قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية حارة القناص الجزء الأول للكاتبة شروق حسن الفصل التاسع

رواية حارة القناص الجزء الأول للكاتبة شروق حسن الفصل التاسع

رواية حارة القناص الجزء الأول للكاتبة شروق حسن الفصل التاسع

رمشت أَهِلَّة عدة مرات تُحاول إستيعاب الكلمات التي رماها دُفعةً واحدة على مسامعها، أعضاء! كلمة واحدة لكن معناها كبير للغاية، معنى مُهلك وقابض للقلوب، نظرت إليه بتيهة بينما رددت مُنصدمة من ذلك السر الجديد الذي اكتشفته للتو: أعضاء! إزاي!

كان على ثقة بصدمتها، لكن كان يجب عليه إخبارها لتستطيع مساعدته في رحلة إنتقامه، لذلك صعد صوته هادئًا وهو يؤكد لها: أيوا أعضاء، ومش من أي حد، دي من المرضى بتوع المستشفى.

هزت رأسها بعدم تصديق وتشوش، وكأنها لا تعلم مدى حقارة تلك العائلة المليئة بالقاذورات، هي فقط تنتقم منهم لسبب ما تحتفظ به لنفسها، لكن لم تكن لتتوقع أن تصعد كل تلك الدناءة منهم ويتاجروا في أعضاء مرضاهم، اشتعلت عيناها أكثر وارتفعت رغبة الإنتقام أكثر، ولم تكن نيرانها فقط التي اشتعلت، بل نيرانه أيضًا التي احتضنت عيناه عندما عادت لقطات من الماضي لترقص أمامه وكأنه تُغيظه!

صعد صوتها تسأله بإهتزاز: أنت متأكد من الكلام دا؟ الخبر دا لو طِلع مش حقيقي الدنيا هتتقلب علينا احنا.
أكد لها بجدية كبيرة ومعالك وجهه يُسطرها الجمود: بقولك متأكد هعيد وأزيد في الكلام كتير؟

رغمًا عنه صعد صوته حادًا تلك المرة بدون قصد، وكأنه بتلك الطريقة سيستطيع إخماد تلك النيران الناشبة في جسده، قطبت جبينها بضيق من أسلوبه الحاد، لذلك صاحت بحدة مُماثلة له: طيب اتكلم عِدل أنا مش عيّلة قدامك عشان تزعقلي كدا.
مسح وجهه بنفاذ صبر ولم يَرد على حديثها، بل أمسك بقائمة المأكولات ناظرًا لها بضعة ثوانٍ، ثم رفع نظره لها يسألها بهدوء أدهشها: تاكلي إيه؟

وبتلقائية وغضب هبت من مكانها ثم أجابته ساخطة: محشي، عارف المحشي؟
قالت جملتها ثم تركته وغادرت تاركة إياه ينظر لأثرها بابتسامة طفيفة تشكلت على ثغره تلقائيًا، قطع شروده صوت النادل الذي تحدث بعملية يسأله: تطلب إيه يا فندم؟
أجابه بعبث وضحكة طفيفة: محشي.
قطب النادل جبينه بدهشة مُتسائلًا: نعم يا فندم؟
وجَّه قاسم أنظاره إليه ثم أردف ببرود أثناء رفعه لإحدى حاجبيه: بقولك محشي، إيه معندكوش محشي؟

حمحم النادل بحرج مُجيبًا إياه بإحترام زائد: لأ عندنا يا فندم، حضرتك عايزه إيه؟
أرجع ظهره للخلف مُستندًا على المقعد براحة وهناك فكرة خبيثة تدور بعقله، ثم هتف بمكر: هاتلي كل الأنواع ولِفهم لفة حلوة كدا.
أومأ له النادل بإحترام مُدونًا ما طلبه في نوت صغيرة يمسكها عادةً، تاركًا إياه ينظر من الزجاج المجاور له مُشاهدًا ابتعادها بسيارتها عن المكان.

قاطع شروده صوت الهاتف الذي على رنينه فجأة، نظر لشاشته؛ فوجد رقمًا غير مُسجل يتصل به، انتظر يُفكر قليلًا ثم فتح المكالمة يُجيب بهدوء: ألو مين معايا؟
أتاه صوت أنثوي يظهر عليه الضجر: ألو دكتور قاسم؟ أنا ملك أخت أهِلة وكنت عايزة أقول لحضرتك إن صاحبك اللي ما يتسمى رائد مش سايبني في حالي، وهو دلوقتي جاي يقابلني عند الجامعة بتاعتي بعد نص ساعة بالظبط.

جزَّ قاسم على أسنانه بغيظ من أفعال صديقه المُراهقة، مُطلقًا سبابًا عليه وعلى اليوم الذي رآه به، ورغم كل هذا خرج صوته يُخبرها بهدوء: طيب أنا جاي.

اختر صديقٌ صالح من بين آلاف الطالحين، فوالله لو صادقت الصالح لربحت الدنيا وما فيها، وإن اخترت الطالح فتيقن من خسارتك للآخرة قبل دنياك الفانية.
وصلت سهيلة لجامعتها التي تدرس بها، واتجهت تلقائيًا لمكان تجمُعها هي وأصدقائها، ابتسمت بخفة عندما وجدتهم يجلسون على الأرض الخضراء العُشبية أسفل إحدى الأشجار الطويلة؛ لتُظللهم، تنهدت وهي تجلس بجانبهم قبل أن تردف بود: صباح الخير.

أجابتها كُلًا منهن على حِدة، وظلوا يتحدثون في أمور عِدة، إلا أن قاطعتهم منه مُوجهة حديثها ل سهيلة التي أولتها إنتباهها: صحيح يا سهيلة قرأتي الرواية ولا لسه؟
هزت رأسها بالنفي مُبررة بهدوء أثناء فتحها لهاتفها: لأ لسه، بس إن شاء الله ناوية أبدأ فيها النهاردة، كدا كدا مش بفهم حاجة من شرح الدكتور فهبدأ أول فصل فيها في المحاضرة.

حذرتها صديقتها الأخرى والتي تُدعى ساندي: لأ لأ دي متقريهاش في المحاضرة، أنتِ تقرأيها لما تكوني لوحدك ومحدش جنبك.
قطبت سهيلة جبينها بتعجب وإستغراب ثم سألتها بريبة: ليه يعني هي فيها حاجة مش كويسة!
نكزت منه صديقتها ساندي مُردفة بنفي: لأ يا بنتي كلها حاجات عادية يعني، وبعدين مفيهاش حاجة لو عرفنا شوية حاجات كدا، مسيره يجي اليوم اللي نفهم فيه كل حاجة.

لم يصل مقصدهم لعقلها الصغير، فهي دائمًا ما كانت تُحاول منع الوسائل الخارجية من السيطرة على عقلها، رغم ضعفها أحيانًا وهي لا تُنكر، لكن تلك المفاهيم تحديدًا لم تكن لتخطر على خاطرها يومًا.

هزت رأسها بعدم إطمئنان وهي تُلاحظ نظراتهم المُتبادلة، وداخلها صوتًا يُخبرها وبإلحاح لا تفعلي، لقد نفدتي بأعجوبة المرة الماضية من تلك الرواية اللعينة، حاولت إلهاء نفسها وطمأنة ذاتها وصعدت معهم لمبنى الكُلية الخاصة بها.

سبقت أصدقائها وصعدت أمامهم على درجات السلم، وفي تلك الأثناء استغلت منه عدم رؤيتها لهم وضربت ساندي على ذراعها بخفة وهي تُوبخها: يا غبية كنتِ هتبوظيلنا كل حاجة، إزاي كنت هتقوليلها إن الرواية تصنيفها +18! ما كدا مش هتقرأها.
لوت ساندي شفتيها قائلة بضجر: مخدتش بالي يا بنتي، وبعدين أهي هتقرأها وهتبقى في نفس الطريق اللي احنا فيه.

ارتسمت ابتسامة خبيثة على ثغر منه مُجيبة إياها بتأكيد: معاكِ حق، وبكدا مش هيكون فيه حد أحسن من التاني، يكش تبطل دور الخضرة الشريفة اللي هي عملاه دا.
وقفت سهيلة عندما لم تُلاحظ مُجاورتهم لها، ثم التفتت لهم تحثهم على التقدم وهي تُشير لهم بيدها: يلا بسرعة عشان منتأخرش والدكتور ميطردناش.

أسرعوا من خطواتهم قليلًا ثم دلفوا للمُدرج الذي يجمع المئات من الطُلاب، وجلسوا على مكان بعيد نسبيًا من المُعلم حتى لا يستمع إلى أحاديثهم ويقوم بطردهم، وهُنا استغلت سهيلة عدم رؤية المعلم لها وأخرجت هاتفها؛ لتبدأ في قراءة الرواية المُرشحة إليها من قِبَل أصدقائها، غافلة عن نظراتهم الماكرة التي يتبادلونها معًا.

كانت ملك تجلس في محاضراتها شاردة الذهن وعلى ثغرها يرتسم ابتسامة خبيثة بنجاح خطتها، الآن ستُلقن ذلك الوقح درسًا لن ينساه بواسطة خطيب شقيقتها، خاصةً أنها علمت من أهلة أن لدى قاسم الهيبة القوية على أصدقائه، وإن كان يريد رائد التحدي فهي جاهزة إذًا.

أجفلت من شعورها بأحدهم يُمسِك بكف يدها، لتسحبه لا إراديًا أثناء رؤيتها لمن يجلس بجانبها، ولم يكن سوى رفيقها بالجامعة والذي يُدعى إسلام، حدجته بحدة قبل أن تقول بغضب وصوت خافت حتى لا يستمع إليها مُعلم المادة:
أنت اتجننت؟ إزاي تمسك إيدي كدا!
حدجها إسلام ساخطًا وهو يرفع لها حاجبيه، ثم أجابها باستنكار: في إيه يا ملك اتظبطي! وبعدين مش بتردي عليا ولا على مكالماتي ليه؟

ردت عليه بحنق مُتجاهلة النظر لوجهه: قولتلك أنا واحدة محترمة وخارجة من بين محترم ومليش في السِكة اللي أنت جاي فيها دي.
لوى شفتيه بتشنج قبل أن يُصيح بإستهجان: نعم ياختي! والمكالمات اللي كانت ما بينا دي تسميها إيه!
بررت له وهي تقطب جبينها بضيق منه: أنا أخري أتكلم في الفون آه، لكن تمسك إيدي وأمسك إيدك والحوار دا كله مليش فيه.

حقًا؟ وكأنها كذلك تُبرر لذاتها عن الحماقات التي تفعلها، فتلك التبريرات تُحيك أنسجتها حول رقبتها ببطئ ودن أن تشعر، وسيأتي اليوم الذي ستتحكم تلك الأحبال حول رقبتها حتى تُنهيها كُليًا، والمقصود بإنهائها ليست بموتها، بل بإستنزاف طاقتها ومشاعرها كاملة.
تحكم الغضب ب إسلام ثم سألها بترقب يَشوبه الوعيد: يعني دا آخر كلام عندك يا ملك.

أجابته ساخرة وهي تتصنع تركيزها على ما يُشرح أمامها: آه ياخويا آخر كلام، بالسلامة أنت بقى يا إسلام يا حبيبي.
قالتها وهي تُشير له للإبتعاد، وبالفعل ابتعد وترك المُحاضرة وذهب، لكن بملامح مُتهجمة وعقل يُدبر لها مكيدة لتأتي إليه كيفما يشاء هو، ليس كما تريد هي، وها قد بدأت الأشواك تنبت لتُعيق طريقها، وكل ذلك بسبب أفعالها هي.

انتهت المحاضرة أخيرًا وحان موعد خروجهم، لملمت أشياءها ثم اتجهت للخارج مع صديقاتها اللاتي يتحدثون وسط جو من المزاح والمرح، لمحت بطرف عينيها رائد وهو يقف مستندًا على السيارة، نفخت بغيظ ثم استأذنت من أصدقائها وتركتهم وذهبت تجاهه.
قابلها بابتسامة سخيفة من وجهة نظرها حتى وقفت قبالته، ربعت ساعديها أمام صدرها وهي تقول بغلظة: عايز إيه!

تصنَّع الحزن ثم أجابها بتأثر زائف: إخص عليكِ! بقى دي طريقة تقابلي بيها صاحب خطيب أختك! لأ بصراحة كسرتي قلبي، لأ ريلي ريلي تفتت قلبي من الحزن.
طب تعالى يا حبيبي وأنا ألملك شتات قلبك المتبعتر في كل حِتة دا.
انتفض على صوت قاسم الذي أمسكه من ياقة ملابسه من الخلف، ثم هزَّه بعنف بين يديه: إيه اللي جابك هنا يالا؟

رمش رائد بعينيه عِدة مرات يستوعب حضوره في هذا الوقت تحديدًا، إلا أن تحدث وهو يُمسك بمقدمة ثيابه متفوهًا بعدم تصديق: يا مصيبتي! أنا إيه اللي جابني هنا!
ثم تصنع الصدمة الشديدة وهو ينظر ل ملك الشامتة به: سلامٌ قولًا من ربٍ رحيم، يا ساتر يارب إيه اللي جابك في بيتنا؟
تراقصت الإبتسامة على شفتيها مُجيبة إياه بإستهزاء: قلبت قطة بلدي يعني! جتك داهية في معرفتك الهباب.

اعتدل رائد في وقفته ناظرًا إليها بسخط، ثم أجابها حانقًا: لأ بقولِك إيه أنا راجل أوي، واتلمي عشان احنا كلامنا لسه مخلصش، وحسبي الله ونعم الوكيل في الظالم والمفتري.
قال الأخير وهو يكاد يبكي من إتلاف قاسم لموعده الذي كان يُخطط له منذ يومين لتعليم تلك الوقحة درسًا لن تنساه، بينما من المُتضح هي مَن علمته!

اِدَّعت ملك الحزن؛ فوقفت بجانب قاسم بعد أن امتلأت عيناها بالدموع الزائفة التي عرفها على الفور: شايف يا أبيه بيعاملني إزاي؟
أبيه!
نطق بها قاسم بتشنج، بينما رائد احتلت الشماتة وجهه بسعادة، رفع نظره ل قاسم الذي يفوقه طولًا بعدة سنتيمترات قليلة، ثم تشدق بسماجة: إزيك يا أبيه قاسم؟

أنهاها وهو يُقهقه عاليًا بشدة، غافلًا عن الغضب والغيظ المُرتسم على وجه قاسم تجاه كليهما، دفعه قاسم بعيدًا ثم استدار إلى ملك المُبتسمة ببلاهة، ثم أردف بحنق: أنا غلطان إني عبرتك أصلًا، صدق اللي قال اتلم تنتون على تنتن، قال أبيه قال!
فزعت ملك من فكرة تركها وحدها مع ذلك الغبي الآخر، لذلك وقفت أمامه ترجوه: أنت هتسيبني لوحدي معاه يا أبيه؟

اشتدت ملامحه غضبًا ليُصيح بها بنفاذ صبر: بت أنتِ متنرفزنيش، إيه أبيه دي! قوليلي يا زفت الطين على دماغك بس متقوليليش أبيه دي خالص.
خضعت مُستسلمة قائلة بخفوت: حاضر يا أب. قصدي يا قاسم.

عاد قاسم مرة أخرى ساحبًا رائد رغمًا عنه وسط صياحه الحانق لتركه، حتى دفعه لداخل السيارة وصعد هو للناحية الأخرى ليذهب بها بعيدًا عنها، رفعت ملك أصابعها تُشير له بشماتة كادت أن تجعله ينفجر من الغيظ، وها هي قد وجدت نقطة ضعفه وتخلصت منه أخيرًا.

الحديث كان مثل السوط الذي هبط على جسدها ليردعه بقوة دون أن يرأف بها، تهبط الكلمات على أذانها فتُسبب لها الصمم عن الأصوات التي تدور حولها، خاصة صوت قاسم وصوت ذلك العامل الذي ذهبت إليه لتتأكد من حديث قاسم رغم تأكدها منه.

عيلة الأرماني يا أستاذة كانت بتاجر في الأعضاء، وخصوصًا العيال الصغيرة الصبايا، العيال كانوا بيدخلوا عميلة بسيطة زي اللوز أو الزايدة يخرجوا لأهلهم ميتين، وعشان يداروا على فضيحتهم يقولوا إن الواد أو البِت كان عندهم مرض تاني وهو دا السبب في موتهم، فيه اللي كان بيصدق وفيه اللي مكانش بيصدق وبيعمل محضر ضد المستشفى، لكن نعمل إيه حسبي الله ونعم الوكيل، كانوا بيستخدموا سلطتهم ونفوذهم عشان يخرجوا من القضايا دي زي الشعرة من العجين، ولحد دلوقتي العمليات الغير شرعية لسه موجودة في المستشفى.

أُصيبت بالدوار الشديد من كثرة التفكير في هذا الأمر، تذكرت حينما خرجت واتجهت نحو مشفى الأرماني، لكن بعد أن وضعت ماسك الوجه حتى لا يتم معرفة هويتها، وبما أنها في مشفى خاص لم يتم التعجب من حالتها، أخرجت هاتفها ووضعته على أُذنها منتظرة حتى يُجيب الطرف الآخر، وبعد ثوانٍ كان يُجيب بهدوء: أيوا يا أستاذة تؤمري بحاجة.
اطلع برا يا عمي رضا عايزاك ضروري.

جاءها صوته الهاديء قائلًا: حاضر يا بنتي دقيقتين وابقى عندك.
أغلقت أَهلة الهاتف وانتظرت لدقيقتين، كان عقلها يعمل مُسرعًا دون حتى الرأفة بحالتها المتوترة، وبعدها ظهر أمامها رجلًا يسيطر الشيب على ملامحه المُجعدة، ثم تفوه بقلق: خير يا بنتي حصل حاجة؟
عمي رضا عايزة أسألك على حاجة وتجاوبني عليها بكل صراحة.

ورغم حيرته وقلقه من حديثها إلا إنه أجابها بتأكيد: لو أعرف أكيد مش هتأخر عنك، أنتِ بنت حلال وتستاهلي كل خير.
لاح الإمتنان في نظراتها فسألته مُترقبة إجابته على أحر من الجمر: مستشفى الأرماني بتاجر في الأعضاء؟
فتح عيناه على آخرهما بصدمة وصمت لبعض الوقت، وصمته هذا أقلقها بقوة، لذلك أعادت سؤالها مِرارًا على أذنه: هو سؤالي صعب للدرجادي يا عم رضا؟ بقولك مستشفى الأرماني بتاجر في الأعضاء ولا لأ!

وهُنا خرج صوته خافتًا بعد أن تهدلت أكتافه بأسى: أيوا يا بنتي. أيوا...
فاقت من شرودها على صوت يمنى التي دلفت عليها فوجدتها شاردة كعادتها، لذلك تحدثت بسخرية وصوت يشوبه الحزن: هتفضلي سرحانة كدا كتير؟
رفعت أهلة أنظارها إليها فوجدتها تتجه نحو المقعد العريض تتمدد عليه بإنهاك، كادت أن توبخها على تقليلها من حزنها، ولكنها قطعت حديثها عندما وجدت دموع يمنى تهبط دون صوت.

فزعت أهلة من مظهرها فهرولت لها مُسرعة حتى جلست بجانبها، أدارت وجهها المُمتليء بالدموع تجاهه ثم سألها بقلق: مالِك يا يُمنى بتعيطي ليه! حد عملك حاجة! طمنيني عشان خاطري.

لم تُجيبها، ولم تتحدث، بل مالت برأسها تستند على عظمة كتفها من الأمام ثم ظلت تبكي بصمت، ابتلعت أهلة ريقها بصمت ثم أحاطتها خائفة من أن يكون قد أصابها أي مكروه، وقبل أن تسألها مرة أخرى، وجدت يمنى بصوت مُتعب وحزين: أنا تعبت، تعبت ونفسي دا كله يخلص النهاردة قبل بكرا.

مسدت أهلة على خصلاتها بحنان، وباليد الأخرة تحيط بها كتفها لتضمها، ثم أردفت بثقة: والله خلاص كل دا هيبقى وهم قريب، أنا كمان تعبت ونفسي أتعالج وأرجع لحياتي الطبيعية، بس دا مش هيحصل غير ما أنهي إنتقامي من العيلة اللي دمرتنا أنا وأنتِ و ملك، لو أنتِ مش عايزة تكملي يا حبيبتي خلاص متكمليش، بس أهم حاجة مش عايزة أشوفك كدا.

هزت رأسها بالنفي وهي تمسح دموعها بكف يدها: لأ هكمل، هكمل بس أنا كنت محتاجة إني أخرَّج كل اللي جوايا، خايفة أخسركوا ووقتها مش هلاقي حاجة أعيش عشانها.
شددت أهلة من إحتضان رأسها لها، ثم أجابتها بمشاكسة: كلنا هنبقى كويسين بس بطلي قَر بقى، مش فاكرة آخر مرة عيطي فيها عملتي فينا إيه؟
ضحكت يمنى بخفة هاتفة بضحك: كان هيتقبض علينا، بس ربنا ستر.

أخرجتها أهلة من أحضانها ضاحكة أثناء مسحها للدموع العالقة بأهدابها، وبعدها أردفت بحنان: مش عايزة أشوفك بتعيطي تاني، وبعدين خليكِ واثقة إن وراكِ راجل يابت.
ارتاحت يمنى بعد الحديث مع شقيقتها، واقتربت مُقبلة إياها على وجنتها بحب مُردفة بإمتنان: بحبك.
أخفضت أهلة رأسها للأسفل قائلة بخجل مصطنع: بؤحرج يابت يوه.

قهقهت يمنى عاليًا، وكذلك شاركتها أهلة في ذلك، التي ودت لو تمسح مكان قُبلتها شاعرة بالإشمئزاز، لكن لم تفعل ذلك حتى لا تحزن شقيقتها منها حتى لو كان مرضها من يضطرها لذلك.
قاطع تحدثهم دخول أروى سكرتيرة ضياء دون إستئذان بملامح وجه مُتهجمة، وما كادت أن تتحدث؛ حتى قاطعتها أهلة مُتحدثة بقسوة لها: اطلعي برا واقفلي الباب وراكِ، ولو عايزة تدخلي تاني خبطي على الباب وادخلي لما أسمحلك أنا بدا.

قطبت أروى جبينها بغضب ثم صاحت بها بحدة: أنتِ بتقولي إيه أنتِ اتجننتي؟
ارتسمت الشماتة على وجه يمنى، بينما احتلت القسوة معالم وجه أهلة قبل أن تتفوه بصراخ أفزع الأخرى: يمين بالله لو ما نفذتي اللي قولتلك عليه لهقوم أجيبك من شعرك وأفرَّج عليكِ الجرنان كله، وبلاش أنتِ بالذات تتحديني عشان سديهاتك كلها معايا يا حلوة.

طالعتها أروى بصدمة وبعض التوتر، وفعلت ما طلبته منها! خوفًا من جنونها أولًا، ومنها هي ثانيًا، الجميع يخاف منها بلا إستثناء حتى رئيس التحرير، قوتها وقسوتها الدائمة تجعل الكبير قبل الصغير يُعيد حساباته في إغضابها، ودائمًا ما يتجنبونها لذلك.

سحبت أروى نفسًا عميقًا لتهدأة توترها، ثم رفعت كفها ضاممة أصابعها معًا لتطرق بها على الباب، ثانية واثنان ولم تستمع لإذن الدخول، لذلك قررت طرقها مرة أخرى بحدة أكبر، ولكن كانت ما يأتيها هو الهدوء فقط، كزت على أسنانها بحقد من أفعالها والتي تتعمد بها إهانتها عمدًا، ضربت مرة أخرى بيدها على الباب لكن بقوة أكبر ناتجة من غضبها، ودلفت عندما استمعت لصوت أهلة يأمرها بالدخول، وأكثر ما أغاظها هي تلك البسمة المُتبرمة المُرتسمة على وجهها هي وشقيقتها، ولثاني مرة تتعمد إهانتها عندما أردفت بضيق مصطنع:.

من الأدب والذوق يا أروى يا حبيبتي لما تيجي تخبطي على الباب يبقى تخبطي براحة، متبقيش وقحة وقليلة الأدب كمان!
ردت عليها أروى بغضب جم وهي تُشيح بيدها أمام وجهها: مش لما البعيدة تسمع الأول!

وقفت أهلة محلها بهدوء، ثم اقتربت منها بتروٍ أقلقها، حتى وقفت قبالتها مُباشرة أثناء وضعها ليدها في جيب بنطالها القماشي، لتردف بإستهزاء خافت: ما يمكن البعيدة مش عايزة تشوف خِلقتك اللي تسد النِفس! يا شيخة إن بعض الظن إثم مش كدا!
وبتلك اللحظة لم تجد أروى ما تُجيب به لإرجاع كرامتها، بل صمتت حاقدة عليها ثم أردفت بصوت غاضب مكتوم: مستر ضياء عايزك في مكتبه.

قالتها ثم ذهبت من أمامها بخطوات كادت أن تُحطم الأرض من أسفلها من شدة الغضب، استدارت أهلة ل يمنى التي ما إن رأتها انفجرت ضاحكة، قائلة بعدم تصديق من بين ضحكاتها: يخربيت كدا، دا أنتِ دشملتي اللي خلفوها.
أرجعت أهلة خصلاتها للخلف بغرور ثم أجابتها ضاحكة: تستاهل. واخدة في نفسها مقلب وهي فعلًا مقلب، بس مقلب زبالة.

قهقهت يمنى عاليًا وحقًا آلمتها معدتها من كثرة الضحك، لم تكن لتتوقع أن شقيقتها بكل تلك الشجاعة ولا عن كيدها، بل هي تفوقت كيد النساء بكثير.
هدأوا قليلًا فأردفت أهلة وهي تستعد للخروج متجهة إلى مكتب ضياء: هروح أشوف ضياء عايز إيه، تقريبًا ندالي عشان الدنيا مقلوبة على الجريدة الفترة دي بسبب الأخبار اللي بنزلها، بس أنا محضراله حِتة خبر هتقفله الجريدة خالص بس الصبر.

وضعت يمنى قدمًا فوق الأخرى قبل أن تتفوه بخبث مُماثلًا لها: وأنا كمان مجهزة خبر هيخرج من نفوخه، بس مش النهاردة بكرا.
تبادلا النظرات الماكرة والأحاديث المخفية والتي تصل مغزاها بالنظرات، فغمزتها أهلة مشجعة ولا تعلم لما خرجت تلك الكلمة تحديدًا منها: كفاءة.

يعني أنت ضربتهم كلهم بإيد واحدة؟
هتفت لواحظ بتلك الكلمات وهي تفتح عيناها بإنبهار شديد، وأمامها فور الذي يجلس مُتربعًا، مؤكدًا على حديثها قائلًا: نعم، بيد واحدة لواحظ، أنا قوي ألا ترين عضلاتي الكبيرة؟
نظرت لواحظ لجسده فوجدته مليء بالعضلات حقًا، لذلك هتفت بإبتسامة واسعة: بقولك إيه ما تتجوزني عشان أخلف عيال بعضلات زيك كدا.

قطب فور جبينه ووجه متشنج بإستنكار، ثم قال برفض: لا أريد أن أتزوجكِ أيها العجوز، فأنتي تُقاربين إتمام المائة عام وأنا مازلت في ريعان شبابي، كما أن لديكِ الكثير من الأحفاد و، آه.
قاطعته عندما أمسكت بحذائها تقذفه على جسده حتى اصطدم بجدار معدته بقوة، صارخة عليه بنهيج أثر حركتها المُباغتة: هي مين دي اللي عجوز يابن المقشفة أنت، عمى لما يجيلك في عنيك يابن حليمة.

ترك سبابها دون أن يُعيره إنتباهه، وتسائل بتعجب أثناء وضعه لكفه على معدته التي تؤلمه: مَن حليمة تلك؟ والدتي تُسمى نالي.
وضعت يدها أسفل ذقنها متسائلة: هو مش أنت الواد سيد ابن أم سيد؟
ضرب فور على وجهه بنفاذ صبر مُتحدثًا بعصبية: أعطني الصبر والقوة يا الله، تلك العجوز تُثير أعصابي.

استمع لصوت جانبه فنظر إليها حيث تجلس، فوجدها تضع يدها داخل جيب عبائها السميكة المُزخرشة بالورود الكثيرة، ثم أخرجت منها حلوى صغيرة مُغلقة تُعطيه إياها، وبعدها أردفت بود: خلاص خلاص متزعلش، خُد الشيكولاتة دي ومتعيطش.
مدَّ فور يده آخذًا إياها بابتسامة مُتسعة شارعًا في فتحها: شكرًا لكِ أيتها العجوز، أنتِ لطيفة للغاية.

أنزلت لواحظ رأسها في خجل ثم أردفت بابتسامة حرجة: الحاج الله يرحمه قالي إني لطيفة برضه وهو بيديني الشيكولاتة.
كان فور يأكل الحلوى بإستمتاع، وازداد استمتاعه أكثر وهو يتسائل بأعين مُلتمعة: حقًا هو مَن أعطاكِ تلك الحلوى قبل أن يَمُت؟
هزت رأسها مؤكدة فتسائل بتعجب وريبة: متى مات زوجك أيتها العجوز؟
فكرت لواحظ قليلًا وهي تعد على أصابعها، ثم رفعت أنظارها إليه تُجيبه بحزن غزا ملامحها: بقاله 20 سنة ميت.

بصق فور الحلوى على الفور، وظل يسعل بشدة حتى يتقيأ ما في جوفه قبل أن يتسمم أو يحدث له شيء سيء، وبغضب صرخ بها أثناء إمساكه بمعدته: ماذا تقولين أيتها العجوز؟ تريدين أن تتسببي في موتي واللعنة! تُطعميني حلوى انتهت صلاحيتها منذُ عشرين عامًا! تبًا لكِ لواحظ.

استندت لواحظ على الحائط الذي بجانبها لتقف بصعوبة شديدة نظرًا لكِبر سنها، ثم اقتربت منه على بغتة أثناء إمساكها لأحد العُصي التي كانت تُجاورها ضاربة إياه على ظهره بقوة مما جعله يصرخ بألم عارم من قوة الضربة، وبعدها صاحت به غاضبة: تبًا لكَ أنت يا معفن يا أبو ريحة نتنة، والله لهقول لأمك يا ابن سعاد، مش أنت ابن سعاد برضه؟

فقد فور صبره بالإضافة إلى ألام ظهره ومعدته المُتسببة بهم تلك العجوز اللعينة كما يُلقبها، لذلك دفعها بخفة ثم هرول للخارج أثناء نظره لها بالخلف: أيتها العجوز أُقسم بأن أُريكِ مَن أنا، سأقتلكِ وأُقَطِّع لحمكِ إربًا إربًا، فقط انتظري.

اغتاظت لواحظ من تهديده وقررت الإنتقام منه، لذلك خرجت للشرفة وانتظرت قليلًا حتى يخرج من البناية، وعندما رأته صاحت بعلو صوتها صارخة: الحقوني حرامي، سرقني وسرق فلوسي، يا خرابي.
نظر لها فور من الأسفل بفزع، وازداد هلعه عندما رأى سُكان المنطقة يُهرولون تجاهه في نية للإمساك به وتلقينه درسًا لن ينساه، فتح عيناه على أخرهما بهلع من اقترابهم المُباغت، ثم هرول سريعًا بأقصى ما لديه وكأنه سارق حقًا؟

لطم فور على وجهه صارخًا وهو يندب حظه: الجحيم لكِ يا لواحظ، خسئتِ.

إن أردت شيئًا وبقوة؛ اسعى خلفه، لا تلتفت لتلك التراهات التي تُخبرك بأن تتركه وسيعود إليك، وهل يعود إليك شيئًا تركته بإرادتك! وهي اختارت السعي خلف ما تُريد، اختارت الإنتقام بدلًا من ندب حظها العثر الذي أوقعها في طريق عائلة دمرت حياتها، ومدير استغل مرضها أسوأ إستغلال.

لتُقرر تدميره هي الأخرى، خاصةً بعد أن علمت عن علاقاته المُتعددة مع نساء كبار رجال الأعمال، ولم تكتفي بذلك، بل قامت بتصوير كل ما رأته عيناها من علاقات قذرة وتلامسات مُحرمة، لتبدأ في ابتزازه. كما فعل هو سابقًا.
وصلت أهلة إلى مكتب رئيسها فلم تجد أروى تنتظرها بالخارج كعادتها! ارتسمت ابتسامة ساخرة على ثغرها عندما تيقنت من وجودها بالداخل، بالطبع تشكو له عن سوء معاملتها له!

تقدمت طارقة بكعب حذائها على الأرض السيراميكية الصلبة مُطلقة صوتًا مدويًا، فتحت باب المكتب على بغتةً دون طرقه، فوجدت ضياء وبجانبه تلك الحية أروى تقف مُتهجمة الوجه، انتبهت لصوته الذي صدح بحدة آمرًا إياها كما فعلت مع سكرتيرته: أنا قولتلك تدخلي! اخرجي وهبطي وبعدين ادخلي لما أنا أسمحلك.

حسنًا يُقلد أسلوبها! لكن لم تُعطي له أي إهتمام، بل تقدمت مُطلقة ضحكة عالية ضاربة بأمره عرض الحائط قبل أن تردف بسخرية: مش عيب عليك يا جدع لما تمشي ورا كلام النسوان برضه!
حدجته بانتشاء عندما لاحظت نظراته المُشتعلة، ثم أكملت حديثها باحتقار عندما جلست على المقعد واضعة قدمًا فوق الأخرى: ولا أنت متعود على كدا؟

هبَّ من مكانه ضاربًا بكلتا يديه على المكتب بقوة، ورغم ذلك لم تهتز شعرة واحدة منها، بل ظلت هادئة صلدة مُثبتة أنظارها الهادئة عليه، أرجعت خصلاتها النافرة للخلف تزامنًا مع قوله الحاد:
ممكن أعرف أخرة اللي أنتِ بتعمليه دا إيه؟ بسببك وبسبب أخبارك الجريدة هتتقفل، أنتِ مُتخيلة إن جالي لحد دلوقتي إنذارين! مُتخيلة إني بقيت متهدد بالقتل بسببك!

وقفت ببطئ من مكانها وادعت البراءة أثناء قولها المُنصدم: بسببي أنا؟ أنت ليه دايمًا ظالمني كدا؟ حسبي الله ونعم الوكيل في الظالم.
كز ضياء على أسنانه بضيق ثم أردف ساخطًا: ما بلاش الشويتين دول يا أهلة، أنا وأنتِ عارفين اللي فيها كويس أوي.
اقتربت منه خطوتان تاركة مسافة مناسبة بينهما، ثم همست بشر: وبما إننا عارفين اللي فيها كويس متحاولش تقق في طريقي يا ضياء بيه؛ عشان اللي بيقف في طريقي بنسفه.

اهتز من طريقتها المُهددة، يعلم بأنها تفعل ما تقوله بحذافيره، ويعلم أيضًا بأنها من الممكن أن تقضي عليه نهائيًا بما تحمله من قضايا تُدينه، لاحظت هي حالته المُتخبطة؛ فقالت بانتشاء قبل أن تتجه نحو باب الخروج: من رأيي تعيد حساباتك من تاني يا ضياء بيه واعرف أنت بتعلب مع مين.

خطت خطوتين للخارج ثم توقفت مستديرة له فجأةً مُراقبة إياه، لتتحول نظراتها إلى أروى التي تُطالعها بكره واضح وصريح، وهنا فجرت مفاجئتها التي هبطت على مسامعهم كالطلقات قبل أن تتركهم وتذهب نهائيًا تلك المرة:
ابقى اسأل أروى كدا مين اللي سرَّب المعلومات ل مختار الأرماني؟

عشق. كلمة مكونة من ثلاثة كلمات، تحمل كل معاني الهيام والوله تلقائيًا، لم يكن في حسبانه أي يقع عاشقًا هكذا، إلا أن ظهرت أمامه فجأة، آسرته بهدوءها وشقاوتها التي تظهر في عيناها عند الحديث، لم يكن مما يهرولون خلف هذه التفاهات، لكن هي غيرته، لقد وقع أسيرًا لها.

رفع چون المُكبل على المقعد عيناه ل لوسيندا المُنهمكة في رَص الأدوية الخاصة بوالدة قاسم، كان يُتابعها باستمتاع رغم غضبه، يتشرب ملامحها التي تُسيطر على فؤاده لترويه عشقًا، عشقًا أنهك فؤاد كليهما لكنها تُعاند، وهو يعلم بأنها تُبادله شغفًا لكن عليه الإنتظار قليلًا.
نفخ بغيظ عندما حاول فك ذاته من تلك الأحبال اللعينة هاتفًا بضجر: أبعدي عني تلك الحِبال اللعينة لوسيندا.

حدجته بطرف عينها ثم عادت لتُرتب الأدوية على الرف، أغمض عيناه بنفاذ صبر وفتحهما مُجددًا يطلب منها بنبرة لينة أقل حدة: أرجوكِ لوسيندا. أشعر بتخدر شديد في جسدي.

للحظة أشفقت عليه وكادت أن تتجه إليه لفك تلك الأحبال، لكنها توقفت عندما رأت تلك النظرة العابثة من عيناه الوقحة الجريئة، توقفت مكانها بغضب ثم صاحت به بحدة: أنت قليل الأدب، وأنا هقولك لدكتور قاسم يتصرف معاك ويشوف حل في الوقاحة دي ويوقفها عند حدها.
وهنا تحدث بما أسكتها نهائيًا: ووهل سيستطيع قاسم إسكات نبضاتي التي تهتف بإسمك؟

اضطربت حواسها من حديثه اللين والمُحبب لقلبها، سحبت مقعدًا ثم وضعته أمام خاصته جالسة عليه بإنهاك، وهنا صعد صوتها يهتف بيأس: احنا مش هننفع لبعض يا چون...
قاطعها متسائلًا بقلة حيلة: بربك مَن قال ذلك! لِمَ لا!
أخرجت تنهيدة قوية من جوفها ثم أجابته: ثقافتنا مختلفة، يمكن فعلًا نفس الديانة لكن تقاليدنا مش زي بعض، انتوا عالم مُنفتح واحنا هنا بنمشي بالأصول.

رد عليها بصوت خافت يستعطفها: أُقسِم بأني سأحاول تغيير ذاتي من أجلك، فقد كوني رئيفة بي وبقلبي الذي يتألم في هُجرانك.
أخفضت رأسها تُخفي دموعها عنه، هي تحبه لكن تخاف، تخاف من فكرة خيانته لها كعادة مُعظم الغرب دائمًا، تخاف الخذلان والإنهيار، لكن قلبها يعصي ويُقيم الحد عليها، جاعلًا إياها تعشقه أكثر.

كان يُراقب إنفعالاتها وتوتر يدها التي تظهر له، خرج صوته يسألها بحنان: أخبريني بما تُفكري به عزيزتي، أخرجي ما يؤرقكِ وصدقيني سأكون خير عونٍ لكِ.
رفعت عيناها المليئة بالدموع له وكما آلمته بحق، خرج صوته ضعيفًا مهزوزًا قائلًا: توقفي عن البُكاء من أجلي، قلبي لا يتحمل كل هذا الألم القابع في عيناكِ.
خرج صوتها مُرتعشًا وهي تسأله ببكاء: مش هيجي يوم وتخوني فيه؟

ظلت مُنتظرة إجابته في ترقب، لم تجد سوى ابتسامة صغيرة تشكلت لتوها على ثغره مما زاد من ريبتها، وبعد ثوانٍ من الصمت خرج صوته عاشقًا مُحملًا بالمشاعر المُتعطرة: كلماتي وأفكاري كُلها مُتصلة بكِ بشكلٍ لايُمكنكِ تخيله، هل بعد الوصول والمُجازفة أختار الخيانة والإبتعاد؟

كلماته البسيطة وكأنها ضمادًا وُضِعت على قلبها المجروح، نظرة عيناه وكأنها تُقبِّل فؤادها فأحياه، وتلقائيًا تشكلت ابتسامة صغيرة على فاهها، تبعها قولها المُعترف له لأول مرة: چون أنا بحبك، بحبك أوي ويا بختي بيك.
طرب قلبه لإستماعه لذلك الإعتراف مُدغدغًا مشاعره، فصعد صوته يُجيبها بعاطفة جياشة: وأنا أُحبكِ بقدرك أنتِ.

كان قاسم يصعد مُكفهر الوجه عابس الملامح بعدما قابل صهيب الأرماني أثناء ذهابه إلى قسم الشرطة!
دلف لشقة والدته واتجه تلقائيًا إلى غرفتها، أغلق الباب خلفه ثم تقدم من فراشها يجلس عليه بجمود وأعين تطلق شررًا وكأنها تُقسِم على الهلاك، أمسك بيده كف والدته بهدوء، وباليد الأخرى وضع يده بجانب فمه حيث لكمه الآخر منذ عدة سويعات قليلة، استعاد ما حديث عند لقائهم جاززًا على أسنانه بغضب عارم.
عودة.

كان رائد يُجاور قاسم في سيارته بعدما صعد معه، ظل يُدندن مع كلمات الأغنية الصاخبة دون أن يُعطي إهتمامًا ل قاسم الذي يُحدجه بسخط، أوقف السيارة على بغتة مما جعل الآخر يرتد للأمام بحدة، نظر له رائد بغضب ثم صاح به: إيه يا عم مش تحاسب؟
أغلق قاسم التسجيل ثم أشار له قائلًا: انزل.
نعم؟
رددها رائد خلفه مذهولًا، فكررها قاسم بجمود أكبر: بقولك انزل.

قطب رائد جبينه بسخط، وكاد أن يتحدث بإعتراض؛ إلا أنا قاسم قاطعه مُخرجًا سلاحه من درج سيارته الموجود أمامه هامسًا بشر: هتنزل ولا أفرغه في نفوخك!
حمحم رائد بجدية وهو يُعدل من ياقة قميصه الواهية، ثم أردف بهدوء: طب بالسلامة بقى يا قاسم ياخويا عشان ورايا مشوار مهم.
وبالفعل هبط من السيارة مُغلقًا بابها، وثوانٍ لا تُعد كان قاسم ينطلق بسيارته بسرعة البرق، تاركًا إياه يُتمتم مع ذاته بسخط: بيموت فيا.

انطلق قاسم إلى وجهته المُحددة؛ وهي قسم الشرطة؛ لإخراج ابن جارته الذي زُج للسجن بسبب الديون، فقرر هو تولي ديونه لأجله ولأجل والدته فقط، يعلم أن الفقر مؤذي وهو أشد العالمين بذلك، لكم ذاق مرارته وشعر بعلقمه المُر في حلقه، ولن يجعل أحد جيرانه يتجرع من نفس الكأس.
دلف للداخل فوجد مأمور السجن جالسًا يرتشف كوب الشاي الساخن، اقترب منه بعد أن خلع نظارته وبعدها تحدث بهدوء: بعد ازنك يا شاويش.

انتبه له الآخر فقال بنبرة عادية تخلو من المشاعر: اؤمر يا أخينا.
أخرج له قاسم علبة من السجائر وأعطاها له أثناء قوله: فيه واحد من أسبوع دخل السجن بسبب الديون اسمه سيف عبدالله الديب، أنا جايله وهخلص كل حاجة.
انتشل منه علبة السجائر ثم هزّ رأسه سعيدًا: من عنينا يا كبير، بس الموضوع هيحتاج شوية إجراءات كدا.
اعمل اللي تعمله المهم يطلع النهاردة قبل بكرا.

وبعد ما يقرب من الساعتين انتهى قاسم من إنهاء كل الإجراءات ودفع التكاليف اللازمة لأصحاب الديون بعد أن تمت دعوتهم لأخذ جميع مُستحقاتهم، احتضنه سيف بامتنان شديد وعيناه تلتمع بتأثر: أنا مش عارف أقولك إيه بجد، أنت أنقذتني من بير كنت هتوسخ بيه ومش هطلع منه أبدًا.

ابتعد عنه قاسم بابتسامة بسيطة، ثم ربت على كتفه قائلًا له بتشجيع: ولا يهمك يا بطل، المهم تبدأ من جديد، واعتبر شغلك عندي وخلال يومين بالظبط وهتستلمه.
ربنا يباركلك يارب، عمري ما هنسى معروفك معايا أبدًا، وأنا في الخدمة وقت ما تحتاجني.
خرجا من قسم الشرطة فصعد صوت قاسم يحثه بسعادة انتقلت إليه: يلا روح فرَّ والدتك، زمانها مستنياك بفارغ الصبر.

أومأ له سيف بسعادة، ثم تركه وذهب مُتجهًا لمنزله ويرى والدته التي اشتاق لها حد اللعنة.
تابعه قاسم بابتسامة طفيفة واتجه للناحية الأخرى حيث سيارته، فقابل أمام وجهه صهيب الذي بادله النظرات ببرود، التوى ثغر قاسم بابتسامة ملتوية ثم ردد باستفزاز: ازيك يا صهيب، بيه.
قال الأخير ببطئ أغضب الآخر، ورغم ما به من غيظ يحمله تجاهه أردف بنقم: خليك فاكر الإسم دا كويس؛ عشان نفس الإسم دا هو اللي هيدخلك السجن دا.

أشار تجاه قسم الشرطة تبعًا لكلماته الأخيرة، مما جعل قاسم يُقهقه عاليًا بإستمتاع، راقبه صهيب ببرود صقيعي مُتبلد حتى انتهى من ضحكاته، اعتدل قاسم في وقفته ثم أقترب من أذنه هامسًا: صدقني العاركة لو ابتدت هتزعل.
رد عليه ببرود: هنشوف مين اللي هيزعل في الآخر، وهتعرف صهيب ابن مختار الأرماني هيعمل فيك إيه.

ود قاسم إغضابه أكثر، فأردف وهو يُشير للرجل الذي يتبع قاسم دائمًا كظله: آه مختار الأرماني اللي باعت معاك بوديجارد يحرصك زي العيل الصغير.

إلى هُنا ولم يحتمل صهيب أكثر، قام بلكمه في وجهه بكل ما يملك من قوة مما أدى إلى اختلال قاسم الذي كان أن يقع أرضًا من لكمته المُفاجئة، لكنه تحامل على ذاته وأعاد توازنه، مسح قاسم الدماء التي سالت جانب فمه بجمود، ثم اقترب منه مُردفًا بقسوة قبل أن يذهب ويتركه: أنت اللي اخترت، مترجعش تعيط زي العيال بعد كدا.
Back.

عاد قاسم من تذكره وهو يغلي من شدة الغضب، يشعر بنيران تتأرجح داخل صدره لا يجد من يُطفئها، يريد الهرب من كل شيء لكن بعد أن يستطيع الثأر، وها قد عادت تلك الذكرى البشعة تحوم داخل رأسه دون هوادة، يتآكل بنار الفراق والهجر وهو هُنا يلتاع وحيدًا. وحيدًا مع والدته الغائبة!
Flash back:.

جلس قاسم على مائدة الطعام وأمامه شقيقه يأكل بنهم هو الآخر، نظر له قاسم بحنان ماددًا يده بقطعة الدجاج يُعطيها لشقيقه: خُد كُل دي كمان أنت لسه مشبعتش.
رفع الصغير أنظاره إليه بتردد، ثم خرج صوته طفوليًا: بس أنت. مكالتش كويس.
هزَّ قاسم رأسه بالنفي مُجيبًا إياه بكذب: لأ أنا شبعت الحمد لله، خُد كمَّل أكلك.

مد الصغير يده بتردد يأخذ منه قطعة الدجاج، ثم أكلها بنهم، حدجه قاسم بحنان وهو يأكل، لا يملك في حياته سوى هو ووالدته ووالده المسكين الذي يأتي من الحقل مُتعبًا بعد أن ينهكه التعب، وقطعة الدجاج تلك لا يأكلونها سوى مرةً كل شهرين إن توفر المال.
كانت والدتهم تُتابعهم بدموع وفخر بإبنها البكر، جلست حياة بجانبه ثم أحاطته بذراعها مُقبلة خصلاته بحب: مش قولتلك أنت بطل، وأنا هفضل طول عمري فخورة بيك.
بجد يا ماما؟

سألها بحماس طفولي تعشقه هي، ثم أجابته بحنان وهي تومأ له: بجد يا روح ماما.
صمتت فجأةً واضعة يدها على جانبها بألم شديد ما كان يشتد في الآونة الأخير، لكنها كانت تتجاهلة دائمًا، لكن تلك الفترة أصبح الألم لا يُحتمل، بل وصرخت منه بعلو صوتها.

لا يعلم ماذا حدث، كل ما يتذكره هو دخول والدته للمشفى وتحديدًا غرفة العمليات بعد أن ساءت حالتها، وتلك المشفى كانت مشفى الأرماني الخاصة، ورغم تكاليفها العالية إلا أن صديق والده وعدهم بتكفل كل شيء ومصاريف علاجها أيضًا.
احتضن قاسم شقيقه الباكي ونظر لوالده الذي جلس بإنهاك شديد ولا يستطيع مساعدة أيًا منهم، وكأي طفل صغير في مثل موقفه بكى، بكى خوفًا من فقدان والدته وهو أكثر من يحتاج إليها في هذا الوقت.

انتفض الجميع عندما خرج الطبيب من غرفة العمليات، والذي تحدث بأسف شديد: للأسف الكِلى متدمرة، ومحتاجة مُتبرع وإلا حالتها هتسوء أكتر وممكن لقدر الله تتوفى.
انتفض قلب الجميع فزعًا، وهنا تحدث هادي بهلع: طيب. طيب والحل يا دكتور؟ أكيد المتبرع هيطلب فلوس كتير واحنا على قدنا خالص.

استغل الطبيب جهلهم وفقرهم الشديد، فأردف بمكر موجهًا أنظاره للصغار: هو فيه حل واحد بس، إن واحد من أولاد المدام يتبرع ليها، وأكيد الأنسجة هتبقى متشابهة، فلو حضرتك وافقت هتمضي على إقرار بمسؤوليتك الكاملة عن الحالة ونبدأ بنقل الكلى.

لم يكن يفهم الصغار أي شيء مما يُقال سوى أن والدتهم في خطر، وبسبب جهل هادي لم يكن ليفهم حديثه هو الآخر، نظر بخوف لأولاده ثم أعاد بصره للطبيب مرة أخرى وهو يسأله بإستعطاف: طيب مينفعش تاخدوا مني أنا؟ بلاش هما دول لسه عيال صغيرة
أجابه الطبيب بعملية ودناءة: لأ يا حج مينفعش، لازم من أولاد المدام، وياريت بسرعة عشان الحالة مش هتستنى كتير.

جلس هادي على المقعد بيأس، دافنًا رأسه بين كفيه ودموعه تهبط بقلة حيلة، ذهب إليه قاسم الباكي وبيده شقيقه الذي لم يبلغ من العمر السبعة أعوام، واضعًا يده على كتف والده قائلًا ببراءة: أنا اللي هتبرع لماما عشان تخف يا بابا.

رفع هادي رأسه المليئة بالدموع ينظر لصغيراه، ثم فتح ذراعيه لهما واحتضنهما في حنان، ورغم محاولة قاسم للثبات من أجل والده، إلا أن صوته خرج مُتحشرجًا يسأله ببكاء: ماما مش هتموت يا بابا صح!
شدد هادي من احتضانهما ولم يُجيبه، الوضع أصبح صعبًا للغاية، كيف سيُفرط في صحة أحد صغيريه؟ رفع رأسه للسماء يُناجي المولى هامسًا: يارب.

وبعد ثلاث ساعات من التفكير المتواصل، قرر هادي فعل الفحوصات اللازمة التي طلبها منه الطبيب، ودخل صغيريه الغرفة أمام عينيه، وهو يقف عاجزًا لا يفعل شيء سوى الدعاء.
خرج له الطبيب بعد عدة دقائق قائلًا بسعادة مخفية: الطفل الصغير أنسجته هي اللي متطابقة مع أنسجة والدته، ودلوقتي المُمرضات بيجهزوه للعمليات.

ورغم سعادته، إلا أن قلبه انقبض خوفًا على صغيره، أومأ له بهدوء ونظر لأثر الطبيب الذي يختفي تدريجيًا خلف غرفة العمليات، حوَّل نظراته نحو الباب الذي انفتح وخرج منه قاسم الذي يُمسك يد شقيقه الذي انتهى من ارتداء زي العمليات.

اقترب هادي منه ثم انخفض لمستواه جالسًا أمامه على ركبتيه، أحاط برأسه ثم قبلها بحنان وبعدها تحدث قائلًا: أنت عارف إنك النهاردة هتنقذ ماما وربنا هيحبك! عايزك متخافش وتكون شجاع زي أخوك قاسم، اتفقنا!
هز الصغير رأسه ببراءة مُرددًا خلفه بعد أن احتضنه: اتفقنا يا بابا، بس أنا خايف شوية صغيرين.

قالها بخوف غريزي ينبع من داخله كطفل، وتلك المرة احتضنه قاسم الذي شجعه ببراءة: متخافش هتكون كويس، وماما هترجع معانا تاني وهنلعب كلنا سوا.
اتسعت ابتسامة الصغير وهو يومأ له متحمسًا، وبعدها جاءت المُمرضة لأخذه، ودلف لغرفة العمليات التي تقبع بها والدته، نظر هادي لإبتعاده بدموع وقلبه يُعنفه بألا يترك صغيره وحده، شعر بأنامل صغيرة تُمسك بيده، تبعه قول قاسم الباكي: بابا أنا خايف.

حمله هادي على ذراعه متشدقًا بجدية زائفة رغم جهله: متخافش دي عملية بسيطة وهيخرجوا كويسين الاتنين.
مرت ساعة، واثنان، وثلاثة، وأربعة ولم يخرج أحدهم ليُطمأنهم، بدأ القلق يتسرب لقلب كليهما مع مرور الوقت، لقد اُستنزفت طاقتهم بالكامل، يخشون حدوث مكروه لعائلتهم الصغيرة، يخشون الفراق!
خرج الطبيب بعد مرور ساعة أخرى والذي تحدث ببرود وكأن شيء لم يحدث: الولد الصغير اتوفى والمدام دخلت في غيبوبة...

الفصل التالي
بعد 04 ساعات و 10 دقائق.
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة