكم.
ولكن قبل أي شيء، نادى قاسم على آلبرت الذي كان يُنجز مكالمة بالخارج، وبعد أن أتى بدأت الجميع بالوقوف محلهم.
ارتصت الفتيات في الأمام تتوسطهم أهلة بفستانها الأسود الحريري، وبالخلف ارتص الشباب كذلك، نظرًا لأنهم الأكثر طولًا منهم، ويتوسطهم قاسم الذي كان يرتدي قميصًا أسود مع بنطال من نفس اللون، وعلى جانبيه الشباب الذين يبتسمون بسعادة.
التقطت نبيلة الصورة لهم وكم كان مظهرهم مُهيب بحق، ورغم جمال الصورة؛ إلا أن روح الإتحاد كانت واضحة للعِيان.
تفرق الجميع من موضعه، بينما ذهب قاسم تجاه أَهِلَّة متشدقًا بإبتسامة طفيفة: مُبارك علينا.
أجابته أَهِلَّة بخفوت وهي تبتسم له: الله يبارك فيك.
إيه رأيك نخرج شوية؟
هكذا تسائل قاسم، لتظهر ملك من اللاشيء تهتف بحماسة: الله هنخرج؟ يلا يا ولاد أبيه قاسم هيخرجنا نتفسح.
صاحت بالأخيرة بصوت عالي وهي تُهلل، بينما عض قاسم على شفتيه بغيظ وضحكات أَهِلَّة تتعالى في المكان، استدار قاسم استعدادًا لتوبيخ تلك اللعينة ملك، لكنه وجد الجميع يُطالعونه بابتسامة بلهاء ينتظرون خروجته التي قالت عليها ملك، أثاروا غيظه وحنقه فصاح بهم بعصبية:
علي جثتي إن حد يخرج معانا.
بعد نصف ساعة تقريبًا. جلس الجميع على رمال الشاطيء ينظرون لمشهد الغروب الرائع، وهم يلتفون حول بعضهم على شكل دائرة واسعة، طالعهم قاسم بحنق، خاصةً تلك المُتسببة في كل تلك الفوضى التي حدثت منذ قليل، عندما اعترض الجميع على رأيه المُستبد فرضخ في النهاية إلى أخذهم معهم.
عدا چيهان ومحروس الذين فضلوا العودة للمنزل حيث لواحظ، و نبيلة التي فضلت المكوث في المنزل وتركهم يستمتعون وحدهم قليلًا.
كان بجانبهم وسائد وثيرة استأجروها يستندون عليها، أعدلت أَهلة الثوب الواسع المتكوم أسفل قدمها، لكنها شهقت بخفة عندما شعرت ب قاسم يقترب منها ببطئ غير ملحوظ هامسًا لها في أذنها بمشاكسة: الفستان سُكر يا سُكر.
صُدمت أهلة من قُربه ومغازلته لها بتلك الصراحة، خاصةً بأنه تبع حديثه بغمزة من عيناه التي ينبعث منها الوقاحة والعبث، وللحقيقة خجلت كثيرًا لعدم اعتيادها على مثل تلك المُعاكسات من الجِنس الآخر، وأخيرًا صعد صوتها خافتًا بحرج: تسلم ربنا يخليك.
كتم قاسم ضحكاته على انفعالات جسدها الواضحة لها، فأكمل عبثه وهو يتسائل ببرائة: اتعلمتي الرقص؟
ولثاني مرة تُصدم من جرأته، لذلك سألته تلقائيًا دون مُراوغة: قاسم هو أنت بقيت قليل الأدب كدا فجأة ولا أنت كنت كدا أصلًا؟
فكَّر قليلًا، وبعدها هز كتفه بجهل وهو يُجيبها: والله معرفش، أديني بكتشف نفسي معاكِ.
ابتعدت بجسدها قليلًا عنه بسبب اقترابه الشديد، وبعدها تشدقت مُحذرة بأعيُن حادة: طيب ابعد شوية بقى بدل ما أجيب اللي في بطني وأبوظلكم الليلة كلها.
تشنج وجهه باستنكار وهو يبتعد عنها عائدًا لمكانه مرة أخرى، ثم حدجها بطرف عينه وكأنه يتوعد لها أثناء تمتمته الحانقة: بت فصيلة ملكيش في الدلع والهشتكة.
استمع الجميع لصوت تصفيق عالي يأتي من جهة يحيى التي أردف بصوتٍ عالٍ: سيداتي سادتي برجاء الإنتباه قليلًا.
انتبه إليه الجميع بالفعل، عدا ذلك الصامت الذي يلتهم قدرًا كبيرًا من الطعام الذي قام بإبتياعه عند القدوم معهم، طالعه يحيى بحنق فجذب من أمامه الطبق الكبير المملوء بالمأكولات فجأة، رفع فور عينه بحدة تزامنًا مع صرخته العالية التي أفزعتهم: اللعنة عليك يا وغد، اجلب لي طعامي أيها السارق.
حدق به يحيى بعناد وهو يهز رأسه بنفي: لأ. أنت بقالك ساعة بتاكل، وكمان كلت هناك في بيت البنات، إيه مشبعتش؟
لم آكل من مال أبيك أيها اللعين، أريد طعامي.
صرخ به فور، ليظل يحيى على موقفه صائحًا بعناد أمامه: قولت لأ يعني لأ، واسمع بقى الكلمتين اللي عايز أقولهم.
كاد فور أن يذهب إليه ويُلقنه درسًا، لكنه توقف عندما تحدثت إليه سهيلة بلطف: خلاص يا فور هنشوف عايز إيه وبعد كدا كُل براحتك.
عاد فور لمجلسه مرة أخرى، راميًا بعض النظرات الحارقة إلى يحيى المُعاند له، ثم تشدق بهدوءٍ زائف: حسنًا. لأجلك فقط، لكن أُقسِم أن أُبرحه ضربًا بعد أن ينتهي من كل تلك التراهات التي تُبعدني عن طعامه العزيز.
ابتسمت له سهيلة بخفة وداخلها يُخبرها بأن تبتعد عن طريق فور، هو لا يصلُح لها بأي شكل من الأشكال، لكن هذا المُغفل الذي ينبض أقصى يسارها لا يهمه لا العادات ولا التقاليد، فقد بدأت تشعر بمشاعر تنمو تجاهه لتُحاول قتلها قبل أن تنبت أكثر.
حمحم يحيى ليجذب الإنتباه، ثم هتف بحماس كبير أثناء انتقاله على أوجه الجميع المُنتظرة حديثه بحماس: إيه رأيكم نلعب لعبة بما إننا اتجمعنا كلنا أخيرًا؟
طالعه الجميع بتعجب لا يفقهون أي شيء من حديثه، فأكمل هو حديثه مُوضحًا لهم أثناء إمساكه بأحد الوسائد التي كانت موضوعة بجانبه:
يعني مثلًا هنحط المخدة دي على وش واحد فينا لمدة دقيقة، واللي هيموت قبل ما الوقت يخلص هو اللي خسران.
فرغ الجميع فاههم ببلاهة من حديثه، بينما هو اتسعت ابتسامته أكثر وهو يُمسك بالوسادة جيدًا موجهًا إياها نحو وجه يمنى وهو يقول بحماس: ودلوقتي هبدأ ب يمنى.
انتفضت يمنى من مكانها مُبتعدة عنه وهي تصرخ به بعدم تصديق: أنتَ اتجننت يا يحيى ولا فيه حاجة في دماغك؟
طالعها يحيى بضيق واقفًا هو الآخر، ومازال مُمسكًا بالوسادة بين يديه: تعالي بقى ومتبقيش رخمة كدا، متبوظيش اللعبة.
عادت بظهرها للخلف وهو مازال يقترب منها قائلًا بعصبية: ما هو احنا هنلعب يعني هنلعب، واتفضلي تعالي يلا عشان نكمل لعب.
هرولت يمنى وهي تصرخ به: يا بني آدم أنت غبي!
هرول خلفها يحيى دون توقف مُناديًا إياها: يا يمنى، استني يا يمنى.
ابتعدوا عن مجلس الشباب تاركين الجميع يكادوا أن ينفجروا من كثرة الضحك، يحيى مُثيرًا للضحك حقًا، خاصةً مع تصرفاته المجنونة مع يمنى، أدمعت عين أهلة من كثرة الضحك وهي تُراقب أثر شقيقتها التي تُهرول بعيدًا عن هذا المجنون.
لاحظ قاسم انشغال الجميع بجنون يحيى ويمنى، فاستغل فرصته ووقف ساحبًا خلفه أهلة التي صُدمت من جذبه لها في الخفاء، بينما آلبرت غمز ل قاسم بمشاكسة والذي كان جالسًا بجانبه يُراقب ما يحدث بصمت، اتسعت ابتسامة قاسم بمشاكسة له، وأكمل جذبه ليد أهلة التي تشدقت مُستعجبة:
في إيه يا قاسم ما كنا قاعدين معاهم!
أجابها قاسم وهو مستمر في السير: مع مين! دول منهم لله دول.
ضحكت بخفة وهو شاركها في ذلك، وبعد عدة دقائق قليلة وصلوا إلى الوجهة المقصودة، مكانٌ مليء بالأنوار البيضاء يتخللها إضاءات حمراء، بالون كبير للغاية منقوش عليه اسمه، والكثير والكثير من الزينة اللامعة، مقعدين موضوعين أمام البحر مُباشرة يتوسطهما طاولة صغيرة مُزينة بالشموع الحمراء، وأخيرًا كعكة كبيرة موضوع عليها صورتها ومُزينة ببعض الفاكهة، وكل هذا يُحاط بستائر بيضاء شفافة رائعة.
نظرت أهلة للمظهر بإنبهار حقيقي، لم تكن تتخيل ولو بخيالها أن قاسم سيفعل هذا من أجلها، وما جعل المشهد أكثر جمالًا؛ هو تدلُل الشمس البُرتقالية في نية للغروب، وضعت كفها على قلبها وهي تضحك بعدم تصديق، وبتروٍ شديد اقتربت من الطاولة، لتجد أن تاريخ ميلادها مُزين على الكعكة الكبيرة، استدارت أهلة ل قاسم الذي يُراقب سعادتها بسعادة مُضاعفة، لتسأله بعدم تصديق:
دا علشاني أنا؟
أومأ لها بالإيجاب وهو يقترب منها، حتى توقف جانبها مُباشرةً، وبتلقائية لف ذراعه حول كتفها مُشيرًا تجاه الطاولة: عرفت من ملك إن عيد ميلادك هيبقى النهاردة، عشان كدا صممت إن كتب كتابنا يكون مع يوم ميلادك، عجبتك الهدية؟
سألها وهو ينظر لعيناها البُنية التي اختلطت مع أشعة الشمس الغاربة بتدلل، لتكون عيناها هي أكثر لوحة فنية جميلة مُميزة رآها في حياته، خاصةً بعد أن أُحيطت بكحل عينها الذي جعلها أكثر رونقًا وجاذبية.
لم تستطع أهلة إجابته، بل شعرت بقلبها يكاد أن ينفجر في محله، وضعت يدها عليه تضغط على موضعه، لا تعلم أهو يضخ بألم أم بسعادة! لم تُجرب ذلك الإحساس من قبل طيلة حياتها، هي لم تتذوق سوى الخوف! وهو أعطاها السعادة.
كان مازال يُحيط كتفها بذراعه، وبدون وعي استند بجبينه على خاصتها متأوهًا بخفة: يخربيت عينيكِ.
ارتعش جسدها بمشاعر هوجاء أصابت فؤادها، وللعجب لم تشمئز من قُربه! بل فاز وجدانها تلك المرة وألهاها عن إقترابه المُبالغ فيه، أغمضت عيناها هي الأخرى، لا تعلم ما بها؟ لم يكن هذا اتفاقهم منذ البداية، تلك الأشياء لم تكن بالحُسبان، هي تخاف أن تُخذل بعد الإعتياد، وهو يخاف الإبتعاد بعد الإنتهاء، وبين هذا وذاك؛ يوجد فؤادهم الذي يصرخ بإنهاك.
حاول السيطرة على ذاته مُتذكرًا أمر الطبيب النفسي الذي قام بمهاتفته بمساعدة آلبرت، والذي أخبره بأن أول خطوة لنجاح العلاج النفسي يكون بموافقة المريض لا بإجباره، وهو سيفعل أي شيء حتى تُسلمه مفاتيح أمانها، ويبدو أن السِحر سينقلب على الساحر، ليس بسببها هي؛ لكن بسبب عيناها، هاتان البلورتان اللاتي تُقسمان على جذبه، وهو يسير خلفها كالمُغيب.
ابتعد عنها بعدما أجبر ذاته على الإبتعاد، ثم سحب لها المقعد الأبيض لتجلس هي عليه أثناء تنفسها العنيف، وهو الآخر جلس أمامها مُستندًا بذراعه على الطاولة، قائلًا بإبتسامة خلابة: كل سنة وأنتِ طيبة يا هولا.
إن قالت أنها تود البُكاء لن تكذب، ولولا كتمانها الذي يمنعها كن ذلك؛ لكانت انفجرت باكية، فذلك اليوم هو من أفضل الأيام التي مرت عليها منذ 13 عام، ظلت طيلة حياتها تُعاني، وهو ببضعة كلمات ضمد جروح فؤادها، بل وأدخل مشاعر جديدة به، رفعت أنظارها له تُطالعه بنظرات مُلتمعة، وبعدها خرج صوتها المُتحشرج:.
أنا. أنا مش عارفة أقولك إيه يا قاسم، أنت بتحاول تعمل أكتر حاجة تسعدني، وأنا والله ما عارفة أردلك اللي أنت بتعمله دا إزاي.
وها هي أول الخطوط تُرمى في ملعبه، وبهدوء مد يده ليُمسك بكفها الصغير قائلًا: أنا مش عايز منك أي حاجة يا أهلة، كل اللي أنا عايزه إنك تتعالجي وترجعي تمارسي حياتك طبيعية من تاني.
ظن أنها ستثور كما حدث المرة الماضية، لكنها أجابته بضعف ولأول مرة تُظهره أمامه: مش عايزة. مش عايزة أتعالج دلوقتي. علاجي صعب ولو بدأته قبل ما أخلص انتقامي هتلهي فيه ومش هركز في حاجة. أنا أكتر واحدة عايزة أتعالج بس مش وقته.
شدد من ضغطه حول يدها وهو ينصحها قائلًا: لو فضلنا ساجنين نفسنا في دايرة الماضي ممكن نموت بقهرتنا.
تشكل القهر داخل عيناها وهي تُجيبه بسخرية: وأنا مموتش! دا أنا بموت في اليوم 100 مرة وأنا مش عارفة أمارس أبسط حقوقي، مش عارفة أحضن أخواتي عشان بتقرف منهم ومن لمستهم، مش عارفة أحضن أمي وأنام في حضنها، حتى مش بعرف أعيط على حياتي المتدمرة، أنا فعلًا اتسجنت بس مش في دايرة الماضي، أنا اتسجنت في قوقعة مش هعرف أخرج منها أبدًا، أنا كل يوم وكل ساعة وكل ثانية بعاني ومحدش حاسس بيا، بس بتحمل وبقول لازم أكمِّل.
أنهت حديثها وهي تضغط على جفنيها بقوة، تُحاول أن تبعد تلك المشاهد التي تتراقص أمامها الآن عن عيناها، لاحظ قاسم إنفعالاتها العنيفة، فوقف وسحبها له ضاممًا إياها لصدره بقوة، أخفض شفتيه لأُذنها هامسًا لها بخفوت:
هعمل كل حاجة عشان أخفف جرحك، حتى لو الألم هينتقل لجسمي أنا.
بينما هي كانت في عالم آخر، سحابة سوداء مُعبقة بالمآسي والآلام، وأصوت مُتداخلة يتكرر صداها داخل أُذنها، وبدون وعي كانت تُشدد من إمساكها بقميصه من الخلف، تُقربه منها وكأنها تستنجد به لإنقاذها من غمامتها.
متخافيش مني وتعالي معايا هجيبلك شيكولاتة.
تعالي نطلع فوق أوريكِ حاجة حلوة.
مالِك خايفة مني ليه مش أنتِ بتحبيني زي ما أنا بحبك؟
هاتي بوسة واحدة لعمو وبعدين هسيبك تمشي.
والكثير والكثير من المشاهد التي ركضت داخل ذهنها وهي كانت تهز رأسها بعنف أثناء إحتضانها له، تعجب قاسم في البداية من مُبادلتها العناق لكنه لم يُعقب، لكن حينما شددت أكثر من إحاطتها له بطريقة مُخيفة؛ تسلل القلق لفؤاده، حاول إبعادها عنه لكنها لم تكن تستجيب، مما زاد من جرعة الهلع داخل فؤاده، أبعدها رغمًا عنها ثم ضرب على وجهها بضربات خفيفة وهو يُناديها بإسمها، كان جسدها يرتعش بطريقة مُرعبة، وأظافرها تُغرز بقوة داخل لحم كفها.
ومن بين ذكرياتها استمعت لصوته يُنادي عليها بخفوت، لتُحاول التشبث بمصدر الصوت وتسير خلفه علَّها تنجو، وبالفعل بعد مُحاولات عديدة استفاقت وهي تشهق بعنف، تلاه تقيؤها القوي على الأرض الرملية الكثيفة، لقد عاد لها وسواسها القهري وبقوة مع تذكرها لماضيها، كان هو يقف جانبها ينحني بجسده قليلًا لرؤية وجهها، وهي كانت تُحاول إبعاده حتى لا يراها بهذا المظهر المُثير للإشمئزاز، لكنه لم يُفكر في الإبتعاد ولو لثانية واحدة، حتى إنه كان يجذب أطراف فستانها حتى لا يتلوث، وباليد الأخرى يُربت على ظهرها بربتات خفيفة لتهدأتها.
وأخيرًا انتهت وهي تتنفس بعنف، وبخفة جذبها بعيدًا قليلًا عن مصدر تقيؤها، سارت بضعة خطوات ولم تتحمل قدمها حملها أكثر، لترتمي على الرمال بإنهاك وهو أسندها جالسًا بجانبها، شعرت بالدوار يعصف برأسها، وظهر هذا واضحًا على حركة عينها العنيفة، لذلك سحب رأسها لأحضانها لتستند عليه، وأخرج منديلًا من جيب بنطاله لينظف به فمها، وهي كانت مُستسلمة تمامًا، اليوم شهد على مُعاناتها التي تُخفيها خلف قناع قوتها الواهية، رمى المنديل بعيدًا وبعدها مسَّد على جانب وجهها بيده، ومن الحين للآخر كان يُقبِّل جبينها عندما يشعر بأنها على وشك الإنفعال مجددًا.
استمع لهمسة خافتة منها وهي تقول بشرود: أنا أسفة.
شدد من تقريبها له هامسًا لها: فداكِ. فداكِ أي حاجة بس أنتِ تكوني كويسة.
ابتلعت ريقها بصعوبة مُغمصة عينها بإرهاق، وبعد عشر دقائق أخرى من الصمت والسكون تسائل: بقيتي أحسن؟
ابتعدت عنه ناظرة لها، ثم أومأت له مُبتسمة: آه الحمد لله.
تحدث بسعادة بعد أن غمز لها بمشاكسة: حيث كدا بقى نكمل سهرتنا وناكل تورتتنا وتبقى ليلة متتنسيش العمر كله.
اتسعت ابتسامتها أكثر، فوقف هو أولًا وأسندها لتقف معه، ثم اتجه معها ناحية الطاولة مرة أخرى، وتلك المرة بعد أن حلَّ الليل ولم يتبقى سوى إضاءة الأنوار التي قام بتجهيزها فقط لأجلها!
أهو أنت اللي جرو وستين جرو.
هتفت بها مهرائيل التي كانت تقف خلف فور عندما لكمه آلبرت بعنف على وجهه، لطم فور على وجهه وهو يُحاول إبعادها عنه:
اللعنة عليكِ سيقتلني إن لم تبتعدي عني.
تشبثت مهرائيل أكثر في ثيابه من الخلف، وهي تصرخ به: أومال عايزه يقتلني أنا؟ على الأقل أنت أخوه ومش هيعملك حاجة.
وما إن انتهت من حديثها؛ حتى صرخ كليهما عندما مرت الرصاصة من جانبهما مُباشرةً، مما أدى إلى صراخ فور بها أكثر: مَن اللعين الذي قال لكِ هذا؟ فلتبتعدي عني أيتها الجرو.
دفعته مهرائيل عنها بعنف، مما أدى إلى وقوعه بين أحضان آلبرت الذي نظر إليه بغل، ابتسم فور ببلاهة وهو يسأله بغباء: كيف حالك يا أخي؟
أمسكه آلبرت من تلابيبه يهزه بعنف وهو يصرخ به: أُقسِم أن أجعلك تبكي دمًا على فعلته فور فلتنتظر قليلًا فقط.
قالها ثم ذهب خلف تلك الحمقاء التي أثارت عصبيته بأحاديثها المُتسببة بإنفعاله، أقسم بأن يُريها تلك الحمقاء.
وقريبًا منهم. كان رائد يضع الوسادة فوق وجه ملك حتى كاد أن يخنقها بالفعل، دفعته بقدمها عنه بقوة آلامته، ثم استندت بركبتيها بجانب جسده المُتمدد على الرمال جاذبة لخصلاته بحقد، مما جعل صراخه يعلو في الأرجاء.
وعلى بُعدٍ قريبٍ منهم. تقف يمنى التي تُوبخ يحيى على أفعاله الحمقاء التي كادت أن تقتلها.
وبجانبهم جون الذي يُحاول مُصالحة لوسيندا بعدما رمت سهيلة بعض الكلمات عن ماضي جون قبل معرفتها، حينها ثارت ثورتها وأعلنت الحرب عليه وعلى خيانته، وكالعادة تسللت سهيلة من بينهم بريبة بعدما ظنت بأنها قالت ما لا يُحمد عُقباه!
وبعيدًا قليلًا، كان صهيب جالسًا على الرمال وبجانبه حبيبة التي تتكوم داخل أحضانه كما اعتادت الفترة الأخيرة، تسائل صهيب مرة أخرى بإلحاح: برضه مش عايزة تقولي كنتِ معيطة ليه؟
بررت له وهي تتحدث بخفوت: والله كان سوء تفاهم مش أكتر.
رد عليها بعناد: وأنا عايز أعرف سوء التفاهم دا يا بسكوتة.
تنهدت بإنهاك ويأس من عناده، ثم بدأت بقص كل ما حدث معها وسبب بكاؤها حين جلوسها مع الفتيات، بينما هو كان يستمع بإنصات وإهتمام حتى انتهت تمامًا، انتظرت حديثه أو حتى تعقيبه على حديثها لكنه لم يفعل، حتى لم يهز رأسه ولو لثانية واحدة!
دسَّها أكثر داخل أحضانه وكأنه يحميها من برودة الجو، وبعدها سألها بهدوء: وأنتِ حسيتي بإيه مع البنات؟
مطت شفتيها قليلًا بتفكير، وبعد ثوانٍ معدودة أجابته بهدوء: بصراحة هما لُطاف وأنا حبيتهم، بس أخاف أقرب منهم يخذلوني زي ما بيحصل معايا دايمًا.
قبَّل صهيب خصلاتها الملساء قائلًا بعاطفة جياشة: حتى لو الكل استغنى عنك وبعدوا، أنا لا يمكن أعمل كدا، خليكِ متأكدة إنك روحي يا حبيبة، ومحدش بيقدر يعيش من غير روحه.
رفعت حبيبة أنظارها له تُطالعه بإمتنان، وكعادتها لم تجد ما تقوله سوى أنها دفنت في وجهها في عنقه تتمسح به كالهرة التي وجدت مأواها، ابتسم صهيب على حركتها العفوية وشدد من إحاطتها أثناء إغماضه لعينه بأمان في حضرتها، وكل ما يجول بخاطره الآن أنه لم يتبقى سوى بضعة أيام قليلة ليبدأ في رحلة علاجها عند وصولهم لروسيا.
يا يمنى استني يا يمنى؟ يابت متبقيش قماصة كدا؟
لم تُجيبه بل أكملت سيرها بعيدًا عنه بغضب، هرول حتى قطع عليها الطريق مما جعلها تصرخ في وجهه بنفاذ صبر: يا يحيى ابعد عني ومتعصبنيش أكتر من كدا.
كاد أن يُبرر لها بأنها كان يمزح؛ لكنها قاطعت حديثه قائلة بغضب ممزوج بالقسوة: بلاش الحركات دي عشان تجذب انتباهي، أنا مش ليك وعمري ما فكرت فيك بالطريقة اللي أنت عايزني أكون معاك بيها.
تصنم محله ناظرًا لها بدهشة وعدم تصديق، فأكملت هي بقسوة أشد: طول الوقت بتفضل تعمل تصرفات زي العيال الصغيرة ودا مش بيخليني غير إني أتقفل منك أكتر، أنا مش بحبك ومش هحبك، مش شايفة نفسي معاك، متحاولش تجبرني أحس تجاهك بمشاعر أنا مش عايزاها.
قالت كل حديثها دُفعةً واحدة قبل أن تصمت وهي تتنفس بعنف، لقد قالت كل ما خطر على بالها دون أن تعي ما فعلته به، لقد حطمت فؤادته إلى فُتاتٍ صغيرة، داست على قلبه بكل جحود ولم تُعطي له ولا لمشاعره أي إهتمام، ابتلع ريقه بصعوبة شعر به وكأنه يبتلع جمرات من قسوتها، حاول تمالك أعصابه المُنتهكة وأجابها بإبتسامة مهزوزة:.
للدرجادي شايفاني بالبشاعة دي! وبعدين مين قالك إني بعمل كدا عشان ألفت إنتباهك؟ أنا كنت شايفك صديقة عزيزة عليا مش أكتر، ودلوقتي اعتبري نفسك بالنسبالي ولا حاجة، عن إذنك.
والتفت تاركًا روحه تتعلق بفؤادها، تصرخ به بألا يتركها، يكفيه بأني تُنادي اسمه لتعتذر عما قالته دون قصد، حينها سيعود ويسحقها بين أحضانه، هو يعشقها وليس بإرادته، لكنها حطمت كل أحلامه فوق رأسه بكلماتها السامة تلك، وكأنه حقًا كان دُمية يتعلق بها! حسنًا يحيى. أنت وحيد وستظل وحيدًا للأبد، حتى الفتاة التي أحببتها قد رفضتك للتو!
طالعت يمنى أثره بنظرات جامدة، ثوانٍ وهبطت دموعها بعنف كما لم تهبط من قبل، تريد الهرولة له والإرتماء بين أحضانه، لا تعلم كيف تسلل حبه لقلبها دون أن تشعر، كل ما تعلمه بأنها وقعت في فخه، قلبها الذي يصرخ بها الآن أن تذهب خلفه، وعقلها يمنعها من ذلك لإستكمال خطتها التي بدأت بها.
هرولت خلفه عدة خطوات، لكنها توقفت فجأة، ليست مُستعدة بخسارته، هي الآن ستخُط بيدها خطوتها القادمة والأكثر خطورة، إن علم بها شيئًا لن يتركها وهي ليست على إستعداد بخسارته.
ومع الصراع الصاخب بين قلبها وعقلها رضخت بالنهاية لقلبها، فاستكلمت ركضها خلفه حتى وصلت إليه، تصنم هو محله عندما شعر بها تحتضنه من الخلف، تُحيط بخصره وتكتم شهقاتها العنيفة بظهره، ارتعش جسده كاملًا وهو يشعر بها تبكي، أغمض عينه بألم وهبطت دمعاته التي كانت يحبسها داخل مقلتاه بصعوبة، حررها بعدما شعر بها جوار قلبه.
مشهدًا يظهر للبعيد بأنه رومانسيًا جميلًا، لا يعلمون شيئًا عن ذلك الصخب الصامت الدائر بين فؤاديهما، استدار لها يحيى وبدون أي حديث أو عتاب سحبها لأحضانه، بكت وبكى معها، وكأن شهقاتها العنيفة تُخبره بأسفها، وهو يدفن وجهه في عنقها يُعاتبها بصمت استشعرته في بكاؤه.
وهُنا ضرب إنذار الخطر في عقلها، لتبتعد عنه فجأة كما لو أنها لُدغت من أفعى سامة، هزت رأسها عدة مرات قائلة بخوف ومازالت تعود بظهرها للخلف: مينفعش. مينفعش.
كان يحيى يُطالعها بغرابة، كما لو أنه شعر بأن ما حدث منذ قليل لم يكن سوى حُلم، وتلك المرة هرولت يمنى بعيدًا عنه، هرولت دون حتى أن تنظر خلفها حتى لا تضعف مُجددًا، وهو تركها. تركها ونظر لأثرها بصمت ولم يُوقفها، بل طالع ذهابها بشرود.
عاد الجميع لمنزله، حيث ودَّع الفتيات شقيقتهم ببكاء، بعدما اقتصر الزواج على عقد قِرانهم فقط طلبًا وإلحاحًا من أهلة على الجميع، احتضنتها ملك بقوة وهي تُغمض عينيها لتكتم دموعها، لكن رغمًا عنها هبطت بعدما وعت بأنها ستستيقظ وشقيقتها ليست بالمنزل!
هدهدتها أهلة عدة دقائق، تحملت بكاؤها داخل أحضانها، وكم ستشعر بالخواء بعيدٍ عن شقيقاتها! هدأت ملك وجاء دور يمنى التي احتضنتها هي الأخرى بعنف، لكنها لم تبكي، لقد اكتفت اليوم.
كان جميع الشباب قد دلفوا للداخل، و رائد ذهب لمنزله للإطمئنان على شقيقته ووالديه وجدته، بينما كان يحيى هو الواقف الوحيد بجانب قاسم، بعدما ودَّعهم صهيب بعد أن اطمئن على والدته النائمة واحتضانه لشقيقه مُودعًا إياه، كان يحيى يقف جامدًا لا يظهر على وجهه شيء على عكس عادته، ليقترب منه قاسم قليلًا يسأله بريبة وصوت خفيض: أنت كويس؟
نظر له يحيى مُومئًا بصمت، وبعد أن أنهى الفتيات فقرتهم الوداعية، صعدوا للسيارة مع يحيى حتى يوصلهم للمنزل، وطوال الطريق لم ينطق أيًا منهم بكلمةٍ واحدة.
دلف رائد لمنزله بعدما سبقته سهيلة أولًا لترتاح قليلًا، فوجد الجميع يجلسون بالصالون وعلى وجههم يرتسم الخوف والقلق، قطب رائد جبينه بتعجب مُتسائلًا: مالكم قاعدين كدا ليه؟
هب محروس من مكانه متشدقًا بهلع: ستك طفشت وسابت البيت عشان مش موافقين على العريس.
صُدم رائد من حديثه وظن بأنها تمزح، لكن دمعات والدته وشقيقته أكدت له صحة حديث والده، لذلك تشدق بهدوء نسبي وهو يُسرع للخارج: أنا هروح هدوَّر عليها ومش راجع غير بيها.
استنى هاجي معاك.
أوقفه رائد على عجالة قائلًا: لأ خليك أنت يا بابا أنت تعبان.
أسرع رائد بخطواته للخارج، ثم انطلق مُهرولًا لسيارته ليُسرع بها على الطريق باحثًا عن جدته المُراهقة.
مرت نصف ساعة ونفس النتيجة لم يجد شيء، وبعد بحثه عنها على الطرقات لمدة ساعة أخرى، لمح شيء ما على بُعدٍ منه، ابتلع ريقه بقلق من تحقق نبوئته، ورغم ريبته إلا أنه قام بركن السيارة على جانب الطريق ثم انطلق سيرًا إلى وجهته.
توقف رائد أمام هذا المبنى المليء بالأنوار الكثيرة والألوان المختلفة، إنه ملهى ليلي!
همس رائد لذاته بريبة هامسًا بتمنى: إن شاء الله يكون كل اللي شوفته تهيؤات مش أكتر.
دلف للداخل بخُطى رتيبة مُقررًا مع نفسه بأنه سيبحث عن جدته وسيرحل فورًا، هو أتى هنا فقط عندما لمح ظلها بمظهر غريب، من المؤكد بأنها ليست هي، هي...
قطع تفكيره وهو يشهق بعنف ضاربًا على صدره بصدمة، وذلك عندما وجد جدته ترقص على المسرح أمام الجميع وهي تُردد بحزن خلف المُغني: سألت كل المجروحين، إيه اللي جرحكم كدا، قالولي طيبة قلبنا...
لطم رائد على وجهه وهو يكاد يبكي، فهمس لذاته بعدم تصديق: يا سوادي على شرفك يابويا اللي اتمرمغ في التراب!
قال جملته ثم هرول تجاهها بعدما سحب أحد المفارش التي تُغطي الطاولات، صاعدًا للمسرح مُغطيًا ذراعيها المُجعدين اللذان يظهران أسفل بدلة رقصها المُحتشمة. قليلًا.
سحبها خلفه بدون حديث وشياطين الجن والإنس تتراقص أمام عينيه الآن، لكنه شعر بشيء يعوقه حركته، نظر خلفه فوجد مُنظم المكان يُمسِك بيد لواحظ وهو يتسائل بتعجب: راحة فين يا لولو؟
لولو؟
رددها رائد بتشنج، ولم ينتظر لثانية واحدة أخرى فسدد لكمة قوية تجاه ذلك الواقف أمامه، ثم سحب جدته خلفه للسيارة.
الساعة تدق الثانية عشر ليلًا، وها هي تخطو داخل مقر عمل عائلة مهران، تلك العائلة التي أقسمت على تدميرها مثلما دمروها ودمروا طفولتها الجميلة مع أبيها، دلفت يمنى للداخل بحذر، وهدفها في الإنتقام يكبر أكثر فأكثر، حتى توقفت أمام مكتب ذلك اللعين.
سحبت نفسًا عميقًا وببطئ فتحت باب مكتبه حتى لا تصدر أي ضجيج، لكن فوهة المسدس التي وُجِهَت لرأسها جعلتها تتصنم في محلها!