قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية حارة القناص الجزء الأول للكاتبة شروق حسن الفصل السابع

رواية حارة القناص الجزء الأول للكاتبة شروق حسن الفصل السابع

رواية حارة القناص الجزء الأول للكاتبة شروق حسن الفصل السابع

يخربيت أمك!
كلماتان خرجتا من فاه ملك عندما ردد رائد اسمها بعدم تصديق، وجهت نبيلة نظرها تجاه رائد تسأله باستغراب وشيء من الحدة: أنت تعرفها؟
كاد أن يُجيبها، فقاطعته يمنى مُتدخلة بسرعة: هيعرفها منين بس يا ماما أكيد صدفة ولا حاجة.
تدخل محروس متحدثًا بلباقة: أكيد فيه سوء تفاهم يا مدام، استني خلينا نفهم.

قطبت نبيلة جبينها أثناء مُطالعتها للجميع بتدقيق، جز قاسم على أسنانه بغضب، ثم مال قليلًا على رائد يسأله بصوت هامس: أنت تعرفها منين يا بغل أنت!
أجابه رائد بنفس الهمس أثناء مطالعته لملامح الجميع المتوترة: بكلمها بقالي كام يوم وكانت حاطة صورتها على البروفايل فعرفتها.
عاد قاسم لمكانه معتدلًا به هامسًا لذاته: روح منك لله يا بعيد هتبوظلي الجوازة قبل ما تكمل.

كاد رائد أن يتحدث ويُنقذ الموقف المُتأزم الذي وضع الجميع به، لكن لواحظ قد قاطعته مُتحدثة أثناء ارتشافها للعصير بطريقة غريبة: هتلاقيه بيكلمها زي ما بيكلم البنات التانية، أصل رائد دا واد صايع وبتاع بنات، ناوليني يا عسولة حِتة الجاتوه دي.

قالت الأخيرة وهي تُشير ل يُمنى التي تُطالعها بغضب، بينما هبت نبيلة من مكانها بغضب موجهة حديثها لابنتها: نعم! بيكلمها ازاي يعني! إيه الكلام اللي هي بتقوله دا يا ملك! تعرفيه منين انطقي!
توتر الوضع وأصبح صعبًا بعدما أشعلت لواحظ الأجواء من حولها، انتشلت قطعة من الجاتوه ثم حدجتهم بحماس مُنتظرة العراك الذي سينشأ بينهم.

حدج رائد جدته بسخط مُتوعدًا لها في سره، ثم نظر ل نبيلة التي يتلبسها حالة من الغضب تجاه الجميع، مُقتربًا منها وهو يتفوه بحماقة شديدة ورطته أكثر: اهدي بس يا حماتي هي مش ق...
قاطعه صراخ نبيلة بوجهه مُلوحة بيدها أمام وجهه: حماة مين يابني! أنت أهبل ولا واقع على نفوخك وأنت صغير!
صحح ما تفوه به مسرعًا قائلًا بغباء: قصدي يعني بما إنك حماة قاسم يبقى هتبقي حماتنا كلنا، صح ولا إيه!

لأ كداب وبتاع بنات يا صايع، اديله في جنابه متسكتلوش المتحرش دا.
صعدت تلك الكلمات من فاه لواحظ المُشجعة للشجار، بينما ملك ودت أن تقذف إحدى المزهريات على رأسها حتى تفقد الوعي وتصمت قليلًا، تمنت بتلك اللحظة أن ينتهي كل هذا على خير، وإلا لن تُمرر والدتها ما حدث مرور الكِرام.

هُنا وصدح صوت سهيلة التي تسللت مُستغلة عراكهم لتقف بجانب ملك، ثم تدخلت مُسرعة لإنقاذ أخيها من الموقف المُتأزم به قائلة بتبرير: يا جماعة صلوا على النبي، ملك أصلًا صحبتي و رائد شافها معايا كذا مرة في الجامعة عشان كدا عِرفها.
أكد رائد على حديثها سريعًا: ايوا بالظبط، هو دا اللي عايز أفهمهولك يا حماتي والله.

كزت نبيلة على أسنانها بغضب من كلمته المُتكررة ومازالت غير مقتنعة بحديث تلك الفتاة المُدعاة بشقيقته، ضربت چيهان ابنها موجهة حديثه له بابتسامة صفراء: خلاص يا رائد يا حبيبي، مش لازم تعرف الناس كلها إن دمك خفيف هههه.
أنهت حديثها مع ابنها ثم نظرت ل نبيلة المُتهجمة مُردفة بضحكة مصطنعة: متزعليش منه، أصل رائد ابني من وهو صغير ودمه شربات كدا.
جلست نبيلة محلها مرة أخرى ترد عليها بحنق: لأ ما هو واضح.

جلس الجميع أماكنهم مرة أخرى بعد أن هدأ الوضع إلى حدٍ ما، بينما لواحظ تمتمت مع ذاتها بحسرة: يا خسارة مش هيتخانقوا.
صعد صوت فور تلك المرة قائلًا: لا تحزني خالتي، ف رائد الأكثر إحترامًا بيننا صدقيني، هو فقط يُحب المزاح كثيرًا كما قالت چيچي.
كانت نبيلة والفتيات يُتابعانه بفاهٍ مفتوح، وهُنا صعد صوت أَهِلَّة تسأله ببلاهة: إيه دا أنت مُدبلچ!

قطب فور جبينه بضيق من هذا السؤال الذي تكرر على مسامعه لألاف عِدة قائلًا بسخط: اصمتي يا فتاة ماذا تقولين، أنا لستُ مصري الجنسية لذلك أتحدث بالفصحى.
رفعت أَهِلَّة حاجبيها تسأله بإنتباه: مش مصري إزاي احكيلي.
طيب أقوم أمشي أنا طيب وأسيبكم تتكلموا على راحتكم!
كلمات صعدت من فم قاسم الذي يُحدج الجميع بضيق من حديثهم الغير مفهوم والغبي.

اعتدلت أَهلة في مكانها وكذلك فور، بينما حمحم محروس أولًا قبل أن يبدأ حديثه الهاديء بعد بُرهة من الصمت موجهًا إياه ل نبيلة: طبعًا يا مدام نبيلة حضرتك عارفة إن احنا جايين نطلب إيد بنتك هالة ل...
نكزه قاسم بخفة مُصححًا له بصوت هامس: هالة مين يا عم محروس اسمها أَهِلَّة.
أعاد محروس تكرار جملته مرة أخرى قائلًا: إيد بنتك بيلا ل.
يا نهار مش معدي النهاردة، عليا الطلاق اسمها أَهِلَّة.

نفخ محروس بنفاذ صبر وهو يدفعه بعيدًا عنه بحنق، ثم صاح بصوت عالي حانق: يعني خِلصت الأسماء ملقوش غير الإسم الملعبك دا عشان يسموها بيه!
ثم وجَّه حديثه ل نبيلة مرة أخرى وهو يقول بنفاذ صبر: بالصلاةُ عالنبي احنا جايين نطلب إيد بنتك إيزابيلا لإبننا قاسم يا أم ملك.
هُنا ولم تحتمل أكثر، لذلك هبت نبيلة من مكانها مرة أخرى تهز رأيها بنفي وعدم تصديق: لأ لأ مستحيل أقبل أناسب العيلة دي، مستحيل.

قالت كلمتها الأخيرة ثم دلفت للداخل تاركة الجميع ينظرون لبعضهم ببلاهة، وهُنا صدح صوت لواحظ ضاحكًا: الله الجوازة باظت.

هل ستظل عالقًا داخل قوقعة أفكارك المؤذية! إلى متى ستتحمل كل هذا العناء! أنت شخص ضعيف، وحيد، وبائس، كُن على يقين أن الجميع لا يُكِن لكَ غير الكُره، أنت مُجرد هامش منبوذ، حياتك البائسة سببها تعاستك، وحياتك الغير مُستقرة أنت صانعها، فكُن على استعداد لتُؤذى من الجميع مرةً أخرى.

كانت حبيبة تنام براحة بعد نوبة البكاء والهيجان الهستيري الذي أصابها، لكنها شعرت بالأرق مما جعلها تفتح عيناها مُنتوبة الإستيقاظ، لكن مهلًا! هُناك ما يُعيق حركتها!

حاولت تحريك أي جزء بجسدها ولكن لا يسجيب، وكأنها أُصيبت بالشلل التام، قررت النداء على أحدهم ليُنقذها، وهُنا كانت الصدمة، حيث لا تستطيع فتح فمها لمُناداة من يُنقذها، حاولت المُقاومة والمُعافرة ولكنها لم تنجح، هبطت دموعها بعجز وحاولت مرة أخرى لتحريك اصبع يدها، فكانت النتيجة ذاتها، لا تستطيع.

زاد رُعبها عندما وجدت ظلًا قصير بجسد مُملتئ يقف جانب فراشها، ارتفعت نسبة الإدرنالين في جسدها وقاومت مرة أخرى لإخراج صوتها، وبالفعل خرج ولكن بصوت مكتوم وضعيف للغاية وكأنها تزأر أو تزوم، أغمضت عيناها برعب تمنع ذاتها من مطالعة هذا الشيء الغريب والذي يُحدجها بنظرات غريبة ومُخيفة للغاية.

ارتعش جسدها عندما لاحظت اقترابه منها أكثر، ومعه تزداد بسمته سوءً وشرًا أصابها بالهلع، حاولت التحرك، التحدث، أو الهرب ولكنها لم تستطيع، بالنهاية أغمضت عيناها أكثر حتى شعرت بأن جفنيها كادا أن يدخلا داخل عيناها من قوة ضغطها عليه، وهُنا خرج صوتها بالفعل، لكن عندما شعرت بيد هذا الجسد الصغير توضع على ذراعها ويغرز بأظافره على لحم يدها.

انتفضت حبيبة من مضجعها عندما شعرت بيد تمسكها وتهزها من كتفها، دفعته مُبتعدة بقدمها حتى وصلت إلى نهاية الفراش بزعر، كان صهيب يُتابعها بقلق شديد من حالتها المُفزعة، فقد كان يتجهز للخروج من الغرفة قبل أن تستيقظ وتجده جانبها، لكنه لاحظ حركتها الغريبة وتقطيبة حاجبها التي دلت على رؤيتها لكابوسٍ ما.
رفع كفيه أمام وجهها يقول بتهدأة: خلاص اهدي دا أنا، انسي كل اللي شوفتيه، كل دا كابوس متقلقيش.

وهُنا لم تتحمل الگتمان أكثر، بل انفجرت في البكاء شاعرة بالضعف يحتلها مرة أخرى، نظرت ليدها حيث أمسكها ذلك الكائن الغريب فوجدت خط من الدماء المُتحجر مطبوع عليها، وهنا علمت بأنها مريضة، ولكن بمرض نفسي لا يمكن الشفاء منه بسهولة.
وقفت على ركبتيها ثم اقتربت من صهيب حيث يجلس على حافة الفراش، مُمسكة بيده وهي تردف برجاء: صهيب أنا تعبانة متسبنيش.

حدجها باستغراب شديد، فهي لأول مرة تطلب منه أن يظل جوارها، يعلم أنها ضعيفة ومازالت، لكن تلك المرة يظهر الضعف على محياها من الخارج، ربت بيده على ذراعها متشدقًا بهدوء يُجاريها في حالتها: مش هسيبك بس اهدي يا حبيبة.
ظلت تُتمتم ببعض الكلمات التي لم يفهم منها شيء وهي تبكي، فتركها تُخرِج ما بجبعتها لعلها ترتاح قليلًا، وتدريجيًا بدأ حديثها يتضح شيئًا فشيئًا ويا ليته لم يستمع إليه:.

أنا بكرهها أوي. خلته يحط إيده على جسمي. هي مش بتحبني. وهو كان مقرب جامد. محدش بيحبني. أنا لوحدي. كله عايز يأذيني. أنا عايزة بابا. أنا معملتش في حد حاجة. أنا بكره الناس كلهم. كله عايز يأذيني. أنا. أنا عايزة أموت.

قالتها بضعف شديد وبعدها استندت برأسها على كتفه تبكي بصمت، حديثها كان غير مُرتب، لكن صادم، وهو لم يكن يعي لشيء سوى صوت بكاؤها وحديثها الذي رمته له دفعةً واحدة، من الذي حاول لمسها! وهل سمحت والدتها بهذا أيضًا! ابتلع ريقه بصعوبة يُحاول السيطرة على إنفعالاته، وضع يده على ظهرها يُهدئها قبل أن يسألها بهدوء عكس تلك النيران المُشتعلة داخله:
مين اللي حاول يحط إيده عليكِ يا حبيبة!

ظن أنها ستُماطل في الحديث، لكنها أجابته هامسة وبصوتٍ مبحوح: زين اللي شغال معايا في موقع التصوير، أنا بكرهه. وبكره ماما أوي. بكره كل الناس عشان محدش بيحبني.
أغمض عينه بألم على حالتها يُربت على خصلاتها بحنان، ثم سألها وكأنه يُحادث طفلة صغيرة: مين اللي قالك إن مفيش حد بيحبك؟
أجابته بضعف أشد ودموع تهبط بصمت: ماما.

سبة بذيئة صعدت من فم صهيب على تلك الشيطان المُتجسد بمظهر امرأة، لقد أوصلت ابنتها لأسوء حالاتها النفسية التي من الصعب على أي إنسان أن يتحملها، لكنها فعلت ونجحت بذلك، سحب صهيب نفسًا عميقًا ثم زفره على مهل ليستطيع تهدأتها، وما كاد أن يفعل حتى وجدها ترفع عيناها الحمراء تطلب منه برجاء مُصاحبًا للدموع:.

أنا مش عايزة أروح معاها تاني، مكنتش عايزة أروح معاها التصوير، بس. بس هي هددتني إني لو مروحتش معاها هتنشر صوري الوحشة في المجلات وسُمعتي هتبقى وحشة.
كان يستمع له مصعوقًا، ماذا تقول تلك! عن أي صور تتحدث! شعر بتنفسه يقل رويدًا لكنه سألها بصعوبة: صور وحشة إزاي يعني!

مسحت عيناها بظهر يدها وهي تُحدجه بتردد خائف، يُقسم أنها طفلة لكن بجسد أُنثوي جعلها مجرد سلعة في يد والدتها، دعمها بإمساكه ليدها ثم سألها مُجددًا: اتكلمي يا حبيبة ومتخافيش محدش هيعملك حاجة.
وثقت به لذلك أجابته بتلعثم وعادت الدموع لتتجمع بعيناها: ك. كنت بغيَّر ومكنتش أعرف إن فيه كاميرا في حمام الاستوديو وصورت كل حاجة، ومن. ومن ساعتها وهي بتهددني لو معملتش اللي هي عايزاه هتنشر الفيديو دا وهتفضحني.

لم يجد شيئًا لمواساتها سوى الصمت، حتى إنه لم يفتح فمه للتحدث بكلمة واحدة، وكأن صوته اُمتُنِع من الحديث من بشاعة ما استمع إليه، إن فعلت والدتها بها هكذا، إذًا مَن الذي سيحميها!

شعرت بالذُل مما روته، خاصةً صمته والذي فسرته على إنه استحقارًا لها، أخفضت رأسها بأسى تبكي بصمت، ظنت بأن الخلاص سيكون بين يديه، لكن من الواضح بأنه لا يُصدقها مثلما يظهر على معالم وجهه، لا تعلم المُغفلة أن صمته نتيجة لصدمته، فلم يكن يتوقع ولو بأقصى خياله أن السبب وراء ضعفها هو والدتها، وهو الذي كان يُأمِن وجودها جانبها!

شعرت حبيبة بأنامله ترفع وجهها ليُصبح مواجهًا له، ابتلعت ريقها بتوتر من عيناه المُتفحصة لكل إنش من وجهها، وأخيرًا خرج صوته يسألها بهدوء جاد: مُستعدة تواجهي خوفك وقلقك دا؟ مستعدة تروحي لدكتور نفسي؟
حدجته بتيهة ولا تعلم بما عليها إجابته، عضت على شفتيها وداخل عقلها يدور الكثير والكثير من الأسئلة، وهو فقط صامت يُراقب تعابير وجهها التي تتغير من الحين للأخر، خرج صوتها خائفًا تسأله بتوتر: بس. بس ماما ه.

قاطعها بقسوة بعد أن هبَّ من الفراش واقفًا من مكانه جاذبًا إياها معه، كادت أن تتعرقل في الفراش من جذبه لها، لكنها وازت نفسها مُستمعة لغضبه الأهوج وحديثه المُتعصب:
ملكيش دعوة بأمك قولتلك، اتعودي تقولي لأ، عاجبك شكلك! عاجبك لبسك! عاجبك ضعفك! خوفك! عاجبك حياتك! قولي لأ على الحاجة اللي مش عايزاها، قولي، عاجبك اللي أنتِ عايشة فيها! انطقي.

دفعته صارخة بإنهيار بعد أن وجدت شيئًا تُخرِج به الطاقة السلبية التي بداخلها: لأ. لأ مش عاجبني لأ. مش عايزة أعيش كدا بس مش قدامي حل تاني. ماما هتفضحني لو مسمعتش كلامها. لأ أنا مش عايزة كدا لأ.

ارتمت على الأرض وهي تهز رأسها تنفي ما وجهه لها من أسئلة، هي مُتعبة، من الداخل قبل الخارج، حياتها تحولت لجحيم، أصبحت دُمية بين يدي والدتها تتحكم بها كيفما تشاء، وهي عليها التنفيذ والطاعة، لكن لا تستطيع التحمل بعد الآن، لقد وصلت لذروتها من التعب النفسي الذي يكاد يقضي على روحها.

جلس صهيب جانبها، وعلى حين غُرة جذبها لأحضانه، وهي تشبثت به تطلب منه منحها الأمان، ربت على ظهرها ولم يتحدث، تركها تُخرِج مكنونات قلبها علها ترتاح، تركها تصرخ وتبكي كيفما تشاء، وهو فقط يحتضنها.
مرت دقائق وهي جالسة تبكي بصمت دون التحرك أو الخروج من أحضانه، وهو لم يكل منها، هدأت قليلًا ثم رفعت وجهها المملوء بالدموع مُتحدثة علر بغتة: أنا عايزة أتعالج، مش عايزة أفضل ضعيفة كدا.

ربت على خصلاتها ويده تجول على خصلاتها المُشعثة، راسمًا ابتسامة هادئة على ثغره قبل أن يُجيبها: هتتعالجي وهتكوني أقوى.
سألته بريبة قائلة: وهتفضل معايا صح!
أكد لها حديثها وهو يُوميء لها بالإيجاب: هفضل معاكِ ومش هسيبك لحد ما تتعالجي، وأنا واثق إنك هتبقي أحسن.
ابتسمت براحة ثم اعتدلت منتوية الوقوف، فأسندها واقفًا معها وهو يسألها: راحة فين؟

جففت وجهها كاملًا من دموعها، ثم أجابته بصوت مبحوح هاديء: هغسل وشي وهغيَّر هدومي، وعايزة أخرج عشان أجيب هدوم تانية أطول وأوسع من دي.
غزت السعادة وجهه، فاقترب منها مُمسكًا إياها من خدها كالطفلة الصغيرة وهو يُردد بحماس: أشطر كتكوتة يا ناس، استعدي بقى عشان هاجي واختار معاكِ، ما هو مش معقول أسيبك لوحدك في خطوة مهمة زي دي.

ابتسمت بفرحة ثم قالت بسعادة عارمة عندما وجدت تشجيعه المُتحمس لها: الله بجد! خلاص هنروح النهاردة بليل أوكي!
هز رأسه لها يُوافقها، وابتسامة واسعة مُرتسمة على ثغره مُحدجًا إياها بحنان، وبتلك اللحظة تحديدًا شعر بأنها طفلته التي لا تحتاج لشيء سوى الإهتمام والحنان، وإن لم تفعل والدتها هذا، فسيتكفل هو بالأمر.

ظلت الفتيات يُحاولن إقناع والدتهم عن التراجع عن قرارها وهي مُحكمة رأيها لا تريد إكمال تلك الزيجة، تشعر بالغموض تجاه تلك العائلة، خاصةً المُسمى ب رائد، لا ترتاح إليه بتاتًا.
هزت نبيلة رأسها بنفي مُرددة بحزم على مسامعهم: قُلت لأ يعني لأ، أنا أصلًا مش مرتاحة ليهم، خصوصًا اللي اسمه رائد دا، شكله مريحنيش كدا وحساه مش طبيعي.

تدخلت أَهِلَّة حانقة من حديث والدتها: يا ماما هو أنا هتجوزه هو ولا هتجوز قاسم! أنا مالي بيه أصلًا، وبعدين قولتلك إن قاسم يتيم الأب والأم وبيعتبرهم عيلته، أكيد مينفعش يقولهم اتفضلوا انتوا عشان حضرتك مش موافقة عليهم.
رفعت نبيلة أنظارها إليها مُردفة بقلق ينبع عن خوفها: يا أَهِلَّة أنا خايفة عليكِ وخايفة تتعبي من وجودهم معاكِ، أنا في الأول وفي الآخر عايزة مصلحتك أنتِ.

طالعتها أَهِلَّة بحنان، ثم اقتربت منها تجلس أمامها على الفراش بعد أن رسمت ابتسامة مُحبة على ثغرها: متقلقيش عليا يا حبيبتي والله، أنا مرتاحة مع قاسم، وبعدين يا ستي هما مخوفينك أوي كدا ليه! دي عيلة هبلة وخصوصًا الست الكبيرة دي، زي ما يكون بينها وبين حفيدها طار واحنا منعرفهوش.
قالت الأخيرة بمرح مما جعل الإبتسامة تتشكل على ثغر نبيلة، وأخيرًا وافقت مُتنهدة بيأس: ماشي وأمرنا لله، لعل اللي جاي خير.

وقفت مُتجهة للخارج، ولكن قبل أن تذهب رمت نظرة غريبة ل ملك وكأنها تقول لها أنا أُتابعك، ابتلعت ملك ريقها برعب وتصنعت اللامبالاة حتى لا تجذب أنظار والدتها إليها، ثم تبعت شقيقاتها للخارج وهي تلعن رائد وتلعن معرفته السوداء التي أوقعتها بالمصائب.

جلست نبيلة مرة أخرى على المقعد وبجانبها ابنتها أَهِلَّة وعلى الجانب الآخر تجلس يُمنى المُمتعضة، فحتى الآن لا تريد لذلك القاتل أن يصبح زوجًا لشقيقتها حتى لا تقع في المصائب، نكزتها لواحظ في ذراعها بقوة آلمتها وهي تسألها بفضول: مالك يا عسولة مكشرة ليه! حد ضربك! حد زعلك! حد كلمك! حد جابك من شعرك! احكيلي احكيلي دا احنا هنبقى أهل.

لوت يمنى ثغرها بتأفف ثم أجابتها بحنق: مفيش حاجة يا حاجة متشغليش دماغك بيا.
مصمصت لواحظ على شفتيها قائلة: ومالك ياختي بتقوليها من تحت ضرسك كدا؟ عجايب والله، بقولك إيه يا واد يا قاسم! أنا مش موافقة على الجوازة دي.

أغمض قاسم عيناه بنفاذ صبر وفي تلك اللحظة تحديدًا تمنى لو أنه لم يجلب هؤلاء الحمقي، جز على أسنانه بغيظ مُتحدثًا وهو يُوجه حديثه ل لواحظ: اسكتي يا لواحظ الله يكرمك مش ناقص وجع دماغ وخلينا نخلص من أم اليوم اللي مش عايز يعدي بسببك أنتِ وحفيدك دا.
لم تُبالي لواحظ بحديثه، بل التفتت إلى نبيلة الساخطة هي الأخرى تقول لها بعتاب مُزيف: بس أنا زعلانة منك يا ست أم هلال.

تغاضت نبيلة عن نطقها لإسم ابنتها مُتسائلة بتعجب وشيء من السخرية: زعلانة من إيه إن شاء الله؟
أشارت لواحظ لقطع الجاتوه التي قامت بإلتهامها هي و فور قائلة بتعجب: يعني الجاتوه مش قد كدا، مستخسرين تجيبوا جاتوه من محل حلويات كبير!
تشنج وجه نبيلة بسخط، بينما تلك المرة تحدثت يُمنى بحدة طفيفة: مستخسرين دا إيه يا حاجة! بعد ما خلصتي الجاتوه جاية تقولي مش حلو ومستخسرين!

استندت لواحظ بيدها على وجهها كحركة شعبية مشهورة، ثم أردفت وهي تأخذ رأي فور الذي يلتهم آخر قطعة من الموضوعة أمامه: والله يا حبيبتي مش أنا لوحدي اللي بقول كدا، مش صح يا واد يا فور!
رفع فور وجهه المُملتيء بقطع الشيكولاتة التي لوثت وجهه أثناء عراكه مع الطعام، ثم أكد على حديثها وهو يقول بإشمئزاز: نعم، معكِ حق خالتي، تلك الحلوى سيئة للغاية كما قُلتِ.

تحججت يمنى تصرخ بوجهه: وحياة خالتك! ما تيجي تاكل اللي في التلاجة كمان وأهو بالمرة تشوف جودة الأكل عاملة إيه!
ضرب چون على وجهه هامسًا ل رائد الذي يجلس بجانبه: تلك الفتاة غبية، لقد وضعت نفسها في مأزق مع أخي الآن.
بينما اتسعت ابتسامة فور قائلًا بحماس بعد أن وقف من مجلسه: حقًا! أنا جاهز الآن هيا بنا لنتذوق الطعام.
أنت أهبل يابني أنت كمان! دا يخربيت العته اللي موجود فيكوا!

قطب فور جبينه باستغراب، ثم استدار ل قاسم يسأله بغضب: ما معنى (يخربيت العته) قاسم!
وقف قاسم من على الكرسي دافعًا فور ليسقط جالسًا في مكانه مرة أخرى وهو يقول بتأفف وغضب بدأ يتملك منه: انجز يا عم محروس خلينا ننجز بدل ما وعهد الله أرميلكوا نفسي من البلكونة عشان ترتاحوا، يخربيت اليوم اللي عرفتكم فيه يا جدع والله.

تدخلت چيهان الصامتة من البداية ثم تحدثت موجهة حديثها ل نبيلة: طبعًا يا ست نبيلة زي ما قال جوزي إن اخنا مش هنلاقي أحسن منكم عشان نناسبكم، وكمان ابننا قاسم ما شاء الله عليه، أدب وأخلاق واحترام ودكتور قد الدنيا ومش هتلاقي زيه صدقيني.
خرجت ضحكة ساخرة من فم أَهِلَّة لاحظها قاسم، والذي بدوره حدجها بحاجب مرفوع وحنق، أكد چون على حديثها قائلًا:
بالطبع خالتي، أُقسم أن قاسم لطيف للغاية.

ضربه رائد بذراعه في جانبه قائلًا بضحكة مكتومة: اسكت الله يخربيتك هيفهموك غلط.
وبالفعل جاء سؤال نبيلة الذي خرج حادًا بعض الشيء: لطيف إزاي يعني مش فاهمة!
تلعثم چون في الحديث من حدتها، فقاطعه فور الذي أردف بضجر مُوجهًا حديثه إليها: ما بكِ خالتي تصرخين بوجه أخي الجميل هكذا! اللعنة على قسوتكم أيها المصريون.

تدخل قاسم متحدثًا بنفاذ صبر: سيبك منهم يا طنط وخليكِ معايا أنا، اعتبريهم مش موجودين عشان أنا ذات نفسي زهقت منهم وقوليلي رأيك إيه، نقرأ الفاتحة ونلبس الدبل دلوقتي ولا أخدهم وأخلع.
تنهدت نبيلة قائلة بيأس: والله يابني أنت كويس ومحترم بس أنا بنتي هتعيش في بيت لوحدها.
أكد لها قائلًا: أكيد، أنا أصلًا عندي بيت 3 أدوار، واحد ل جون وفور، والتاني هيبقى بتاعي أنا، والتالت فاضي.
علي خيرة الله، نقرأ الفاتحة.

قالتها نبيلة بهدوء بعد أن اتفقا على كل شيء، ولم تسأله عن عمله لمعرفتها كل شيء من أَهِلَّة التي أخبرتها عن حياته، مال فور على رائد يسألها باستغراب: ماذا يعني هذا! أقصد ماذا تعني ب(نقرأ الفاتحة)!
انتهى رائد من قرائتها ثم أجابه بهدوء: دي سورة من القرآن عندنا بنقرأها لما اتنين بيتفقوا على الجواز كموافقة مبدأية كدا.
حسنًا علمها لي.
قال فور بحماس، ليُجيبه رائد ضاحكًا: بس أنت مسيحي هتتعلم قرآن إزاي!

مط فور شفتيه بحنق قائلًا: أريد أن أتعلم الفاتحة فقط، هيا رائد لا تكن وغدًا هكذا وعلمها لي.
أومأ له رائد يضحك على أسلوبه ثم أردف واعدًا: أوعدك لما نروَّح هعلمهالك، لكن دلوقتي مش هينفع.
وافقه فور سعيدًا: حسنًا، أنت صديق رائع يا فتى.

تجهزت صوفيا للخروج بعد أن ارتدت ثيابها، والتي كانت عبارة عن فستان أسود اللون طويل، لكن يوجد به فتحة كبيرة من الجانب تُظهر قدمها بسخاء مُقزز، هبطت الدرج بتروٍ تطرق على الأرض السيراميكية بكعب حذائها الأسود، واضعة على وجهها زينة كاملة للوجه، فبدت كشابة في أواخر العشرينات بعد أن أخفت تجاعيدها بتلك الأدوات الخادعة.

وصلت إلى نهاية الدرج فوجدت مختار والد صهيب يدخل من الباب الرئيسي مُحدجًا إياها بسخط، طالعته بلامبالاة وكادت أن تتخطاه مُتجاهلة إياه، لكنه أوقفها ممسكًا إياها من رسغها بقوة يسحبها خلفه، حاولت مقاومته وهي تقول بحقد: بتعمل إيه سيب إيدي.

فتح باب المكتب ثم دفعها للداخل، فكادت أن تفقد توازنها على أثر دفعته، لكنها لحقت ذاتها قبل اللحظة الأخيرة، نظرت له بغضب صارخة أمام وجهه بعصبية: أنت اتجننت! إيه الطريقة الهمجية اللي بتتعامل بيها معايا دي! أنت ناسي إن أنا مرات أخوك الكبير!

أشار لها ولثيابها بإشمئزاز صائحًا: والله أنا فاكر كويس، الدور والباقي عليكِ محدش عارف يلمك من بعد موت أخويا، مقضياها فُسح وخروجات وسهر ولا كأن جوزك ميت بقاله اسبوعين.
أرجعت خصلاتها السوداء للخلف هاتفة: والله دا شيء ميخصكش، دا يخصني أنا لوحدي.
وصل إلى غضبه فصاح بها دون وعي بغضب جامح: لأ مش لوحدك، و حبيبة كمان بتتأذي بسببك وبسبب طريقتك المقرفة في اللبس، أنتِ مفكراني مش واخد بالي من معاملتك ليها!

حاولت تهدئة ذاتها بأقصى ما لديها تُخبره بهدوء زائف: حبيبة بتشتغل معايا بمزاجها مش بجبرها تعمل حاجة غصب عنها.
لوى شفتيه ساخرًا يسألها بإستنكار: لا واللهِ! لتكوني مفكراني أعمى ولا مبشوفش.
وبثوانٍ معدودة كانت نظراتها تتحول للمكر والخبث علمها هو جيدًا، اقتربت منه بقوة حتى باتت على بُعد إنشات قليلة للغاية منه، ثم سألته بعبث: أنت بتحنلها زي زمان ولا إيه!

أغمض عينيه يُسيطر على ذاته من قُربها المُهلك، ثم أجابها بجمود واضح وصريح: أكيد لازم أحنلها، هي مش بنتي!
سارت بأصابعها على قميصه الأبيض تُخطط شباكها كالأفعى، حتى وصلت إلى ياقة قميصه تُهندمه ببطئ ماكر: محدش عارف إنها بنتك غيري أنا وأنت وبس، وقدام الناس هي بنت رفعت الأرماني.
أنزل يدها بغضب ثم أمسكها من رسغها قائلًا وهو يكز على أسنانه: أنتِ تخرسي خالص، دا كله كان طيش وحصل في وقت غلط.

نفضت يدها ثم اردفت بنبرة عابثة: وقت غلط أو وقت مش غلط في الأخر حبيبة بنتك.
أنهت حديثها ثم اقترب منه مُقبلة إياه على وجنته بغتةً قائلة بمكر: تشاو يا بيبي، وعلى فكرة أيام زمان وحشتني موت، وأنت كمان وحشتني.
عضت على شفتيها تزامنًا مع خروجها للخارج، وتركته تعلم جيدًا تأثيرها القوي عليه.

اتفق الجميع على موعد الزفاف، والذي أصرت عليه أَهِلَّة أن يكون نهاية هذا الشهر، ورغم رفض والدتها الشديد إلا أنها ظلت تُلِح عليها بقوة، ودخل معها قاسم الذي حاول إقناعها هو الآخر ولكن بقوة أشد، مُتعللًا بسفره الذي يجب أن يكون بعد شهر ونصف ويجب ألا يتركها ويأخذها معه، وهنا رفضت أكثر وأكثر، فغمزت أَهِلَّة لشقيقاتها برجاء أن يقوما بإقناع والدتهم معها، وبالفعل تدخلوا في ذلك، ووسط إصرارهم الشديد والمُريب رضخت ووافقت بضجر، وذلك بعد أن رأت رغبة ابنتها القوية في الزواج بأقصى سرعة لأنها لا تحب فترة التعارف، وستكتفي بشهر واحد من الخِطبة.

أرجع فور ظهره يستند على المقعد، واضعًا يده على معدته التي تتضور جوعًا، ثم تحدث بضجر: ألم نأكل؟ أنا أتضور جوعًا.
وجد أنظار الجميع تتوجه إليه يُحدجونه باستغراب، وهُنا صدح صوت يمنى الساخر تُخبره: شايفاك ما شاء الله خدت علينا أوي، يا جدع دا أنا خدت فترة على ما آخد على بيتنا.
تشنج وجه فور حنقًا، ثم تشدق بسخط أغضبها: أنتِ تُثيرين غضبي أيتها الفتاة، تبدين شريرة على الأغلب.
أجابته بسخافة واضحة: معلش.

وقفت نبيلة تُنادي على فتياتها قائلة لضيوفها: يلا يا بنات نحط الأكل للضيوف، ثواني وهيكون الأكل محطوط على السفرة.
ذهب خلفها الفتيات واقترحت سهيلة بود أن تُساعدهم، ولم يُمانعوا أبدًا، راقب قاسم ابتعادهم، ثم هبَّ من مكانه مُمسكًا فور من ياقة ملابسه يُعنفه بصوت خفيض: أنت يابني مبتشبعش! دايمًا فاضحنا في كل حِتة كدا؟

حاول فور التملص من بين يديه متحدثًا بضجر: ماذا فعلت أنا يا هذا! كنت أموت جوعًا، لم آكل منذ ساعة كاملة تقريبًا بسببك.
تركه قاسم ساخطًا، ثم حوَّل أنظاره تجاه لواحظ يُحدجها بابتسامة شريرة أخافتها، ابتلعت ريقها بقلق مُتسائلة بثبات زائف: مالك بتبصلي كدا يا واد؟ هتاكلني ولا هتاكلني!

اقترب منها قاسم بتروٍ، ثم انحنى قليلًا مُمسكًا بسكين الفواكه الموضوع على الطاولة، مُجيبًا إياها بهمس شرير: لأ وأنتِ الصادقة هقتلك وأخلص منك يا لواحظ عشان أنا جِبت أخري منك.
رسمت ابتسامة متوترة على ثغرها قائلة بنبرة مُعاتبة له: وأهون عليك يابني! دا أنا حتى بحبك زي حفيدي بالظبط.
تدخل رائد مستنكرًا يقول: وبما إنها مش بتحب حفيدها فهي مش بتحبك ياض يا قاسم.

حولت لواحظ أنظارها ل محروس الذي يُغازل زوجته جيهان قائلة باستنجاد: الحقني يا محروس وسيبك من مراتك، الواد دا عايز يقتلني.
رفع محروس أنظاره ل قاسم متحدثًا بهدوء: اقعد يا قاسم وسيب أمي في حالها، وسيبني أنا كمان أشوف حالي مع الحلاوة بالقشطة دي.
ضربته چيهان على ذراعه بخفة قائلة بخجل: بس بقى يا محروس عيب كدا، الولاد قاعدين.
تدخلت سهيلة متحدثة بإستنكار: ما تقوموا ريحوا جوا شوية يا جماعة.

ضربها رائد على مؤخرة عنقها ينهرها: بس يا قليلة الأدب إيه الكلام اللي أنتِ بتقوليه دا؟ أنا بس اللي أقول كدا سمعتي!
أشاحت سهيلة بيدها أمام وجهه قائلة: يا أخويا اتنيل أنت كمان.
جاءت في تلك الأثناء يمنى تفتح لهم الستار تدعوهم بهدوء: اتفضلوا يا جماعة الأكل جاهز.

وكان أول من يذهب هو فور وبعده بقية العائلة، وأخيرًا جاء دور قاسم للولوج من جانبها، سددت له نظرة كارهة التقطها ببراعة، فوضع يده بجيب بنطاله متحدثًا بسخرية دون النظر إليها: فِكرك لما تروحي ل صهيب الأرماني وتتفقي معاه عليا إني كدا مش هعرف؟ يبقى للأسف أنتِ لسه متعرفيش مين هو القناص.

أنهى حديثه راميًا لها نظرة ساخرة وبعدها دلف حيث يجلس الجميع، تاركًا إياها تنظر لأثره بأعين مصدومة غير مُصدقة، كيف علم بإتفاقها مع صهيب الأرماني، ليس سهلًا كما توقعت، بل أخطر بكثير مما كانت تظن.

التفوا جميعًا حول مائدة الطعام صامتين، كل شخصٍ شارد في ملكوته، أمسكت أَهلة بجهاز التحكم ثم أتت بقناة الأخبار التي تُتابعها دائمًا، وأتت اللحظة المُناسبة والمتوقعة تمامًا، فلقد تم نشر الخبر التي كتبته على لسان أحد الصحفيين الذين يمتلكون سُلطة عالية في البلدة، مُزينًا الحديث ببعض الكلمات السامة التي تدخل العقول فتسبب هياجها من قوتها، وأكثر الأخبار خطورة هو الخبر الثاني، والذي بدأ المذيع بقوله بجدية كبيرة:.

لقد أتتنا أخبارًا عن وجود بعض الجواسيس المُلثمين في دور الشرف والبراءة، مُرتدين زي كِبار رجال الأعمال والأطباء والمهندسين وضباط الشرطة، حيث جائتنا المعلومات التي تؤكد على تورط المباحث الأمنية مع القناص، وذلك للتخلص من أعدائهم بطريقة غير مباشرة، تظهر للمواطنين بأن القناص مجرد قاتل عابر، لكن ما هو إلا قاتل مأجور من كِبار البلاد.
هذا الخبر نُقِل على لسان المجهولة النارية.

كانت أهلة تستمع للخبر بتشفي، وكذلك يمنى أيضًا، نظرت أَهِلَّة ل قاسم الجالس بجانبها، فوجدته يُطالعها بعبث غامزًا إياها بمشاكسة قبل أن يقول بإطراء: كفاءة.
ردت عليه بغرور: أقل حاجة عندي، ولسه اللي جاي أكتر بس الصبر.
أكملوا طعامهم وجاء الخبر التالي والذي جعل جميع الشباب يبتسمون معًا دون إدراك وبتلقائية، حينما بدأ المذيع حديثه:.

حادثة بشعة تُصيب عائلة الأرماني، حيثُ قام أحد العابثين بتفجير مصانع الأدوية الخاصة بهم، مُسببة حالة من الهلع والخوف بين العامة، ولم يكتفوا بذلك فقط، بل قاموا بإشعال النيران بالشاليه الكبير الخاص بعائلة الأرماني أيضًا، مما سبب لهم خسائر طائلة وكبيرة أدت إلى إنخفاض أسهم مشفاهم في السوق التجارية.
مالت أَهِلَّة قليلًا على قاسم متحدثة بعبث خافت حتى لا تجذب الأنظار: حركة صايعة دي ها؟

سألها بغرور وهو يغمز لها: بس إيه رأيك؟
قلدته في الحديث مثلما يفعل دائمًا قائلة بمشاكسة: كفاءة.
ارتسمت ابتسامة كبيرة على وجهه ثم أجابها ضاحكًا: بعض ما عندكم يا عم.
انتهى العشاء وذهب قاسم والعائلة من المنزل بعد يوم طويل وحافل، وضعت نبيلة يدها على رأسها تشعر بالصداع، ثم قالت بإنهاك طفيف: أنا خلاص فصلت، هدخل أغيَّر هدومي وأنام.

ذهبت لها أَهِلَّة مُقبلة إياها من جبينها، ثم أردفت بحنان: تصبحي على خير يا ماما.
وأنتِ من أهله يا حبيبتي.
دلفت نبيلة للداخل، وكذلك ملك التي كانت صامتة اليوم عكس عادتها، وبقى كلًا من أَهِلَّة ويمنى معًا، اقتربت يمنى من شقيقتها متحدثة بضجر: ارتحتي وعملتي اللي في دماغك؟

قبلتها أَهِلَّة بمشاكسة من وجنتها ثم أومأت لها: آه ارتحت، وعايزاكِ أنتِ كمان ترتاحي عشان دماغك متوجعكيش من التفكير، يلا تصبحي على خير يا يمون.
تابعت يمنى ذهابها وهي تهز رأسها بيأس من عنادها، ثم دلفت هي الأخري لحجرتها تُفكر في كيفية علم قاسم بما فعلته، هل يُراقبها! أم أنه يُراقب صهيب الأرماني لذلك علم بذهابها إليه!

اتجهت أَهِلَّة أولًا نحو المرحاض، تغسل يدها بقوة شديدة، عاد شعور الإشمئزاز يُداهمها مرة أخرى ولا تعلم سببه، رغم أنها لم تُصافح أي من الموجودين، حالتها أصبحت مُتأخرة وهي تعترف بذلك، أصبحت تغسل يدها يوميًا أكثر من المئة مرة دون سبب، هي فقط تشعر بالإشمئزاز من اللاشيء.

رفعت أنظارها تُحدج ذاتها بالمرآة بهدوء، لاحظت إحمرار عيناها نتيجة لكتمانها لتقيؤها، وكالعادة فشلت في ذلك فتقيأت، ذلك تتقيأ لمدة دقيقتين تقريبًا دون توقف، هي فقط تريد من ذلك الشعور بالإشمئزاز أن يذهب الآن، مسحت فمها ووجها بالكامل بالماء، تبدو شاحبة للغاية، ملامحها باهتة ومَن السبب! عائلة الأرماني.

وها هي قد بدأت بخطوتها الثانية في الإنتقام، وهي اتحادها مع القناص، ستقضي على تلك العائلة واحدًا تلو الآخر، ستثأر لذاتها وتُشعل النيران في جسد الجميع.
ألم أُخبركم ما هي الخطوة الأولى! حسنًا دعوني أُخبركم الآن، هي مَن قتلت رفعت الأرماني، أَهِلَّة هي القاتلة المجهولة التي يبحث عنها الجميع، ومن ضمنهم القناص.

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة