قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية حارة القناص الجزء الأول للكاتبة شروق حسن الفصل العاشر

رواية حارة القناص الجزء الأول للكاتبة شروق حسن الفصل العاشر

رواية حارة القناص الجزء الأول للكاتبة شروق حسن الفصل العاشر

أبشع صديق للإنسان هو الذكريات، تشعر بأنك داخل متاهة من الآلام التي تقبض على أنفاسك غايتها هلاكك، ذلك الثُقل الجاثم يسار صدرك يُنبهك بأنها النهاية، لكنها لم تكن سوى نهاية السعادة وبداية الأوجاع، تتقاذف المشاهد أمام عيناك كعدوك اللدود لتُزيد من إشعال صدرك بنار الهجر والفُراق، فتزداد لوعةً وشوقًا وأنت مُكبل، عاجز، وحزين!

لا يعلم ما حدث بعد أن أخبرهم الطبيب بتلك الفاجعة التي حلت على رؤسهم، لا يتذكر سوى وقوع والده من الصدمة فاقدًا للوعي، وبعدها فقده هو الآخر بذاتِ اليوم! بعد أن تعرَّض لذبحة صدرية أدت إلى وفاته، ليبقى هو شريدًا، وحيدًا، بلا طعام، وبلا مأوى، فقط جالسًا جانب قبر والده وشقيقة يبكي بلوعة، احترق قلبه الصغير بالفراق مُتألمًا، فبات كاللقيط في دنيا فانية هي من حقه في الأساس!

عاد من شروده شاعرًا بدمعاته الساخنة تهبط على وجهه الصلب، مضى عدة سنوات ويتذكر ما حدث كأنه حدث أمس، يشعر بنفس الألم، وبنفس الصدمة، مظهر والده وشقيقه وأجسادهم تحتضن التراب لا يذهب عن باله، مظهره وهو يسير بثياب بالية مُشعثة باكيًا في الطريق مُثبتًا بذاكرته، كل هذا لم يذهب عنه ولو يومًا واحدًا.

تلك الجملة التي ترددت صداها في أُذناه عندما قرر العودة لوالدته بالمشفى كانت ومازالت تُصيبه بالصدمة، عندما استمع لصوت الطبيب الذي أبلغهم بالخبر يقول لمدير المشفى:
آه يا دكتور اتأكدت إنهم من عيلة فقيرة وملهمش حد، الولد الصغير كانت صحته أحسن من الكبير فخدنا منه الكِلية اللي في الشمال واستأصلنا جزء من الكبد، عملنا دا مع والدته بس للأسف مستحملتش ودخلت في غيبوبة عشان جسمها كان ضعيف.

وضع كفه على صدره يُدلكه عندما شعر بحاجته للهواء، انحنى على كف والدته ليُقبله، لم يبقى له شيء سوى هي، حتى وإن كانت مريضة لا تسمعه، يكفي وجودها وأنفاسها التي تُشبه المِسك التي تُحيطه.

استند برأسه على كتفها وصوت بكاؤه الصارخ بإسم شقيقه الأصغر يتردد صداه في أذنه، هل يستحق كل هذا الألم؟ هل يستحق كل تلك المعاناة؟ كان يرغب بوجود عائلة تحميه وتؤانسه فقط، لكن سلبوا منه هذا الحق دون شفقة أيضًا، والده، والدته، شقيقه، في ليلة واحدة! ليلة قلبت كل الموازين لتجعله جاحدًا قاسيًا من صغره.

أخذه صديق أبيه الذي تكفل بمصاريف علاج والدته، علَّمه، واعتنى به، وأعطى له الكثير من الإهتمام والحنان، لكن هو كان فقط جسد بلا روح، يتنفس من أجل العيش ويظل على قيد الحياة، حينها أخذ عهدًا على نفسه ليُصبح طبيبًا ويُعالج والدته، ورغم صِغره سنه وبرائته؛ إلا أنه أقسم بشر لا ينبع من طفل صغير أن ينتقم ويقتلهم جميعًا، لكن بعد أن يُذيقهم من العذاب ألوانًا.

وبعد سنوات كثيرة مضت كان هو التحق بكلية الطب كما تمنى، لكن ليس حبًا بها أو شغفًا تجاهها، بل من أجل الإنتقام والثأر، كان يبذل أقصى ما لديه ليُصبح طبيبًا ذو سُمعة طيبة، وبالفعل وصل، ومع وصوله تزداد حالة والدته سوءً، عندما تستيقط وتسأل عن والده وشقيقه ولا تجدهم مُتذكرة الحقيقة البشعة، تُصاب بإنهيار عصبي حاد وشديد.

لقد قضت خمس سنوات معه كانت بها مُستيقظة، عقلها الباطن يُصور لها سفرهم رغم عدم إقتناعها، حتى جاء اليوم الذي صرخ فيه قاسم باكيًا من حالتها التي تزداد سوءًا وأوصلتها للجنون:
فوقي بقى حرام عليكِ، هما ماتوا سمعاني! ماتوا ومش هيرجعوا تاني، كفايا عذاب فيا لحد كدا، كفايا وجع أنا مبقتش قادر أستحمل.
كان مُخطئًا عندما واجهها بالحقيقة، الحقيقة التي تعملها وتُكذِبها من الأساس!

انهارت حينها وظلت تصرخ بانهيار إلا أن ازدادت حالتها سوءًا، ودخلت في غيبوبة مدتها ثماني أعوام!
نادرًا ما تستيقظ عندما تستمع لبكاء ابنها وكأنها تُطمئنه على حالتها وبذاتِ الوقت تروي شوقها منه، ثم تنام مُجددًا، وتتركه ينكوي بالعذاب الذي كُتِب عليه دون محض إرداته.
اعتدل ماسحًا دمعاته الحارقة من على وجهه ناظرًا لمحياها برجاء شديد، هو طفل ويُريدها، حُرِم منها ويبغاها، وهو محروم!

ابتسم بخفة عندما تذكر إلحاحها عليه هي وأبيه للغناء، كان صوته عذبًا جميلًا في طفولته، والآن صوته أصبح باهتًا رغم جماله، أغمض عينيه مُرددًا كلمات الأغنية التي زادت من وجعه وآلامه:
فأچبني بربك أنقذني، تسمعُني ولستَ تُكلمني،
فأجبني بربك أنقذني، تسمعني ولست تُكلمني،
يا روحه ما هكذا كنتِ، تشتاقُكِ أروقةُ البيتِ، هل سبق وأن شاقَ أحدهم لملاكِ غابَ ولم يأتي؟

انتهى شاهقًا ببكاء حاد وكأن تلك الكلمات كانت تشبه السكاكين التي تُغرَز داخل صدره تضرب به بلا رحمة، ظل يبكي كثيرًا دون الشعور بمن حوله، هو إنسان وطاقته في التحمل قد نفذت، ذلك الشعور الذي يقبض فوق عنقه يخنقه، هو مُتألم، ذُبِحَ بسكين تالمة جعلته يعيش كالموتى، وهو لا يفعل شيئًا سوى المُجازفة.

وككل مرة يبكي بها ويصل لذروته من الحزن؛ شعر بأصابع والدته توضع بوهن على رأسه، وتلك المرة لم يرفع رأسه لينظر لها، لم يقوى على مقابلتها ورؤية تلك النظرة التي تُصيبه في مقتل، وكأنها نظرة عتاب ممزوجة بالألم، وهو ضعيف، هَش للغاية عكس ما يُظهِره للآخرون.

سمع همسها الخافت يُناديه بوهن، فابتلع ريقه بصعوبة رافعًا وجهه المُمتليء بالدموع لها، رآها تُحدجه بابتسامة طفيفة فتحدث برجاء باكٍ: خليكِ معايا، متناميش تاني.
هزت رأسها بتعب توميء له بالإيجاب، ففتحت ذراعها له ثم قالت بضعف: تعالى في حضني يا حبيبي.

وهو أشد المُحتاجين لذلك العناق، لذلك دون تفكير ارتمى بجسده عليها يُحيط خصرها بقوة، بينما هي مُحتضنة رأسها تُربت عليه بحنان، هو فعل الكثير من أجلها وهي تشهد، وما أعاد لها جزء من صحتها المهدورة هي مُفاجئته لها ليلة أول أمس، حينها شعرت بروحها تعود لها مرة أخرى، شعرت بالإمتنان تجاهه، لذلك قررت مقاومة مرضها، ورغم آلام جانبها التي تشتد عليها من الحين للآخر؛ قررت المحاولة مرة أخرى من أجله.

يكفي هربًا، لقد احتجزت ذاتها داخل قوقعة من الحزن لمدة 15 عامًا، منهم سبعة أعوام كانت تعيش بهم على أوهام كانت ترسمها هي، والأعوام المُتبقية دخلت بغيبوبة بإرادتها للهرب.
كانت تسأل ذاتها كثيرًا.
ألا يستحق قاسم المحاولة!
ألا يستحق الحنان!
وهنا أقسمت على التحمل، يكفي هربًا، ستُواجه العالم مع أبنائها!

مررت يدها على خصلاته بهدوء شاعرة بإنفعالات جسده، خرج صوتها مبحوحًا أثر صمتها الطويل وهي تسأله: عامل إيه يا حبيبي؟
انتظرت قليلًا ولم تسمع إجابة منه، خرج صوته بعد قليل يطلب منها برجاء: عايز أنام.
حاولت الإعتدال وأن تُفسح مكانًا له لينام بجانبها، لكنها تأوهت بخفة عند شعرت بألم يشتد بجانبها الأيسر، انتفض من مكانه بفزع سائلًا إياها بخوف: مالِك يا ماما حاسة بإيه؟

هزت رأسه بلا شيء تحاول مُقاومة تلك الهالة السوداء التي تدعوها للنوم مجددًا، خرج صوتها ضعيفًا وهي تدعوه بحنان شديد: تعالى نام جنبي، أنت وحشتني.

ولأول مرة منذ فترة طويلة يبتسم من قلبه، هبط من على الفراش الصغير مُلتفًا للناحية الأخرى، ثم انحنى قليلًا للأسفل عدة ثواني، وبعدها اعتدل يجذب الفراش ليصير أكبر بكثير مما هو عليه، صعد بجانبها ورفع الغطاء واضعًا إياه فوق جسديهما ثم نام على ذراعها الذي فتحته له تدعوه للنوم، وشعر بالراحة!

شعر بالراحة التي كان يفتقدها لمدة طويلة، وهي أيضًا أحست ببعض الراحة، وتلك المرة استسلمت لغيبوبتها المؤقتة وهو شعر بها، ورغم حزنه إلا أنه سعيد للغاية بتحسنها الملحوظ، وتلك المرة ذهبا كلاهما في نومٍ عميق، هي تحتضن رأسه، وهو محتضن خصرها كالطفل الصغير، مشهد يتكرر قليلًا في زمننا هذا ولكنه مؤثر.

جرجوني وقفلوا الأجزخانات. لا قالولي ازيك ولا سلامات. جرحوني في قلباي، آه يا قلباي.
خرج له رجل من النافذة يصرخ به بغضب: يا أستاذ عايزين نتخمد يا أستاذ جك وجع في قلبك هي ناقصة قرف!
رفع رائد رأسه ينظر له حيث يتحدث، فأشاح بيده بنفاذ صبر وغضب بما فعله قاسم معه وتركه في منكقة صحراوية لا يسير بها المارة إلا نادرًا: ادخل نام يا حَج الله يسترك مش عايز وجع دماغ.

ظن أن الرجل سيصمت، لكنه صرخ بعلو صوته به وهو يسبه بأبشع الشتائم والألفاظ دون خجل، مما جعل الدماء تصعد لرأس رائد غضبًا فصاح به بوقاحة تليق به: تصدق إنك راجل قليل الأدب! ولو متلمتش أنا هطلع أعرفك مقامك يا راجل يا كركوبة أنت.
تعرَّف مين يا كابتن؟
صوت غليظ أتى من خلفه مما جعله يستدير ليرى المتحدث، لكن لم يرى سوى صدرًا عريضًا تُخفي الرؤية عن عيناه.

رفع أنظاره للأعلى فوجد رجلًا يفوقه طولًا وجُسمانًا، لديه شارب عريض يصل لعيناه تقريبًا، ابتلع رائد لُعابه بقلق وازداد عندما قرر الرجل حديثه بغلظة أكبر: مردتش على السؤال يعني، هتعرَّف مين ياض؟
قال الأخيرة تزامنًا مع إمساكه من ياقة قميصه يهزه بقوة شعر من خلالها بالدوار، ابتسم رائد ببلاهة ظنًا منه أنه سيكتسب وده، ثم شكى له بتزعزع: يعني يرضيك يشتمني بأمي وبأهلي كلهم يا سيد الرجالة؟

أجابه الآخر بغلظة وهو يهزه مرة أخرى: آه يرضيني. حد ليك شوق في حاجة؟
توتر رائد من هيئته فربت على صدره ببطئ يُرضيه مُبررًا له: وأنا كمان يرضيني يا معلم، المهم أنت متزعلش نفسك بس.
دفعه الآخر بعيدًا ماسحًا على شواربه بعنهجية واضحة، ثم أمره بصرامة واضحة وتحذير: طب غور من هنا يا حيلتها ومتجيش هنا تاني بدل ما أكسرلك رجلك الحلوة دي.

طالعه رائد بضجر ثم استدار ليذهب عكس تجاهه، ولكن قبل أن يذهب سدد نظرة نارية للرجل الواقف بشرفته متوعدًا إياه بعينه، وحقًا سيُريه.
استمع إلى صوت نبح الكلاب لكنه لم يُبالي، وبعد ثوانٍ وجد هذا الضخم يُهرول خلفه بسرعة مما أصاب رائد بالفزع، فتح عيناه بهلع ثم جرى أمامه مُسرعًا وهو يصرخ: والله ما عملت حاجة أنا كنت ماشي.

وكأن الآخر لم يستمع له من الأساس، بل كان يُصيح به أن يتوقف وينتظر، لطم رائد على وجهه بفزع وهو يهرول أمامه والآخر يصرخ أيضًا، فكان مظهرهم مُثيرًا للضحك لمن يراه، ومثيرًا للشفقة بالنسبة ل رائد.
وقف رائد بنهيج مُتعب رافعًا يده بإستسلام لذلك الضخم الكبير، يبدو أن سيسحقه ولن يرحمه حقًا، أمسكه الرجل من ثيابه يهزه بعنف وهو يُعنفه: هو أنا مش عمَّال أقولك استنى يا بأف أنت!

أومأ له رائد وهو ينهج قائلًا بتعب: ما أنت قولتلي امشي ومش عايز أشوف وشك، بتناديلي ليه دلوقتي!
تعالى عديني.
نعم!
قالها رائد بوجه مُتشنج بإستنكار، ليُوضح له الرجل وهو يُشير بأصابعه الكبيرة للناحية الأخرى: كان فيه كلب واقف هنا وأنا بخاف من الكلاب.
حلت الصدمة على محياه مُرددًا خلفه بتشنج: بتخاف من الكلاب؟ أنت طلعت منهم؟

كان الرجل يُتابعه بعينين منتظرتين، وكأنه بلحظة تحول لجرو صغير يخاف من وحش كبير، بينما هو الضخم الكبير الذي من المُفترض أن تخاف منه الكلاب لا العكس.
رسم رائد الغرور والكبرياء على وجهه ناظرًا له بإستعلاء، ثم أردف بتكبر ونبرة مُفتخرة ظهرت واضحة في صوته: تعالى ورايا وشوف الرجولة على أصولها.
سبقه رائد بعدة خطوات وهو خلفه، ثم توقف محله فجأةً مُستديرًا له وهو يسأله بإنتباه: اسمك إيه يا عسل!
وسام.

وما إن قال اسمه حتى انفجر رائد ضاحكًا بعدم تصديق، رددها خلفه مرة أخرى وكأنه لا يُصدق قائلًا: وسام! ويا ترى بقى وسام شرف ولا حاجة تانية!
كان وسام يُتابعه بضيق وحدة بذاتِ الوقت، انتبه له رائد فاعتدل واقفًا متوقفًا عن الضحك، وتحول وجهه إلى الوجوم وهو يُحذره: لأ بقولك إيه بُص عِدل بدل ما أسيبك للكلاب يا وسام.

أخفض وسام بصره للأسفل جاززًا على أسنانه بغيظ، مما أعطى شعورًا بالإنتشاء ل رائد الذي عدَّل من ياقة قميصه الواهية في غرور.
سار أمامه و وسام خلفه عينيه تُتابع تجمع الكلاب على بُعد صغير منهم، تمسك بثياب رائد من الخلف فزجره قائلًا: اثبت الله يخربيتك، هنكون عشاهم الليلة بسببك.
انتفض وسام فزعًا قائلًا بصوت عالي خائف جذب انتباه الكلاب: يعني هياكلونا!

ابتلع رائد ريقه بتوتر وهو يُتابع نظرات الكلاب المُوجهة إليهم، ثم أردف هامسًا له: بقولك إيه! بتعرف تجري!
يبدو أن الآخر فهم مقصده، ورغم ذلك سأله مُتمنيًا أن يُكذِّب شعوره: ليه؟
لم يُجيبه رائد بلسانه، بل أجابه عندما هرول فزعًا عندمًا لاحظ وقوف الكلاب جميعًا بنظرات ثابتة عليهم، مما جعله يهرول خوفًا وخلفه وسام الذي يصرخ باستنجاد.
أمسكه من ثيابه ليوقفه فصرخ رائد بنواح: سيبني يخربيتك.

لم يتركه وسام بل ظل مُلازمًا له و رائد يسب ويلعن قاسم الذي وضعه بذلك المأزق بسبب تلك الأفعى التي تُدعى ملك، وأخيرًا وصلا إلى أحد العمائر واستطاعوا الهرب من حشد الكلاب الذين كادوا أن يأكلوهم أحياء.

استند رائد بيده على ركبتيه يتنفس بعنف، غافلًا عن ذلك الذي يُخدجه بغضب جحيمي، رفع رائد رأسه بعد ساعة من الصمت فوجد وسام يُحدجه بنظرات غامضة غاضبة، ابتلع ريقه بقلق وهو يسأله بريبة: بتبصلي كدا ليه! لأ بقولك إيه احنا رجالة أوي وملناش في الشمال.
أمسكه وسام من تلابيبه مُردفًا بشر قبل أن يلكمه في وجهه بقوة: أنا هوريك الشمال معايا عامل إزاي.

آه قدمي، ظهري، ذراعي، مفاصلي، رأسي، كل جزء في جسدي يؤلمني كالعجوز، أشعر بأني في نهاية عمري.
هتف فور بتلك الكلمات وهو يجلس أمام شقيقه جون وبجانبه طبق كبير مليء بالطعام، والذي يحتوي على حوالي ثلاثون شطيرة، غير تلك الشطيرتان اللتان يمسكهما بكلتا يديه.

حدجه چون الجالس على حاسوبه باستنكار، فخلع نظارته الطبية ثم صاح به بضجر: توقف عن تناول الطعام فور، ستُصاب بالإختناق يا مغفل كما حدث لك المرة الماضية.
أشاح فور بيده بعد أن قطب جبينه ينفي تلك الإتهامات البشعة عن طعامه العزيز: تحدث عن طعامي بأدب يا وقح، أنا والطعام بيننا قصة حب لم ولن تنتهي.

نفخ چون بغيظ وهو يهز رأسه بيأس، ثم عاد بنظره تجاه الحاسوب بعد أن ارتدى نظارته مرة أخرى، انتهى فور من الشطيرتين ثم أخذ اثنان غيرهما وبدأ في إلتهامهما، وشطيرة خلف الأخرى انتهى من الثلاثون شطيرة بعد نصف ساعة فقط!
حدجه چون بطرف عينه وجده مقطب الجبين ويظهر على محياه الضيق، لذلك سأله متعجبًا حالته التي تحولت في ثوانٍ: ما بِك تجلس كالأرامل؟

وضع فور يده على معدته مُجيبًا إياه وهو يتنهد بيأس: أشعر بالجوع، معدتي مازالت فارغة!
فتح جون فمه ببلاهة مُشيرًا للصحن الفارغ أثناء قوله المشدوه: هل تقصد بأنك تناولت جميع الشطائر ومازلت جائع؟

هزَّ فور رأسه بالإيجاب ثم هبَّ من مقعده متجهًا إلى المطبخ المصنوع على الطراز الأمريكي، ثم أردف بحماس: سأرى إن كان هُناك ما أتناوله أم لا، لا أعلم لما لا تأتون بالكثير من الطعام! ألا تعلمون إني مسكينًا وأحتاج إلى الرعاية!
صاح عليه أخيه بنفاذ صبر: أُقسم بأنك كائن غير آدمي بالمرة، تبدو كالدُمية المحشوة بالقطن ولا يظهر عليها ذلك.

التفتت له فور يُحدجه بجمود، ثم رفع إصبعه السبابة يُحذره بقوله: انتبه على صوتك يا وغد، لا تنسى بأني شقيقك الأكبر.
صحح له جون حديثه ضاجرًا: بدقيقتان، دقيقتان فقط ولا تهذي بذلك الحديث الذي يُثير أعصابي.
أجابه فور يغيظه أثناء إخراجه لقنينة الحليب: الإحترام واجب يا وقح، حتى لو كان بثانية واحدة فقط، عليك إحترام أخيك الكبير.

حدجه جون ساخطًا، فعاد بأنظاره لحاسوبه مرة أخرى، يعلم أنه لن يخرج من ذلك الحديث سوى مهزومًا بأقاويل أخيه المُعاندة له، لذلك أسلم حل له هو أن يُركِّز على ما يفعله، انتبه فور لتحديقه بالحاسوب لوقت طويل، لذلك أمسك بكوب الحليب بيده بعد أن ملأه على آخره وذهب للجلوس بجانبه.
لم يفهم أي شيء مما هو معروض أمامه من إشارات ورموز غريبة، لذلك سأله متعجبًا: ماذا تفعل؟ وما تلك الرموز الغريبة!

سحب فور شهيقًا عميقًا ثم زفره دُفعةً واحدة وبعدها أجابه بمكر: هذا هو الهلاك يا عزيزي، تلك الرموز والإشارات ما هي إلا بداية لإنفجار عظيم سيدوي في جميع البُلدان.
أدار فور الحديث داخل عقله قليلًا ليتوصل إلى معناه الخفي، وثوانٍ كان يشهق بقوة وهو يضرب على صدره بحركة شعبية تعلمها من الأفلام العربية التي يُشاهدها مع رائد: يا مُصيبتي! هل تصنع قُنبلة نووية لقتلنا!

كاد جون أن ينفي لكنه أكمل حديثه يُولول كالنساء: حسرتاه على شبابك يا فور، سأموت قبل أن أُقبِّل فتاة حتى! هل سأموت قبل أن أصنع مجدًا خاص بي! اللعنة عليك چون، بالتأكيد أنت لست أخي، كنت أعلم أيها الحقير.
أسكته جون بلكمة سددها له في وجهه حتى تسنح له الفرصة للحديث، وبعدها هدر صارخًا بغيظ: اللعنة على ذلك الرابط اللعين الذي جمعني بغبي مثلك، أصمت ودعني أتحدث أيها الوغد، لا تَكُن مثل الثور هكذا!

أبعد فور يده عنه قائلًا بصراخ: لقد أوقعت الحليب أيها المُتوحش، لا أعلم لِمَ تُعاملون رقيقٌ مثلي بتلك المُعاملة القاسية!
مسح چون على وجهه بحدة، رافعًا وجهه للأعلى هامسًا برجاء: أعطني الصبر والقوة يا الله لأتحمل ذلك المخلوق.
لم يهتم فور لحديثه، بل اقترب منه كالأخرق يلتصق به كالعلكة وهو يقول بسذاجة: حسنًا اشرح لي ما تفعل وسأصمت أُقسم لك.

تنفس جون بعمق أثناء نظره للحاسوب، ثم بدأ بشرح ما يفعله بكل دقة وخبث: حسنًا، هل ترى تلك الرموز! هي خاصة بنظام مشفى الأرماني الذي أُحاول منذ عدة أيام اختراقه، يتبقى فقط خطوة واحدة وسأخترق النظام بأكمله.
اتسعت عين فور بإنبهار ثم ازدادت ابتسامته أثناء صياحه المُهلل: هل تقصد بأن جميع الملفات والعمليات الغير شرعية التي قامت بها المشفى ستكون بين يدينا؟

هزَّ چون رأسه بالإيجاب وإبتسامة خبيثة مُتشكلة على فاهه، فاحتضنه فور على بغتةً وهو يُصيح بسعادة: حقًا أنت رائع، أنت أكثر من رائع، أنا أُحبك أخي، فليعيش چون وعقله الذهبي، أود أن أرقص الآن حقًا، سينتهي كل هذا قريبًا أنا أثق بذلك.
قهقه چون عاليًا على ردة فعل شقيقه الساذجة بعض الشيء، منذ قليل كان يسبه ويتشاجر معه وكأنه عدوه، والآن يحتضنه بحب حقًا وكأن شيئًا لم يحدث!

ابتعد عنه فور سعيدًا بما استمع إليه، فأردف بسعادة بما جعل جون يفتح فمه مُحدجًا إياه ببلاهة شديدة: سأذهب الآن واشتري الطعام احتفالًا بهذا الخبر السعيد، سأصنع خمسون شطيرة لي وحدي وأترك لكم أنتم الثلاثة شطيرة واحدة فقط، إلى اللقاء الآن.

السعادة والحزن يدوران في مدار واحدة، أحيانًا يكون لك نصيبًا من السعادة، وأحيانًا أخرى يأتي لك الحزن، وبين هذا وذاك أنت مُشتت، عليك أن تتقبل الوضعين حتى تتعايش في تلك الحياة، لكن ماذا إن كان الحزن والسعادة بيدك أنت؟ حينها أنت فقط ستكون المسؤؤل الوحيد على تعاستك، ستُسطرها بخط يدك أنت، ستكتب نقوشًا هي السبب في هلاكك.

تسطحت سهيلة على الفِراش من خلفها واضعة قدمًا فوق الأخرى تُحادث صديقاتها، وبعد وقت من الأحاديث الإعتيادية قررت الإغلاق معهم، لتبدأ في ممارسة أكثر هواية مُفضلة لها وهي القراءة، أمسكت بهاتفها ثم فتحت ذلك التطبيق البرتقالي المُقرب لها، دخلت على تلك الرواية التي رشحتها لها صديقاتها شاعرة بالحماس لقراءتها، بدأت بقراءة أول الفصول وكان كل شيء اعتياديًا كما في العادة.

لكن! هناك شيء خاطيء تشعر به تجاهها، الكلمات بها بعض الإيحاءات الوقحة والتي فهمتها على الفور! وهُنا دار الحديث والمشاجرة بين عقلها وقلبها، أتُكمل قرائتها أم تتركها وتقرأ غيرها! مُداخلات ومُشاحنات أرهقتها كانت نتيجتها بأنها قررت الإكمال، رغم وجود صوت يُحذرها من الإكمال وخوض تلك التجربة مرة أخرى.

الإنسان بطبيعته ضعيف تجاه الأشياء الممنوعة، وكما يُقال دائمًا (الممنوع مرغوب)، لذلك انساقت خلف ذلك الصوت الذي شجعها على الإكمال، مُبررة لذاتها بأنها ناضجة كفاية لتخطي تلك الإيحاءات الوقحة، لا تعلم بأن تلك السطور اللعينة ما هي إلا تمهيد لذنب قادم الآن، ذنب وقعت به من قبل وتعاهدت مع ذاتها ألا تُكرره، لكن شيطانها حفزها على الإكمال، وهي لبت ذلك النداء وأكملت قرائتها.

وبعد عدة فصول وقعت في فخ الكلمات المُغيبة التي سحبتها للقاع دون شعور منها، وإن كانت المرة الأولى مُنصدمة مما يحدث من تجاوزات ووصف لا يُمكن تخيله؛ فإنَّ تلك المرة كانت مُستمتعة بذلك! بل ومستمرة في تخيل العلاقة التي تصفها الكاتبة بين الأبطال، بانية عالمًا مُظلمًا من الوحل في خيالها تظنه ورديًا، وقعت أسيرة في شباك مُتسخة من الإباحية، وإن ظننتم أن الأمر انتهى لهُنا فأنتم مُخطئون، فقد كانت الرواية تحوي صورًا غير لائقة أقل ما يُقال عنها بأنها قذرة كالنُفايات، تُدخِل الرغبة لعقول المُراهقين من الشباب والإناث، وهم مُنساقون خلفها كالبهائم يُريدون مزيدًا من تلك القاذورات، ليُسجنوا داخل بئر مُظلم هو مصدر الهلاك.

استيقظ قاسم من نومته الهادئة بتثاؤب، ناظرًا لوالدته النائمة بحنان، رسم ابتسامة خفيفة على فمه مُقربًا شفتيه من جبينها ليُقبله بحب، سعيد بذلك التطور الذي طرأت لو حتى لو كان بسيطًا، يشعر بالإنتعاش يجتاحه بعد مدة بكاء دامت لساعات، وها هو حصل على نتيجة مُرضية له.

هبَّ من جانبها بعد أن أحكم الغطاء من حولها جيدًا لتدفئتها، ثم خرج من الغرفة فوجد لوسيندا غافية بإرهاق على الأريكة، نظر لها بشفقة مُقتربًا منها بتروٍ، ثم ناداها بهدوء حتى لا تفزع، انتبهت لصوته القريب نسبيًا ففتحت عينها بقلق وهي تسأله: خير يا دكتور قاسم؟ مدام حياة كويسة؟
هزَّ رأسه بالإيجاب مُجيبًا إياها بإمتنان: هي كويسة متقلقيش، ادخلي أنتِ ريحي جوا شوية وأنا اتطمنت عليها، وكمان شوية هاجي ليها تاني.

مسحت وجهها تُزيل أثر النوم ثم أجابته بهدوء: تمام يا دكتور زي ما تحب حضرتك.
هبط للأسفل بعد أن ودَّعها بلباقة، فوجد جون وفور جالسان جانب بعضهما بهدوء، بهدوء!
كلمة كررها مع ذاته مُقطب الجبين من حالتهم الغريبة والنادرة، دلف للداخل قائلًا بمزاح جذب إنتباههم: لأ متقولوش! نهاية العالم قربت أكيد صح! انتوا قاعدين عادي زي البني آدمين كدا ومش بتتخانقوا!

أجابه فور الذي يتناول الشطائر الذي جلبها منذ قليل: هذا لأني جائع فقط ولم آكل منذ الصباح، لكن بعد قليل ستجدني أتشاجر مع الجميع.
نظر له جون بإندهاش فاتحًا فمه بعدم تصديق: لم تأكل منذ الصباح حقًا؟ أنت تمزح بالتأكيد، إذًا مَن ذلك الذي كان يأكل بجانبي منذ ساعة واحدة فقط!
هز فور كتفه بجهل مُصطنع مُدعيَّا البراءة أمام قاسم: لا أعلم حقًا، أنا لم أراك منذ ليلة أمس من الأساس.

جلس قاسم بجانبه ضاحكًا مؤكدًا برأسه: مصدقك يا فور، مصدقك يا حبيبي متحلفش بس.
ارتسمت ابتسامة صادقة على شفتي فور، فأمسك بشطيرة من شطائره ومدَّ يده بها له وهو يقول بسعادة أضحكته: خُذ تلك الشطيرة لأنك لطيفًا وأنا أُحِبك.
قهقه قاسم عاليًا وهو يأخذ منه الشطيرة، ثم نظر لمحتوياتها وهو يتسائل: ساندوتش إيه دا!
شانلون.
أجابه بسهولة ليقطب قاسم جبينه بتشنج سائلًا إياه مرة أخرى: ساندوتش إيه ياخويا.

وللمرة الثانية يُجيبه فور مُعيدًا كلمته الغريبة تلك: شانلون، ذاك الرجل هُناك هو مَن أخبرني بإسمه، لكنه لذيذ للغاية.
لم يفهم قاسم كلمة مما قالها، مما جعله يفتح الشطيرة ينظر لِما داخلها، رفع أنظاره إليه لاويًا شفتيه بسخرية: اللانشون بقى شانلون! المصريين متبريين منك دنيا وأخرة يا بعيد.
هُنا وهتف چون يطلب من أخيه بحماس: وأنا أيضًا فور، أعطيني شطيرة من الشانلون.

هز فور رأسه برفض له قائلًا: لا أنت قاسي القلب ولا تحبني.
لا بل أحبك عزيزي، بربك فور أنا أتجور جوعًا يا رجل.
ربت قاسم على قدم فور متشدقًا بمسكنة مصطنعة: خلاص يا فور اديله، اعتبره زي ابننا برضه ميضرش.
مط فور شفتيه بتفكير، وبعدها أعطى له شطيرة أثناء تحدثه بضجر: ستنهون على شطائري، تبًا لكم يا أوغاد.

جاء بتلك اللحظة رائد الذي دخل عليهم بوجه يُزينه كدمة زرقاء على عينيه وثيابه مُلطخة بالدماء، والذي حياهم قائلًا: جود مورنينج يا شباب.
كان الجميع يُحدجونه ببلاهة من مظهره هذا، وبالتالي لم يُجيبوه، لوى رائد ثغره مستنكرًا بعد أن رمى ذاته على الأريكة بإنهاك: إيه واكلين سَد الحَنك دلوقتي!
خرج صوت جون يسأله بصدمة: أين كنت! ومن فعل بك هذا؟
أجابه رائد ساخرًا وهو على وشك البكاء: كنت بلعب مُلاكمة يا حبيبي.

سأله فور مُتحمسًا وكأن الجواب لا يظهر من عنوانه: وهل فُزت!
أشار رائد لوجهه بسخرية مُجيبًا إياه بلذاعة: طبعًا، هو مش باين عليا ولا إيه؟ دا أنا قطعته.
رد عليه قاسم شامتًا: لأ باين عليك ما شاء الله.
حدجه رائد بسخط متشدقًا بغيظ: وعهد الله لولا إني مش قادر أقف على رجلي لكنت هشوه وشك بسببك عملتك المهببة دي.

أجابه قاسم ببرود مُرجعًا خصلاته المنسابة للخلف: محدش قالك تعط يا عين أمك والله، وبصراحة بقى كدا ومن غير لف دوران أنا شمتان.
طالعه بغيظ قائلًا: أناومش هرد عليك عشان أنا محترم وابن ناس محترمين.
تأفف فور ضاجرًا بقوله: توقفوا عن الشجار يا فتيان، لا تكونوا كالصغار هكذا!

نظر له الجميع باستنكار وكأنهم يقولون له حقًا! ليقطع كل تلك الأحاديث صوت جون الذي تسائل بجدية: إذن قاسم. متى ستذهب لتُنهي أمر صهيب الأرماني؟
هُنا وصعد صوت قاسم يهمس بشر، بعد أن تحولت عيناه لكتلة من اللهب المُشتعل: النهاردة بليل الساعة 2 بالظبط، يعني بعد أربع ساعات من دلوقتي.

وبعد مرور أربع ساعات. خرج من منزله بخطوات بطيئة يستمع لصوتها بسبب صمت الشوارع من حوله، يُمسك بيده خنجرًا مُدبب حاد الجوانب، شدد من الضغط عليه وهو يتخيل رد فعل مختار الأرماني عندما يصل إليه خبر مصرع ابنه الحبيب!

وعند تلك الفكرة ازدات ابتسامته شرًا، وعقله يزداد سُمًا، ما يفعله هو نقطة مما فعلوه به، سيجعلهم يتجرعون من كأس الألم الذي ذاقه، هو يكره كل فرد يعيش بعائلة الأرماني، ولو وُضعوا أمامه؛ لقتلهم جميعًا بلا تردد أو شفقة.

وصل إلى أسفل البناية التي يعيش بها، ولسوء حظه جاء اليوم للمبيت بشقته وحده، دون وجود حراسة أو ما يحميه، تأكد من وضع قناعه وتثبيته على وجهه، عدَّل من وضعية القفازات السوداء السميكة التي تُشبه ملابسه، وشدد أكثر على سلاحه، تلك الليلة ستكون حزينة على عائلة الأرماني وتعهد بذلك، تعهد بالدمار الشامل للجميع.

صعد الدرجات دون الحاجة للمصعد حتى لا يُصدر صوتًا يُزعِج السكان، وبعد قليل وصل لشقته ووجهته المطلوبة، طرق جرس الباب بكل لباقة وإحترام وانتظر قليلًا.
فُتِح الباب بواسطة صهيب الناعس، فاستغل هو ذلك ودفعه للداخل بعد أن أغلق الباب خلفه، مُسددًا له لكمة قوية أطاحت بوجهه مما أدى إلى سقوطه للخلف، تبعها قول قاسم الحانق بغضب: دي عشان تبقى تعمل ألف حساب قبل ما تمد إيديك على أخوك الكبير يا حيوان!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة