رواية حارة القناص الجزء الأول للكاتبة شروق حسن الفصل الثامن
انتهت أَهِلَّة من غسل يديها، ثم جففتهما بمناديل ورقية بعناية، نظرت لهما بتدقيق شديد حتى تتأكد من نظافتهما، وكذلك فعلت مع وجهها عندما غسلته من أدوات التجميل الخفيفة التي كانت تتزين بها، اتجهت بتروٍ نحو غرفتها وعاد عقلها لتذكُّر تلك الليلة التي قتلت بها رفعت الأرماني.
بدلت فستانها بثياب أخرى مُريحة، وعقصت خصلاتها للأعلى بمظهر فوضوي لكن جميل يتماشى معها، وقفت تنظر للمرآة مُجددًا، هي جميلة وهذا ما تُكرره فوق مسامعها دائمًا، ملامحها مُريحة للعين، بشرة قمحية مائلة للسمار الخفيف، وأعين واسعة من اللون الأسود يُزينها أهداب كثيفة تُحيط بهما، وأخيرًا جسد ضئيل وصغير لكنها تُحبه، مَن يراها يُقسِم بأنها فتاة مازالت في أوائل العشرينات، لكن هي تخطت الخامسة والعشرون بعامين.
عادت للفراش وتسطحت عليه براحة، تريد أن تنام وتنسى ما يُوسوس به عقلها لتذكره، إن تذكرت ستتقيأ مُجددًا ومن الممكن أن تشعر بها والدتها تلك المرة، أخذت نفسًا عميقًا ثم زفرته على مهل، ومعه تغلبت عليها نفسها وتذكرت كل شيء بالتفصيل وكأنه حدث بالأمس.
عودة للماضي.
عندما انتشرت الأقاويل حول مقتل ابن رفعت الأرماني قررت الذهاب إلى محل الجريمة التي حدث بها مقتله، وبالفعل ذهبت ومعها كاميرتها وكذلك دفترها الصغير التي تُدون به الملاحظات، هي بالأساس تستهدف عائلة الأرماني من البداية قاسمة على النيل منهم، وجدت قوات الشرطة تُحيط بموقع الجريمة بعناية، فكان من الصعب عليها التقدم أكثر، أنار عقلها بفكرة ستُمكنها من تخطيهم، رغم أن نسبة نجاحها ضئيلة للغاية لكنها ستُنفذها.
كانت الجريمة بمكان أشبه بالأراضي الزراعية المليئة بالأعشاب الكثيفة، خلعت الوشاح المُحيط بعنقها ثم وضعته على رأسها، وبطرفه غطت وجهها حتى لا يتم كشف هويتها، اختبأت خلف أعواد القش الصلبة مُخرجة عود ثقاب من جيب بنطالها الخلفي ثم أشعلته في كومة القش الموجودة بجانبها، انتظرت قليلًا حتى ارتفعت النيران عاليًا مُحدِثة دخانًا كثيفًا.
هرولت بسرعة قبل أن يأتي أحدهم إلى هنا ويراها، ثم وقفت بين تزاحم الصحفيين الذين أتوا مثلها عندما علموا خبر مقتل فردًا من عائلة الأرماني الشهيرة، وبخضة مُزيفة أردفت بهلع وصوت عالٍ وهي تُشير إلى المكان التي تصعد منه النيران: حريقة!
التفت الجميع حيث تشير بما فيهم الضباط الذين لاحظوا حجم الحريق الكبير، ذهب بعضهم إلى موقع الحريق بما فيهم الصحفيين، والبعض الآخر كان مُنشغل الذهن بينما يقفون مكانهم لمنع أي تدخل صحفي، استغلت انشغالهم والضجة العالية التي أحدثتها، وعلى حين غُرة سحبت الكارت الخاص بالقناص والذي كان موضوعًا داخل سيارة الإسعاف المجاورة للجريمة دون أن يراها أحد، كان موضوعًا داخل كيسًا بلاستيكيًا لحفظ بصماته إن وُجِدَت، مُقررة إستغلاله وقتل ذلك الحقير المُسمى ب رفعت الأرماني.
وجاء اليوم المحسوم، عندما قامت بتأجير أحد الرجال وأمرته بتسريب زيت سيارة المدعو رفعت الأرماني، وبالفعل فعل ذلك وتوقفت سيارته في أحد المناطق الخالية والمهجورة عندما انتهى بنزين سيارته تمامًا، وهُنا ظهرت هي، ظهرت وعينيها تَشُعان دمارًا هائلًا أفزعه، فتح عيناه على مصرعيهما وقد عرفها عندما رآها، وذلك للشبه الكبير بينها وبين والدتها، وما كاد أن يتحدث أو ينطق بكلمة واحدة؛ حتى سمعها تقول بصوت خافت ومخيف:.
ابقى سلملي على الحبايب كلهم يا رفعت بيه، سلام يا حقير.
أنهت جملتها ثم دفعته بغتةً على الأرض الأسفلتية الصلبة، لتصطدم رأسه بأحد الأحجار الكبيرة والتي أفقدته وعيه على الفور، لكنها لم تُشفق عليه كما لم يُشفِق عليها من قبل، بل استغلت فقدان وعيه وشقت عنقه بنفس الطريقة التي يقتل بها القناص حتى لا يتم كشفها.
بصقت عليه بإشمئزاز مُطالعة إياه بكُره دفين، ناظرة ليدها المُغطاة بالقفازات السوداء لمحو بصمات يدها، ورغم هذا شعرت بالإشمئزاز والقرف من مظهر الدماء على يديها، حاولت أن تُسيطر على ذاتها لكنها لم تستطيع، فقد غلبها وسواسها القهري جاعلًا إياها تتقيأ بقوة على جانب الطريق، ومنذ ذلك اليوم زاد مرضها حِدة وخطورة، فباتت تغسل يديها أكثر ما تتنفس تقريبًا.
Back:.
عادت من شرودها مُنتفضة من على فراشها تركض تجاه المرحاض، فتحت صنبور المياة حتى يُغطي على صوتها العالي، وبعدها بدأت بالتقيؤ، رغم عدم وجود شيء بمعدتها ولكنها حاولت، حاولت وليت كل هذا ينتهي اليوم قبل غدًا، قبل أن يقضي عليها مرضها.
دلف الشباب للمنزل الذي يجمعهم سويًا، فكانت الساعة قد تعدت العاشرة مساءً، ارتمى فور على الأريكة، ثم وضع يده على معدته قائلًا بألم: أوه أنا جائع بشدة.
انتفض رائد الذي كان يُجاوره متفوهًا بفزع: أنت إيه يابني مبترحمش؟ أنت مش لسه واكل عند الناس دلوقتي ومخلص أكلهم؟
تشنج وجه فور باستنكار وهو يُجيبه: لم آخذ راحتي في تناول الطعام يا هذا، ما بِك تنظر إلى طعامي وكأنه من مال أبيك؟
رد عليه ساخرًا: قال وهو مال أبيك يعني؟
ضحك قاسم على مشاكساتهم الدائمة، ثم ضرب بيده على الأريكة بجانبه وهو يقول ل فور: تعالى يا فور يا حبيبي اقعد جنبي وسيبك من المتخلف دا.
اتسعت ابتسامة فور أثناء ذهابه وجلوسه جانب قاسم، ليُحيطه قاسم الذي أردف بمزاح: مالك يا عم دايمًا زعلان ومكشر كدا ليه؟
أجابه فور بعد أن تنهد بيأس: أنا لستُ كئيبًا يا صديقي، بل كنتُ أضع آمالي في البشر ويخذلونني.
ارتسمت ابتسامة خفيفة على ثغر قاسم، ثم رد عليه ساخرًا: أنت حاطط أملك في الناس، وأمل أصلًا رقاصة.
قهقه رائد عاليًا ثم غمز ل قاسم مُحييًا إياه: بتقول حِكم وعهد الله يا عم.
أكد قاسم على حديثه قائلًا بفخر وهو يُوجه حديثه ل فور: وبعدين أنا مش قولتلك قبل كدا متتعشمش عشان القفا ميعلمش! .
أكمل له رائد مازحًا: وعلى قد عشمك مِد قفاك.
تلك المرة تشارك الثلاثة الضحكات في جو مَرِح، تجمعهم الكوميديا السوداء، كما جمعهم القدر ليُصبحوا ك يدًا واحدة يُواجهوا معًا الصِعاب.
صمتوا قليلًا فتسائل فور بتعجب وهو ينظر حوله: أين أخي چون؟ كان معنا منذ قليل.
أجابه رائد بلامبالاة أدت إلى تشكل الغضب داخل حدقتي قاسم: شوفته وهو طالع فوق، أكيد طالع ل لوسيندا.
هبَّ قاسم من مكانه مُتسائلًا بحدة خرجت بطريقة سوقية منه: نعم نعم يا روح خالتك طِلع عند مين؟ دا أنا هخلي يومه أسود النهاردة.
قال جملته ثم التهم الخطوات التي بينه وبين الباب ليفتحه بحدة، وعقله يرسم له ما يفعله هذا الوقح الآن مع الطبيبة المسكينة بالأعلى، وفوق كل هذا في شقة والدته المريضة!
جز على أسنانه بغيظ بعدما وصل للأعلى، ليجد الباب مُواربًا بفتحة صغيرة للغاية تكادُ لا تُذكر، فتح الباب بهدوء ودلف بتروٍ، وما لا تعرفونه أن چون وقح بدرجة لا تُوصف، لكن لا بظهر عليه هذا، وهذا ما يخافه.
استمع إلى صوت همهمات آتية من أحد الغرف المجاورة لغرفة والدته النائمة، فاقترب منها مُبتلعًا ريقه بخوف من تلك الوساوس التي بدأت تدور بعقله، هل اعتدى عليها؟ أم هي مَن قد سلمته ذاتها بإرادتها، وإن كان هذا أو ذاك سيقتلهم الإثنان لا محالة.
فتح الباب على بغتةً وعينه مُنتظرة رؤية مظهر وقح يصدمه، لكن ما صدمه حقًا هو رؤيته ل چون وهو مُكبل على أحد المقاعد، وعلى ثغره يُوضع لاصق يمنع خروج صوته، وأمامه لوسيندا التي تقف أمامه والغضب مُرتسم على وجهها، بالإضافة إلى تلك العصا التي تمسكها بيدها وكأنها تُعذبه!
وضع قاسم يده على صدره بعد أطلق زفيرًا يدل على راحته، ثم تمتم لها بإعجاب وهو ينظر بشماتة ل چون الذي سدد له نظرة رجاء: جدعة والله، أنا كنت عارف إنك بنت ب100 راجل.
ثم نظر ل چون بسخط قبل أن يذهب ويُغلق باب الغرفة مُجددًا: أحسن خليك زي الكلب كدا يا سافل.
أغلق الباب وعلى شفتيه ابتسامة عابثة على ما فعلته لوسيندا به، وبالطبع لن يخرج قبلا الدلوف للإطمئنان على والدته، فتح باب غرفتها ببطئ فوجدها نائمة كالعادة، زفر بإختناق لرؤيته للأسلاك مُوصلة بجسدها وهي نائمة وشاحبة كالعادة.
اقترب منها بهدوء حتى جلس على جانب الفراش، أمسك بكف يدها الموصل للمحلول الذي يمدها بال يتامينات ثم قبله بحرارة شديدة، وبعدها همس بإشتياق أهلكه: وحشتيني. مش ناوية ترجعي بقى؟ بقالي سنين مش بعمل حاجة غير إني أطلب منك الطلب دا وأنتِ مش عايزة تسمعي كلامي.
وكالعادة لم يجد سوى الصمت، وهذا ما كان يتوقعه، يشعر بالألم من ابتعاد روحها عنه رغم وجود جسدها جانبه، وكما يفعل دائمًا وضع رأسه على صدرها دافنًا ذاته داخلها، يَهرب من العالم إليها، وهي الملاذ الوحيد له رغم غُربته، صعد صوته مُتألمًا وهو يتحدث معها كأنها تسمعه:.
لقيت مُتبرع بعد شهرين من البحث، لقيت كِلى مشابهة لنوع الأنسجة بتاعتك، بس للأسف دا كله هيتم بعد شهرين، هستنى شهرين تانيين عشان تعملي العملية وترجعي معايا تاني، عارف إني مقصر في حقك بس أنا بجيبه من اللي ظلموكِ، أنا بحبك أوي يا ماما ومحتاجك معايا، أنا مشبعتش منك ولا من حنيتك، من بعد موت أخويا وأنا فقدتك، بس قسمًا بالله هجيب حقك وحقه، ودا كله البداية مش أكتر.
أغمض عينه لتهبط دمعة كانت مُحتبسة من بين جفنيه بألم، يُريد عودة والدته إليه، يريد شقيقه كذلك، يحتاج لعائلته التي حرمته منه عائلة الأرماني، ورغمًا عنه تذكر مقاطع مما حدث قديمًا، تذكر وفُتح جرحه أكثر وأكثر، وهو فقط يُعاني بصمت.
عودة للماضي.
عاد من مدرسته وهو يبكي بحزن من ضحكات زملائه عليه، مسح دموعه بكُم قميصه المدرسي المُتهالك ثم داف لمنزله، رأته والدته حياة بذلك المظهر، فذهبت إليه مُسرعة مُتحدثة بفزع: مالك يا قاسم يا حبيبي بتعيط ليه؟
اغرورقت الدموع بعين قاسم الواسعة مرة أخرى، ثم أجابها بنشيج: صحابي النهاردة فضلوا يتريقوا عليا عشان فقير وهدومي مقطعة، وبيقولوا عليا فاشل كمان.
نظرت لإبنها بشفقة هابطة له وهي تستند على ركبتيها، ثم احتضنته بحنان مُربتة على ظهره الذي يهتز من بكائه، ليصعد صوتها هامسًا بهدوء: أنت مش فقير، هما اللي فُقرا ومش محترمين، الغني غني بأخلاقه وأدبه وتعليمه، مش بفلوسه وبلبسه النضيف وشكله.
هدأ قليلًا من بكائه بسبب حديثها الهاديء الذي بثته إليه، ابتعدت عنه قليلًا ثم حملته بمرح على ذراعها مُتجهة به نحو الأريكة المُتهالكة، وأكملت حديثها مُمسدة على خصلاته المُجعدة قليلًا:.
مش لازم لما أي حد يقولك كلمة تبقى صح، حتى لو هو شايفك كدا فعلًا، هما قالوا عليك فاشل، بس أنت بتعمل كل اللي عليك عشان تذاكر وأنا عارفة دا وبشوفك وأنت سهران بليل، أنت راجل، هما لسه أطفال بياخدوا فلوس من أهلهم ودا حقهم، بس أنت بتتكسف تطلب من بابا فلوس عشان أنت عارف إن هو مش معاه، مش عايز تحرجه وعشان كدا بتسكت.
رأت نظراته المُلتمعة التي يُحدجها بها، لتهبط على وجنته المُمتلئة قليلًا تُقبلها بحنان شديد، تبعها قولها المُشجع: عارفة إن احنا مش معانا فلوس كتير، بس احنا عندنا أجمل وأحسن ابن في الدنيا، معانا قاسم حبيبي ونور عيني، أنا واثقة فيك، وواثقة إنك هتوصل للي أنت عايزه، عشان أنا ابني بطل.
اتسعت ابتسامة قاسم بطفولية وكأن لم يُصيبه الحزن يومًا، فبادر باحتضانها وإحاطة عنقها بقوة، ثم ردد بحب غريزي: أنا بحبك أوي يا ماما.
عودة
أنا بحبك أوي يا ماما.
كرر جملته التي قالها قديمًا ودموعه تهبط بلا توقف، لم يُزيده التذكر سوى مرارةً وألمًا، لم يُزيده سوى حقدًا وإنتقامًا ممن كانوا السبب في حرمانه من عائلته الجميلة، ومع الدمعة الأخيرة التي هبطت منه؛ خرجت منه همسة حاقدة بإسم ضحيته الجديدة:.
صهيب الأرماني.
بقولك إيه حِل عن دماغي، هو إيه اللي عملت فيكِ جِميلة!
هتفت ملك بتلك الكلمات بعصبية شديدة، ليُجيبها رائد المُستند بظهره على الفراش بعبث: آه طبعًا عملت فيكِ جِميلة، تفتكري لو مامتك كانت عِرفت إنك بتكلميني كانت هتسكت؟ باين عليها شِديدة.
كزت ملك على أسنانها بغيظ هاتفة بغضب: بقولك إيه ابعد عني ومتكلمنيش تاني، ولا كأنك كنت تعرفني أصلًا.
هبَّ من مكانه فجأةً ثم تفوه بمكر خبيث: وأنتِ فِكرك دخول الحمام زي خروجه يا ملوكة ولا إيه؟
أغمضت ملك عينيها بشك ثم سألته بترقب: يعني؟
التوى ثغره بعبث مُجيبًا إياها بما كانت تخاف أن يتفوه به: يعني عايز أقابلك، تعارف يعني، يمكن لما نتعرف أكتر وناخد على بعض يبقى فيه بينا شيء رسمي.
رفضت بشدة عرضه وهي تقول بحدة: لأ طبعًا أنا عمري ما أقابل راجل غريب أبدًا.
يا طاهرة.
قالها بضحكة عالية ظنًا منه أنها تمزح، ثم تشدق بسخرية: يعني أنتِ تكلمي راجل غريب عنك آه، لكن تتقابلوا لأ! فتاة ذات مبدأ صحيح.
نفخت بغيظ من تلك الكارثة التي ورطت نفسها بها، وظلت تُفكر لبضعة ثوانٍ، حتى أردفت بجمود: تمام ماشي، هقابلك بكرا بعد الجامعة ونشوف هنوصل لإيه، يلا غور في داهية.
بينما هو نظر للهاتف بصدمة، لقد سبَّته للتو، بل وأغلقت الهاتف بوجهه، تلك القصيرة سليطة اللسان سيُريها غدًا، وهذا ما حدَّث به نفسه.
إن كان لديك القوة للتغلب على أحاديث عقلك المريضة؛ فأنت شخص مُكافح إذًا، أما إذا كان وسواس عقلك هو مَن يُسيطر عليك؛ فأنت في خطر شديد، عادةً ما يكون العقل ذات تأثير قوي على الفرد، خاصةً إن كان تفاعلك معه بشكل مُستمر ومُكتمل، أو إن كنت في سن المراهقة الخطرة، حينها لديك خياران، إما أن تنجو من تفكيرك المُهلك، أو إنك ستؤذى كما حدث بالجميع.
أمسكت سهيلة برواية خاصة بها تقرأها بتمعن شديد، هي من مُحبي القراءة كأغلب الفتيات في عمرها المُراهق، خاصةً روايات الحب والرومانسية، تُشعرها بأنها تُحلق عاليًا بين السحاب، فترسم عالمًا ورديًا خاصًا بها وبشريك أحلامها المجهول، لكن تلك المرة هي تقرأ رواية مُليئة بالغموض والأكشن، وهذا أكثر الأنواع إثارة وحبًا لها.
كانت عيناها تجول بين الكلمات المخفية بألغاز كثيرة عجزت عن حلها، قوة الأفكار وسردها الرائع هو من جذبها لها، غير ذلك أن الرواية لكاتب عظيم هي تعشقه وتعشق جميع أعماله من أولها لآخرها، وذلك لأسلوبه المُتميز في تدوينها، فكان الكتاب يُسمى (سِر الغرفة 207) وكم وقعت في عشقه كثيرًا.
استمعت إلى صوت هاتفها يُعلن عن رسالة نصية، أغلقت الكتاب ثم فتحت تطبيق الرسائل الشهير واتساب، فوجدت العديد والعديد من الرسائل في المجموعة المُشتركة بينها وبين أصدقائها في الجامعة، كانوا مش عُشاق القراءة هُن الآخريات، لكن ذوقهم يختلف كُليًا عنها.
تحدثت معهم لبضعة دقائق وفتحوا أحاديثًا مُختلفة عِدة، لتسألها صديقة لها والتي تُسمى منه: فينك يا بنتي مختفية كدا؟
أجابتها سهيلة بمزاح وهي تكتب بابتسامة طفيفة: عايشة في عالمي الخاص مع اجوازاتي، وقعت في حب كل أبطال الرواية.
أنهت جملتها ببعض الأشكال الضاحكة لترد عليها صديقة أخرى والمُسماه ب ساندي: معاكِ حق، ربنا يوعدنا يارب بناس نضيفة زيهم، أنتِ بتقرأي إيه دلوقتي؟ .
سألتها ساندي بإستفهام، فأجابتها سهيلة بحماس وهي تُرسل لها: رواية اسمها سر الغرفة 207 للدكتور أحمد خالد توفيق الله يرحمه، بس جامدة من الآخر يعني .
أرسلت في نهاية حديثها الكثير من القلوب الحمراء التي تدل على شدة حبها لتلك الرواية التي عشقتها للغاية، امتعضت ساندي ثم كتبت لها: مبحبش الروايات بتاعة الكاتب دا، بحسها مُملة أوي، عامةً أصلًا أنا مش بحب الروايات الفصحى.
أجابتها سهيلة باستنكار: طب اسكتي اسكتي أنتِ متعرفيش حاجة عن العظمة دي، أنتِ بتقرأي إيه دلوقتي؟ .
تلك المرة أجابت منه التي كانت تُتابع حديثهم بصمت: بعتتلي رواية تحفة أوي وجامدة آخر حاجة، اسمها ( ) البطل جنتل مان أوي فيها.
تحمست سهيلة لقرائتها، لذلك دون أن تعي تفوهت قائلة: الله اسمها حلو وانتوا كمان حمستوني ليها، هاتوا اللينك عشان أقرأها.
أرسلت لها صديقتها الرابط الخاص بالرواية التي تقرأها، فكتبت سهيلة لها وهي تتثائب بنعاس: تمام أوي هقرأها بكرا وبعدين أقولكم رأيي.
تمام يا روحي، يلا تصبحوا على خير عشان ورانا جامعة الصبح، نبقى نتقابل بكرا بقى.
أغلقت سهيلة الهاتف ثم أمسكت الكتاب تقرأ به مُجددًا ساحبًا أياها بين كلمات السطور الجاذبة.
جاء الصباح، وأشرقت الشمس بنورها لتُغطي ضوء القمر الطفيف، واستيقظت أَهِلَّة بتأفف عندما صدح رنين هاتفها بالمنبه لإيقاظها، اعتدلت في مكانها ثم أعلقته ببطئ، كادت أن تضع الهاتف مرة أخرى؛ فوجدت رسالة نصية منه وكان محتواها:
مستنيكِ النهاردة في كافيه عايزك في موضوع مهم.
رأت الرسالة ولم تُجيبه، بل وقفت مكانها ثم دلفت للمرحاض لتغسل وجهها الناعس بالماء جيدًا، مُقررة أن تذهب أولًا إلى الجريدة؛ لرؤية تأثير الأخبار التي قامت بنشرها أمس، بالطبع سيتم إغلاقها بعد أن يتم زج المدير الحقير في السجن، وهذا ما تريده، تريد إشعال كل ما حولها دون أن يرف لها جفن.
جففت وجهها بالمنشفة ثم خرجت لتجد والدتها تبدأ ب رَص الأطفال جانب بعضها، سددت لها والدتها ابتسامة خفيفة قبل أن تقول بمرح: أهلًا بعروستنا القمر.
ابتسمت أَهِلَّة بخفة، وما كادت أن تُجيبها حتى استمعت إلى صوت ملك الذي يأتي من خلفهم بحنق: ياما. مين خَد الكنزاية اللي كانت في التلاجة؟
حدجتها أَهِلَّة بإشمئزاز، كذلك جعدت نبيلة وجهها بقرف وهي تردد كلمتها الأولى: ياما؟ أنتِ جاية من الشارع يا بت أنتِ؟
تأففت ملك بضجر ضاربة بقدمها في الأرض بسخط، قبل أن تهتف حانقة: يعني أنتِ يا ماما سايبة الكلام كله ومسكتي في دي؟ أيوا برضه مفهمتش مين اللي خَد الكنزاية بتاعتي؟
وضعت نبيلة طبق السلطة من يدها على السُفرة، ثم التفتت لها ذاهبة تجاهها وهي تخلع نعلها مُسرعة، وقبل أن تقذفه في وجهها تداركت ملك الموقف مُهرولة من أمامها، لتظهر من خلفها يُمنى التي خرجت لتوها، ولسوء حظها احتضن خُف والدتها وجهها بقوة مما أدى إلى صراخها بألم شديد.
كتمت أَهِلَّة ضحكاتها وكذلك ملك التي وقفت بجانبها، فمالت عليها ملك مُردفة بغيظ: قلبي بيقولي إن هي اللي شربت الكنزاية بتاعتي عشان كدا ربنا جابلي حقي منها.
نكزتها أَهِلَّة في جانبها بخفة مُتمتمة بخفوت: اسكتي لو يمنى سمعتك هتخلي وشك شوارع.
بينما وضعت يمنى يدها على وجهها بألم وهي تُصيح بسخط: في إيه يا ماما على الصبح يالهوي.
حدجتها والدتها بضجر ثم ذهبت من أمامهم وهي تُتمتم بكلمات لم يستطيعوا تفسير معانيها، اقتربت ملك من شقيقتها المُمددة على الأرض ثم سألتها بترقب: مين اللي خَد الكنزاية اللي في التلاجة يا يمنى؟
رفعت يمنى أنظارها إليها وهي تُعدِّل من وضع نظارتها الطبية، ثم أردفت بلامبالاة: أنا و...
وما كادت أن تُكمل حديثها، حتى استمعت إلى صوت صياح ملك العالي بسوقية: جتك أوا في جنابك يا بعيدة، يارب تطفحيه يا شيخة، روحي قلبي وربي غضبانين عليكِ، ربنا يسلط عليكِ خلقه وتتسرقي يا بغلة، روحي استحمي يا يمنى، أنتِ محتاجة تستحمي يمكن تبطلي النتانة اللي بتجري في دمك دي.
حدجتها يمنى بعدم تصديق من وصلة سبابها التي لم تنتهي، بينما أَهِلَّة انفجرت في الضحك على مشابغتهم الدائمة، خاصةً ملك و يمنى، أو ملك ووالدتها، توقفت عن الضحك ثم جال بعقلها سؤالًا لم تكتمه كثيرًا فأردفت تسألها بترقب: جيبتي الكانز دا منين يا ملك أصلًا؟
أخذت ملك نفسًا عميقًا ثم أجابتها على مهل رغم غضبها من شقيقتها: من الواد قاسم خطيبك.
رددتها أَهِلَّة خلفها بتشنج قائلة: الواد قاسم خطيبي؟ آه لو سمعك وعهد الله ما هتاخدي في إيده غلوة.
قالت جملتها الأخيرة بهمس لم يصل لمسامعها، بينما هبَّت يمنى من مكانها بغضب وهي تُشيح بيدها أمام الأخرى: يعني شحاتة ومعفنة وكمان جاية بتتخانقي معايا يا أنتن خلق الله؟
وضعت ملك يدها على رأسها ضاربة عليها بضربات خفيفة: آه يا يمنى، وطلاق تلاتة لو مديتي إيدك على حاجة تخصني تاني هقطعهالك، آمين؟ آمين إن شاء الله.
أنهت حديثها ثم ذهبت من أمامهم دالفة لغرفتها لترتدي ثيابها مُتجهزة للذهاب إلى جامعتها، وبعدها تذهب لمقابلة ذلك الحقير كما تُلقبه، لكن! هناك خطة خبيثة في عقلها وعزمت على تنفيذها لتلقينه درسًا لن ينساه.
مش هنقدر نعمل أي حاجة يا نبيل من غير ما يكون فيه دليل، القاضي مش بيقتنع غير بالأدلة، أنا عايزه ياخد إعدام يا نبيل مش مجرد حُكم بسيط وخلاص.
أجابه نبيل على الناحية الأخرى من الهاتف مُجيبًا إياه بهدوء: حاضر صهيب بيه تحت أمرك.
أغلق نبيل مع صهيب، ثم أتى برقمًا آخر وهاتفه مُنتظرًا الإجابة، وبالفعل أتاه الرد بهدوء: ألو.
ألو يا مختار بيه؟
وعلى الجانب الآخر. حوَّل صهيب أنظاره حيث حبيبة التي هرولت إليه بإبتسامة مُشرقة عكس الحالة التي كانت بها أمس، توقفت أمامه قافزة بسعادة وهي تُمسِك بيده: أنا جاهزة يا صهيب.
نظر أولًا لثيابها التي كانت ترتديها، والتي كانت عبارة عن بنطال جينز واسع من اللون الأسود، وتعلوه كنزة شتوية وردية اللون تصل إلى منتصف فخذها، حدجها برضا راسمًا على وجهه إبتسامة واسعة تُماثلها، ثم أمسكها من خديها يقرصها بخفة وبطريقة مرحة عكس ما كان به من جمود: إيه الحلويات دي بس!
اِحمرَّ وجهها حرجًا وتمتمت بخفوت: شكرًا. مش يلا بينا.
غمز لها مُرددًا على مسامعها: يلا يا ست حلويات.
كتمت ابسامتها بصعوبة بينما تذهب خلفه لتتبعه حيث سيارته، صعدت للسيارة بينما هو دار للجهة الأخرى ثم استقل مكانه هو الآخر، أدار المُحرك ثم سألها بتفكير: ها بقى! تختاري تروحي أي محل؟
هزت كتفها بجهل مُجيبة إياه: مش عارفة أي حاجة، المهم أجيب لبس شيك وفي نفس الوقت ميكونش ضيق.
رسم صهيب ابتسامة مُفتخرة على ثغره، ثم أردف بفرح: فخور بيكِ كأنك بنتي، رغم إني مكونتش بطيقك لا أنتِ ولا أمك بس يلا حصل خير.
تحول وجه حبيبة للسخرية وهي تُجيبه: لأ كتَّر خيرك والله.
منع ضحكاته ثم انطلق بسيارته بسرعة عالية، وبعد ما يقرب النصف ساعة وصلوا إلى مكان مليء بالملابس الكثيرة والتي تخص الرجال والنساء معًا، ظلت أنظارها تبحث عن نوع معين من الملابس التي ترسمه بمخيلتها، حتى وجدته أخيرًا، أشارت ل صهيب وهي تهز يده بخفة: بُص يا صهيب إيه رأيك في دا؟
نظر حيث تُشير، فوجدها تقصد ذلك الفستان الذي يخص حفلات الزفاف والمناسبات، والذي كان عبارة عن فستان من الحرير اللامع من اللون الفيروزي، وبالمنتصف يُزينه بعض حبات اللؤلؤ التي تشبه الماس في لمعانها، ومن الرقبة مزين بنقوش خفيفة تُشبه تلك الزينة الموجودة بالخصر.
طالعه بإعجاب شديد، خاصةً أنه يُغطي الجسد كاملًا، لذلك أردف بإقتناع وإعجاب بزوقها الرفيع: حلو أوي. وهيكون أحلى عليكِ كمان.
بجد؟
سألته مُتلهفة لإستماع تأكيده، وحقق لها أمنيتها عندما أومأ لها يهز رأسه بالإيجاب.
شقت الإبتسامة وجهها، ثوانٍ ما اختفت عندما لمحت رقم والدتها يُضيء على شاشة هاتفها العريضة، رفعت أنظارها ل صهيب المُتابع لها ثم قالت بإرتباك: دي ماما.
مدَّ يده لها يحثها على إعطائه للهاتف بعد أن قال بصوت صارم: هاتي التليفون.
ليه؟
تسائلت بإرتباك، ليُكرر حديثه مرة أخرى لكن بغضب: بقولك هاتي التليفون وملكيش دعوة.
أعطت له الهاتف بتوتر وهي تدعو داخلها أن تُمرر والدتها خروجها مع صهيب مرور الكرام، بعدما تناول صهيب منها الهاتف وفتح المكالمة، ثم أجاب بصوت عملي وجاد للغاية: هذا المستخدم لا يريد سماع صوت أهلك مرة أخرى، بالرجاء عدم الإتصال مُجددًا، تيت تيت تيت.
أنهى الإتصال مُغلقًا بوجهها، بينما فتحت حبيبة عينيها على وسعهما بعدم تصديق، رددت بدهشة وبدون وعي قالت: يخربيتك أنت عملت إيه؟
أجابها بلامبالاة وهو يُعطي لها الهاتف مرة أخرى: يا شيخة بلا هَم، احنا ناقصين نكد! المهم يلا عشان نلحق نشتري هدومك عشان ورايا شغل كمان ساعتين.
أجابته بقلق وهي تسير بجانبه: شغل شغل، أنت هتروَّح معايا الأول، ما أنا مش هتهزق لوحدي.
أجابها ساخرًا أثناء وقوفه أمام أحد الفساتين الفخمة يتفحصهم: وهي تقدر تتكلم معايا أصلًا؟ قال تهزقني قال، يلا ياختي عشان ننجز في يومنا دا.
إن اجتمع الخير والشر معًا بالطبع سيطبع الشر على الخير فيجعله نفس نسخته أو أكثر، لكن ماذا إن اجتمع الشر مع الشر؟ أو بالأصح ماذا إن اجتمع القاتل مع القاتلة في تخطيطٍ ما؟ سأترك لكم إذًا حرية التخيل والإجابة.
جلست أَهِلَّة على المقعد المقابل ل قاسم ثم هتفت بهدوء: خير طلبت تشوفني ليه؟
تجاهل سؤالها فأردف متسائلًا ببرود: تشربي إيه؟
هاتلي سحلب.
ورغمًا عنه إلتوى ثغره بابتسامة طفيفة، مُناديًا للنادل الذي جاء إليهم مسرعًا، وذهب بعد أن أملاه طلبها وطلب هو قهوته الخاصة، حمحم بهدوء ثم تحدث تلك المرة بجدية شديدة: إيه الأخبار؟
أجابته واثقة: كله تحت السيطرة، لسه جاية من الجريدة وعرفت إن فيه تهديدات بتيجي لرئيس التحرير بس لسه معرفتش مصدرها، بس مسيري هعرف مين هو.
تفوه بما لم تتوقعه حيث قال بهدوء واثق: صهيب الأرماني هو اللي بيبعت.
أجابته مندهشة بمعرفته للأمر قائلة: عرفت إزاي؟
عِرفت إزاي دي بقى يخصني، واللي يخصك تكتبي خبر صحفي محترم عن صهيب الأرماني.
ضربت بأصابعها على الطاولة تُفكر حتى ينتهي النادل من وضع المشروبات أمامهم ثم ذهب بهدوء مجددًا مثلما جاء، وهُنا تحدثت بثقة وأعين ماكرة: خلي الحكاية دي عليا ومتشلش هَم، كله هيجي واحدة واحدة وكله هياخد جزاته.
طالعته بضحك عندما غمز لها بكلمته المعتادة: كفاءة.
ظهرت نواجزها المخفية خلف جمودها، وانتبهت لحديثه الذي قال بهمس وخفوت شديد يُنذر بالشر: عايزك في حاجة أهم ومفيش غيرك اللي هيقدر يساعدني بخبر من بتوعك.
تنبهت حواسها له ثم أردفت بترقب حَذر: خبر إيه اللي عايزني أنشره.
جملة واحدة خرجت من فمه كانت بمثابة الهلاك للجميع: مستشفى الأرماني بتاجر في الأعضاء.