رواية حارة القناص الجزء الأول للكاتبة شروق حسن الفصل السادس والثلاثون
تُمطِر السماء دموعًا وقهرةً، يضرب البرق السماء بانتفاضة، والرعد يَصم الأذان صارخًا، كما أن الكلمات تهبط كالصاعقة، والقلب ينفر الحديث نافيًا!
رمشت سهيلة بأهدابها عدة مرات أثناء مُحاولتها لإستيعاب الكلمات التيىهبطت على مسامعها للتو، ظنت بأنها لتكون مزحة سخيفة من مريم لخداعها، لكن صوت مريم الذي صعد باكيًا رغمًا عنها بعد ذلك:
اتوفت عائشة بعد مصارعتها مع الورم الخبيث لمدة سنتين.
بكت الجميع الفتيات تأثرًا بحديثِ مريم خاصة بأن عائشة كانت ذات سيرة طيبة نقية بين الجميع، وجودها كان خفيفًا كالمِسك وحديثها مُشبَع بالتقوى والإيمان، بينما معالم سهيلة كانت مازالت مُتخشبة ومُتصنمة محلها، الكلمات لا تُريد الإستقرار بعقلها الذي يرفض الحقيقة البشعة.
تابعت بحدقتاها خروج الفتيات من المسجد بعد أن قامت مريم بإلغاء درس اليوم، لتنتقل بأبصارها نحو مريم التي كانت تقترب منها حتى جلست أمامها، وهُنا كانت أول دمعاتها تهبط ببطئ شديد على وجهها وكأنها تجلدها بسوطِ الحقيقة المُرة، ليخرج بعدها صوت مريم الهامس ببكاء مبحوح: عائشة ماتت يا سهيلة.
هزت سهيلة رأسها عدة مرات تنفي حديثها، وبعد فترة من الصمت خرج صوتها مصدومًا: لأ. أكيد لأ. عائشة كانت كويسة إمبارح يا مريم. مُستحيل تموت بالسهولة دي!
أغمضت مريم جفنيها ببكاء ثم تحدثت قائلة: عائشة كان عندها كانسر وقربت تخف منه، كانت في مرحلة شفائها الأخيرة بس دخلوا عليها إمبارح لقوها ميتة وهي ساجدة. كانت بتصلي القيام وتوفت.
وهُنا صدقت سهيلة كل ما يدور حولها، عائشة ماتت! الوحيدة التي انتشلتها من ضياعها وطريق فسادها قد ذهبت عن دُنياهم! في ذلك الوقت هبطت دموع سهيلة بكثافة أثناء رفعها لكفها لكتم شهقاتها المُنصدمة، حاولت ابتلاع تلك الغصة التي في حلقها لكن مُحاولاتها بائت بالفشل، الغصة المؤلمة تزداد ألمًا وفؤادها يطرق بعدم تصديق، تشعر بأنها في كابوسٍ ما وستستفيق منه لاحقًا.
شعرت بيدِ مريم تُمسِك بخاصتها وبعدها تحدثت قائلة بوهن: كانت بتحبك أوي يا سهيلة، كانت مُستبشرة فيكِ خير ومعتبراكِ أختها الصُغيرة.
كان وجه سهيلة يشحب تدريجيًا وحتى الآن عقلها يرفض التصديق، لذلك خرج صوتها مُتقطعًا قائلة بدون وعي: أنتِ. أنتِ بتكدبي عليا. عائشة. عائشة مماتتش لأ. مُستحيل. هي. هي.
توقفت عن استكمال حديثها ثم انفجرت في البُكاء المرير، تشعر بأنها قد فقدت عزيزًا على قلبها وقد كان! اقتربت منها مريم ثم جذبتها لأحضانها بقوة، وظلوا يبكوا بُكاءً مريرًا لخسارتهم صديقة صالحة كانت بمثابة شقيقة لهم، كانت مريم مُتماسكة قليلًا لعلمها بما حدث فجرًا، لكن الصدمة الحقيقية كانت من نصيب سهيلة التي ظنت بأن عائشة ستظل رفيقة دربها مدى الحياة، لكن كان للقدر رأي آخر والحياة تُمانع وتُخالف ظنونها كما المُعتاد.
ظلت فترة لا بأس بها تبكي في أحضان مريم التي تُربت على ظهرها بخفة، لا تعلم أهي ساعة، أم اثنتان، أم ثلاث! كل ما تعلمه هو اختناقها الشديد وشعورها بالخسارة الفادحة!
مرَّ الكثير من الوقت ومازالت سهيلة تقبع بين أحضان صديقتها تبكي بصوتٍ مقهور، وبين بكاؤها الشديد كانت تُتمتم بكلمات لم تفقه الأخرى معناها سوى بأنها كانت جريحة، قبَّلت مريم جانب وجهها بعد أن توقفت عن البُكاء ثم أردفت بصوتٍ خافت: أنا هفضل جنبك دايمًا، محدش هياخد مكان عائشة في قلبك بس اعتبريني صديقتك وهتلاقيني معاكِ على طول.
خرجت سهيلة من أحضانها بوجهٍ مُنتفخ شديد الإحمرار نتيجة لبكاؤها الشديد، حاولت الحديث لكن صوتها لم يُسعفها لذلك حمحمت عدة مرات لتُجبِر صوتها على الخروج: أنا. أنا عايزة أشوفها يا مريم.
طالعتها مريم بتردد قائلة: ما بلاش يا سهيلة مش هتستحملي.
أمسكت سهيلة كفيها برجاء قائلة: عشان خاطري يا مريم عايزة أشوفها لآخر مرة.
تجمعت الدموع بحدقتي مريم وهي تُجيبها ببكاء لم تستطيع منعه: هي. هي المفروض تتغسل قبل الضهر وتتدفن بعد الصلاة والساعة دلوقتي عشرة ونص.
ورغم أن هذا الأمر طبيعي مع المُتوفي؛ إلا أن وقع الكلمات كان حادًا لازعًا على كلتيهما، سيطرت سهيلة بصعوبة على إنفجارها باكية واكتفت دموعها بالهطول في صمت، وبعدها تشدقت قائلة بتألم: طيب. طيب يلا علشان منتأخرش عليها. بسرعة يا مريم عشان خاطري عايزة أشوفها لآخر مرة في حياتي.
وافقت مريم بيأس على طلبها ثم وقفت من مكانها واتجهوا للخارج، وبعدها أوقفوا سيارة أُجرة وانطلقوا بها نحو منزل عائشة لرؤيتها للمرة الأخيرة بقية حياتهم!
دائمًا ما كان يُطلق عليه بالطبيب الماهر، سعى كثيرًا وعمل جاهدًا حتى يحصل على هذا اللقب، كانوا يستدعونه لأصعب المهامات لعلمهم بكفاءته وبراعته، لكن تلك الحالة خصيصًا فريدة من نوعها، فالقابعة أمامه ليست مُجرد مريضة وحسب، بل إنها والدته!
أغمض عيناه ليستجمع قواهُ المُتناثرة ويُخفف من خوفه ولو قليلًا، وقبل أن يبدأ بعمليته انحنى على رأسها أمام جميع الأطباء ثم قبَّلها بعمق، وبعدها همس في أُذنها راجيًا: قاومي علشان خاطري ومتسبنيش.
قال جُملته ثم اعتدل في مكانه مُجددًا وبدأ في إجراء عملية والدته، والتي تُعتبر من أخطر العمليات التي مرت في حياته مُسبقًا، فالجسد يحتاج إلى الكثير من الوقت لتَقبُل عضو آخر داخله، لكن ما يُطمئنه قليلًا هو أن جميع الأنسجة من عضو المُتبرع تُماثِل أنسجة والدته، مما يَسهُل من نجاح العملية إلى حَدٍ ما.
كانت عينيّ قاسم تُركز بقوة على كل حركة تصدر من يده، فإرتعاشة يده من الممكن أن يتسبب في خسارته لوالدته إلى الأبد، لذلك وضع بينه وبينها ساترًا لإخفاء وجهها وبدأ بإجراء الجراحة على إنها مريض عادي، ورغم ذلك وأثناء عمله؛ عادت ذاكرته إلى لحظة من لحظات طفولته تجمعه بوالدته وأبيه.
كان قاسم الصغير يهرب من والدته التي تُهرول خلفه أثناء إمساكها بالطعام بين يديها ثم وقف خلف الأريكة هاتفًا بمشاكسة: لو مسكتيني هاكل الأكل كله وهديكِ بوسة كبيرة.
توقفت حياة في مكانها ثم تخصرت في مكانها قائلة بحزنٍ زائف: إيه دا! يعني لو ممسكتكش مش هتبوسني خالص!
وضع الصغير يده على شفتيه يُفكر بطفولية، ثم نظر إليها بتردد وهو يُلاحظ حُزنها الذي صدقه، ليردف بعدها مُغيرًا حديثه: لأ خلاص يا ماما متزعليش، هبوسك بس بوسة صغيرة خالص.
قطبت حياة جبينها بضيق ثم اتجهت نحو الأريكة القديمة للجلوس عليها قائلة بنفي: لأ خلاص مش عايزة منك حاجة، أنا زعلانة منك.
طالعها قاسم بتردد ثم خرج من خلف الأريكة ناظرًا إليها بترقب، وبعدها اقترب منها حتى وقف قبالتها: بصي خلاص أنا هبوسك بوسة كبيرة علشان مش بحبك تكوني زعلانة.
لم تستطيع حياة تصنع الحزن أكثر أمام طفوليته وبرائته المُهلكة لفؤادها كأم، خاصةً بخديه المُنتفخين بشكلٍ لذيذ وعيناه السوداء الواسعة، لتجذبه لها على بغتةٍ تُدغدغه بقوة تزامنًا مع انطلاق صرخاته الضاحكة وأعينه التي أدمعت من كثرة الضحك.
وتلك كانت من اللحظات الجميلة المحفورة داخل عقله وتجمعه مع والدته الحبيبة، لحظات لو دفع عمره بأكمله لن يستطيع تعويضها أو حتى نسيانها، دائمًا ما يُرَسخ الحب الصادق داخل أفئدتنا، وكأنه يُوشم بمزيجٍ من نيران الحب ولهيب الضحكات.
وبالخارج.
كان الجميع يجلس على أعصابه خوفًا من تلك العملية التي أخذت تقريبًا أربع ساعات ومازالت مُستمرة! جلس صهيب وبجانبه فور يدعمه بكلماته، وبجانب أهلة جلست كُلًا من لوسيندا ومهرائيل التي أتوا مؤخرًا، بينما حبيبة كانت مُنزوية بأحد الأركان كطفلة شريدو تائهة، أطرافها ترتعش بردًا وخوفًا من صحة الرسالة التي أتت لها منذ قليل، كانت دموعها تهبط بصمتٍ وشيء ما بداخلها يُخبرها بأن ما قرأته صحيح، والدليل على ذلك هو خوف صهيب الغير مُبرر على تلك المرأة التي بالداخل، والتي من المُفترض بأنها والدة صديقه لا والدته هو!
وبتلك اللحظة أتى على بالها حديث الشباب عندما كانوا يذكرون بأن صهيب أخ ل قاسم، كانت تظنه تمييزًا لصداقتهم القوية فأصبح كلاهما شقيقان بالروح، لكن من المُتضح بأنهما شقيقان بالفعل!
كانت دموعها تهبط بصمت وشفتيها ترتعش ببكاء، العالم بأجمعه يقف ضدها، وإن كان للحديث بقية وتم إثبات بأن صهيب يطمع بها ستتدمر كُليًا وستنتكس بقوة، رأتها مهرائيل بتلك الحالة فقطبت جبينها بتعجب من حالتها، لذلك وقفت من مكانها واتجهت نحوها حتى وقفت قبالتها، وبعدها تحدثت باستغراب وقلق: مالِك يا حبيبة واقفة كدا ليه؟
استمع صهيب لحديث مهرائيل عن زوجته التي انشغل عنها رغمًا عنه، فرفع عيناه مُسرعًا ليراها بحالة مُزرية للغاية، بينما مسحت حبيبة دموعها قائلة بصوتٍ مُرتعش باكٍ: م. مفيش أنا كويسة.
أتى صهيب على حديثها ليُحيط بها من وجهها قائلًا بقلق: حبيبة مالِك بتعيطي ليه؟
رفعت حبيبة أنظارها له تُطالعه بعتاب تعجب له، فأبعدت يده عن وجهها ثم ابتعدت هي الأخرى عنه بجسدها قائلة: مفيش حاجة.
طالع صهيب فعلتها بحاجبين مقطوبين وتعجب شديد، ليتسائل مشدوهًا: في إيه يا حبيبة؟
تجاهلت حبيبة سؤاله مُبتلعة تلك الغصة المؤلمة التي بحلقها ثم أخفضت رأسها للأسفل تُخفي وجهها عن الجميع، وبالأصح فهي تخفي روحها النازفة بدماء برائتها!
كانت أهلة وبجانبها لوسيندا تُتابعان الحديث الدائر بصمت، وعندما وجدت أهلة تتلك الحالة من التوتر تُسيطر على الجميع تحركت من مكانها نحوهم ثم وجهت حديثها ل حبيبة تتسائل بتعجب: حصل إيه يا بيبة مخليكِ زعلانة كدا؟
كانت حبيبة مازالت تُخفض رأسها للأسفل ويديها مُتشابكين ببعضهما البعض، ليصعد بعدها صوتها مبحوحًا: مش زعلانة ومحصلش حاجة.
كالعادة تهرب إلى النفي وكتم حزنها بداخلها، الجميع كان يرى حُزنها لكن الوحيدة التي شعرت بها هي أهلة لأنها مرت بنفس ظروفها من الكتمان، لذلك اقتربت منها أكثر ثم أحاطت بها من كتفها مُحتضنة إياها برقة ثم تسائلت بحنان: مالِك يا حبيبة؟
ضعفت قوة حبيبة الواهية والتي كانت تتصنعها أثناء ضم الأخرى لها، لتنهمر في البُكاء المرير وكأن أهلة قد أعطت لها الإذن بالبُكاء بعد عناقها الحنون لها، كانت أهلة تعلم بأن هذا ما سيحدث، هي كانت تحتاج قديمًا لمن يضمها هكذا حتى تُخرِج ما في جبعتها من حُزن عن طريق البكاء، لكنها وللأسف الشديد لم تجد مُنقذًا لها ومُخففًا لآلامها فأُصيبت بالكتمان المُزمن.
كان صهيب يُتابع حالة حبيبة بصدمة جلية على معالمه، ماذا حدث لها ليُوصلها لتلك الحالة ويتسبب في انهيارها بتلك الطريقة! والأدهى بأنها تنفره أيضًا، شعر بألم في فؤاده بسبب فعلتها الأخيرة ودفعها له دون مُبرر، لذلك عاد خطوتين للخلف واستند بظهره على أحد الحوائط يُتابعها بدهشة.
شعرت حبيبة بفداحة فعلتها وأنها قد ظنت به سوءً دون أن تتأكد، لذلك خرجت من أحضان أهلة بصمت واتجهت لأحضانه هو لتُعانقه دون حديث! وكأنها كانت تائهة ووجدت ملاذها داخل أحضانه هو!
والآن تيقن صهيب بإصابتها بشيء ما لكن لم يود سؤالها الآن أمام الجميع، لذلك وبصمت قام بإحاطتها مُشددًا من ضمها، بينما هي دموعها كانت تهطل بصمت شديد وعيناها شاردة، تركهم الجميع وخدهم وذهبوا للجلوس أمام المقاعد التي أمام غرفة الجراحة حتى يتركوهم على راحتهم.
أخرجها صهيب من أحضانه ثم تسائل بحنان قائلًا: عايزة تحكي مالِك دلوقتي؟
طالعته بتردد وبعد فكرة من التفكير هزت رأسها بالنفي، أماء برأسه بإبتسامة هادئة ثم تحرك بها نحو أحد المقاعد واستندت برأسه على صدره أثناء جلوسهم.
مرت ساعة أخرى فبدأ القلق يأكل بصدر صهيب أكثر من تأخرهم المُبالغ به، أراد الدخول والوقوف مع شقيقه للإطمئنان على والدته لكن لن يستطيع بالتأكيد، لذلك فضَّل الجلوس والدعاء لها علَّ خالقه يتقبل دعائه.
بعد نصف ساعة فُتِحَت باب غرفة الجراحة وخرج منها جميع المُمرضين لكن دون الحديث أو حتى الإنتظار لسماع أسئلتهم القلقة، وما زاد من ريبتهم هو تأخر قاسم بالداخل!
كادت أن أنفاس صهيب أن تقف من شدة الخوف، حتى أنه شعر بقدمه لم تعد تستطيع أن تحمله، طرق فؤاده بعنف عندما وجد قاسم يخرج من الغرفة فاتجه نحوه مُسرعًا حتى وقف قبالته، وما كاد أن يفتح فمه للتحدث؛ حتى وجد قاسم يحتضنه بقوة ودموعه تهبط بعنف لكن دون صوت.
ثَقُل جسد صهيب خوفًا والذي تسائل بإرتعاش: م. ماما يا قاسم. إيه. إيه اللي حصل.
أجابه قاسم بسعادة مُفرطة وهو يُشدد من احتضانه قائلًا بصوت مسموع: العملية نجحت يا صهيب.
أدمعت عينيّ صهيب بعدم تصديق ثم تسائل بصراخ: إحلف بالله؟ لأ لأ بجد ولا بتهزر؟ اوعى تكون بتهزر والله ما هحلك.
اهتز جسد قاسم بضحكات مُمتزجة بالدموع ثم تشدق بصوتٍ سعيد: والله ما بهزر العملية نجحت وبعد 24 ساعة ماما هتفوق وهتبقى وِسطنا على طول.
هبطت دموع صهيب بعنف تزامنًا مع ارتفاع ضحكاته بسعادة عارمة ثم تمتم هامسًا ببكاء: الحمد لله يارب. الحمد لله. ألف حمد وشكر ليك يارب.
ابتعد قاسم عن أخيه بعد أن جفف دموعه جيدًا حتى لا يراها أحد، ثم اتجه نحو أهلة التي كانت تُتابعه بسعادة عارمة لفرحته، وبعدها احتضنها بقوة هامسًا لها بشغف: يا وِش السعد عليا.
التمعت عيني أهلة بسعادة لفرحته، بل وطرق الفؤاد فَرِحًا مع جُملته الأخيرة، لذلك بادلته العناق تضمه إليه بشدة أثناء حديثها السعيد: حمدالله على سلامتها.
تنهد قاسم بإرتياح شديد دافنًا وجهه في عُنقها يستنشق عبير خصلاتها، ثم أردف قائلًا: آاه لو تعرفي أنا ارتحت قد إيه؟ كإنه جبل هموم وانزاح عن قلبي.
صعدت يدها صعودًا وهبوطًا على ظهرها تُربت عليه بحنان أثناء قولها الهامس: ألف مبروك.
يعلم بأن هذا ليس الوقت المُناسب، لكن سعادته كانت بالغة فقال بشغف: مبروك عليا أنتِ واللهِ.
توقفت أهلة عن التربيت على ظهره وانتظرت سماع باقي كلماته والتي انتفض بسببها قلبها:.
من يوم ما دخلتي حياتي وهي بتتغير للأحسن، ربنا بعتك ليا عشان تواسيني، وبعتني ليكِ عشان أطبطب على قلبك، ويا فرحة قلبي بيكِ.
إيه؟
رددتها مصدومة فوجدته يُكمل بإبتسامة هادئة وباللغة الروسية: جِئتِ لتكوني انتصارًا عظيمًا تُوِج به قلبي.
قاسم!
رددتها بهمس أثناء اغماضها لعيناها بسبب عدم تحملها لمثل تلك الكلمات المعثولة، ابتعد برأسه قليلًا ثم مال على جبينها يُقبله بحنان وبعدها أردف قائلًا: رِحلة علاجك هتبدأ من النهاردة.
فتحت عيناها على آخرهما بهلع وهي تهز رأسها بالنفي، استشعر خوفها وفزعها من انتفاضة جسدها القوية ليُحيط بوجههًا قائلًا بحنان: هكون معاكِ خطوة بخطوة لحد ما تكوني بخير ومش هسيبك.
ابتلعت ريقها بصعوبها وخرج صوتها حادًا بعض الشيء: أنا مش جاهزة النهاردة.
نظر لها بصمت لثوانٍ معدودة قبل أن يتحدث بصوتٍ خالي من المشاعر عكس ما كان عليه قليلًا: هنشوف الحوار دا بعدين.
قالها ثم ابتعد عنها ثم أمسك بكف يدها أثناء وقوفه بجانب شقيقه والذي يحتضنه فور بسعادة بالغة.
كان صهيب في تلك الأثناء يطير فرحًا وسعادة وكأنه داخل أحد الأحلام الجميلة، خرج من أحضان فور ثم اتجه نحو حبيبة الصامتة بشكلٍ مخيف قائلًا بدون وعي: ماما بقت كويسة يا حبيبة.
ماما؟
رددتها بصدمة شديد ليتصنم جسد صهيب فجأة من ذلة لسانه الغير مقصودة، هز قاسم رأسه بيأس من غباء شقيقه ثم اقترب منهما قائلًا بتصحيح: هو يقصد يا حبيبة إنه بيعتبر أمي زي والدته مش أكتر.
رفعت حبيبة أنظارها تُتطالعه بنظرات غاضبة كانت غريبة عليها كُليًا، ورغم ذلك أومأت لهم بهدوء وقررت الصمت حتى تتأكد تمامًا، وبعدها تحدثت بهدوء: أنا عايزة أمشي.
نظر لها صهيب بنظرات غاضبة وهو يجز على أسنانه، ثم أمسك بكف يدها بعنف ساحبًا إياها خلفه، منعه قاسم قبل أن يذهب ثم تشدق بغموض قائلًا: براحة ها!
كانت ملامح صهيب واجمة فأومأ له دون الحديث ثم أكمل طريقه لخارج المشفى ومنها إلى سيارته التي انطلق بها بسرعة هائلة نحو المنزل.
تابعت الفتيات ذهاب حبيبة مع صهيب بقلق خاصةً وأن تعاملها كان غريبًا للغاية، استدارت لوسيندا نحو قاسم تُهنئه بود قائلة: ألف مبروك يا قاسم حمدالله على سلامتها.
رد عليها بإبتسامة هادئة: الله يسلمك.
صمت قليلًا ثم وجه حديثه إلى فور قائلًا: خُذ الفتيات إلى المنزل فور، لدي بعض الأعمال التي لم أُنهيها بعد.
أومأ له فور بهدوء وما كاد أن يتحدث؛ حتى وجد صوت طبيب آخر يُهرول نحوهم قائلًا: دكتور قاسم هُناك حالة خَطِرة على وشك الدخول إلى غُرفة الجراحة.
انتبهت حواس قاسم ثم أشار للغرفة الأخرى المُجاورة لغرفة والدته قائلًا بجدية: الغُرفة فارغة اجلبوه بسرعة وأنا جاهز.
أومأ له الطبيب على عجالة ثم هرول مُسرعًا لجلب المُصاب، بينما أشار ل فور مُتحدثًا بصرامة: هيا فور عليك أخذ الفتيات الآن.
حسنًا أخي لا تقلق، هيا بِنا يا فتيات.
قالها فور للفتيات ليومؤا له، بينما نظرت أهلة له نظرة عابرة لتجده يُعطي لها قُبلة عابثة في الهواء خجلت على أثرها.
چون؟
قالتها لوسيندا بهلع عندما رأت المُتسطح على العربة المُتحركة ثم هرولت تجاهه، حوَّل الجميع أنظارهم إلى حيث تذهب فوجدوه هو. چون غارقًا في دماءه.
فزع فور من مظهر أخيه فصاح صارخًا برعب: أخي؟ چون ما بِك؟
صاحت لوسيندا بالأطباء بصراخ وهي تبكي: ما الذي حدث له؟
رد عليها أحد المُمرضين بعملية: أُصيِبَ بطلق ناري.
تصنم فور مكانه قائلًا بغضب هائج: اللعنة على الجميع.
كان قاسم في انتظار تلك الحالة التي قال عليها الأطباء، لكن ما أثار تعجبه هو رؤيته للجميع يعودون مرة أخرى لكن مع تلك العربة المُتحركة وهُم يبكون! هرول إليهم راكضًا بسرعة واتسعت عيناه بصدمة عندما رأى أن المُصاب ما هو إلا جون رفيقه.
لم يترك فرصة لأحد للحديث، بل دفع العربة مع المُمرضين ثم دخل به إلى داخل غرفة الجراحة، انطلقت إليه لوسيندا تُمسِك بيده برجاء أثناء هتافها الباكي: انقذ جون يا قاسم عشان خاطري، اعمل اللي تقدر عليه.
أجابها قاسم بسرعة شديدة ليُطمئنها: متقلقيش هيبقى كويس إن شاء الله.
قالها ثم أغلق باب العمليات وحتى الآن لا يُصدق ذلك الحدث السريع والصادم التي أتى لهم على بغتة، وكفعلته السابقة وضع ستارًا بينه وبين وجه چون حتى يلهي نفسه عن هوية المريض وكونه صديقه حتى لا ينشغل باله، وبعدها بدأ بالجراحة الصعبة وإخراج الطلقة التي كانت مُستقرة داخل صدره بالتحديد!
وصل كُلا من صهيب وحبيبة إلى القصر التابع لعائلة شارلي، هبط صهيب أولًا من السيارة ثم دار ليفتح باب السيارة من الناحية الأخرى، أمسك بكف حبيبة بعنف ثم سار بها نحو الداخل بخطوات غاضبة، كادت حبيبة أن تتعثر في خطواتها لكن لم يلتف لها، عقله يكاد أن ينفجر بسبب معاملتها الغريبة وعُنفها الغير مُبرر، أدخلها للغرفة ثم أغلق الباب بحدة جعلتها تنكمش على ذاتها ودموعها تتسلل إلى حدقتيها بصمت.
استدار لها صهيب ثم تشدق بغضب وهو يجز على أسنانه: ممكن أعرف في إيه بقى؟ إيه اللي حصل وغيرك فجأة فهميني؟
قال الأخيرة بغضب شديد جعلها تقف في إحدى زوايا الغرفة وذِكرى صُراخ والدتها وضربها لها عادت لها مُجددًا، انكمشت حبيبة على ذاتها بخوف ظنًا منها بأنه سيقوم بتوبيخها وضربها الآن كما كان يحدث من والدتها سابقًا.
احتل الغضب وجه صهيب أكثر وأعمى الغضب عيناه، وما كاد أن يفتح فاهه حتى يتحدث؛ فوجد صوت هاتفه يصدح برنين عالي قاطعه، أخرج هاتفه من جيب بنطاله فوجد أن المتصل أهلة، فأجابها مُسرعًا ظنًا منه بأن والدته قد أصابها مكروه
آلو!
انزوت أهلة بعيدًا عن الجميع ثم تحدثت قائلة بتحذير صارم: أنت عارف أنا لو جيت لقيت البت معيطة أو منكد عليها أنا هعمل إيه؟ قسمًا بالله ما هتشوفها لمدة أسبوع وهتبات معايا في الأوضة.
رد عليها بإستنكار ناظرًا ل حبيبة بصدمة: نعم ياختي؟ أنتِ متصلة بيا عشان تهدديني!
أجابته أهلة ببرود: اعتبره زي ما تحب، لو جيت لقيت حبيبة زعلانة أنت حُر.
تشنج وجه صهيب بإستنكار حتى أن لسانه قد انعقد عن الرد، تلك السليطة تُهدده حقًا؟ كان يظنها هادئة مُسالمة واللعنة على تفكيره، فهو بالنسبة إليها ملاك هاديء وهي شيطانة ماكرة.
كادت الأخرى أن تغلق الهاتف لكنها أردفت بتذكر: وآه صحيح چون متصاب في المستشفى و قاسم معاه في العمليات، سلام يا. يا كبير.
قالت كلماتها ثم أغلقت الهاتف دون الإستماع إلى رده عليه، عادة اكتسبتها مؤخرًا من قاسم وأصبحت من المفضلين لها.
بينما صهيب صُدِم بقوة من حديثها حول إصابة چون، لذلك قرر إنهاء حديثه مع حبيبة ثم العودة إلى المشفى مرة أخرى.
هدأ صهيب قليلًا عقب حديثه زوجة أخيه معه ثم نظر ل حبيبة بهدوء مُنافي لحالته منذ قليل، رأى حالتها المذعورة التي كان غافلًا عنها أثناء ذروة غضبه ثم اقترب منها بهدوء حتى توقف أمامها مُباشرةً، انكمشت حبيبة أكثر على ذاتها وصوت شهقاتها بدأ يعلو تدريجيًا رغمًا عنها، ضمها صهيب لصدره مُحيطًا لرأسها بذراعيه ثم تحدث يائسًا: اعمل إيه بس عشان تبطلي خوف وتحكيلي كل اللي مزعلك يا حبيبة؟
انهمرت حبيبة في البكاء عقب استماعها لصوته المُعاتب وظلت تُهمهم ببعضِ الكلمات التي لم يفهمها لكن استشف منها اعتذارها، ضمَّها أكثر لصدره مُربتًا على خُصلاتها بحنان وبعدها أردف بألم:
حُزنك الحاجة الوحيدة اللي بتعذبني؛ فمتبكيش.
رفعت ذراعيها تُحيط به من خصره أثناء قولها الراجي: متسبنيش يا صهيب والله أنا مليش غيرك، متضحكش عليا وتمشي مش ناقصة وجع.
فرغ صهيب فاهه مُرددًا حديثها بصدمة: أضحك عليكِ! حبيبة انطقي إيه اللي أنتِ مخبياه عني؟
ابتعدت ببطئ عن أحضانه مُمسكة بكلتا كفيها تُشبكهما معًا، ثم أردفا بريبة: ه. هقولك بس متزعقليش.
أغمض عينيه بيأس من خوفها منه وعدم ثقتها في ذاتها ثم هز رأسه مُومئًا لها بالإيجاب، ابتعدت عنه ثم اتجهت نحو الفراش تلتقط من عليه هاتفها وبعدها فتحت تطبيق الرسائل التأتي بالرسالة المبعوثة إليها، عادت إليه ببطئ ثم مدت يدها له بقلق أثناء قولها الخافت: الرسالة دي جتلي النهاردة.
تعجب في البداية ثم مد يده ليلتقط الهاتف من بين يديها وبعدها بدأ في قراءتها بصوتٍ غير مسموع، كانت معالم وجهه مُتجمدة لا يظهر عليها شيء، وبعد فترة من الصمت رفع رأسه لها يسألها بترقب: وأنتِ صدقتي الكلام دا؟
هزت رأسها بالنفي وهي تُجيبه: مش. مش كله. بس لما شوفت خوفك على مامت قاسم حسيت إنك فعلًا ابنها.
طب ما أنا فعلًا ابنها.
قالها ببساطة لتُطالعه بصدمة مُرددة: إيه؟
اقترب منها صهيب مُمسكًا بكفيها بحنان، ثم أردف بهدوء قائلًا: حبيبة فيه حاجات كتير أنتِ مش عارفاها ولازم نتكلم فيها، بس للأسف مش دلوقتي.
وليه مش دلوقتي؟
تسائلت ليُجيبها بثقل: علشان جون في المستشفى ولازم أروحله دلوقتي.
دُهشت من حديثه فأومأت له بهدوء قبل أن تقترب منه مُتحدثة برجاء: طيب أنت مش بتضحك عليا صح؟ بُص أنا ممكن أكتبلك كل فلوسي بس متضحكش عليا.
تشنج وجهه بغضب أثناء دفعه إليها مُتسائلًا بحدة: بتقولي إيه أنتِ اتجننتي؟ شايفاني بالقذارة دي؟ أنا مش قذر زي عيلتك وآخر همي الفلوس.
فتحت فاهها للتحدث فوجدته يقول بصراخ: أنتِ يا حبيبة مريضة ومحتاجة تتعالجي إزاي تثقي في نفسك وتبطلي شَك في اللي حواليكِ.
رمى لها كلماته الجارحة في حقها وحق ذاتها ثم تركها وغادر من المنزل بأكمله.
حِفنة من الأغبياء مُتجمعون حول طاولة صغيرة يضعون جميع الأوراق أمامهم، يظنون أنفسهم أذكياء لكن في الحقيقة الغباء صُنِعَ خصيصًا لهم، والمقصود بالأغبياء هُم يحيى، رائد، ملك، يمنى.
وضعت ملك الورقة الأولى أمامها وهي تُصيح بتهليل: طب والله أنا قمر ومفيش زيي.
غمزها رائد بمشاكسة قائلًا: دا كدا كدا يا جميل واللي يقول غير كدا أعمى مبيفهمش.
أخفضت ملك رأسها أرضًا بخجل أثناء قولها الخافت: يوه بس بقى بتكسف.
تشنج وجه يحيى الذي تحدث مُعترضًا: اتقوا الله يا أخوتي فما تفعلونه حرام شرعًا.
أكدت يمنى قوله بحديثها المؤيد: أيوا حرام شرعًا ولو متلمتيش يا ملك هقوم أجيبك من شعرك.
نظرت لها ملك بضجر قائلة بسخط: وأنا مالي ما هو اللي عمال يعاكسني وأنا قاعدة محترمة أهو.
جعد رائد جبينه حانقًا ثم أردف بغيظ: تصدقي إنك عيلة بياعة!
أشارت ملك لذاتها بصدمة مُرددة حديثه خلفه: أنا عيْلة؟
سخر منها يحيى قائلًا: وبالنسبة لبياعة دي مش جاية معاكِ.
أشاحت ملك بيدها له بلامبالاة: اصمت أنت الآن يا أخ يحيى .
أشار يحيى لذاته بحذر قائلًا: أنتِ بتقوليلي أنا اصمت؟
أومأت له ملك بالإيجاب ولمحة من الغرور والكبرياء مُتشكلان على وجهها ثم أردفت: آه بقولك أنت. ولو سمحت خلصوا يلا بسرعة علشان أنا عليا مذاكرة وامتحاناتي قربت بعد العيد.
اتسعت ابتسامة يمنى التي صفقت بيدها بحماس: رمضان فاضل عليه عشرين يوم وبجد فرحانة أوي.
شاركتها ملك السعادة والتي أردفت ببلاهة: وأنا كمان أوي، بحب ألعب مع العيال وأولع سلك وأضرب صواريخ معاهم.
رد عليها رائد بمشاكسة: طب ما تسيبك من العيال ونتجوز وتيجي نولع صواريخ في بيتنا.
استدارت له ملك قائلة بأعين ملتمعة: بجد هتشتريلي صواريخ؟
أومأ لها مؤكدًا بقوله العاشق: والله دا أنا أقلبلك صاروخ علشان خاطر ضحكتك دي.
ابتسمت ملك تلقائيًا شاعرة بضربات تضرب بين أضلعها، أطالت النظر داخل حدقتاه وهو فعل المثل، محياها يُجذبه وعفويتها أوقعته بها لذا لا مجال للفرار، حمحم يحيى بصوتٍ عالي قائلًا ببعض الضيق: اتقوا الله ويلا نكمل خطتنا العبقرية علشان ننفذها بكرة.
انتبه له الجميع فوضع يحيى الأوراق على الطاولة شارحًا لهم: المطعم ما شاء الله كبير وفيه أكتر من 100 ترابيزة وزيادة متقسم لجزئين، جزء ظاهر بيطل على النيل والجزء التاني مخفي شوية عن الأنظار، مُهمة وليد إنه هيقول ل مختار الأرماني عن المطعم بتاعنا، وبما إنه جديد ولسه مش معروف فهو هيفضل يعمل جميع صفقاته ويتفق على الشُحنات فيه بعيدًا عن أي مطعم مشهور ودا بعد ما وليد يقنعه بدا، أول ما مختار واللي معاه يبدأوا يقعد هنبعت ليهم جرسون واللي هيبقى أنت يا رائد وتعمل نفسك بتاخد طلباتهم، في حين إن أنت هتحط ليهم جهاز تصنت علشان نسمع جميع الصفقات والشُحنات اللي هيتفقوا علينا، وطبعًا أنا مش هينفع أظهر قدام مختار الأرماني عشان أنا في نظره ميت دلوقتي، و رائد برضه مش هتظهر بوسك وهتكون لا كِمامة عشان لو لقدر الله اتكشفنا تكون مجهول بالنسبة ليهم.
كان ثلاثتهم يستمعون إليه بإنتباه شديد حتى استدار يحيى تجاه ملك قائلًا: وأنتِ يا ملك اللي هتجيبي أنس الأرماني للمطعم برضه.
تشنج وجه رائد صائحًا بسوقية: نعم يا روح أمك؟ ملك مين دي يلا اللي هتجيب زفت الطين؟ اظبط يا يحيى بدل ما أفشفشلك دماغك.
طالعه يحيى ببرود حتى انتهى، ثم أردف موضحًا: أول حاجة يا بهيم أنا اخترت ملك علشان هي كانت بتكلمه قبل كدا وهو عارفها، تاني حاجة أصلًا أنس الأرماني لسه طالع من المستشفى إمبارح بعد ما طلع عليه واحد كَله علقة محترمة، يعني إيده مش هيعرف يمدها عشان يمسكها أصلًا.
تسائلت يمنى مُتعجبة: دخل المستشفى تاني؟ هو مش المرة الأولى دخلها بسبب صهيب؟ المرة التانية ليه بقى؟
أرجع يحيى ظهره للخلف قائلًا بتفكير عميق وذكاء: من وجهة نظري المتواضعة والذكية للغاية، اعتقد برضه إن صهيب حَب يمسي عليه قبل ما يسافر فعمل معاه الصح.
ردت عليه يمنى بشماتة: مش خسارة في جِتته.
كان وجه رائد واجم فاستدار نحو ملك يهتف بها غاضبًا: بقولك إيه ملكيش دعوة بكلام المُتخلف دا، وقعود مع الزفت التاني مش هيحصل إلا على جُثتي.
طالعته ملك بطرف عينها مُتحدثة بتشنج: أنت بتزعقلي؟
رد عليها رائد غاضبًا: آه بزعقلك وكلامي هو اللي هيمشي ويتنفذ.
تجاهلت ملك بقية حديثه ثم تسائلت مُجددًا بعد أن اعتدلت بغضب: أنت بتزعقلي؟
ظل رائد على موقفه مؤكدًا بعناد: آه بزعقلك و.
طب تعالالي بقى.
لم تدعه يُكمِل حديثه ثم هجمت عليه تُمسِك به من خصلاتها تجذبها بغيظ، بينما هو كان يصرخ من هجومها المُفاجيء والذي لم يكن يضعه في الحسبان، لكن وبعد ثواني تملك منها وأمسك بيدها يعضها بكل قوته مُغتاظًا، صرخت ملك بصوتٍ مدوٍ هاتفة بألم: يا ابن العضاضة يا حيوان، وديني لأوريك.
قالتها هاجمة عليه أكثر فأمسكت خصلاته بيد وباليدِ الأخرى قامت برفعها وإمساك ذراعه لتثبيته ثم غرزت أسنانها به.
كانت صرخات الاثنان تعلو بألم مما أدى إلى ضجر يحيى الذي أشار ل يمنى للخروج، وبالفعل وافقته فهبت من مقعدها ثم وقفت جواره، ليُعدل يحيى من وضعية ثيابه أثناء قوله الهاديء: يبقى كدا اتفقنا على الخطة يا شباب، هنخرج نقعد مع لواحظ في البلكونة بقى.
قالها فاعتدل الآخران بعد أن توقفا عن العِراك بثياب مُشعثة وخصلات مُخيفة، نظرا لبعضهما البعض ليُصيح رائد مُغتاظًا: على جُثتي إن الكلام دا يحصل.
تجاهله يحيى الذي خرج وخلفه يمنى وذهبا للجلوس في الشُرفة ليُتابعان الأمطار التي تهبط بخفة، لكن قبل أن يجلس استدار ل جيهان طالبًا منها بمشاكسة: بعد إذنك يا چيچي يا قمر ممكن كوبايتين شاي بالنعناع؟
طالعته چيهان بإبتسامة واسعة قائلة وهي تهب من مضجعها: بس كدا؟ دا أنا عيني ليك.
تسلم عينيكِ يارب.
قالها بود ثم استدار ل يمنى في جلسته مُتسائلًا بفضول: ها قولتي لمامتك إننا عايزين نكتب الكتاب ولا لسه؟
أومأت له يمنى بالإيجاب لكنها تحدثت بيأس: قولتلها ورفضت.
ليه؟
تسائل بضيق لتُجيبه: قالتلي لما أهلة أختي تِرجع هي وجوزها من برا، وبصراحة هي معاها حق، أنا نفسي أخواتي الاتنين يكونوا معايا في لحظة زي دي، هكون مبسوطة وفرحانة أكتر.
ارتسمت ابتسامة هادئة على ثغره ثم أردف بحب: خلاص اللي يفرح سِت يمنى هو اللي هيمشي، وأنا عندي كام يمنى أصلًا؟
تشكلت ابتسامة واسعة على شفتيها مُطالعة إياه بأعين مُلتمعة وحُب شغوف، وهو حاول جاهدًا ألا ينساق خلف رغبته في إطالة النظر إليها ويغض بصره عنها، ولحُسن حظه قاطعهم مجيء چيهان التي وضعت قدحيّ الشاي بالنعناع أمامهم على الطاولة، ليُتمتم يحيى بشُكر: تسلم إيدك يا چيچي تعبتك معايا.
ولا تعب ولا حاجة يا حبيبي بالهنا والشفا.
قالتها بود ثم تركتهم وذهبت لينالوا راحتهم ولو قليلًا.
أمسكت يمنى بقدح الشاي وما كادت أن تضعه على شفتيها حتى استمعت إلى صوت يحيى يصرخ بها: لأاا استني.
فزعت يمنى من صراخه فتسائلت برعب: إيه في إيه؟
أخرج يحيى هاتفه من جيب بنطاله ثم رفع كوب الشاي أمام وجهه في السماء، وبعدها أردف بعد فتحه لكاميرا الهاتف: تعالي نعمل Us ونصور الشاي مع بعض.
طالعته يمنى بغيظ ثم تحدث بسخط أثناء رفعها لقدح الشاي في الأعلى هي الأخرى: لولا إن الفكرة عجبتني أنا كنت حميتك بكوباية الشاي دي.
جعد يحيى وجهه بإشمئزاز هاتفًا: بيئة.
وبالفعل رفع الاثنان الأكواب للأعلى حيث أصبحت مُقابلة للسماء الغائمة والأمطار الخفيفة، ثم التقطها يحيى من المُنتصف فكانت رائعة ودافئة بكل ما تعنيه الكلمة.
ارتص الستة أشقاء أمام غرفة العمليات مُنتظرين خروج شقيقهم وتعافيه، أعيُنهم توحي بالدماء ووجوههم غير مُبشرة بالخير إطلاقًا، الشفقة من نصيب الفاعل سيتذوق عذابًا لم يره من قبل، لن يكتفوا بقتله فقط، بل سيُقطعون كل إنش بجسده حتى يتلذذوا بالإستماع إلى صراخه وتعويضهم عن كل لحظة رعب شعروا بها خوفًا على أخيهم.
مرت ساعة تقريبًا وفُتِح الباب ليخرج من خلفه قاسم الذي خلع ماسك وجهه، هرولت إليه لوسيندا أولًا والتي صاحت ببكاء عنيف: طمني على جون يا قاسم أبوس إيدك.
رد عليها قاسم بهدوء قائلًا: متقلقيش هو الحمد لله كويس والرصاصة جَت في الجنب اليمين من صدره، اصابته مش سهلة بس مش خطيرة برضه.
هل لنا أخذه الآن؟
نطق بها آلبرت بهدوء مُريب يخفي ورائه عاصفة قوية، ليُطالعه قاسم بخبث قبل أن يوميء له بالإيجاب موافقًا: ينفع.
طالعتهم لوسيندا بصدمة صائحة بهم بعدم تصديق: هو إيه اللي ينفع؟ إزاي هيخرج وهو في الحالة دي؟
رد عليها آلبرت بقوله: إن أردتي أن يُقتَل فسنتركه، الفاعل لن يتركه قبل القضاء عليه.
ارتجف جسد لوسيندا خوفًا على زوجها من قساوة ما تسمع، فذهبت إليها مهرائيل لتحتضنها بحنان بعد بكاء الأخرى، ثم استدارت ل آلبرت صائحة به بغيظ: ما تنقي كلامك يا جدع أنت، إيه اللي أنت بتقوله دا؟
رد عليها آلبرت ببرود: اصمتِ أيها الجرو الصغير، لا أريد سماع صوتك المُزعج مُجددًا.
طالعته مهرائيل بحنق مُتجاهلة إياه ثم ربتت على ظهر شقيقتها الباكية بضيق قائلة: خلاص يا حبيبتي كفاية عياط هو بقى كويس، سيبك من كلام الكائن دا وجوزك هينام في حضنك النهاردة.
نظر قاسم لزوجته الصامتة طيلة الجلسة، فنظر لكفيها وجدهما مُبتلان، يبدو بأنها قد غسلتهما اشمئزازًا للتو!
انتبهت أهلة لتحديقه بها فاقترب منها هامسًا: خُدي البنات بعيد شوية عايز الشباب في كلمتين كدا.
أومأت له أهلة بهدوء دون مُجادلة ثم ذهبت نحو لوسيندا مُتحدثة بحنان: تعالي يا لوسيندا اقعدي أنتِ من الصبح وأنتِ واقفة.
نفت لوسيندا بتعب قائلة بصوتٍ مبحوح: لأ مش عايزة. أنا عايزة أشوف جون.
حاولت أهلة اقناعها بقولها المُصمم: قاسم قال إنهم بيجهزوه علشان يتنقل لأوضة عادية وبعد كدا هيبدأوا في اجراءات الخروج علشان يخرج من هنا، وأنتِ أكيد مش هتفضلي واقفة دا كله لحد ما يغمى عليكِ.
اقتنعت مهرائيل بحديثها فحاولت اقناع شقيقتها بقولها الهاديء: أهلة معاها حق يا حبيبتي، وبعدين لازم تاكلي حاجة علشان تهتمي بجوزك لما يفوق وتكون مصحصحة كدا، مش هتكوني أنتِ وهو تعبانين كدا.
أومأت لهم لوسيندا فأسندتها أهلة ومعها مهرائيل حتى جلست على المقعد الحديدي، مسدت مهرائيل على رأس شقيقتها قائلة بحنان: هنزل أجيبلك أي حاجة تشربيها من تحت عشان متدوخيش.
أومأت له شقيقتها بصمت، فجلست بجانبها أهلة تُربت على ظهرها بحنان، ومن الحين للآخر تهمس لها بأن زوجها سيكون بحالة جيدة عن قريب حتى تُطمئنها.
نظر قاسم نحو الرجال ثم تشدق بغموض: إذًا ما هي الخطوة القادمة؟
رد عليه آلبرت بنفس النبرة: ماذا تظن أنت؟
تشكلت ابتسامة خبيثة على ثُغر قاسم أثناء فحيحه المليء بالشر: الجحيم!
وعقب كلمته تشكلت ابتسامة مُخيفة على ثُغر الجميع، مَن يراهم يُقسِم بإختلالهم وعدم آدميتهم، ماذا إن رأوا نواياهم المُدمرة وخطتهم المُهلكة التي ينتوون تنفيذها!
وبدون أي تفاصيلٍ تُذكَر عادت سهيلة إلى المنزل بملامح جامدة واتجهت نحو غُرفتها تنام على فراشها بصمت دون الحديث أو حتى البكاء!
دخل قاسم إلى والدته للمرة الأخيرة حتى يطمئن عليها فوجد أن جميع مؤشراتها الحيوية جيدة وتُبشر بالخير، ليهبط على جبينها مُقبلًا إياه بعمق أثناء قوله الهامس بحب: حمدالله على سلامتك يا روح قلبي.
اعتدل في وقفته ثم اتجه خارج غرفة العمليات ليجد شقيقه جالسًا مهمومًا ومعالمه يظهر عليها الوجوم والضيق، نفخ قاسم بثقل قبل أن يجلس بجانبه ويردف يائسًا: يابني هتفضل قاعد ومكشر؟ فُك شوية مش كدا!
رد عليه قاسم بضيق: سيبني في حالي دلوقتي يا قاسم عشان أنا دمي محروق خِلقة.
سحب قاسم نفسًا عميقًا ثم زفره على مهل قبل أن يردف بهدوء قائلًا برزانة: بُص يا صهيب أنت عارف إن حبيبة مراتك ملهاش غيرك، مش هقولك إن مش من حقك تزعل منها بس على الأقل متقساش عليها، أنا لو مكانها هفكر نفس تفكيرها، هي اتخذلت من أقرب الناس ليها واللي كانوا أمها وولاد عمها، وأنت كمان قولتلها إن أنت أخويا فطبيعي يكون دا تفكيرها وتصدق الرسالة اللي جَت ليها، دورك إنك تحتويها في الوقت دا وتحاول تخليها تثق فيك أكتر من الأول علشان لم تحكيلها الحقيقة متتصدمش فيك.
كان قاسم مُحِق في كل كلمة قالها، أرجع صهيب رأسه للخلف ثم تشدق بألم: أنت مش متخيل وجعي كان عامل إزاي وهي بتقولي خُد كُل فلوسي بس متسبنيش!
ربت قاسم على فخذه قائلًا بمؤاذرة: مراتك محتاجالك فمتسيبهاش في الحالة دي، لا تكن حَلوفًا.
ضحك صهيب بخفة ثم اعتدل واقفًا وهو يقول: طيب أنا هرجع بقى علشان مسيبهاش لوحدها في البيت أكتر من كدا، وابقى قول لمراتك وحياة أمك متهددنيش أصلي بخاف منها.
قال جُملته الأخيرة بسخرية جعلت الآخر يُقهقه عاليًا قبل أن يقول بعبث: براحتها.
رد عليه صهيب بغيظ قبل أن يبتعد عنه: واللهِ ما فيه غيرك اللي مدلعها.
ليتحدث قاسم بهمس بعد أن ابتعد شقيقه عن أنظاره: أعيش وأدلعها.
تم إنهاء جميع الإجراءات وإخراج چون من المشفى بعد أن وفروا له جميع أجهزة العناية المُناسبة له حتى يكون بمأمن بعيدًا عن المُتربصين به، وعاد الجميع للقصر بهدوء وكأن لم يحدث شيء طيلة اليوم!
دخل قاسم الغُرفة بإرهاق شديد وخلفه أهلة التي تثائبت بتعب شديد، حكّ قاسم عنقه ثم تحدث لها قائلًا: استني متناميش هدخل آخد شاور وهعمل أكل عشان ناكل سوا.
أومأت له أهلة بهدوء ليدخل هو للإستحمام ويُريح أعصابه المُنهكة من تعب اليوم، بينما هي اتجهت نحو الخزانة وقامت بإختيار ملابس مناسبة مريحة لإرتدائها.
وبعد ربع ساعة خرج قاسم من المرحاض بعد أن استحم وبدل ثيابه، اتجه نحو أهلة ثم أردف بإبتسامة هادئة: تعالي يلا ننزل نعمل أكل.
قطبت أهلة جبينها مُردفة بتعجب: بس دا الساعة 12!
غمزها بمشاكسة قائلًا: ومالو. تعالي نعيش اللحظة.
قالها ثم أمسك بيدها ساحبًا إياها خلفه، هبطوا السلالم ثم اتجهوا نحو المطبخ ليقول قاسم بتفكير: أعمل إيه. أعمل إيه!
نظر ل أهلة ثم تسائل حائرًا: أعمل إيه؟
هزت كتفيهل بجهل أثناء قولها: مش عارفة، بس تعالى نعمل مكرونة مثلًا؟
استحسن فكرتها فأردف بإبتسامة مُتسعة: هعمل مكرونة بالصوص الأبيض والفراخ البانيه.
اتسعت ابتسامتها قائلة بحماس: الله موافقة جدًا.
اتجه قاسم نحو أدراج المطبخ يبحث داخلها عن المكونات لبعض الوقت، و أهلة اتجهت إلى الثلاجة لإخراج قطع الدجاج التي من المُفترض طهيها، وبعد وقتٍ قليل وجدوا جميع الأشياء التي يحتاجونها.
جذب قاسم يد أهلة حتى تقف بجانبه، ثم أردف بصرامة مُصطنعة: ركزي في كل اللي هعمله عشان أنتِ اللي هتعمليها المرة الجاية.
أومأت له أهلة بحماس جعل قاسم يضحك بخفة على ردة فعلها، وبعدها بدأ يصنع الطعام بكل حب وهي تُتابعه بشغف وإهتمام.
كان قاسم يطهو وهو يقوم بشرح ما يفعله لها وكأنها طفلته: هنسلق المكرونة لوحدها الأول، وبعد كدا هنعمل الصوص هو شبه صوص البشاميل شوية، هتحطي معلقتين سمنة عليهم معلقتين دقيق وتقلبيهم لحد ما التدقيق يستوي وريحته تبقى حلوة، وبعد كدا ننزل فوقه بشوية لبن لحد ما يكون خليط مُتماسك، وقبل دا كله تكوني مجهزة بصلة متوسطة تكوني عاملاها في زيت مع فلفلاية صغيرة وقالب شوربة كبير وتقلبي كويس، وبعد ما خليط اللبن والدقيق يغلي ننزل فوقيهم بالبصل والفلفل المتشوحين كويس وعليهم عودين شبت وبقدونس وشوية كُزبرة ناشفة، وبعد دا كله ما يتقل مع بعضه تصفي المكرونة كويس بعد ما تستوي وتحطي فوقها الصوص وتقلبيها كويس.
أنهى عمل الطعام ثم صبهم في أطباق زجاجية بيضاء وزينهم بقطع الدجاج المُحمرة فباتت وجبة لذيذة وعالمية، أدار قاسم الطبق حول نفسه ثم التف إلى أهلة غامزًا إياها بعبث أثناء قوله: وبألف هنا وشفا على قلب الكفاءة القمر.
اتسعت ابتسامة أهلة بعفوية ثم أردفت بإمتنان: تسلم إيدك بجد.
بادلها قاسم الابتسامة ثم اتجه نحو الثلاجة مُخرجًا منها مشروب غازي قام بصبه في كأسين كبيرين، وبعدها قام برص تلك الأشياء على صينية صغيرة الحجم حتى يحملها، لكن أهلة اعترضت بكبرياء قائلة: بما إني السِت هنا فأنا اللي هشيل الصينية.
جعلها قاسم تحمل الصينية بالفعل ثم انحنى قليلًا مُشيرًا بذراعه نحو الخارج أثناء قوله: تفضلي أميرتي.
سارت أهلة ضاحكة وهي تحمل الطعام بين يديها ثم صعدا معًا لغرفتهم مُجددًا، وضعت أهلة الطعام على الطاولة التي أمام المدفئة وشاشة التلفاز، فجلس قاسم مُرتاحًا على الأريكة التي تُقابلهم ثم أمسك بجهاز التحكم جالبًا إحدى أفلام الرعب التي قرروا مشاهدتها اليوم.
جلست أهلة بجانبه مُعطية إياه طبق المعكرونة خاصته، ثم أخذت خاصتها وبدأت بتناوله بتلذذ شديد وكذلك هو، أمسكا كأس المشروب الخاص بهما ثم ضربا الكأسان ببعضهما البعض وهم يضحكان، وانتهت ليلتهم الجميلة هكذا، طعامٌ جميل مُشترك، مشروب غازي رائع، وفيلم رعب مُفضل لهما، وفي نهاية الجلسة جذبها قاسم لأحضانه لإستكمال فيلمهم.