رواية حارة القناص الجزء الأول للكاتبة شروق حسن الفصل الثامن والثلاثون
جُملة مُدونة على ورقة بالية قديمة تُزينها بعض الدماء وكأنها وشمٌ يدل على صحة تهديدهم، ارتسمت ابتسامة جانبية على ثُغر آلبرت كانت تعكس ذلك الجحيم الذي يحتضن عيناه، كور يده ضاغطًا الورقة بحقد خطير، وبعدها صعد صوته هامسًا بفحيح: أنتم مَن بدأتم أيها الأوغاد.
وكأنه هو الذي لم يبدأ مثلًا! لا بأس، فبطل حكايتنا لا يُخطيء أبدًا.
أنهى آلبرت همسه فوجد هاتفه يهتز مُعلنًا عن مُكالمة هاتفية، أخرج هاتفه فوجد رقمًا مجهولًا غير مُسجل يُزين شاشة هاتفه، شخصٌ غيره كان سيُجيب بلهفة، لكن قام بالضغط على زر الإغلاق ببرودٍ شديد وكأن ليس هُناك فتاة مخطوفة بسببه!
رمى الورقة على الأرض ثم اتجه نحو سيارته دون حتى أن يلتفت، صعد بها واضعًا نظارته الشمسية على عينه وما كاد أن ينطلق بها؛ حتى استمع إلى صوت رنين هاتفه يصدح مرة أخرى بإلحاح، زفر بضيق ثم قام بفتح الهاتف ثم أردف بنفاذ صبر: ماذا؟
قطب الطرف الآخر جبينه بتعجب ثم تسائل بإستغراب: السيد آلبرت تشارلي معي؟
رد عليه آلبرت ساخطًا: نعم هذا أنا، هل هاتفتني للتعرف عليّ؟
تعجب الآخر من بروده فحاول الثبات وأردف بنبرة جامدة تحمل بين طياتها تهديدًا لم يؤثر بالآخر بتاتًا: إن أردت تلك الفتاة فتعال وخُذها، لكن اجلب لنا ما أخذته وإلا سأقتلها.
رد عليه آلبرت ببرود قبل أن يُغلِق الهاتف في وجهه: حسنًا اقتلها.
قالها ثم وضع الهاتف بجيب بنطاله وسار حاملًا الحاسوب بين يديه وهو يُصفر باستمتاع، وبعدها صعد إلى سيارته وانطلق بها بسرعة شديدة إلى منزله وثُغره مُزين بابتسامة غريبة بعض الشيء!
الفؤاد يهوى والعقل يعشق لكن الحقيقة مُرعبة!
التفتت أَهِلَّة بسرعة نحو قاسم تُطالعه بعدم تصديق، هل أتى بها لهُنا حتى يبدأ معها رحلة علاجها دون معرفتها! حاولت ابتلاع تلك الغصة الخائفة التي تكونت داخل حلقها ثم تسائلت بخفوت: أنت. أنت جايبني هنا ليه؟
شعر قاسم بحالة الرُعب التي تلبستها فمد يده ليُمسك بكفها مُربتًا عليه بحنان ثم تشدق بصوتٍ حاني: جايبك هنا علشان نبدأ بداية جديدة مع بعض يا أهلة، عايزك تتصرفي بطبيعتك ومتتقرفيش لما حد يجي يسلم عليكِ.
هزت رأسها بالنفي مُستنكرة حديثه، ثم أردفت بعصبية وهي تجذب كفها من بين يديه: لأ. لأ أنا مش عايزة أتعالج دلوقتي. مش جاهزة. لأ. لأ مش عايزة.
ثبتها قاسم على المقعد ثم أجبرها بالنظر داخل حدقتاه التي تُطالعها بشغف، عيناه مُلتمعة تُوحي بالحب لأجلها فقط، الشيء الوحيد الذي جعلها تهدأ هو احتوائه لها بقوله الحنون أثناء إحاطته لوجهها بكفه: حبيبتي اسمعيني أنا مش عايزك تخافي، أنا موجود معاكِ دايمًا، مش هسيبك لحظة واحدة وهفضل في ضهرك على طول، هتلاقيني أول واحد ساندك لما تقعي وهحتوي وجعك، هشاركك حُزنك وهداوي جروحك يا أهلة، خليكِ واثقة فيا حتى لو مرة واحدة في حياتك، صدقيني وجعك هيخف لو اتشاركتيه معايا.
شعرت بالخذلان يسري بين أوردتها وفؤادها بدأ يطرق بين جنبات صدرها بألمٍ غير مُحتمل، فأجابته بضعف وصوتٍ واهن: خايفة. خايفة يا قاسم، أنا هرجع أفتكر أسوأ فترة في حياتي من جديد، هعيشها بكل تفاصيلها تاني، أنا ممكن أموت من الوجع.
جذبها لأحضانه مُحيطًا بها بقوة شديدة ثم همس في أُذنها بألم: بعد الشر عليكِ من الوجع.
شددت هي من احتضانه وكأنه الملاذ الوحيد لها، لم تكن لتتخيل بأنها ستستطيع احتضان أحدهم يومًا ما دون الشعور بالإشمئزاز أو القرف، لكن هو مُستثنى عن الجميع، هو نورها وسط الظلام وحياتها الوردية الجميلة، صمتت تدفن نفسها بين أحضانه أكثر وهو يُشدد من عناقها حتى كاد أن يُدخلها بين أضلعه لحمايتها من العالم وشره، أنهى قاسم الصمت بقوله الحنون هامسًا لها في أُذنها:.
اديني فرصة واحدة يا هولا أعرف أداويكِ فيها، خليني أساعدك تتخطي كل صعب في حياتك وفي الآخر أنا وأنتِ هنحتفل بشفاكِ، عشان خاطري.
ظلت صامتة تُفكر بحيرة لا تعلم، تريد العلاج لكنها تخاف ما ستمر به، ابتعد عنه قليلًا ثم طالعته بوهن قائلة: هتفضل معايا؟
أكد لها مُسرعًا بابتسامة هادئة: ومش هسيبك أبدًا، هنعدي كل الصعب مع بعض وإيدك مش هسيبها إلا بطلوع روحي.
وأمام اصراره وخوفها هزت رأسها بيأس قائلة: موافقة.
تهللت أساريره على بغتة فاحتضنها هامسًا بحب: أوعدك إن كل حاجة هتعدي زي ما إحنا عايزين، صدقيني يا هولا هفضل معاكِ وهنتخطى كل دا سوا.
اغمضت عيناها براحة حامدة المولى على رزقها زوجٍ كهذا، لكن خوفها الوحيد والأوحد هي ردة فعله عند علمه بحقيقتها وماضيها! ماذا سيفعل حينها! هل سيتركها! ينبذها! يمقتها! يكرهها! ماذا ستكون ردة فعله يا تُرى؟
خرجت من أحضانه ترسم على ثُغرها ابتسامة خفيفة للغاية، وهو بادلها بأخرى واسعة تدل على حماسته، هبطا من السيارة فاستدار لها مُمسكًا بكفها ثم اتجها نحو البناية المُدون عليها اسم الطبيب مايكل روي.
رحلة جديدة وعالم جديد سيبدأ الآن، أسرارٌ ستُكشف وألغازٌ ستُحَل، ومع كل جولة ستأخذها ستظهر معها حقيقة مُرة وحقائق مُخيفة، رحلتها تُشبه برحلة عاتية إلى الأدغال، وسط الوحوش المُفترسة والحيوانات المُهاجمة، لذا عزيزي المُشاهد عليك ربط الأحزمة وانتظار ما سيحدث، فالقادم ليس بالهين والانتقام سيزداد.
صعدا كُلًا من قاسم وأهلة للطابق الثاني مُتجهين نحو الداخل، المكان فارغ لكن فؤداها مليء بالضجيج، شددت من امساكها بكف يده ليضغط هو عليه بالمُقابل لطمئنتها، قابلتهم المُمرضة التي أردفت بابتسامة هادئة:
تفضلا فالطبيب ينتظركما.
كان الطبيب على علم بقدوم قاسم وزوجته، وبالطبع لم يُخبِرها قاسم بمعرفته الشخصية بالطبيب حتى تأخذ راحتها معه في الحديث، دلفا للداخل ليستقبلهما الطبيب بابتسامة بشوشة مُرددًا: مرحبًا بكما، تفضلا للجلوس.
جلس الاثنان على المقعد المُقابل لمكتبه، فشبك الطبيب عن كفيه قائلًا ببشاشة: أُعرفكما بنفسي، أنا الطبيب مايكل روي مُختص بالحالات النفسية، كيف أستطيع مُساعدتكما؟
بدأ قاسم بالحديث وهو يُشير ل أهلة الصامتة بجمود: زوجتي تُعاني من بعض المشاكل النفسية نود حلها، ك الوسواس القهري، والكتمان المُزمن والأمر بدأ معها منذ زمنٍ بعيد.
هز مايكل رأسه عدة مرات بخفة ثم وجَّه حديثه ل أهلة مُتسائلًا بهدوء: منذ متى وأنتِ تُعانين من الكتمان المُزمن مدام!
رفعت أهلة أنظارها له تُطالعه بجمود استعجبه، وبعد فترة من الصمت أجابته بهدوء مُعاكس لحالة التوتر التي تلبستها بالأسفل منذ قليل: منذ وأن كان عمري ثلاثة عشر عامًا.
قطب مايكل جبينه بتعجب شديد مُتسائلًا: وكم عمركِ الآن؟
ردت عليه بنفس الهدوء قائلة: ثمانية وعشرون عامًا.
حالتها صعبة وللغاية والحل ليس بالسهل! هكذا همس لنفسه فرفع أنظاره يُطالع كليهما قائلًا: سنبدأ أولًا بعلاج الكتمان، لو بدأنا بعلاج الوسواس أولًا من الممكن أن تتسبب في مشاكل صحية كثيرة بسبب عدم قدرتها على البكاء وإظهار مشاعرها.
أومأ له قاسم بهدوء ثم وافقه بقوله: حسنًا افعل ما تراه صحيحًا
وقف مايكل من مكانه ثم نظر ل قاسم يطلب منه بهدوء: من فضلك سيد قاسم هلّا انتظرتني بالخارج قليلًا حتى ننتهي؟
وقف قاسم من مكانه في نية للخروج؛ فانتفضت أهلة من مكانها مُمسكة بيده تضغط عليها لتمنعه من الخروج، وبعدها تحدثت برفض: لا. سأشعر بالإطمئنان أكثر عِند وجوده.
بس مينفعش.
قالها مايكل دون أن يعي للهجته العربية التي صدرت فجأة، ليفتح عيناه على وسعهما بصدمة عندما لاحظ نظراتها المُصوبة إليه، حمحم بجدية مُحاولًا إصلاح موقفه فأردف بإبتسامة متوترة: نسيت أقولكم إني مصري ولما لقيتكم مصريين اتحمست أكتر واتكلمت بلغتكم.
طالعه قاسم بنظراتٍ حارقة وهو يلعن غبائه، بينما أهلة تخطت الأمر بأكمله من الأساس واتخذته صُدفة لا أكثر، كل ما يَهمها هو عدم خروج قاسم من الغرفة وحسب، لذلك فتحت فاهها للتحدث قائلة:
أنا. أنا مش عايزاه يخرج، عايزاه يفضل معايا هكون متطمنة أكتر.
تنهد مايكل براحة لعدم كشفها لخطتهم، بينما قاسم كان في وادٍ آخر، يُطالعها بنظراتٍ شغوفة وأعين تنطق بمشاعر هوجاء كثيرة، فؤاده يرقص طربًا لما يسمعه، ورغم أن حديثها كان عفويًا إلا أنه كان يُمثِل له الكثير، أمسك بكفها بين راحتيه بحنوٍ بالغ ثم اتجه نحو المقعد العريض (شازلونج) جاعلًا إياها تتمدد عليه براحة وهو جاورها جالسًا على المقعد الذي يُجاور خاصتها، بينما مايكل أمسك بدفتر ملاحظاته وجلس أمامها تاركًا مسافة مناسبة بين كُرسيهما، ثم تسائل بعد أن ارتدى نظارته الطبية:.
اتفضلي يا مدام أهلة ابدأي باللي يريحك.
طالعته أهلة بتوتر شديد أثناء اغماضها لعيناها لضبط أنفاسها، فوجدت يد قاسم تضغط فوق خاصتها وكأنها تشحنها بالقوة اللازمة، سحبت نفسًا عميقًا من رئتيها ثم زفرته على مهل أثناء قصها لحكايتها المشؤومة:.
أنا كان عندي 12 سنة، كنت في أولى إعدادي تقريبًا، أوقات كتير كنت بتعرض للعنف من أبويا في غياب والدتي عن البيت، كان. كان بيضربني جامد أوي. لما كان بيطلب مني حاجة وأنسى أعملها كان بيضربني بالحزام وأوقات بالعصاية. هو كان بيكرهني. مش عارفة ليه رغم إني كنت بحبه. ولما كنت بصرخ وبصوت من الوجع كان بيضربني. بيضربتي أكتر. مكنش عايزني أعيط أو أصرخ. أنا. أنا كنت بحط إيدي على بوقي وأكتم نفسي علشان لما يجي يضربني مصوتش عشان ميضربنيش أكتر. و. و.
كانت تروي كل هذا دون شعورها بأظافرها التي كانت تغرزها بكف قاسم مُسببة له الألم، لكن ذلك الألم لم يكن مذكورًا أمام ألم فؤاده وصدمته الشديدة مما يسمعه الآن! ما هذا! ما الذي ترويه بحق الله!
رأى مايكل بأن حالتها ستزداد سوءً إن لم يُوقفها عن الحديث، خاصةً بأنها أمسكت موضع قلبها مما يدل على آلامها، لذلك خب من مقعدة مُتجهًا نحو مكتبه مُسرعًا ثم أخذ من عليه كوب المياه مُعطيًا إياه ل قاسم الذي كان يُراقب وضعها بقلق، ثم تحدث قائلًا: خُد شربها الماية دي بسرعة عشان تفوق.
تناول قاسم منه كوب المياه ثم أعدلها رغمًا عنها في جلستها مُناديًا إياها: أهلة. أهلة خلاص فوقي.
وضع كوب المياه على فاهها فارتشفت منه القليل وبعدها أعطى الكوب ل مايكل الذي كان يُراقب الوضع بانتباه شديد، ظل قاسم يُربت على رأس أهلة بحنان شديد وباليد الأخرى يُحيط بخصرها ليضمها إليه، وهي كانت تستند برأسها على صدره تُحاول تَحمُل آلام قلبها التي تتزايد كلما قصت عن ماضيها المُتعفن، مرت الدقائق وهم على تلك الحالة، قاسم يُحاول تهدئة أهلة، و مايكل يُدوِن كل ما يراه ويلحظه.
وأخيرًا اعتدلت أهلة في مكانها بملامح باهتة ووجهٍ شاحب بعد أن هدأت ضربات قلبها عن الضغط فوق صدرها، أمسك قاسم بها ثم أسندتها مُجلسًا إياها على مقعد المكتب وجلس بجانبها قاسم، جلس مايكل أمامهم خالعًا نظارته الطبية ثم بدأ حديثه بهدوء قائلًا:.
للأسف زي ما توقعت فحالة مدام أهلة متأخرة جدًا، ودا هياخد وقت معانا في العلاج، كنت متوقع ولو بنسبة قليلة إن هي تقدر تعيط أو تخرج اللي جواها لما تحكي جُزء عن طُفولتها اللي مكانتش سهلة أبدًا، لكن دا اتعكس على وجع داخل صدرها وأكيد شعرت بالدوخة أو الصداع زي حالات كتيرة جَت ليا قبل كدا.
كانت أهلة تستمع إليه بوجهٍ ثابت لكن هي تشعر بالقهرة مما تسمعه، لقد تدمرت حياتها كُليًا، حتى أبسط حقوقها في البكاء حُرمت منها، شعر بها قاسم بسبب برودة كفها الذي تزايد فجأة لكن لم يتحدث، بس استمع إلى حديث الطبيب الذي أكمل بعملية شديدة:
الموضوع هيبقى صعب وهحاول بكل الطُرق إني أخرج الكبت اللي جواها، هنمر بمراحل علاجية كتير ولو لقدر الله مجبتش نتيجة هنضطر نتعامل مع آخر حَل أتمنى منستخدمهوش.
تسرب القلق إلى جسد قاسم والذي تسائل بريبة: حَل إيه؟
بلاش نسبق الأحداث لعل وعسى العلاج يجيب نفع، هكتبلك شوية أدوية هي مُهدئة ومفيش منها أي ضرر، وحاول تتكلم معاها وقت ما تكونوا قاعدين سوا وخليها تفضفضلك لو هي حَبت دا، أنا مش هَطوِّل في الجلسة دي عشان أول جلسة وحضرتك شوفت نتيجتها، بس المرة الجاية هتضطر أطولها أكتر من كدا.
أومأ له قاسم بصمت ثم وقف من مكانه ووقفت خلفه أهلة ثم اتجها نحو الخارج بعد أن استأذن قاسم من الطبيب وهبطا للأسفل، كانت أهلة شاردة، صامتة، وحزينة، لقد قصَّت جزءً ضئيلًا للغاية من قصتها، ماذا إن روت البقية!
أدخلها قاسم السيارة على مهل ثم استدار وجلس محله بجانبها، ظلا صامتين لبضعة دقائق وانتظر أن تتحدث أو تقول كلمة واحدة، لكنها كانت تُوجه أنظارها نحو الخارج وعيناها حادتان كالأفعى، وكأنها مُنفصمة وبشخصيتين مُختلفتين!
أمسك قاسم بيدها ليجعلها تنتبه له، وبالفعل استدارت له تُطالعه بنظرات جامدة، لكنه كان يشعر بتلك النيران المُشتعلة داخلها، تشعر بالضعف والهوان وهو يعلم، لذلك فتح ذراعيه لها يحثها على القدوم إليه والتمتع بدفئ أحضانه.
طالعت أهلة ذراعيه بصمتٍ لثوانٍ حتى ظن بأنها سترفض طلبه، لكنها باغتته بانطلاقها نحو أحضانه لتدس نفسها داخلها، دفنت وجهها داخل عنقه تحاول نسيان ما مرت به، وهو أحاط بخصرها يُقربها منه، أغمض أهلة عيناها بوهن ثم تشدقت بألم: متسبنيش يا قاسم أنا محتاجالك.
شدد قاسم من ضمها مُتحدثًا بوعد: مش هسيبك يا قلب قاسم، أنا عيني وروحي ليكِ يا أهلة.
وفي تلك اللحظة تحديدًا ودت لو تنفجر في البُكاء، تود أن تُخرِج تلك الطاقة السلبية الكامنة بين جنباتها ولا تعلم كيف، كيف لإنسانٍ ضعيف أن يُواجه تلك الضغوطات وحده دون التألم؟ أهو آلة أم ماكينة كهربائية؟
ربت قاسم على خُصلاتها وهو يسألها: تحبي نرجع البيت ولا نخرج نغير جو؟
أجابته بضعف أثناء ابتعادها عنه: أنا أرجع البيت.
أومأ لها وهو يمد يده للمقعد الذي تجلس عليه ثم ضغط بيده على أحد الأزرار ليعود المقعد للخلف تلقائيًا، وفي تلك اللحظة سنحت لها الفرصة للنوم، انحنى قاسم عليها قليلًا ثم قبَّل جبينها هامسًا لها: نامي وارتاحي لحد ما نوصل، وأنا هفضل جنبك ومعاكِ.
أغمضت عيناها بانهاك تاركة قاسم ينظر لها بنظرات شاردة، لم يكن يهمه أمرها من قبل، لكن الآن يتوق لمعرفها ماضيها وما سبب الحالة التي أوصلتها لهُنا، لقد روت جُزءً ضئيلًا للغاية وسبب له الألم، إذًا ماذا عنها هي؟
أدار سيارته ثم انطلق بها بسرعة هائلة وعيناه تشتدان حِدة، يُريد نقل الألم منها له، لا يعلم ما الذي أصابه لكن كل ما يعرفه هو أنه يحب الوجود بجانبها دائمًا والإطمئنان عليها فقط.
أحيانًا نعيش لنحب، لكن في حالتها هي هي تُحب لتعيش!
سحب صهيب تلك الضاجرة خلفه ثم أجلسها على المقعد الكبير الموجود في الحديقة الواسعة وجلس هو جانبها، حاولت بقدر الإمكان تنفيذ خطة أهلة وتصنطع الغضب، وهذا ما فعلته بالفعل عندما ربعت عن ذراعيها أمام صدرها وجعدت وجهها بضيق، زفر صهيب بسخط ثم تحدث حانقًا: أنا مكنتش أعرف إن قلبك قاسي كدا يا بسكوتة؟
أجابته حبيبة بضيق: أنت السبب مش أنا.
طيب حقك عليا.
اعتذارك مرفوض.
طالعه صهيب بسخط واحتدت عيناه غضبًا فلم يشعر بذاته إلا وهو يصرخ بها: طيب أعمل إيه تاني معاكِ يا شيخة عشان تصدقي إنه مش قصدي، أنا عارف مين اللي نشف دماغك، مفيش غير اللي اسمها أهلة دي هي اللي مقوياكِ عليا.
هبت حبيبة من مضجعها ثم صرخت به بشجاعة جديدة عليها كُليًا: لو سمحت متشتمش صاحبتي عشان كدا عيب، وبعدين هي طيبة ومقلتليش حاجة.
وقف صهيب من مكانه مشدوهًا، ثم أردف وهو يُشير لنفسه بدهشة قائلًا: أنتِ بتزعقيلي يا حبيبة؟
توترت حبيبة للحظات وكادت أن تعتذر منه لكنها تراجعت على الفور خوفًا من ردة فعل أهلة إن علمت بسذاجتها، لذلك أكدت على حديثه قائلة: آه بزعقلك، وخلي في علمك بقى أنا مش هبات معاك النهاردة كمان، أنا هبات مع أهلة صاحبتي اللي بتخاف عليا وعلى مشاعري، مش زيك كل ما تكون متعصب تقوم هابب فيا زي البوتوجاز ولا كأني شغالة عندك! أنا ماشية.
قالت كلمتها الأخيرة وهي تُشيح بيدها في الهواء أمام وجهه ثم استدارت مُغادرة تاركة إياه يفتح فاهه بصدمة جلية من حديثها معه! وقبل أن تذهب من أمامه كُليًا؛ استفاق، ونادى عليها وهو يهرول خلفها هاتفًا بصياح: خُدي يا بت أنتِ بتشوحي لمين! خُدي بقولك دا أنا مش هسيب في خِلقتك حِتة سليمة النهاردة.
كان يُهرول خلفها بينما هي ركضت للأعلى وبالتحديد نحو غُرفة أهلة ثم أغلقت الباب خلفها بالمفتاح حتى تمنع دخوله أو وصوله إليها، اشتد الغضب بعيني صهيب عندما لم يلحقها، فصاح مُهتاجًا بغضب: وكتاب الله ما هعديهالك يا حبيبة، هو أنا عشان غلبان جايين عليا؟
هب آلبرت من مكانه أمام العميد بعد أن أعطاه الحاسوب وتحدثوا حول أشياء أخرى تخص عملهم والذي تحدث مُحذرًا إياه: اذهب واجلب تلك الفتاة التي أخذتها معك آلبرت.
طالعه آلبرت بصمت قبل أن يقول بنبرة غامضة: حسنًا سيدي لا تقلق من ذلك.
قالها ثم استدار راسمًا على ثُغره ابتسامة خبيثة وبالفعل قرر الذهاب لها وانقاذها، لكن سيذهب وحده ويُنقذها بطريقته الخاصة!
هبط من المبني ثم صعد لسيارته حديثة الطراز مُنطلقًا بها بسرعة عالية للغاية، وبعد فترة زمينة قصيرة وصل إلى مكان خالي يُشبه الجبل مليء بالثلوج، ويوجد خلال أُفق عيناه كوخ خشبي كبير إلى حدٍ ما من المتوقع أنهم بداخله، أغلق سيارته ثم عدَّل من ثيابه بكل عنهجية وكأنه ذاهب لمقابلة رسمية وليس للقتال، وجهز بين يديه سلاحيه ليكون مُتجهزًا ومستعدًا في أي وقتٍ من الأوقات.
اقترب بهدوء وتروٍ من المبني ثم استدار من الخلف ليجد شباك خشبي صغير ينتصف الحائط، فتحه آلبرت على مهل ولحُسن حظه كان قفله حُرًا، قفز ببراعة نحو الداخل فوجد عدة حُجر، لكن جذب انتباهه همهمات خفيضة تأتي من داخل غُرفة معينة، اتجه نحوها ببطئٍ شديد ثم مدّ رأسه لرؤية مَن بداخلها، فوجدها مهرائيل جالسة مُكتفة على أحد المقاعد وأمامها الرجل يُطالعها بسخط شديد!
استغل آلبرت انشغالهم وتسلل عدة خطوات للداخل، لكن لسوء حظه كانت مهرائيل قد رأته، أشار آلبرت بسبابته على فمه دلالة للصمت، لكنها كالبلهاء صاحت بتهليل: آلبرت؟
انتبه له الرجل فوجه السلاح على رأسها تلقائيًا لتهديده، ليصرخ آلبرت بها بغضب جحيمي: اللعنة على مَن رباكِ.