قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية حارة القناص الجزء الأول للكاتبة شروق حسن الفصل السابع والثلاثون

رواية حارة القناص الجزء الأول للكاتبة شروق حسن الفصل السابع والثلاثون

رواية حارة القناص الجزء الأول للكاتبة شروق حسن الفصل السابع والثلاثون

أنا التائهة بين شوارع الظُلمة، أتيتكَ هروبًا واتخذتك ملجئًا؛ فخذلتني.
كانت حبيبة متكومة على ذاتها على الفِراش تضم رُكبتيها لصدرها ودموعها تهبط بقوة تَزامنًا مع صعود شهقاتها المُتألمة، حديثه نحر فؤادها بسكينٍ تالم وهي التي كانت تختبيء من ظُلم العالم داخله!

كان صهيب جالسًا على طرف الفراش ينظر لها بيأس بعد أن فشلت جميع محاولاته في مُصالحتها، لكنه تحدث قائلًا بإعتذار شديد: طيب حقك عليا والله متزعلش مني، أقسملك بالله مكنش قصدي أقول كدا بس أنا عصبيتي عمتني.

لم تُجيبه حبيبة بل ظلت جالسة كما هي تحتضن ذاتها أكثر وكأنها تُواسيها! وقف صهيب من مكانه ثم اقترب منها جالسًا أمامها مُستندًا برُكبتيه على الأرض، وبعدها تشدق بحزن: واللهِ ما قصدي أزعلك أنا أسف، عشان خاطري سامحيني.
قال جُملته الأخير ثم أمسك بكف يدها فوجده باردًا للغاية، اشتد الحُزن داخل عيناه عندما سحبت كفها على بغتة ثم انتفضت من مكانها مُبتعدة عنه حتى توقفت بعيدًا عن الفِراش.

ابتلع صهيب ريقه بصعوبة وقد علم الآن أن مُهمة مُصالحتها الا صعبة للغاية، هو قسى عليها في الحديث لكن رغمًا عنه، يَحبها لكن يكره ضعفها، اعتدل في وقفته ثم اقترب منها مُتحدثًا بصوتٍ هاديء: حبيبة اسمعيني عشان خاطري، أنا عارف إني غلطت في حقك أوي وجرحتك بكلامي بس مش قصدي ليكِ أي إهانة والله، أنا حبيتك وأنتِ كدا ولسه بحبك، بس أنا فعلًا عايزك تتعالجي علشان خاطر نفسك مش علشاني، أنتِ من حقك تحبي نفسك وتثقي فيها وتثقي في اللي حواليكِ.

لم تسمع لأي كلمة مما قالها سوى بعض الكلمات القليلة التي وصلت لعقلها المُشوش، وكأن إحدى نوباتها السابقة بدأت تُسيطر عليها من جديد، تتذكر الجُزء المؤلم من الحديث دون النظر إلى معناه، شعرت بأصابع صهيب تضمها من كتفيها فانتفضت مُبتعدة عنه تزامنًا مع صراخها به: ابعد عني وملكش دعوة بيا بقى.
صُدم صهيب من حالتها المُهتاجة التي تلبستها فجأة ثم تحدث بقلق مشدوهًا: في إيه يا حبيبة مالِك؟

احتل الضعف جسد حبيبة وذكريات كُره الجميع لها تلوح أمام ناظريها، منبوذة، مكروهة، بشعة، ومريضة!
هبطت دموعها حسرةً وهو كان يُتابعها بقهر، يود أن يصفع نفسه آلاف المرات لإيصالها لتلك الحالة، لكن يُقسِم أن غرضه صالحًا ليس كما فهمته، تحركت حبيبة من مكانها ثم اتجهت نحو باب الغرفة لتفتحه، هرول إليها صهيب مُمسكًا بيديها الموضوعة على مقبض الباب أثناء سؤاله المُنصدم: راحة فين في الوقت دا يا حبيبة؟

رفعت أنظارها له تُطالعه بأعيُن مُمتلئة بالدموع وكأنها تُوجِه له عتابًا، وبعدها تحدثت بضعف وهي تدفع يده بعيدًا: مش عايزة أقعد معاك أنا همشي.
قالتها ثم فتحت الباب وخرجت تاركة إياه ينظر لأثرها بصدمة بعد أن تصنم في مكانه بسبب حديثها الطاعِن لفؤادها، استفاق على ابتعادها عنه عدة خطوات فهرول إليها مُسرعًا حتى توقف أمامها يمنعها من الإستكمال مُتحدثًا بألم: هتمشي تروحي فين؟ هتبعدي عني؟ ههون عليكِ؟

وتلك المرة لم تتحمل مقدار الألم القابع فوق صدرها والذي كاد أن يفتك بأنفاسها، لذلك صرخت به بألم وهي تدفعه من صدره: طب ما أنا هونت عليك، ليه أنا أهون عليك وأنت متهونش عليا ها؟ أنت زيك زيهم بترمي الكلمة وبترجع تعتذر وكإني آلة مش من حقي أزعل، محدش حاسس بيا ولا حد عاش اللي أنا عيشته، أنا مش عايزة أعيش معاك يا صهيب، مش عايزة أعيش معاك ولا مع أي حَد، عايزة أبعد عن الناس كلها علشان هما مصدر الأذى اللي في حياتي.

قالت جُملتها الأخيرة بألم شديد ثم انفجرت في البكاء، هي رقيقة كطائرٍ يسعى للسلام، لكن البشر لم يتركوها تنعم بعيشتها السالمة وتفننوا في اصطيادها لأذيتها، وهو جاء كفارسها المغوار أخرج سيفه وحارب الجميع من أجلها، لكن جروحها لم تلتئم بعد فأتى هو وتحدث بكلماتٍ غير مقصودة نغصت معيشتها.

عادت للخلف مُلتصقة بالحائط الذي خلفها واضعة كفيها على وجهها لتُخفيه عن نظراته المصدومة، كان حديثها بمثابة الفأس الذي هبط فوق رأسه ضاربًا إياه بقوة فعجز عن الرد والدفاع، ظل صامتًا ينظر إليها بصمت وجسده مُتنصم مكانه، ليخرج من صدمته مُقتربًا منها حتى توقف قبالتها مُباشرة هامسًا برجاء: حبيبة. حبيبة بُصيلي عشان خاطري.

زادت حبيبة في البكاء عند استماعها لنبرة صوته الضعيفة، مما جعله يمد يده مُمسكًا بخاصتها باعدًا إياهم عن وجهها المُمتليء بالدموع ثم تشدق بألم: وغلاوتك عندي ما قصدي أزعلك ولا أوصلك للمرحلة دي، أنا عُمري في حياتي ما كنت زي باقي الناس وعايز آأذيكِ أو أخلي دموعك تنزل، أنا همي الوحيد إني أخليكِ مبسوطة والضحكة منورة وشك عشان أنتِ الوحيدة اللي بتخليني فرحان، أنا أسف والله حقك على قلبي.

أنهى حديثه ثم رفع كفيها مُعًا مُقبلًا إياهم بعشق شديد، وهي كانت تشهق بخفة أثر البُكاء العنيف لفترة طويلة، نظراتها المُعاتبة قاتلة، ودمعاتها الحزينة تُهلكه، لكن ماذا عساه أن يفعل؟ لقد أعماه غضبه وانفجر بها دون قصد.

كادت حبيبة أن تفتح فاهها للرد؛ لكن قاطعها فتح باب الغُرفة المُجاورة لخاصتهم وخروج كُلًا من قاسم وأهلة منها بعد أن استمعا لصوت بُكاء وهمهمات تأتي من الخارج، فخرجا خشيةً من أن يكون أحد قد أُصيب بمكروهٍ ما.
احتدت عينيّ أهلة بغضب عندما رأت وجه حبيبة الأحمر ودموعها التي تُغرِق وجهها، وما إن رأتها حبيبة حتى ابتعدت عن صهيب تاركة يده وانطلقت إليها تحتضنها ببكاءٍ شديد.

اقترب قاسم من أخيه ثم تحدث بضيق بعد أن رأى حالة زوجته: هو دا اللي عاملها براحة يا صهيب؟
دافع صهيب عن ذاته قائلًا بيأس وهو يصرخ به: وأقسم بالله عمَّال أصالح فيها من ساعة ما جيت وهي مش راضية تسمعني، أعمل إيه تاني يعني؟
متعملش يا عسل أنا اللي هعمل.
قالتها أهلة بقسوة ثم سحبت يد حبيبة خلفها لتدلف إلى غرفتها هي و قاسم ثم أغلقت الباب بعنف في وجه كليهما تاركة إياهم يفرغون فاههم بصدمة من فعلتها!

نظر صهيب ل قاسم متسائلًا بعدم تصديق: هي عملت إيه؟
رمش قاسم بأهدابه عدة مرات حتى استطاع الإستيعاب أخيرًا، وبعدها اتجه نحو الغرفة يضرب على باب مُناديًا بسخط: افتحي الباب يا أهلة إيه الجنان دا؟
أجابته أهلة من الجهة الأخرى بعناد: لأ مش فاتحة و حبيبة هتبات معايا النهاردة، أنا حذرته إنه ميزعلهاش وهو مهمهوش.
رد عليها قاسم غاضبًا: ملكيش دعوة يا أهلة وخليهم يتصافوا مع بعض.

صرخت أهلة بالمقابل: يعني مش شايف عمايل أخوك؟
نظر قاسم لأخيه وما كاد أن يفتح فمه حتى يتحدث، فسبقه صهيب صارخًا بغضب: شايف عمايل مراتك؟
شدَّ قاسم ثيابه ثم أردف صارخًا بهم: مش شايف. مش شايف حسبي الله ونعم الوكيل أنا طهقت.
صرخ بها بنبرة أقرب ما تكون لصراخ النساء مما جعل الطرفين يصمتان ولو لثوانٍ، وبعدها تحرك من مكانه بخطوات غاضبة بعد أن تحدث حانقًا بغضب: ماشي يا أهلة حسابك معايا بعدين.

سار خلفه صهيب يلومه بسخرية تُشبه سخريته عليه عندما كان صغيرًا، فأردف مُستنكرًا وهو يُقلده: براحتها. أعيش وأدلعها. أديها ادتنا على قفانا إحنا الاتنين ياخويا.
توقف قاسم عن السير ثم استدار له رافعًا إصبع سبابته أمام وجهه مُحذرًا إياه: أنت عارف لو فتحت بوقك تاني أنا هعمل فيك إيه؟

استنكر صهيب طريقة تحدثه معه، فرفع رأسه للأعلى بغرور وكبرياء مُتحدثًا بعنهجية: صوتك ميعلاش عليا ياض، أنت دلوقتي مطرود من أوضتك ومش فاضلك غيري، يعني إلتزم هدوءك وإحترامك بدل ما تنام على الكنبة.
رفع قاسم إحدى حاجبيه مُتسائلًا بشر: بتقول لمين الكلام دا؟

كاد صهيب أن يعيد حديثه لكنه صمت فجأة عندما تذكر مشهد مُقارب لهذا وقام بتهديده أيضًا، ليقوم الآخر بطرده دون أي ذرة شفقة، لذلك تحدث بابتسامة غبية بعض الشيء: بقولك تعالى نام معايا ياخويا على الأقل هتونسني.
طالعه قاسم بإشمئزاز ثم استدار مُبتعدًا عنه وهو يُتمتم في سره بحنق: منك لله أنت ومراتك ومراتي.

أحيانًا يأتي على الإنسان موعدًا يشعر فيه بأنه على مشارف الموت، الحُزن يُهلِك صاحبه ويُنهيه، والبكاء يُنهِك القلب ويُلهيه، الدموع تحرق الوجه فُ تُحيي تلك المشاعر الكامنة بين أضعلك لتسترضيه.

كانت سهيلة تهرب من واقعها المرير والمليء بالوحشة بواسطة النوم، ولسوء حظها لاحقها الواقع حتى في وقت راحتها، أعاد لها ذِكرى زيارتها ل عائشة للمرة الأخيرة، حينما خطت الخطوة الأولى داخل منزلها ليتغلغل أنفها رائحة المِسك الفواحة التي تملأ المكان!

أمسكت مريم بكفها المُرتعش والتي كانت تكتم بكاؤها بصعوبة هي الأخرى، فطالعتها سهيلة بشرودٍ ومعالم وجهها حتى الآن مازالت مصدومة! دلفوا للداخل معًا فوجدوا صوت القرآن يملأ أركان المنزل، وهمهمات باكية تصدر من النساء، اقتربا أكثر فوجدوا والدتها تجلس على الأريكة وسط النساء وبجانبها ابنتها البكرية تُحاول كتم دموعها بصعوبة، اقتربت منها مريم أولًا ثم احتضنتها قائلة ببكاء رغمًا عنها: البقاء لله يا طنط.

بادلتها الأخرى العناق قائلة بصوتٍ مبحوح: ونعم بالله يا حبيبتي اتفضلي.
ابتعد عنها مريم ثم جلست على أحد المقاعد وجاء دور سهيلة التي كانت تضغط على أصابعها بقوة حتى كادت أن تكسرها، اقتربت منها ببطئ أثناء كتمها لبكاؤها بصعوبة، وبعدها احتضنتها هامسة لها: البقاء لله.

قالتها ورغمًا عنها خانتها الدموع وهبطت مُعلِنة عصيانها، ربت والدة عائشة على ظهرها بحنان ثم واستها بتماسك قائلة بصوتٍ حنون: إهدي يا حبيبتي دا قدر ربنا.

شددت سهيلة من عناقها وشهقاتها تعلو تدريجيًا دون إرادتها، كانت جميع النساء ينظرن إليها بشفقة وفي الحقيقة هي لم تهتم لهن أو تشعر بالحرج، بل ظلت تبكي في أحضان والدة صديقتها التي كانت تستقبل أمر وفاة ابنتها بصدرٍ رحب وكأنها كانت تتوقع رحيلها عنها يومًا ما، وبعد دقائق من البكاء والعويل خرجت سهيلة من أحضانها هاتفة برجاء وصوت بكائها يُقطِّع نياط القلوب: عايزة أشوفها لآخر مرة عشان خاطري، آخر مرة بس في حياتي.

تكونت دموع الأسى في عين الأخرى وكأنها كانت تضع حاجزًا واهيًا لثباتها، ففي النهاية هي قد فقدت ابنتها وفلذة كبدها وجوهرتها الثمينة، ابتلعت غصتها بصعوبة ثم أومأت لها مُمسكة بكفها لتتجه بعدها نحو غرفة عائشة وخلفهما مريم التي كانت تبكي بصمت.

اتجه الجميع نحو الغرفة بخطواتٍ مُرتعشة وأوصالهم ترتجف من بشاعة الحقيقة المُرة، فتحت لهم والدتها باب الغرفة ثم أشارت لهم بكفها للدخول، وبعد أن دلفت كلتاهما أغلقت الباب خلفهما واتجهت للجلوس مع النساء مرة أخرى بقلبٍ يكتوي بنار الفراق الحارقة.

رائحة الغِرفة كالمِسك الطيب يُشرِح القلوب، السكون الهاديء يعم المكان ويبث الراحة لأفئدتهم رغم بشاعة الموقف! أمسكت مريم بكفِ سهيلة تضغط عليه بقوة ثم اتجهوا نحو فِراش عائشة، كانت مُغطاه بشُرشف أبيض من أولها لآخرها، ومع اقترابهم منها تزداد رائحة المِسكُ العطرة، مدت سهيلة كفها لتُزيح الحاجز من على وجهها، وبعدها شهقت مصدومة عندما رأتها أمامها، كانت تعلم أن الأمر سيكون صعبًا للغاية، لكنها لم تكن لتتوقع بأنه سيكون بكل ذلك الألم! صديقتها مُتمددة على الفراش جُثة هامدة لا حياة ولا روح فيها، وجهها مُمتليء ومضيء كوجه القمر، ابتسامتها! وآه من ابتسامتها الجميلة التي تتشكل على ثُغرها لتضفي نورًا وجمالًا لوجهها، خاتمتها كانت رائعة لها ومؤلمة لهم، ما حصدته في الدنيا من عملٍ صالح وصومٍ وزكاة ماتت عليه لتُقابل به رب كريم، نهايتها جميلة ووجهها أجمل، الشيء الوحيد البشع هو ابتعادها.

سحبت سهيلة المقعد ثم وضعته بجانب فراشها وجلست عليه، مالت على جبينها تُقبله ببكاء وبعدها أردفت ببكاء عنيف: ليه يا عائشة تمشي وتسيبيني دلوقتي؟ أنا كنت لسه محتاجالك، كنت عايزاكِ تكملي المشوار معايا ومتسبنيش، كنت عايزاكِ تكوني أول واحدة تشوفني وأنا مُحجبة، كنت عايزة أشوف فرحتك، كنت عايزة أقولك إن أنتِ أجمل حد أشوفه في حياتي، أنا كنت عايزاكِ معايا ليه تمشي وتسيبيني دلوقتي؟

انهمرت دموعها بقوة تزامنًا مع ارتفاع صوت شهقاتها التي امتزجت بشهقات مريم التي لم تستطيع التحمل أكثر من هذا، اقتربت منها مريم حتى وقفت من الناحية الأخرى ثم مالت على جبين عائشة تُقبله بحنان أثناء همسها الخافت: إن لله وإنا إليه راجعون، ربنا يرحمك يا حبيبتي ويصبرنا على فراقك.

قالت جملتها ثم اتجهت نحو سهيلة تجذبها نحو أحضانها، بكت سهيلة على صدرها بعنف وهي تُطالع صديقتهم الثالثة والتي صعدت روحها إلى السماء تاركة إياهم يلتوون بنار الهجر، وبعدها مر الوقت ولم يشعرون بشيء سوى أن اليوم مر سريعًا واحتضن جسد صديقتهما التُراب بعد أن ودعوها وداعًا أبديًا تنزف له الأرواح.

شهقت سهيلة بعنف بعد أن تذكرت كل ما مرت عليه ليلة أمس أثناء نومها، طالعها رائد برعب والذي كان يهزها بخفة ليحثها على الإستيقاظ بعد أن لاحظ ملامحها المُتشنجة ودموعها التي تهبط من بين أهدابها المُبتلة.

رفعت سهيلة أنظارها لشقيقها الذي لم ينفك عن سؤالها عن سبب حالتها تلك، لترتمي داخل أحضانه شاهقة ببكاءٍ عنيف يُقطِّع الأنياط، احتضنها رائد برعب فأردف بفزع وهو يُربت على ظهرها: مالك يا سهيلة؟ مالك يا حبيبتي بتعيطي ليه؟

كانت سهيلة لا تستمع إليه ولا حتى لسؤاله، فقط كان صوت بكاؤها يصم آذانها وفؤادها يصرخ من الألم حتى صمَّ أُذنها، كاد رائد أن يُصاب بالجنون لظنه بأنها قد أصابها مكروهًا، ورغم ذلك انتظر قليلًا لبضعة دقائق حتى هدأت قليلًا ثم سألها بحنان: مالِك يا حبيبتي حَد عملك حاجة؟
هزت سهيلة رأسها بالنفي، ليقوم بسؤالها مرة أخرى دون أن يشعر بالكلل أو بالملل: طيب زعلانة ليه؟

خرجت سهيلة من أحضانه ثم أجابته بإرتعاش والقهرة تظهر بوضوح على صوتها: ع. عائشة صحبتي ماتت إمبارح.
ضيق رائد جبينه قليلًا يُحاول تذكر ذلك الإسم الذي سمعه من قبل، لتمر ثواني حتى أردف بتذكر مُتسائلًا: صحبتك اللي كانت معاكِ في الجامعة؟

أومأت له سهيلة ببكاء، ليحتضنها مرة أخرى هامسًا بحزن: لا إله إلا الله. ربنا يرحمها يارب. مش هقدر أقولك متزعليش بس ادعيلها بالرحمة وقومي صلي ركعتين لله اطلبي فيهم من ربنا إنه يكون رحيم بيها ويسكنها فسيح جناته، هي دلوقتي مش عايزة منك غير كدا.
ردت عليه سهيلة هامسة: ماتت وهي بتصلي القيام.

أغمض رائد عيناه مُتألمًا وتسللت الدموع لعيناه مدهوشًا: يا الله على جمال خاتمتها؟ ربنا يرزقنا كلنا حُسن الخاتمة، هاجي معاكِ النهاردة تروحي تزوريها في المقابر.
خرجت سهيلة من أحضانه مُتحدثة بلهفة: بجد يا رائد؟
أومأ لها رائد مُبتسمًا: بجد يا قلب أخوكِ، المهم قومي اغسلي وشك يلا ونامي شوية وأنا هنام جنبك النهاردة، وبكرة الصبح هنروح نزورها سوا.

ارتمت سهيلة داخل احضانه قائلة بصوتٍ باكٍ: ربنا يخليك ليا يا رائد وميحرمنيش منك يارب.

وبالعودة إلى أهلة وحبيبة.
جلست أهلة على الأريكة وبجانبها حبيبة التي مازالت تبكي، انحنت أهلة بجسدها قليلًا ثم التقطت كوب المياه ثم اعطته ل حبيبة تزامنًا مع قولها الحنون: خُدي يا بيبة اشربي واهدي.
تناولت منها حبيبة كوب ثم ارتشفته على مهل، وبعدها أعطته للأخرى مجددًا أثناء مسحها لوجهها المُبتل بالدموع بكف يدها، وضعت أهلة الكوب محله مُجددًا ثم استدارت لها مُتحدثة بانتباه: ها إيه اللي حصل بقى؟

عادت الدموع تتجمع بحدقتي حبيبة مُجددًا، لتُنبهها أهلة بتحذير هاديء: من غير عياط، احكي من غير عياط.

حاولت حبيبة التحكم بذاتها وهي تُوميء لها بالإيجاب، وبعدها بدأت بقص كل ما حدث بينها هي و صهيب منذ أن أخذها من المشفى والغضب يعميه حتى وصلوا إلى المنزل وصراخهم وشجارهم العنيف، وكذلك روت لها حديثها المُغفل معه ورده عليها بأنها مريضة نفسية، ومع حديثها الأخير انفجرت في البكاء المرير وحديثه مازال يتردد داخل أذناها.

جزت أهلة على أسنانها بغيظ ثم اقتربت منها وجذبتها لأحضانها تُربت على ظهرها بحنان، ظلا هكذا لبضعة دقائق تُهدهدها برقة، وبعدها أخرجتها من أحضانها مُتسائلة بحذر: يعني هو قالك أنتِ مريضة ومحتاجة تتعالجي بس ولا قال حاجة تاني؟
ابتلعت حبيبة ريقها ثم أجابتها بصوتٍ مبحوح: قالي أنتِ مريضة ومحتاجة تتعالجي تثقي في نفسك تاني.
زفرت أهلة براحة قائلة: يا شيخة خضتيني بحسب قالك كدا بس.

طالعتها حبيبة بتعجب ثم أردفت بحزن: وهو هيقول إيه أكتر من كدا؟
اعتدلت أهلة في جلستها ثم أمسكت كفها تُشدد عليه بقوة، ثم وضحت لها بحنان قائلة: بصي هو فيه حاجة بيني وبين جوزك لله مخلياني عايزة أتخانق معاه على طول ومش طيقاه بس...
قاطعت حبيبة حديثها بحنق وهي تنغزها في جانبها قائلة: متتكلميش عليه كدا.

لوت أهلة شفتيها بضجر شاهقة بسوقية: لأ بقولك إيه أنا اتكلم زي ما أنا عايزة، واسمعيني للآخر بقى بدل ما أطلقك منه وأكون سبب في خراب بيتك.

طالعتها حبيبة بضيق ثم لزمت الصمت، لتسحب أهلة نفسًا عميقًا وبعدها أدرفت قائلة: بُصي يا ستي، أنتِ كلامك كان غلط ودا مفيش خِلاف عليه، مفيش واحدة سِت تقول لجوزها متسبنيش وأنا هكتبلك كل فلوسي، مفيش راجل بيقبل دا على نفسه، ورد صهيب عليكِ مكنش زي ما أنتِ فاهمة، هو قالك أنتِ محتاجة تتعالجي عشان تثقي في نفسك وبصراحة هو معاه حق، أنتِ دايمًا بتقللي من نفسك علشان خاطر غيرك وبتحُطي خاطرك آخر هَمك، محتاجة تروحي لدكتور نفسي يتابع معاكِ عشان خاطر نفسك أنتِ، هو ممكن يكون قصده كدا بس هو حمار والتعبير خانه شويتين.

كانت حبيبة قد فكرت في صِحة حديثها وأنها لربما أخطأت الفهم وهو أخطأ التعبير، ومع اكمالها لحديثها اقتنعت بالفعل، لكن مع حديثها الأخير تلوى ثُغرها بضجر ثم أردفت بحنق: يوه بقى يا أهلة متشتمهوش.
طيب ياختي مش هشتمه، المهم بقى أنا عايزاكِ ناصحة وتسمعي كلامي في كل كلمة أقولهالك عشان يبقى ياخده باله من ملافظه بعد كدا.
تسائلت حبيبة بإستغراب: يعني هعمل إيه؟
ارتسم الخبث على وجه أهلة أثناء قولها الماكر: هقولك.

حينما ينمو الأمل ينمو معه الشغف للحياة، صعدت الشمس تتراقص بأشعة خفيفة لكن بلا حرارة، فالجو بارد والغيوم كثيرة إلا من بعض البقاع القليلة، مسدت لوسيندا على خصلات چون ومن الحين للآخر كانت تُقبل جبينه بحنان وهي تبكي خوفًا.

نظرت لجميع الأجهزة المُوصلة لجسده العاري المُغطى بحزنٍ شديد، لا تعلم مقدار الألم الجسدي الذي يشعر به، لكن آلامها النفسية تُؤلمها وبقوة، تشعر بقلبها يُعلِن عصيانه وتمرده، مالت برأسها تُقبِّل موضع جُرح صدره ودموعها تهبط بصمت، تخاف أن تمر الأيام دون أن ترى عيناه، هي تعشقه ولا تستطيع العيش بدونه، استندت برأسها على الوسادة المُجاورة له ثم أردفت بصوتٍ مبحوحٍ باكٍ:.

هيا استيقظ چون لا أستطيع العيش بدونك، لوسيندا تشعر بالوحدة والألم دونك چون.
هبطت دموعها على جانب وجهها وهي تميل برأسها، ثم رفعت أصابعها لتَمُر على معالم وجهه، وبعدها تحدثت بضحكٍ متقطع: سأجعلك تُغازل تلك الفتاة الشقراء ولن أغار، لكن بعدها سأقتلها.
حاولت التحكم بدموعها وتلك الغصة المؤلمة التي تُسيطر على حلقها، ثم أكملت حديثها ببكاء: اشتقت إليك أيها القاتل المُختل، قاتل لكنك حنونًا.

دفنت رأسها في كتفه ويدها مُتمسكة بقوة في يده، وبعدها انفجرت في البكاء المرير وهي تقول بصوت مقهور: هيا استيقظ أرجوك. أرجوك!
ظلت تترجاه بصوتٍ خافت وبكاء شديد حتى تعبت ونامت بجانبه، لقد أنهكها البكاء لكن هو يستحق!

استيقظ قاسم من نومته فوجد أخيه يُحيط بخصره بشدة وهو قريب منه!
انتفض قاسم من نومته ناظرًا ل صهيب بريبة، وبعدها دفعه بإشمئزاز هاتفًا بسخط: يا أخي ابعد بقى أنا مش مراتك.
شدد صهيب من احتضان خصره أكثر وهو يُهمهم ببعض الكلمات الغير مفهومة، مما جعل قاسم يرفع يده عاليًا ثم هبط بها على وجهه وهو يصرخ بهلع: فوق يا حيوان يا قليل الأدب أنا أخوك.

انتفض صهيب بشهقة وعاد بجسده للخلف على بغتة مما جعله يقع بقوة على ظهره أثناء صراخه المفزوع: هجوم حلَّق عليهم.

نظر إليه قاسم ببلاهة لعدة لحظات قبل أن يعي للوضع وينفجر ضاحكًا بقوة، حكَّ صهيب مؤخرة ظهره بألم وهو يُطالعه بسخط واضح على معالم وجهه، لذلك حمل الوسادة الثقيلة ثم رماها على شقيقه دون أن يلحظ هذا، توقف قاسم عن الضحك عندما شعر باصطدام شديد على وجهه، لتحتد عيناه بغضب قبل أن يهب من مكانه ويتسائل بشر: أنت قد اللي أنت عملته دا؟
وقف صهيب واعتدل ثم أجابه بكبرياء: قده ونص واللي عندك اعمل. آاااه...

قال جُملته لكن صرخ مُتألمًا عندما قفز قاسم عليه مُسددًا إليه لكمة عنيفة أوقعته أرضًا مُجددًا، اعتدل صهيب في جلسته صارخًا به باهتياج: وعهد الله ما هحلك يا قاسم.
نطق به ثم اعتدل واقفًا وهرول خلف أخيه الذي ركض مُسرعًا نحو المرحاض وأغلق على ذاته من الداخل وهو يُقهقه بصوتٍ عالي، بينما صهيب طرق على الباب بقوة أثناء هتافه الغاضب: افتح الباب يلا بدل ما أكسره فوق دماغك.

كان قاسم قد بدأ بخلع ثيابه للإستحمام، ثم أجابه بإستخاف: روح شوف أنت رايح فين يلا وأنا هستحمى وأجيلك، وكدا كدا أنت معفن مش بتستحمى فروح غيَّر هدومك على الناشف لحد ما أخلص.
رفع صهيب يده ليشم جسده جيدًا أثناء همسه الخافت: أنا معفن يا نتن!

قالها بتشنج ثم تحرك من مكانه واتجه نحو خزانته ليُخرج ثيابًا نظيفة لإرتدائها، وبعدها سار حتى توقف أمام مرآته العريضة وقام بتهذيب خصلات شعره وكذلك ذقنه الطويلة نسبيًا بشكلٍ جذاب، مرت الدقائق وخرج قاسم من المرحاض وهو يُدندن بعض الكلمات بغناء أثناء تجفيفه لخصلات شعره المُبتلة بالمنشفة، فتح صهيب فاهه للتحدث لكنه صمت فجأة وهو يُطالع هيئته، لكنه تحدث بعدها قائلًا بحنق: هو مش دا القميص بتاعي.

قذف قاسم اامنشفة على الأريكة وثم عدَّل من ياقة القميص الذي يرتديه قبل أن يقول بعنهجية: اعتبره بقى قميصي بقى عشان عجبني.
اعترض صهيب بسخط: بس أنا ملبستهوش غير مرة واحدة.
بَر‌َكة، هاخده يعني هاخده.
لوى صهيب شفتيه بضيق قائلًا: حسبي الله ونعم الوكيل في الظالم وفيك وفي مراتك المُفترية.
اتجه إليه قاسم يُحيط به من كتفه، ثم أردف بضحكات عالية: على قلبي زي العسل.

مصمص صهيب على شفتيه أثناء اتجاهه هو وأخيه نحو الخارج فأردف: ومين يشهد للعروسة؟
غمزه قاسم بمشاكسة: جوزها.
هز صهيب رأسه بيأس ضاحكًا، وبعدها استمع إلى صوت قاسم الذي أردف بجدية: طبعًا أنت عارف إحنا هنعمل إيه صح؟
ارتدى صهيب قناع الجدية الزائفة وأكد عليه بقوله: طبعًا، لازم نعرفهم إن اللي حصل غلط وهنصدرلهم الوِش الخشب.

كانا حينها يهبطان على الدرج، وما إن رأوا كلًا من أهلة وحبيبة جالستان على الأريكة بجانب بعضهما البعض؛ حتى اتسعت ابتسامتهما تلقائيًا دون أن يستطيعا السيطرة عليها!
نظرت حبيبة ل أهلة بقلق، فطمئنتها الأخرى بنظراتها الصامتة، وما إن اقترب منهما قاسم وصهيب حتى ارتفع صوت أهلة تُحادث حبيبة وكأنها لم تراهم: وأنتِ ناوية على إيه بعد كدا يا حبيبة؟

ردت عليها حبيبة بخفوت: هطلب الطلاق، أنا معنديش استعداد أعيش مع واحد كل ما يشوفني يقولي أنتِ محتاجة تتعالجي.
تصنعت أهلة المسكنة بقولها: يا بنتي فكري تاني حرام عليكِ هتضيعي نفسك علشان راجل؟
كان صهيب يُتابع الحديث بتشنج، وبنهاية الحديث اقترب منهما بخطوات غاضبة حتى وقف أمام حبيبة مُباشرة وهو يتسائل بسخط: أنتِ قولتي إيه يا حبيبة؟ طلاق إيه دا اللي تطلبيه؟

حاولت حبيبة بقدر الإمكان السير حسب خطة أهلة ثم أجابته بهدوء مُفتعل: اللي سمعته يا صهيب، أنا مش هقدر أعيش معاك بعد كدا.
انحنى صهيب عليها ثم أمسك بها من كفها يسحبها خلفه بغضب دون الحديث، حاولت حبيبة سحب يدها منه وهي تُحدثه برقة وعتاب: يا صهيب سيب إيدي بتوجعني.

وهُنا صعدت الشرارة من عين أهلة عندما استمعت إلى نبرتها الرقيقة فهبت من مكانها على نية للحاق بهم وجذبها من خصلاتها، تلك الغبية ستُفسِد كل ما خططت له بسبب رقتها، لكن وجدت جسدها عالق على ذراع قاسم الذي سدّ عليها الطريق به، حاولت دفعه وهي تصرخ به بغضب: سيبني يا قاسم أروح أجيبها من شعرها، هتبوظلي كل اللي خططتله يخربيت الغباء.

أرجعها قاسم للخلف ثم أمسك بها من ياقة ثيابها يهزها بعنف: أنتِ يوم أهلك مش معدي النهاردة، أنا لسه محاسبتكيش على اللي عملتيه إمبارح.
توقفت أهلة عن الحركة ثم تسائلت ببراءة: وهو أنا عملت إيه يعني؟
رفع قاسم يده ثم أمسك بها من أُذنها يقرصها منها بقوة أثناء تأنيبه العنيف: يعني فيه واحدة مُحترمة ومؤدبة تحبس جوزها برا الأوضة هو وأخوه كدا؟

أجابته أهلة بتلقائية وهي تُشيح بيدها أمام وجهه: ما أخوك هو اللي مش متربي.
فتح قاسم عيناه على آخرهما صارخًا: نهارك أحمر أنتِ هبلة يا بت أنتِ؟ أخويا مين دا اللي مش متربي؟ دا مثال للشرف والأخلاق الحميدة.
تأوهت أهلة من ضغطه فوق أذنها فأمسكت بكفه قائلة برجاء: آه يا قاسم بقى سيب ودني، وبعدين أنت زعلت ولا إيه؟

دفعها قاسم مُعتاظًا دون أن يُجيبها ثم اتجه نحو الأريكة يجلس عليها بوجهٍ مُمتعض، ضيقت أهلة عيناها بشك فتسائلت مرة أخرى بصوتٍ خافت: قاسم أنت زعلت بجد؟
رفع قاسم أنظاره إليها ثم أجابها ساخرًا: وهزعل ليه لسمح الله؟ دا أنا واحد حيالله مراته طردته برا الأوضة ومعملتش حساب ليه ولا احترمته.

مطت شفتيها مُفكرة في حديثه بجدية فوجدت أن معه كل الحق، وأن تلك الفعلة ما هي إلا قلة إحترام له وفي حق ذاتها كذلك، لذلك اقتربت منه بتروٍ ثم جلست على مقربة منه قائلة بصوتٍ خافت بعد أن حمحمت بخجل: امم. خلاص متزعلش مني.

لم يُجيبها بل تصنع انشغاله بالهاتف مما زاد الضيق داخل صدرها أكثر، والشيء الأكثر صعوبة إليها هو أنها لم تعتاد يومًا على مُصالحة أحد، بل كانت تترك مَن يحزن منها حتى يشتعل مكانه، لكن في حالته فالأمر مُختلف تمامًا، فهو مُستثنى عن الجميع!

حمحمت مرة أخرى ثم اقتربت منه قليلًا فابتعد هو في المُقابل، رفعت حاجبيها بإستنكار ثم اقتربت مُجددًا؛ لتجده يبتعد أيضًا عنها، نفخت بغيظ فاقتربت منه على بغتة مُمسكة به من ذراعه قائلة بإلحاح: خلاص يا قاسم بقى متزعلش مني يوه! أنا قولتلك خلاص أنا غلطانة وأوعدك إني مش هعمل كدا تاني.
طالعها قاسم بطرف عينه مُتحدثًا بتساؤل وتحذير: وعد؟
استشفت أهلة اللين في نبرة صوته فأجابته بإبتسامة مُتسعة: وعد جدًا.

ارتسمت ابتسامة صغيرة على ثُغر قاسم وما كاد أن يرد عليها حتى انمحت ابتسامته فجأة وهو يُشير إلى ثيابها التي ترتديها بحنق: مش دا السويت شيرت بتاعي؟
هزت أهلة رأسها بالنفي مُصححة حديثه: بتاعنا.
نظر إليها قاسم بعدم رضا، فوقف من جلسته ثم أوقفها معه ناظرًا لثيابها بتقييم، تعجبت أهلة من فعلته تلك فتسائلت بتعجب: في إيه؟

أجابها قاسم بإبتسامة مُتسعة: عاجبني لبسك اليومين دول شوية، يعني بقيتي تلبسي بلوزات وبناطيل واسعة عكس اللي كنتِ بتلبسيهم.
نظرت أهلة لثيابها والتي كانت عبارة عن سويت شيرت بُني اللون خاص بقاسم لكنه طويل عليها وواسع أيضًا، وأسفله بنطال واسع من اللون الأسود أيضًا وحذاء من اللون الأبيض، رفعت أنظارها إليه فوجدته يُكمِل حديثه وهو يُشير نحو خصلاتها:
عقبال ما تداري شعرك خالص وتلبسي الحجاب.

وأنت عايزني ألبس الحجاب ليه؟
تسائلت بإستنكار، ليُجيبها بتشنج: يمكن عشان ربنا أمر بكدا مثلًا وأنا جوزك وهتحاسب عليكِ!
أرجعت أهلة خصلاتها للخلف وهي تُجيبه بغرور: كدا كدا هنتطلق فهتبقى مش مسئول عني.
جتك طلقة في جنابك.
همس بها ساخطًا ثم أكمل في سره: قال طلاق قال، دا لما تشوفي صرصور ودنك.

رسم على ثُغره ابتسامة صفراء وهو يُجيبها: أنا جوزك دلوقتي ومن حقي أتحكم فيكِ وفي لبسك بس أنا مش عايز أجبرك على دا بالذات علشان تبقي مُقتنعة بيه.
سخرت أهلة قائلة: والله جوزي؟ فين دا!
إلتمع المكر بحدقتيّ قاسم والذي اقترب منها فجأة ثم سحبها إليه على بغتة حتى بات وجهها مُقابلًا لوجهه مُباشرةً، ابتلعت أهلة ريقها بصدمة على اقتراب قاسم والذي تحدث هامسًا: هقولك أنا فين جوزك.

أنهى حديثه ثم مال على وجنتها اليُمنى يُقبلها بعمق، ثم ابتعد قليلًا واقترب من وجنتها اليسرى مُقبلًا إياها هي الأخرى، وبعدها أردف بخبث: اقتنعتي ولا أزوَّد في الدلائل والبراهين؟
ظهرت في تلك الأثناء مهرائيل من العدم والتي صاحت ب آلبرت الذي كان يهبط من على الدرج: تعال وانظر يا آلبرت ياخويا، إنهم يفعلون الفاحشة.
طالعها آلبرت ساخطًا قبل أن يقول بإستنكار: لا توجد فاحشة هُنا سواكِ.

احتل السخط وجه مهرائيل فتقدمت منه هاتفة بحنق: على فكرة مينفعش طريقة كلامك معايا دي، لازم تاخد بالك إني بنوتة رقيقة.
استغل قاسم انشغال الاثنين عنهما فقام بسحب يد أهلة ثم اتجها نحو الخارج، حاولت أهلة سحب كفها أثناء هتافها الحانق: عاجبك كدا! أهو فضحتنا.
تجاهل قاسم حديثها فأردف بحماس: عاملك مُفاجأة هتخليكِ طايرة من الفرحة.
نست أهلة حنقها منه فتسائلت بحماس مُماثل له: بجد مُفاجأة إيه دي؟

نظر لها قاسم أثناء اتجاههم نحو السيارة ثم غمزها بمشاكسة: هتعرفي لما نوصل.
صعدت معه أهلة للسيارة واستدار هو وجلس بالمقعد المُجاور لها وبعدها اتجه نحو وجهته المقصودة والغامضة بعض الشيء.

وبالداخل، حيث يقبع آلبرت وجروه.
وقف آلبرت من مكانه بعد أن أنهى كوب قهوته الخاصة وبعدها سار عدة خطوات نحو الخارج، لاحقته مهرائيل والتي تسائلت بحنق وضيق: طيب أنتَ رايح فين وسايبني؟ أنا بجد زهقت من القاعدة لوحدي.
رد عليها آلبرت بهدوء وهو يُغلِق زِر بذلته السوداء: لديّ أعمال عليَّ إنهاؤها.

سبقته مهرائيل بعدة خطوات حتى توقفت أمامه تقطع طريقه، وبعدها أردفت برجاء: طيب خُدني معاك عشان خاطري، والله زهقت من القاعدة بجد.
فكَّر آلبرت قليلًا حتى ارتسم على ثُغره ابتسامة خبيثة قبل أن يهتف مُوافِقًا: حسنًا، فلتصعدي إلى السيارة.
ورغم عدم راحة الأخرى لإبتسامته تلك، تشكلت ابتسامة مُتحمسة على ثُغره قبل أن تصعد بسرعة إلى السيارة، وبعدها صعد هو بجوارها مُنطلقًا بسرعة مُخيفة أدت إلى فزع الأخرى وصراخها!

استدار لها آلبرت قائلًا بمقط: إن استمعت لصراخك مُجددًا ستهبطين عنوة من السيارة.
ابتلعت مهرائيل ريقها بصعوبة، ثم رسمت على ثُغرها ابتسامة متوترة وهي تُجيبه: دا. دا أنا بصرخ من الفرحة، مش شايف الفرحة؟
كتم آلبرت ضحكته وأكمل القيادة بنفس السرعة بعد أن همس بيأس: جروٌ غبي لكنه. رائع!

بعد نصف ساعة وصل آلبرت إلى إحدى المناطق الصحراوية المُخيفة، طالعته مهرائيل بهلع ثم تسائلت بصوتٍ خافت: أنت. أنت هتقتلني ولا إيه؟
خلع نظارته الشمسية ثم رد عليها بنبرة غريبة عليها كُليًا: لا أستطيع فعلها.
توترت من نظراته التي أشعرتها بأنها عارية بعض الشي ثم أومأت له بشرود وهي تنظر إلى عيناه، غزا الاحمرار وجهها عندما غمزها قائلًا بعبث: هيا أيتها الحمقاء لدينا كثير من الأعمال.

حمحمت مهرائيل بحنق ثم هبطت من السيارة وسارت معه لبعض الوقت حتى وصلا إلى أحد البيوت المهجورة بعض الشيء، احتلت الحسرة وجه مهرائيل والتي أردفت بنبرة باكية: يا مرارك الأزرق يا مهرائيل؟ على آخر الزمن هتموتني ملبوسة؟

نفخ آلبرت بغيظ أن استدار وعاد إليها مُمسكًا بكف يدها بقوة ثم سحبها معه نحو الداخل، ومع اقترابه كان يُبطيء من حركة أقدامه، خاصةً عندما استمع إلى صوت حركات بالداخل، أخرج سلاحه من جيب بنطاله ثم تقدم بروية و مهرائيل تفتح عينيها بفزع، لقد جلبها معه إلى ساحة عراك حقًا؟ هل يريد قتلها؟

صرخت بفزع عندما انطلقت الرصاصات من سلاح آلبرت، اشتد هلعها أكثر عند تبادل الطلقات من كلا الطرفين، اقتربت منه بقوة ثم أحاطت بخصره من الخلف هامسة له بخوف: آلبرت أنا خايفة.
اختبأ آلبرت بها خلف أحد الحوائط ثم طمئنها مُرجعًا خصلاتها بحنان: لا تخافي جروي الصغير، أنا هُنا معكِ.
ابتلعت مهرائيل ريقها بخوف أثناء قولها الخافت: أنا عايزة أرجع البيت.

ابتسم بجاذبية عند اطلاقه على أحد الأشخاص وقتله، ثم تحدث بصوتٍ حنون: لا يمكن الآن للأسف، علينا إكمال ما بدأناه سويًا.
قال جُملته ثم استدار وخرج من خلف الجدار مُطلقًا على الجميع بلا آدمية واختلال، فهمست لذاتها بحسرة: أنا عرفت دلوقتي ليه وافق ياخدني معاه، عايز يقتلني ويقول قتل خاطيء الخاين الحقير.

كان الصمت يعم بين قاسم وأهلة بعد أن أنهيا جميع الحديث المُشترك بينهما، ليصعد صوت قاسم فجأة يُغني بدندنة وصوتٍ جذاب للغاية وهو يضرب بأصابعه على مقود السيارة:
معاكِ الشوق. أخدني لفوق.
وكنت بضيع. لقيتني بفوق.
رِجع وياك. زماني يروق ويحلالي.

أنهى غنائه ومع كلمته الأخيرة نظر لها غامزًا إياها بمشاكسة خجلت على أثرها مما جعل ضحكاته تعلو بتسلية أكبر، حاولت أهلة حمل الحرج عنها فأردفت بإبتسامة جذابة وأعين مُلتمعة: قاسم. رمضان قرَّب.
أومأ برأسه وابتسامة عريضة تتشكل على ثُغره هو الآخر، ثم أجابها قائلًا: أيوا عارف، علشان كدا عايزين نرجع مصر قبل رمضان بيومين.
قطبت أهلة جبينها ثم تسائلت بتعجب: اشمعنى قبلها بيومين؟

نظر أمامه للطريق قائلًا بحالمية: أول حاجة علشان بيتنا هيبقى جِهز.
بيتنا؟

تسائلت بتعجب شديد، ليؤكد على حديثه مُضيفًا: آه بيتنا. هيبقى فوق الشقة اللي إحنا كنا قاعدين فيها علشان دي بتاعة ماما، إنما بتاعتنا هتبقى جديدة وأنتِ هتكوني أول واحدة تدخليها زيك زي أي عروسة، والحمد لله كلمت الراجل إمبارح قالي فاضل فيها أسبوع وهتتشطب من كله، وكمان يحيى ورائد متابعين معاه هناك، استايلها مُختلف شويتين عن النظام اللي تحت عشان متحسيش بالزهق أو إنك قعدتي فيها قبل كدا، وفيها أربع أوض كُبار وصالتين واسعين عشان أنا ضميت الشقتين على بعض علشان تبقى كبيرة أوي ونرتاح فيها أكتر، حتى العفش جاهز وأنا اللي مختاره بنفسي، وكمان جددت شقة ماما تحت علشان هي كمان ليها حق عليا وأكتر مني كمان.

كانت أهلة تستمع إليه بعدم تصديق، لتتسائل بدهشة كبيرة: طب وليه دا كله ما أنا كنت مرتاحة في الشقة اللي تحت!
هز رأسه نافيًا: حتى ولو، أنتِ مراتي ومن حقك تعيشي في بيت لوحدك.
ردت عليه أهلة بضيق: بس أنا مش هسيب مامتك تقعد في الشقة لوحدها.
التمعت عيني قاسم بشغف وسعادة عارمة عقب حديثها، وبعدها أجابها قائلًا: طبعًا أنا مش هسيب ماما لوحدها ويمكن نبات معاها كمان، بس أنا حابب كدا واعتبري يا ستي الشقة للظروف.

أومأت له بهدوء فمال عليها على بغتة مُقبلًا وجنتها برقة، ثم أردف قائلًا بسعادة: ربنا يخليكِ ليا.
كان هذا ردة فعل طبيعية عقب حديثها الذي أسعد فؤاده وأدخل الفرحة به، بينما هي كادت أن تنصهر من الخجل رغم أنها لا تخجل في العادة، وكعادتها قامت بإلهائه عن فعلته وتسائلت بتلعثم: م. مقولتليش ليه لازم نرجع قبل رمضان بأسبوعين!

أجابها بإبتسامة واسعة: علشان نعلق زينة رمضان سوا ونزين بيتنا، وكما هجيبلك بوكس رمضان كهدية بس وقتها هتعملي نفسك متفاجئة عشان أنا حرقتلك الهدية ماشي؟
قهقت ضاحكة وهي تُوميء له قائلة: من الناحية دي متقلقش، أنا أصلًا معرفش حاجة.
شاركها الضحك وتبادلا الأحاديث معًا حتى وصلا أخيرًا إلى وجهتهما، أو بالأصح وجهة قاسم وحده!

هبطت أهلة من السيارة ناظرة للبناية التي توقف أمامها، ثم قرأت اللافتة المُعلقة عليها بصوتٍ مسموع: الطبيب النفسي مايكل روي؟
هل هذا يعني بأنها ستبدأ رحلة علاجها من الآن؟

وبالعودة إلى آلبرت ومهرائيل...

خبأها آلبرت خلف أحد الحوائط الغير مرئية ثم اتجه نحو الداخل ليُكمل ما جاء لأجله، أنهى على جميع الرجال بالخارج ثم تقدم نحو الداخل وقام بكسر الباب بقدمه بعد أن ضربه عدة مرات بعنف، أمسك بسلاحيه معًا وكان يطلق تلقائيًا وبطريقة فوضاوية بوجه كل مَن يُقابله، حتى قضى عليهم جميعًا تقريبًا، دخل الغُرفة المُراد تواجدها ثم تقدم من المكتب وقام بأخذ الحاسوب معه بأكلمه، رغم أن القائد أخبره بجلب الشريحة فقط، ارتسمت ابتسامة جانبية على ثغر آلبرت الذي همس قائلًا: الحاسوب بأكمله لن يضر.

وبعد أخذه اتجه نحو الخارج، كان يشعر بالإنتشاء عند رؤيته لمظهر الجُثث المُرتمية أمامه وحولهم الكثير من الدماء، اقترب من الحائط المُخبئ خلفه مهرائيل لكنه ولأسفه الشديد لم يجدها، بل وجد بُقعًا صغيرة من الدماء وورقة صغيرة مُدون عليها بالروسية: إن أردتها فاجلب ما أخذته.

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة