قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية حارة القناص الجزء الأول للكاتبة شروق حسن الفصل السابع والعشرون

رواية حارة القناص الجزء الأول للكاتبة شروق حسن الفصل السابع والعشرون

رواية حارة القناص الجزء الأول للكاتبة شروق حسن الفصل السابع والعشرون

نُسجَنُ داخل ذكرياتٌ مليئة بالخيباتِ تفوح منها رائحة القهر والندمِ، أفئدتنا تُعاني وتطلب تحريرها من قفصِ الأحزانِ، وعقولنا تهتف بالنجدةِ للنسيانِ، فيتحول ربيع قلوبنا الزاهر إلى واحةٍ فارغة تُملأ بالأشواكِ، لتكون النتيجة هي إنسان يفقد كل معاني الحبِ والحنانِ.

رفع فور سلاحه بعد أن سحبه من جيب بنطاله الخلفي بأعيُن حمراء تدل على شُحنة من الغضب الهوجاء التي بدأت بالإزدياد داخله، لكن تلك البقعة المُضيئة في داخله جعلت الدمعات تتسلل تدريجيًا لحدقتاه، لتُصبح عيناه حمراوتان مُزينة ببعضٍ من عبرات الحزنِ والقهرة، وبعدها نطق لسانه بكلِ حقدٍ يحمله تجاهها: أَكْرَهُكِ أمي.

ابتسامة جانبية ساخرة تزينت على شفاه الأخرى وكأن دموعه وحزنه لا تهمها، اعتدلت في وقفتها أثناء إرجاعها لخصلاتها الشقراء للخلف، ثم اقتربت منه بُخطى رتيبة بجسدها الممشوق المميز حتى وقفت قبالته مُباشرة، ناظرة إليه بعينيها الخضراء العُشبية التي تُشبهه تمامًا مُردفة بلكنتها الروسية: أوه عزيزي فور؟ لقد أصبحتَ قاسيًا للغاية صغيري.

قالتها وهي تقترب أكثر ويداها تمر على وجهه بلُطفٍ زائد عن الحد، لطفٌ تمنى لو يدوم ويكون حقيقيًا لا ساخرًا، أراد أن يتمتع بأمومتها التي كانت تغدقه به هو وأخواته مُسبقًا، لكنه ذهب في مهبِ الرياح بين ليلةٍ وضَحاها، لذلك وبكل قسوة نزع يدها عن وجهه ثم ضغط عليها بعنفٍ شديد متشدقًا بكُره:
وأقسى مما تتصورين أيتها الخائنة، حتى أنني أستطيع قتلُكِ الآن دون الشعور بذرَّةِ ندمٍ واحدة.

سحبت يدها من بين كفه بعنف، وبعدها ضربته على صدره عِدة ضربات خفيفة بإصبع سبابتها قائلة بتحدي: أنتَ أضعف من هذا بكثير عزيزي فور، أنا والدتك وأعلمُك حتى أكثر من ذاتك.

احتدت عينيّ فور بقسوة وهو يراها أمامه تتحدث براحة دون وجود أي علامات للندم يرتسم داخل مقلتاها، ابتلع تلك الغصة التي تشكلت داخل حلقه ثم تسائل بصوتٍ حاد يخفي وراءه ألامًا عظيمة لا ترى: لِمَ فعلتِ بي هكذا؟ أنتِ تعلمين أنكِ كنتِ تُمثلين لي العالم بأكمله، لِمَ تركتيني وذهبتِ هكذا؟

رفعت رأسها تُطالع عيناه الحادة، كانت مزيجًا بين الحزن والغضب، غضبٌ إن ظهر سيقتلع معه كل الذكريات الجميلة والسيئة معًا، لتُجيبه هي بكل برودة أعصاب: والدك هو السبب.

وهُنا نفذ كل صبره ومعه إحترامه بالكامل، ليدفعها بعيدًا بقسوة غريبة على شخصٍ مثل فور، وقبل أن تستقبلها الرمال كانت ذراعه تُمسك بها من خصرها ويده الأخرى يضغط بها بقوة على عرق رقبتها النابض، تلاه فحيحه المُريب: إن ذكرتي أبي بسوء سترين وجهًا لن تُحبي رؤيته إيلينا.

فتحت إيلينا عيناها بصدمة من فعلته المُفاجئة، وبيدها حاولت دفع يده بصعوبة بالغة لكنها لم تستطيع، حتى إنها غرزت أظافرها الطويلة المطلية بطلاء أظافرها الأحمر عسى أن يتركها لكنه كان يُزيد من ضغطه فوق رقبتها أكثر، فتحت فاهها بصعوبة تُحاول التنفس لكن أنفاسها كانت تخرج بصعوبة، حتى أوشكت على إخراج أنفاسها الأخيرة!

ابتسم فور ابتسامة مُخيفة، قبل أن يتركها فجأة لتقع على ظهرها بقوة شديدة غير متوقعة، تمددت إيلينا على الرمال وهي تشهق بعنف تُحاول إلتقاط أنفاسها المحبوسة داخل رئتيها، ظلت تسعل لدقيقة كاملة تقريبًا و فور يقف مُراقبًا إياها بجمود غريب، رفعت عيناها اللامعة بالدموع تُطالعه بكُره قبل أن تتشدق بصوتٍ غاضب حاد: ستندم على فعلتك تلك صدقني، سأقتلك يا حقير.

ابتسامة جانبية ساخرة تشكلت على ثُغر فور، والذي بدوره جلس القرفصاء بجانبها حتى بات وجهه على مقرُبة منها، وبعدها تحدث ساخرًا: بل أنتِ من ستندمين إيلينا، أُقسِم بأن أجعلكِ تبكين دمًا من قهرتك وأنتِ تنظرين لحلمك يتبخر أمام عينيكِ الوقحتين تلك.
لم تهابه إيلينا أو تخاف، بل اقتربت أكثر من وجهه مُتحدثة بفحيح: سنرى مَن سيبكي بالنهاية عزيزي فور، مهما حاولت أن تُظهِر لي فبالنهاية أنا أعلمُك جيدًا.

هز فور رأسه بالنفي أثناء قوله الضاحك المُخيب لأمالها: الذي أمامك ليس كما فور السابق، الآن أنا أقتل بدمٍ بارد دون الشعور بالرجفة.
طالعته إيلينا بقسوة كما لو لم تكُن والدته أو ما شابه، وهذا أكثر ما آلم فؤاده الذي يصرخ به للرحيل بعد قتلها، ليُكمل هو حديثه بقوله المُتألم:.

أتذكُرين أول مرة أمسكت بها سلاحي عندما إلتحقت بالشرطة؟ أتتذكرين تلك الرجفة التي سرت بجسدي جِراء ذلك؟ كنتِ أول الداعمين لي، كنتِ أكثر من يحبني، كنتِ أقرب لي من والدي وأخواتي وأصدقائي، كنتِ خير عَوْن لي، كنتِ. كنتِ حياتي بأكملها إيلينا، والدتي. صديقتي. شقيقتي. حبيبتي. روحي. وقلبي. لِمَ فعلتِ بي هكذا وهجرتيني لأُعاني ظلامٍ أحاط بفؤادي؟ لِمَ هربتي مع عدو أبي اللدود وتوقفتي ضدنا نحن. أولادك!

تحولت معالم إيلينا من القسوة إلى الثبات، ليُكمل فور بنبرة ساخرة تحمل بين طياتها حُزن عميق لن يُدواى بسهولة:.

أتعلمين ماذا حدث لنا عندما اختفيتِ؟ ظننا أنه لربما أصابكِ مكروه، أبي كان يموت في اليوم مئة مرة خوفًا عليكِ، آلبرت الصلب بكى لأجلك، ستيفن المُتعصب دخل في حالة من الصدمة، جون الذي كان بمثابة رفيقك فقد النطق لأسبوعٍ كامل، آندريه المَرِح كان يصرخ يطلب وجودك، و ليونيد المُشاغب حبس ذاته في غرفته ليبكي ليلًا وحده ظنًا من أنَّ لا أحد يسمع بكاؤه، بينما أنا كنت كالمجنون أبحث عنكِ في الطرقات، بكيتُ كثيرًا وصرخت أكثر لتعودي لكنكِ لم تعودي، ثماني رجال هُزِموا وبكوا وصرخوا وفقدوا قوتهم لمدة شهرٍ أثناء غيابك، ثماني مُجندين ضعفوا لأجلك، وأنتِ ماذا فعلتِ إيلينا؟ تركتينا واتحدتي مع عدونا اللدود لأنكِ وقعتي في عشقه؟ اتحدتي معه لقتل أبي الذي كان يهيمُ بكِ عشقًا؟ حطمتي أفئدتنا جميعًا لأجل أنانيتك، هل نستحق كل هذا؟

ورغم قسمها بعدم مَيْلها له مُجددًا؛ قد مالت! الواقع لن يُزيل أثر الماضي بقطراته، والماضي لن يُمحى بدموع القهر والأسى، ابتلعت ريقها بصعوبة وذكرياتها الجميلة مع أبنائها بدأت بالمرور سريعًا أمام عيناها، فور لم يكذب بكلمة واحدة مما قِيلت، هو كان يُمثل حياتها تقريبًا، وأشقائه كانوا ترياق الحياة التي تعيش به.

بينما والدهم كانت تُحِبه في البداية، لكن كثرة إنشغاله بعمله ورحلاته الحربية التي لا تنتهي جعلها تشعر بالضجر والوحدة، حينها تعرفت على شخصٍ يُدعى ميلانو شيفت، أحبته ووقعت في عشقه حتى باتت مُغرمة به وبإهتمامه الذي كان يُغدقها به، وقعت في إثم الخيانة وأقامت علاقة معه أثناء غياب زوجها وأبناؤها، أحيانًا تذهب لمنزله وأحيانًا أخرى يذهب هو لمنزلها عندما يكون فارغ من السُكان.

حينها اقترح عليها ترك المنزل بحجة عشقهم الممنوع المُتبادل بينهم، ولهوسها به قامت بترك كل شيء لأجله، تركت أبنائها وزوجها ينكوون بنار الهجر والفراق، واستطاع الآخر زرع نبتة الكُره داخلها تجاههم، مُدعيًا بمحاولتهم لقتله وتدمير حياتهم الجميلة، حتى باتت تكره الجميع وذهبت لقتل زوجها المُسبق، ليبدأ الصراع بينها وبين أبنائها.
تستحقون، صدقني فور تستحقون كل ذلك وأكثر، لقد حاولتم أكثر من مرة قتل زوجي مي.

ضرب فور بقسوة على صفيح السيارة التي تُجاور رأسها وهو يصرخ أمام وجهها بعنف مُقاطعًا إياها: اللعنة عليكِ وعلى رأسك الغبي هذا، أي زوج هذا تتحدثين عنه؟ أتقصدين ذلك القذر الذي يعرضكِ للرجال لجلب المعلومات؟ ذلك العَفِن الذي يجعلكِ تنامين مع رجل غيره مُقابل صفقة تافهة؟ ذلك الحقير الذي ينام في أحضان النساء والخمر كل ليلة؟ أبعتي أبنائك وخُنتِ أبينا لأجل هذا النكرة؟

توقف بنهيج وصدره يعلو ويهبط بعنف، وبقسوة مدَّ يده ليُمسك بها من وجهها ضاغطًا عليه بأصابعه بقوة قائلًا: أُقسِم أن أقتله أمام عيناكِ الوقحة، سأرى حسرتكِ ترتسم على عينيكِ وأقتلك بعدها إيلينا.
تألمت إيلينا أسفل يده وبعدها دفعته بقوة وهي تُصيح به بإهتياج: أُقسِم إن مسَّه خدشٍ واحد سأقتلك أنت وجميع أخواتك فور، لو لم يهملني أباك لما قد وصلنا لتلك الحالة، هو المُتسبب الأول والوحيد فيما نحن به الآن.

ابتسم فور ابتسامة مُختلة قبل أن يهمس لها بفحيح: سنرى مَن المُتسبب بكل هذا عندما نجلب ذلك الوغد إلى هُنا.
احتدت عينيّ إيلينا بكُره، وعلى حين غفلة سحبت سلاح فور من بين يديه فجأة ووقفت مُبتعدة عنه مُصوبة فوهة المسدس تجاه صدره قائلة بشر: أنت منَ اضطررتني لفعل ذلك فور، تمنى أمنية أخيرة فتلك آخر لحظاتك بتلك الحياة.

وعلى الجانب الآخر، تسلل يحيى المُلثم خِفية نحو أحد المخازن المليئة بالخُردة والنُفايات، وبمهارة عالية وخِفة قام بالولوج نحو الداخل دون أن يراه أحد من الحرس، ابتسم ابتسامة مقيتة عندما نجح في الدخول بسهولة، لكن ابتسامته لم تدم؛ عندما وجد سلاح أحد رجال قاسم يُوَجه نحو رأسه، تبعه سؤاله الحاد قائلًا: أنتَ مين وإيه اللي دخلك هنا؟
ارتسم المكر على وجه يحيى قبل أن يُجيبه عابثًا: أنا يحيى الديب.

أنهى تعريفه لنفسه تبعه إخراجه لسلاحه مُسرعًا من ثيابه، ثم أطلق عدة طلقات على صدره لم تُسمَع بسبب كاتم الصوت الموجود بسلاحه، والآخر سقط صريعًا على الأرض المُتسخة من أسفله، تشكلت ابتسامة ساخرة على ثُغره قبل أن يُكرر جُملته الشهيرة التي يقولها دائمًا عِند قتله لأحد الأشخاص: كلب وراح.

أكمل سيره للداخل بحذر بعد أن أخفى جُثة الرجل في أحد الجوانب، رأى بعينه مصدر خافت للضوء على بُعدٍ قريب منه، ليُجهِز سلاحه مُسرعًا، وببطءٍ مدروس اقترب رويدًا منه، ليرى صوفيا مُكبلة على كُرسيٍ مُتهالك بعض الشيء، وجهها شاحب وشعرها مُشعث، أنزل سلاحه ثم اقترب منها مُسرعًا يضرب على وجهها بضرباتٍ خفيفة حتى تستفيق، وبالفعل استفاقت بفزع ليرفع يحيى يديه مُهدئًا إياها وهو يقول: متخافيش. أنا جاي أهربك من هنا.

نظرت له صوفيا بتشوش وحالة من النُكران ترتسم على وجهها، لذلك تسائلت بعدم تصديق: تهربني؟ أنت مين اللي بعتك؟
أجابها يحيى وهو يفق الحِبال الغليظة من حول جسدها: مختار بيه.
دلكت صوفيا معصمها الذي آلمها من إلتفاف الحِبال من حوله، ثم رددت مُتعجبة بدهشة: مختار؟ بس هو ميعرفش إن أنا عايشة زي ما قاسم قالّي!
أجابها يحيى بإختصار ولامبالاة: أنا قولتله.

لم يتركها يحيى لتسأل أي سؤالٍ آخر، بل أمسك بمعصمها ثم سحبها خلفه بعد أن ترك على المقعد رسالة مُلحقة من مختار الأرماني، ثم خرج وهي معها بنفس الطريقة التي دلف بها لهُنا.

بعد ساعة تقريبًا. وصل كلاهما إلى منطقة نائية بعيدة عن المدينة كُليًا، ثم صعدا إلى إحدى الشُقق السكنية التي قام يحيى بتأجيرها مُسبقًا وأدخلها للداخل، جلست صوفيا على الأريكة ومعالم الأرق والإنهاك كانت ترتسم بوضوح على محياها، لذلك أعطى إليها يحيى كوبٍ من الماء قد جلبه لها ثم جلس جانبها، أخذت صوفيا كوب الماء من بين يديه بعطش ثم ارتشفته كاملًا عدا بعض القطرات، وبعدها سكبت القليل منه على يدها لتقوم بغسل وجهها المليء بالغُبار، سحبت عِدة مناديل ورقية ثم مسحت بها وجهها أثناء قولها المُتعجل ل يحيى:.

أنا محتاجة أكلَّم مختار ضروري، محتاجة أقوله على حاجة مهمة.
فكَّ يحيى زريَّن من أزرار قميصه ثم أرجع رأسه للخلف وهو يُجيبها: هيجيلك بكرة هو مأكدلي.
حمحمت صوفيا بتوتر واضح وهي تقول له: طيب. طيب كنت عايزة شوية هدوم بدل الهدوم المقطعة اللي أنا لابساها دي.

أعدل يحيى رأسه بإنتباه ثم نظر لثيابها العارية للغاية بخبثٍ شديد، مرر أنظاره عليها بداية من فستانها ذو فتحة الصدر الواسعة، حتى إلى قدميها البيضاء التي تظهر بسخاء بسبب قِصر الفستان عليها كما اعتادت أن ترتدي مُسبقًا.
اقترب منها بخبث ثم وضع يده على قدمها العارية بوقاحة، قبل أن يردف بمكر: تعالي جوا هتلاقي كل اللي نفسك فيه.
رفعت صوفيا حاجبيها بإستنكار مُرددة على مسامعه بتحذير: ومش خايف أقول ل مختار؟

أجابها يحيى ببراءة: ليه وهو أنا بعمل حاجة غلط؟
أطلقت صوفيا ضحكة عالية رقيعة زادت من خبث ذلك الجالس بجانبها، وبمفاجأة انتفض يحيى من مكانه ثم سحبها خلفه حتى دلف كليهما إلى أحد الغُرف الموجودة في الشقة مُحيطًا إياها من خصرها بعنف ليُقربها منه أكثر، وبعدها همس لها بوقاحة: يحيى هينسيكِ الكام يوم اللي فاتوا.

بدأ العد التنازلي لإنخفاض مُعدل ضربات القلب داخل الضلوع، العين تبكي والجسد يشكو والدموع تصيح، ارتسمت معالم على القهرة على وجه فور عندما أبصر والدته تُصوب السلاح تجاه صدره من أجل عشيقها المُخادع، استطاع بكل سهولة أن ينسج خيوطه ويُوقعها في شباكه، حتى أصبحت تُحارب العالم بأسره من أجله هو.

سحبت إيلينا تلك القطعة الحديدية الموجودة في الزِناد لتعميره، ثم أردفت بشر وأعيُن مُتوعدة: أراكَ لاحقًا عزيزي فور.
أغمض فور عينه بيأس وتلك المرة لم يمنع دموعه من الهطول، لربما كانت تلك أكبر خيبة أمل قد يتعرض لها المرء طيلة حياته! وصعدت الطلقات لتستقر بموضعها الأساسي، لكن ليست في صدر فور، وإنما في قدم إيلينا التي صرخت بقوة ارتجت لأجلها الصحراء من شدة الألم.

فتح فور عيناه بفزع عندما استمع لصرختها التي صمَّت أُذنيه، ليجد آلبرت يقف في المنتصف ويرتص ثلاثة من أخواته على كل جانب أثناء تصويبهم لأسلحتهم تجاه إيلينا التي ترتمي على الأرض تصرخ من الألم، مظهرهم كان مُهيبًا للأنفسِ، نظراتهم كانت تُوحي بالكثير، دمارٌ هائل سيُصيبها قبل أن يُصيب الجميع، فعلتها شنيعة وذنبها أكبر، والدتهم هي قاتلة أبيهم ومصدر خيانتهم الأول.

اقترب آلبرت منها حتى أصبح أمامها مُباشرةً، لم يُكلِف ذاته عناء الجلوس بجانبها، بل ظل واقفًا وكأنه يزلها وبالفعل شعرت بالإهانة حِيال فعلته تلك، وأخيرًا خرج صوته هادئًا مُحملًا بالعواصف: أهلًا بكِ في أرض مِصر إيلينا، أتمنى أن تكون الرحلة قد نالت إعجابك عزيزتي.
جزت على أسنانها من الألم الشديد الذي يجتاح قدمها، وبعدها رفعت أنظارها له تُطالعه بكُره قبل أن تصرخ به بإهتياج: آلبرت أيها ال...

قاطعها آلبرت قائلًا بدهشة مُصطنعة: أوه انظروا يا رِفاق؟ إيلينا تتذكر اسمي حقًا؟
قد تظهر للبعض أن تلك الكلمات ساخرة بلهاء، لكنها في الحقيقة ما هي إلا كوميديا سوداء حلَّت على رؤوس الإخوة السبعة الواقفون أمام والدتهم العزيزة التي قامت بقتل والدهم والهروب بعدها.

اقترب منهم ستيفن هو الآخر ثم انحنى بظهره قليلًا ليجعلها ترفع أعيُنها للنظر إليه عن كُثب، خرجت الكلمات من فمِ ستيفن الذي سألها بتفكير: كم من الأعوامِ مرت ونحن لم نراكِ إيلينا؟
أجابه جون الذي وقف خلفه تمامًا لأثناء قوله الساخر: أظن سبعة أعوام يا أخي.
سبعةُ أعوام. وشهران. وأربعة أيام.

نطقها آندريه التي لم يُبعد أنظاره عن وجه والدته منذ أن أتى ورآها تُصوب تجاه صدر أخيه، وكأنه يحفر تلك الذكريات في رأسه حتى لا يَلين قلبه تجاهها مُجددًا!

اقترب ليونيد هو الآخر من أخواته، والذي كان قريبًا منها للحد الذي جعله كان أن يُصاب بالجنون عند اختفاؤها، ثم جلس بجانبها مُباشرةً يستند على رُكبتيه ليصل إليها، وعلى حين غفلة قرَّبها منه أثناء أمساكها من خصلاتها بحقد جاعلًا إياها تصرخ بألم شديد، تلاه همسه المغلول: مرحبًا بِكِ في الجحيم إيلينا.
دعمه آلبرت بقوله المُصاحب لإبتسامة مُختلة مجنونة: ستتمنين الموت ولن تجديه.

أكد ستيفن على حديث أشقائه مُردفًا: سنُعذبك وزوجك الحقير ستجلبيه.
سار آندريه على وجهها بإصبع إبهامه ثم تشدق بهمس: قلبه اللعين ستُوقفيه.
ليُشارك چون في الحديث قائلًا: وبيدكِ أنتِ ستقتليه.

كان فور يُراقب الجميع بوجهٍ جامد خالي من المشاعر، وكأن قلبه توقف عن النبض ومنع إياه من التحرك، لكنه سار أخيرًا من مكانه ثم اقترب منهم مُسرعًا مُتحدثًا بفحيح أثناء إمساكه بفك إيلينا يضغط عليه بغلٍ حاقد: أنتِ الآن في مواجهة نيران عائلة تشارلي عزيزتي إيلينا.

أنهى الجميع قولهم لكن مازالت مشاعرهم مُتخبطة تجاههم، ووسط كل هذا الضغط الهائل؛ مالت رأس إيلينا على الجانب فاقدة لوعيها، مما جعل آلبرت يقف من مكانه آمرًا كُلًا من آندريه، ليونيد، وستيفن بأخذها للمكان الذي اتفقوا عليه من قبل، وبالفعل حملها آندريه الذي نظر لها بألم، ثم وضعها بداخل السيارة التي انطلق بها ستيفن يأكل الطرقات بغضبٍ جامح، وبجانبه يجلس ليونيد الهائم في دُنياه الخاصة به.

بينما وعقب ذهابهم بوالدتهم؛ سقط فور أرضًا يبكي بشهقاتٍ عالية، لا يعلم أي ذنبٍ قد فعله هو وأخواته ليُعاقبوا هكذا، هبطت الدموع على وجهه بغزارة وصوت بكاؤه يُمزق نياط القلب، ابتلع جون ريقه بصعوبة ثم اقترب منه ليحتضنه مُخففًا عن ألمه، رمى فور برأسه على صدره ولم يتحدث بكلمة واحدة، مشاعره الهوجاء تعمل بعنفوان، تلك الخائنة والدته كادت أن تقتله لولا وصول أخواته في الوقت المُناسب، كادت أن تُنهي حياته من أجل عشيقها الحقير!

ابتعد چون عن فور عقب سحب آلبرت لأخيه من على الأرض الرملية الباردة، وبعدها قام بجذبه لأحضانه يُشدد من ضمه بقوة، أحاط به فور وبكاؤه لم يهدأ بعد، لا يُصدق أن والدته فعلت بهم هكذا، ليتها ماتت أو قُتِلت كما كانوا يظنون، لكن رجوعها كعدوة لهم؛ كانت كالقشة التي قسمت ظهر البعير، خرج صوت فور الباكي بحدة وهو يسأل آلبرت الذي يُعانقه بألم:.

لِمَ فعلت بنا هكذا يا أخي؟ أنا كنت أُحِبها كثيرًا أُقسِم لك، أنا. أنا أكرهها. أكرهها كثيرًا. لقد اشتقت إليها يا أخي.
كانت مشاعره مُتضاربة، حتى نطق الأخيرة بيأس أثناء بكائه بعنفوان أبكى چون الذي استدار على الفور حتى لا يروا دموعه البائسة، وإن جاء للحق؛ فهو الآخر اشتاق لها حد اللعنة، حتى أنه فكَّر في مُسامحتها قبل أن يرى عُنفها وكُرهها لهم الذي ظهر واضحًا في حديثها.

ابتلع آلبرت تلك الغصة التي تشكلت في حلقه بصعوبة بالغة، كان يظن أن الأمر سهلًا، لكن كان أقسى مما توقع، فالجميع اشتاق لها، الجميع مازال يُحبها، حالة من النُكران مازالت تُسيطر على الجميع من حالتها، فكيف تكون تلك القاسية البشعة الآن هي الحنونة الجميلة مُبسقًا؟ ابتسامة مقهورة خرجت من فمِ آلبرت عندما توصل إلى الإجابة اللعينة، إنها لعنة الحب، الحُب هو ما دمر حياته وحياة أشقائه، حُبها لحقيرٍ خائن جعلها تُقدِم على قتل زوجها ومحاولاتها لقتل أبنائها أيضًا.

خفتت شهقات فور لكن دموعه مازالت تهبط بغزارة، وهذا كان واضحًا على اهتزاز جسده الذي أعلمه ببكائه بصوتٍ صامت، شدد آلبرت من مُعانقته أكثر أثناء همسه الدافيء له: لقد انتهى كل شيء أخي، انتهى الأمر عزيزي كفى بُكاءً أرجوك.
إلتمس فور نبرة أخيه الحزينة وبالفعل هدأ بكاؤه بنسبة كبيرة، ليُشير بعدها آلبرت لشقيقه چون الذي يُعطيهم ظهره أثناء إستناده على السيارة: چون يبكي يا فور، علينا دعمه عزيزي.

التفت فور لرؤية چون الذي يختار دائمًا الوحدة ملاذًا لأحزانه، لذلك سار جانب أخيه آلبرت حتى وصلوا إليه، أحاط آلبرت بكتفه ثم أردف مُمازحًا إياه: ماذا تفعل هنا وحدك أيها الحقير؟
تصنع فور الدهشة وهو يفتح عيناه على آخرهما مُتشدقًا بعدم تصديق: يا إلهي! أنت تبكي كالنساءِ چون؟ أتريدُ وضع رؤوسنا بالوحل يا هذا؟

أكد آلبرت على حديثه أثناء قوله المُتحسر: قُل له عزيزي فور. ماذا سيحدث لنا إن علم أحد أعدائنا أن أبناء عائلة تشارلي تبكي كالأطفال هكذا؟ حسرةٌ علينا وعلى مُستقبلنا المليء بالوكسات.
قال جميع كلماته بلغته الروسية المُتقنة، وجاء عِند كلمته الأخيرة ونطقها بالفصحى، قطب فور جبينه بتعجب ضاحك وهو يتسائل: من أين تعلمت تلك الكلمة أخي؟

جعد آلبرت وجهه بتشنج وهو يتذكر تلك الفتاة الغبية: من تلك الغبية التي تُدعى مهرائيل.
تحولت نظرات وجه فور إلى الخبث الشديد، مما جعل آلبرت يُطالعه بغضب وهو يتسائل بحدة: ما بِكَ أيها الأحمق تنظر لي كالعنزة هكذا؟
قهقه فور ضاحكًا بصوتٍ عالٍ ولم يُريد التحدث حتى لا يُغضِب شقيقه أكثر، وكل هذا كان چون يقف جامدًا لا يتحدث، أو بمعنى أصح يكتم ضحكاته حِيال حديث أشقائه الغبي.

أحاطه فور من عُنقه عندما لاحظ سكونه المُريب هذا، ثم تسائل بريبة وهو يُوجه حديثه ل آلبرت: ما به أخيك آلبرت؟ لِمَ لا يتحدث؟ أيُعقل أن قد تصنم مكانه؟
رفع چون حاجبيه بإستنكار وهو ينظر له بطرف عينيه، ليبتسم فور ببلاهة عقب قوله، وبعدها تصنع الجدية الشديدة والحِدة وهو يصفعه على وجهه قائلًا له بتحذير: انظر لي بطريقة أفضل من هذه أيها الحقير، أنا أكبُرك بخمس دقائق وعليك إحترامي.

احتدمت عينيّ جون بغضب، ليبتعد عنه فور مُهرولًا، كاد أن يتحدث لكن قاطعه صراخ چون الذي ركض خلفه صارخًا به: أيها الحقير سأقتلك.
صرخ فور وهو يُهرول من أمامه قائلًا: أمزح معك يا أحمق، آااه توقف عن رمي الرمال على رأسي أيها الحقير.

طالعهم آلبرت بإبتسامة طفيفة، قبل أن يهز رأسه بيأس على أفعالهم الطفولية تلك، وبداخله يشكر الظروف على منحه هؤلاء الإخوة اللذين يُساعدونه على إجتياز المخاطر مهما كانت صعوبتها، قهقه ضاحكًا عندما رأى چون قد تمكن الإمساك ب فور، ثم رماه على الأرض الرملية واضعًا الرمال فوق رأسه، والآخر يصرخ به بعنف ليتركه، ليهمس آلبرت بقلة حيلة:
حمقى مُغفلين.

سنشدد عُضدك بأخيك جُملة في محلها تمامًا، ما الأخ إلا سندًا تُشدد به أزرك وتعلو به مواساتك، يُساندك في صعوباتك وتجتاز به آلامك.
وقف قاسم بجانب صهيب يُملي عليه وصاياه العشرة بتحذير: مش هعيد وهزيد في الكلام كتير، لو حسيت بأي خطر أخرج من جوا، أنا معنديش إستعداد أخسرك بسبب مهمة تافهة زي دي.
تشنج وجه صهيب وهو يُردد حديثه مُستنكرًا: تافهة؟ أنت عارف إحنا مستنين الخطوة دي بقالنا قد إيه؟

رد عليه قاسم بحسم مُقاطعًا حديثه القادم بصرامة: تغور أي مهمة فداك أنت، صهيب علشان خاطري متعرضش حياتك للخطر، أنا لو عليا فعايز أخدك دلوقتي ونمشي وأبقى آجي أنا أعمل المُهمة دي لوحدي.
ابتسم صهيب بلُطف إلى أخيه، ثم اقترب منه مُحتضنًا إياه: متخافش يا قاسم بإذن الله مهمتنا هتبقى سهلة وهتنجح، ربنا يخليك ليا يا حبيبي.

شدد قاسم من احتضانه وكأنه لا يريد تركه، يخشى الإمساك به من قِبل رجال مختار، يخشى خسارة أخرى لن يحتملها لا هو ولا فؤاده، لذلك أردف بحب: ربنا معاك، ووقت ما تحس إن فيه حاجة مش مظبوطة أخرج على طول من غير ما تفكر، ماشي؟

أومأ له صهيب بثبات ثم تركه وغادر مُتجهًا لشركة الأرماني العالمية للسياحة، سيقوم بزرع القنابل النووية بها وتفجيرها ليلًا بزِر صغير سيكون معهم، وتلك الضربة ستكون القاضية بالنسبة ل مختار الأرماني وأخواته، فمصدر ربحهم الأول هو تلك الشركة، حيث يقومون من أسفلها بالعديد والعديد من الأعمال الغير مشروعة تحت بند من يصل أولًا يربح لاكثر، وهم لا ينفكوا عن البحث عن تلك الأثار، وأمام الجميع هُم شركة عالمية لدعم السياحة في مصر لا أكثر.

تابع قاسم رحيل شقيقه بأعيُن مُترقبة، فأتى من خلفه رائد الذي يحمل العديد من المُسليات، ثم صعد للسيارة بجانبه فاتحًا لحقيبة منهم، ثم أخرج منها كيس من المُقرمشات وأعطاه له، والكيس الآخر أخذه هو، طالعه قاسم ببلاهة، ليبتسم إليه رائد ابتسامة واسعة مُبررًا له: هنفضل قاعدين ساعتين قولت إما نسلي نفسنا شوية.

ضربه قاسم على عنقه من الخلف وهو يُصيح بإستنكار: طالعين مُهمة تفجير وأنت رايح تجيلي شيبسي ولب؟ أنت خطوبة ستك قصرت على عقلك يابني؟
فتح رائد الكيس الخاص به بس أردف مُتحسرًا: متفكرنيش يا قاسم الله يسترك، ستي خطوبتها بكرة وأنا قاعد مش لاقي اللي يلمني.
أجابه قاسم ساخرًا: مش لما تلم نفسك الأول تبقى تلاقي اللي يلمك؟

وضع رائد كمية كبيرة من المقرمشات داخل فمه صم تسائل حانقًا: يعني أعمل إيه يعني؟ ما أنا بطلت أكلم بنات وأنت عارف.
فتح قاسم الكيس الخاص به هو الآخر ثم أردف بدهاء: يعني أنت باين عليك إنك بتحب ملك وواقع لشوشتك أوي.
حك رائد مؤخرة عنقه متسائلًا: باين عليا أوي كدا؟
أكد عليه قاسم ضاحكًا، فتسائل بغيظ: طب أعمل إيه معاها طيب، البت حلوفة ومش حاسة بيا.

رد عليه قاسم ساخرًا: واللهِ انتوا الاتنين حلاليف زي بعض، وسبحان الله زي ما بيقولوا كدا حلة ولقت غطاها، تنحين بالفطرة.
ضرب رائد على صدره بضرباتٍ خفيفة وكأنه يمدحه، ثم أردف مُتفاخرًا: حبيبي تسلم والله. المهم قولي أعمل إيه بقى علشان ألفِت نظرها؟
فكَّر قاسم قليلًا بتروٍ وبعدها صاح هاتفًا: أول حاجة تبطلوا خناق مع بعض. ت.

قاطعه رائد بشهقة مُفزعة وهو يضرب على صدره بصدمة: يا مصيبتي؟ أنت عايزنا نبطل خناق؟ أنت عارف اللي بتطلبه دا عامل زي إيه؟ زي ما تكون بتطلب مني أقف من غير هدومي في الشتا.
طالع قاسم وجهه تشنج، ثم سأله مُستنكرًا: يعني ملك بتمثلك هدومك اللي متقدرش تستغنى عنها في الشتا؟
أكد رائد على حديثه هاتفًا بمؤايدة: طبعًا. مش شرفي وعرضي.

إلتوى ثُغر قاسم ساخرًا مُجيبًا إياه: رومانسيتك أحرجتني يا جدع واللهِ، حيث كدا بقى أنت مش محتاج لنصايحي، أنت كدا فل الفل.
اتسعت ابتسامة رائد وهو يسأله بسعادة: بجد؟ يعني اللي بعمله صح؟
أومأ له قاسم أثناء كتمانه لضحكاته بصعوبة متشدقًا بجدية مصطنعة: طبعًا يابني صح، وصح الصح كمان
وضع رائد المقرمشات بفمه سعيدًا، ثم تمتم مع ذاته بفخر: الله عليك يا واد يا رائد وعلى دماغك التمام.

عمَّ الصمتُ المكان عدا صوت المُقرمشات في أفواههم، فابتلع رائد ما في جوفه وهو يتسائل بتعجب: صحيح البنات راحوا فين؟
أجابه قاسم أثناء شروده في شركة الأرماني: هيكونوا راحوا فين يعني. اتجمعوا كلهم في البيت كالعادة.
مين وصلهم؟
هما راحوا لوحدهم.
كانت إجابة مُختصرة من قاسم والذي تمتم بعدها بصوتٍ خفيض خوفًا على جنون الفتيات: وربنا يستر ومروحش ألاقي أهلة موقفاهم على الحدود.

وعلى الجانب الآخر. كانت جميع الفتيات يجلسن على الأرض مُتجمعين على شكل دائرة كبيرة لكثرة عددهم، فكانوا كالآتي (أهلة، يمنى، ملك، لوسيندا، مهرائيل، سهيلة، وحبيبة).
تنهدت أهلة بصوتٍ عالٍ أثناء تحديقها بضجر تجاه الفتيات، لذلك أردفت بصوتٍ مرتفع عندما طال صمتهم: وحدوه.
لا إله إلا الله.
نطقها معظهم، لتعترض مهرائيل بحنق: نقوم نمشي إحنا طيب؟ مش واكل معاكِ إننا مسيحين مثلًا؟

ارتفعت ضحكات أهلة مع الفتيات، لتقول بمشاكسة: ما أنتِ كنتِ من شوية بتقولي صلوا على النبي، جَت على دي يعني؟
خرجت ضحكات مُتقطعة من فاه مهرائيل قبل أن تردف ببلاهة: صدقي معاكِ حق! يلا أهو كله بثوابه.
تنهدت سهيلة بثقل قبل أن تردف بحالمية: ياما نفسي حد بعينه كدا يأسلم، يا سلام يا ولاد هيكون المستحيل اتحقق.
نكزتها لوسيندا قبل أن تَجذُب يدها لتُقربها منها، ثم تسائلت بفضول: مين. وفين. وإزاي. انطقي.

لم تكد سهيلة أن تفتح فاهها للتحدُث؛ حتى وجدت يمنى تجذبها تجاهها من الناحية الأخرى: سيبك منها واحكيلي أنا. متخافيش سِرك في بير.
طالعتها سهيلة بسخرية وللمرة الثانية فتحت فمها كي تتحدث؛ فوجدت ملك تجذبها عندها هي الأخرى والتي أردفت بحماس: دول عيال كدابة سيبك منهم، قوليلي يا قلبي دا أنا البير كله.

دفعت سهيلة ثلاثتهم ثم صرخت بهم بنفاذ صبرٍ قائلة: جرا إيه يا بت أنتِ وهي! وهي سهيلة مبتحلاش غير لما تكونوا عايزين تعرفوا عنها حاجة؟
استنكرت يمنى حديثها وهي تتشدق ببعض المسكنة: لأ يا سهيلة لأ متقوليش كدا، إحنا مش زي ما أنتِ فاكرة طبعًا.
رفعت طرف شفتيها بسخط، ليستمع بعدها الجميع إلى صوت حبيبة التي تقول برقة: براحة يا بنات عليها وسيبوها براحتها.

مصمصت أهلة على شفتيها بحسرة أثناء حديثها المُوجه ل حبيبة: مسم. عيني عليكِ وعلى رِقتك يا بنتي، لأ أنتِ كدا في خطر ومحتاجة حد كفاءة زيي يعلمك أصول التعامل مع الأوباش اللي زي دول.

طالعتها جميع الفتيات بغضب، لتُبادلهم النظرات بلامبالاة قبل أن تجذب حبيبة من ذراعها تُقربها منها، ثم أردفت بصوتٍ هاديء بعد أن أخفضت رأسها للأسفل كي لا يستمع إليها الفتيات: بقولك إيه ابقي تعاليلي كل يوم نص ساعة علشان أعلمك كيفية الدفاع عن النفس أصلك أنتِ على نياتك خالص.
اتسعت ابتسامة حبيبة والتي أردفت بصوت هامس سعيد: بجد؟ هتعلميني إزاي أكون شريرة تاني؟

أومأت لها أَهِلَّة بتأكيد، فعادت لوضعها المُعتدل مرة أخرى؛ لتجد جميع الفتيات يُقربون أذانهم منهم ليستمعوا إلى الحديث الدائر بين كلتيهما، ابتعدت الفتيات على الفور ليستمعوا بعدها إلى صوت أَهِلَّة الغاضب تصرخ بهم: انتوا بتتصنتوا علينا؟
نفت مهرائيل برأسها على الفور وهي تقول بصدمة: نتصنت؟ لأ يا ستي استغفر الله أنتِ بتقولي إيه بس؟

أكدت لوسيندا على حديثها وهي تقول بمؤايدة: طبعًا مهرائيل بتقول الحقيقة احنا عمرنا ما نتصنت على حد، بس استسمحك يا أهلة ياختي تعلميني كيفية الدفاع عن النفس مع البت حبيبة.
تشنج وجه أَهلة بإستنكار وهي تتسائل بسخرية: متأكدة يا لوسيندا إنكم مسمعتوش أنا قولت إيه؟
هزت لوسيندا رأسها بالنفي وهي تقول بصرامة: لأ طبعًا مسمعناش، هي بس طراطيش كلام لا أكتر ولا أقل.

صفقت يمنى بكف يديها لتقول بصوت عالي نسبيًا حتى تجذب انتباههم: يا بنات انتوا مسكتوا في حاجة تافهة وسيبنا موضوع سهيلة مع حبيبها المسيحي؟ اسكتوا بقى عايزين نسمع الحكاية.
نكزتها سهيلة في جانبها بقوة ثم صرخت بها قائلة بسخط: روحي يا شيخة منك لله، كانوا نسيوا ياللي تتشكي في جنابك.

دلكت يمنى جانبها بألم، ثم دفعتها بعيدًا وهي تقول بسخط: بت أنتِ هتحكي وتخلصينا ولا نعرف الموضوع بمعرفتنا؟ هشغل روح ظابط المخابرات اللي جوايا وهوصل يعني هوصل.
أيدت مهرائيل حديثها قائلة بتأكيد لتدعمها: وأنا معاكِ يا بت يا يمنى، ووقتها هخلي كل اللي ما يشتري يتفرج عليكِ، وأنتِ عارفاني كتومة مش بحب أحكي لحد حاجة عن حياتي.

ابتلعت سهيلة ريقها برعب قبل أن تهمس بحسرة: يا سوادي؟ إيه المصيبة اللي أنا حطيت نفسي فيها دي!
لم يُبالي الجميع لولولتها أو لحسرتها أدنى إهتمام، بل وجهوا أنظارهم إليها بإنتباه مُنتظرين ما ستقول، حمحمت سهيلة بتوتر قبل أن تقول بتحذير: أنا هحكي بس كلامنا دا ميطلعش لحد.
أومأ لها الجميع مُسرعين، بينما أردفت هي قائلة أثناء إخفاضها لأنظارها للأسفل: أنا. أنا بحب فور.

ثانية. ثانيتان. ثلاثة. وانتظرت أن يتحدث أحد أو يُعقب على حديثها؛ لكن لم تجد سوى الصمت يُحيط بها، رفعت أنظارها تُطالعهم؛ لتجد نظرات البلاهة والتعجب مُرتسمة على أوجههم جميعًا، وكان أول من تخرج من صمتها هي أهلة التي تسائلت ببلاهة: فور؟ فور بتاعنا؟

ابتلعت سهيلة ريقها بصمت وهي توميء لها برأسها تؤكد حديثها، انتفض الجميع من مكانه عندما استمعوا إلى صراخ ملك المُستنكر وهي تصرخ بها: نعم ياختي! وملقتيش غير فور الحليوة أبو عيون خضرا؟
فتحت سهيلة فاهها بصدمة وهي تسألها بقلبٍ ينبض برعب: نعم؟ أنتِ بتحبيه؟
هزت ملك رأسها بالنفي أثناء قولها المُتحسر: لأ مش بحبه بس بكراش عليه.

جذبتها يمنى من خصلاتها وهي تجز على أسنانها بغضب: هو أنا مش قولت تبطلي قِلة أدب؟ أرقام الرجالة اللي كنتِ بتكلميهم واتمسحت، نعمل إيه فيكِ تاني علشان تتلمي يا بت أنتِ؟
تأوهت ملك بألم أثناء إمساكها بيد يمنى التي تقبض على خصلاتها، ثم بررت قائلة: والله أنا توبت وربنا يشهد عليا، بس الواد حلاوته تجزع وكتكوت في نفسه كدا، والأهم إنه بيحب الأكل زيي.

دفعتها يمنى بغيظ، لتلتقطها أهلة التي أمسكتها من خصلاتها هي الأخرى تهزها بيأس: يابت نوأدك ونخلص من قلة أدبك ولا نعمل معاكِ إيه؟ إحنا عيلتنا كلها مُحترمة وأنتِ العنصر الشاذ اللي ما بينا.
أطلقت ملك ضحكة رقيعة أثناء قولها الساخر: هيهيهي محترمة؟ سلامات يا محترمة.
حمحمت أهلة بجدية ثم أعادت تكوين جُملتها قائلة: مش محترمة أوي يعني.

تدخلت حبيبة في الحوار مُعاتبة أهلة بخفوت: براحة عليها يا أَهِلَّة حرام عليكِ.
وبالفعل تركتها أهلة بغيظ ثم عادت لموضعها دون أن تتحدث، بينما أردفت لوسيندا قائلة وهي تُوجه حديثها ل حبيبة: يا بنتي أنتِ كنتِ بترضعي لبن زينا كدا ولا كانوا بيرضعوكِ أخلاق؟
أجابتها حبيبة بهدوء وهي تبتسم برقة: لأ كانوا بيرضعوني لبن عادي.

يا جماعة. يا جماعة انتوا سيبتوا موضوعي أنا والواد ومسكتوا في نوع اللبن اللي كانت بتشربه البسكوتة!
صفقت مهرائيل الصامتة مرة واحدة قبل أن تردف قائلة: هي ملهاش غير حل واحد.
انتبهت حواس سهيلة لحديثها وكذلك انتبه الجميع، فتسائلت بصوتٍ متحمس: حل إيه قولي بسرعة؟
إن هو يأسلم.
قالتها بثقة كبيرة، وكأن هذا الحل لم يأتي أو يمر بخاطرها من قبل.

نظرت مهرائيل لهم مُستعدة للإستماع إلى تقديرٍ وهتافٍ عن مدى ذكائها، لكنها لم تجد سوى معالم التشنج مُرتسمة على أوجه الجميع، ابتسمت بغباء وهي تتسائل: إيه؟ هو أنا قولت حاجة غلط لسمح الله؟ أو. أو أنتِ اللي تدخلي المسيحية.
هتفت أهلة بنُكران زائف وهي تقول بصدمة: لأ استغفر الله يا شيخة متقوليش كدا، غلط؟ ومنك أنتِ؟ وبعدين أنتِ تنقطينا بسُكاتك الله يكرمك علشان أنتِ اللي هتعملي فتنة طائفية ما بينا دلوقتي.

علمت مهرائيل من تهويلها لنفيها عن سخريتها منها، لتردف بسخط وهي تُشيح بيدها أمام وجهها: تصدقوا أنا ذكائي خسارة فيكم!
ربتت لوسيندا على قدمها قائلة: احنا مقدرين ذكائك وتعبك في التفكير، بس متفكريش تاني لو سمحتِ.
نظرت مهرائيل لشقيقتها بإستنكار صارخة بوجهها: حتى أنتِ كمان يا لوسيندا؟ تصدقوا بالله؟ أنا ذات نفسي خسارة فيكم أساسًا.

أشاحت أهلة بيدها بلامبالاة أثناء تمتمتها الساخطة: ياختي اتنيلي واسكتِ بقى، المهم يا بنات قوموا يلا كل واحدة بيتك بيتك وأنا هاخد البت حبيبة وهنطلع فوق.
تشنج وجه يمنى التي تسائلت بسخط: أنتِ بتطردينا يا أهلة؟
آه.
قالتها بإختصار، ثم صعدت لشقتها ومعها حبيبة التي تبعتها بعد أن أشارت لهم جميعًا لتودعهم بود.

أشارت ملك لأثر أهلة الذي اختفى من أمامها ثم أردفت بإستنكار: شايفة أُختِك؟ بالله ما اتربت ولا شمت ريحة التربية.
أحاطت يمنى بعنق شقيقتها ثم اتجهوا للخارج أثناء قولها الضاحك: واللهِ يا ملوكة إحنا كلنا متربناش.
ضحكت ملك ثم أيدتها قائلة: على رأيك. ملناش غير بلبلة تعالي نشوفها عاملة لينا أكل إيه.

وبالداخل، نظرت كُلًا من لوسيندا ومهرائيل وسهيلة لبعضهم البعض بصمت، قبل أن تردف سهيلة وهي تُلملم أشيائها: استأذن أنا بقى علشان أروح أصلي العصر، سلام يا مُزز.
سلام يا عسلية.
قالتها مهرائيل مُودعة إياها بمرح، لتضحك سهيلة بخفة قبل أن تتركهم وتذهب من المنزل بأكمله.
أرجعت مهرائيل خصلاتها للخلف قبل أن تعض على شفتيها قائلة بصوتٍ خافت: وأنا كمان همشي يا لوسيندا.

طالعت لوسيندا شقيقتها بقلق، قبل أن تقترب منها وتحيط بذراعيها مُتحدثة بخوف: متأكدة من اللي أنتِ عايزاه دا يا مهرائيل؟ أنا خايفة عليكِ ومش عايزة بابا يأذيكِ بأي شكل.
ابتسمت مهرائيل ابتسامة طفيفة لشقيقتها، قبل أن تقترب منها وتقوم بإحتضانها وهي تهمس لها: متخافيش عليا هبقى كويسة صدقيني، وبعدين ما أنا هاجي بكرة شبكة تاتا لواحظ وهنقلك الأخبار.

قهقهت لوسيندا عاليًا وبعدها ابتعدت عنها لتقول بصوتٍ حاني: طيب يا حبيبتي، ووقت ما تحتاجيني هتلاقيني معاكِ دايمًا.
أومأت لها مهرائيل بحب، ثم حملت حقيبتها التي جهزتها صباحًا وبعدها ذهبت من المنزل تاركة شقيقتها تنظر لأثرها بخوف من القادم، فهي لا تضمن ردة فعل والدها معها، لكن حاولت بث الطمأنينة في فؤادها بقدر الإمكان.

دلف صهيب لبهو الشركة بكل ثباتٍ وهدوء، وجد الجميع يُرحب به بقوة وإحترام، وكيف لا وهو ابن مختار الأرماني؟ من وجهة نظرهم، وضع صهيب نظارته الشمسية على عينيه وكفوف يديه مخفيان داخل جيب بنطاله الأسود، وقف أمام رجال الأمن ثم أمرهم بكل ثباتٍ وهدوء:
فيه رجالة هيجوا دلوقتي علشان يعملوا صيانة في الشركة دول تبعي، أول ما يجوا دخلوهم على طول.

أومأ له الحرس بإحترام وأردف واحدًا منهم: تحت أمرك يا صهيب بيه، أي أوامر تانية؟
هز صهيب رأسه بالنفي، ثم دلف للداخل وظل يدور في أنحاء الشركة مُدعيًا رؤية تصميماتها وأروقتها التي صُممت على أحدث طراز، طالعها بحسرة مُصطنعة قبل أن يهمس لذاته: مش خسارة الحلاوة دي كلها تتفجر؟ بس مش خسارة في مختار الأرماني، بالهنا والشِفا.

بعد نصف ساعة تقريبًا. وصل الرجال الذي قال عنهم صهيب يرتدون ثيابًا موحدة من اللون الأزرق، فسمح لهم الحرس بالولوج سريعًا، أشار إليهم صهيب بعينيه وهم أومأوا له بطمأنينة، وبدأوا بذراعه القنابل الموقوتة في جميع أنحاء الشركة، بل كانوا أيضًا يختارون المناطق الخالية من العاملين بكل ذكاء حتى لا يُثيروا الشكوك حولهم.

مرت نصف ساعة أخرى وهم يُحاولون إنجاز عملهم بكل سرعة قبل أن يأتي فردًا آخر من عائلة الأرماني، نظر صهيب في ساعة معصمه بترقب والقلق بدأ ينهش قلبه، لقد اقترب موعد قدوم نادر الأرماني، وإن رأى هؤلاء الرجال لن يُمرر الأمر مرور الكِرام حتى يعرف ما ورائهم، هو بالأساس لا يرتاح لوجوده وإن حفر خلفه سيُدمر كل مُخططاهم هو وأخيه، وهذا آخر شيء يُريد حدوثه.

ولحُسن حظه لم يمر خمس دقائق أخرى وكان الرجال ينتهون من عملهم، ليقترب واحدًا منهم من صهيب قائلًا: صهيب بيه كل حاجة خِلصت زي ما حضرتك أمرت بالظبط، أي أوامر تانية؟
ابتسم له صهيب بإمتنان قبل أن يُربت على كتفه مُتشدقًا بفخر: عاش ليكم والله يا رجالة، دلوقتي لازم نطلع من هنا في أسرع وقت.

لملم الرجال حقائبهم ثم خرجوا مع صهيب بهدوء وثبات كما أتوا مُسبقًا، وتلك المرة ارتسمت ابتسامة إنتصار على ثُغر صهيب، فودَّع الرجال قبل أن يركض لأخيه حتى يبلغه تلك الأخبار السعيدة ونجاح خطتهم المؤقتة.

وصل مُسرعًا إلى السيارة، ليخرج قاسم ليستقبله بلهفة، وضع قاسم يده على صدره يتنفس براحة، وكأن حِملًا ثقيلًا قد أُزيح من فوقه، تحدث صهيب بسعادة كبيرة وهو يضرب كفه بكف شقيقه الذي استقبله بسعادة قائلًا: الخِطة مِشيت تمام يا قاسم. فاضل التنفيذ على بليل بس وكدا دي تبقى الضربة القاضية لعيلة الأرماني .
ابتسم قاسم بسعادة، ثم اقترب منه ليحتضنه بسعادة بالغة أثناء قوله المَرِح: راجل ياض.
يا ولاد احضنوني معاكم.

كانت تلك الكلمات تخرج من فاه رائد ناطقًا إياها بضجر، ليستقبله كُلًا من قاسم وصهيب مُحتضنين إياه بحب هو الآخر، وتلك المرة تحديدًا شعر رائد بفوزه بأصقاء بمثابة أشقاء لن يُعوضهم الزمان مهما مر عليهم.

الخوف ينبش في جدرانِ القلب يهتف خائفًا، والعقل يشكو للذهاب هارعًا، ومن بين صراعاتها الداخلية أكملت مهرائيل تقدمها نحو منزلها، ومع إقترابها أكثر؛ كانت تسمع لصوتٍ يهتف داخلها يأمرها بالتوقف وعدم الإستكمال، لكنها هزت رأسها بقوة ثم وقفت أمام باب منزلهم تسحب نفسًا عميقًا من داخلها لتزفره على مهل، تُحاول الثبات وإقناع ذاتها أن الذي بالداخل هو والدها بالنهاية ولن يُقدِم على أذيتها.

أخرجت مفتاح الشقة من حقيبتها، ثم أدخلته على مهل وقلبها ينبض بقوة، وبعدها فتحته أخيرًا، ليستقبلها السكون المُريب الذي يعم الأرجاء، لتتأكد من عدم وجود والدها بالداخل وتطمئن قليلًا، تقدمت خطوتان للداخل وما كادت أن تتقدم الثالثة؛ حتى وجدت يد والدها الغليظة تهجم على خصلاتها حتى كادت أن تقتلعها، صرخت مهرائيل برعب لتردف بصراخ مُتألم: آاااه يا بابا سيب شعري.

أغلق سمير باب الشقة أثناء إمساكه به، وبعدها إنهال عليها بالضربات والسباب اللعين، لقد فارت الدماء في جسده عندما رآها تأتي وهي تجر حقيبتها خلفها عِند وقوفه بالشرفة، ليُقرر إعطائها الأمان بعدم وجوده أولًا، ثم يهجم عليها لتلقينها درسًا لن تنساه طيلة حياتها.

جذب سمير خصلاتها أكثر بين يده، وباليد الأخرى كان يهبط بها بأقصى ما يملك فوق وجنتها الحمراء مُتسببًا في صُراخها أكثر، هبطت دموعها بقهر وهي تشعر بحجم الذُل والمهانة التي تتعرض لها على يد والدها، وازداد رُعبها عندما أبصرته يبتعد عنها ليجلب المقص وعيناه تلتمع بوميضٍ مُرعب.

عادت مهرائيل للخلف بقدماها وهي تهز رأسها بهستيريا، ثم صرخت ترجوه ببكاء: لأ يا بابا لأ علشان خاطري، أبوس إيديك متعملش فيا كدا أنا أسفة.
فتح سمير المقص وأغلقه عِدة مرات، ثم أردف بنبرة مُتوعدة وسباب لاذع: مش شوية عيال و زيك أنتِ وأختك اللي تحطوا راسي في التراب قُدام اللي يسوى واللي ميسواش، ودلوقتي أنا هربيكِ وهعرفك إن الله حق.

ابتلعت مهرائيل ريقها بصعوبة، وبمحاولة بائسة منها حاولت الإعتدال والوقوف على قدميها لتستطيع الهروب، لكن والدها قد تمكَّن منها وهبط على وجهها بصفعة قوية أدت إلى إصابتها بالدوار الشديد، استندت على الحائط من خلفها بينما سمير اقترب منها أكثر وبدأ بقص خُصلاتها التي تَحُبها للغاية، ومع سقوطها أمام عينيها كانت دموعها تبهط بغزارة، فباتت مُستسلمة لما يفعله دون حتى إيقافه عما يفعل.

انتهى سمير من تخريبه لخصلات شعرها ناظرًا إليها بشماتة، ثم انحنى عليها هاتفًا بفحيح من بين أسنانه الصفراء: اعملي حسابك العريس اللي أختك رفضته هتتجوزيه أنتِ ورِجلك فوق رقبتك.
طالعته مهرائيل بنظرات خاوية، قبل أن تصعد الكلمات من فاهها بصعوبة قائلة: على جُثتي.
إلتمعت عينيّ سمير بالشر، قبل أن يردف هامسًا: هيبقى على جثتك فعلًا.

قالها ثم سحبها من خصلاتها المُتبقية كالحيوانات وهي تصرخ تطلب النجدة بكل قهرٍ موجود داخلها، لكن لم يُبالي بها ولا بصرخاتها المُستغيثة، بل أكمل سحبه لها حتى أدخلها لغرفتها، راميًا إياها على الأرض السيراميكية الصلبة، وبعدها صعد صوته مُتوعدًا: خليكِ مرمية هنا زي الكلاب من غير لا أكل ولا شُرب، وأنا هكسرك وأكسر مناخيرك قُريب يا بنت أمك.

ورغم حالة الذُل المُسيطرة عليها، قررت رد إعتبارها قائلة بنهيج ووجهها ينزف الدماء من كل مكان: على الأقل مش بنت أمك أنت.

فقدَ سمير أعصابه مرة أخرى، وبكل غِل موجود بداخله إنهال عليها بالضربات والركلات مُجددًا، ظل يضرب بها وكأنه أصبح حيوانًا لا يعلم هوية تلك المُستلقية أمامه، وكأنها ليست ابنته من دمه ليفعل بها كل هذا، وبعد فترة ابتعد عنها بعدما أنهى شُحنة غضبه تاركًا إياها فاقدة للوعي لا تشعر بالحياة ولا بما حولها.

عاد الرجال إلى المنزل جميعًا ليجدوه فارغًا يعم بالصمت على غير العادة، نظر آلبرت حوله مُتحدثًا بتعجب: عساه خير؟ ما هذا الصمت الغريب الذي يعم أرجاء المنزل؟
أجابه ستيفن بسخرية: أخشى أن تكون الفتيات قد قتلن بعضهن أو ما شابه.
ارتمى آلبرت على الأريكة بإنهاك قائلًا بتمني: سيكون هذا عظيم حقًا.
تصنع فور التعب ثم استأذن من أخواته قائلًا: سأدخل لأرتاح قليلًا، رأسي يكاد أن ينفجر.

أومأ له إخوته، فضربه آندريه على كتفه بخفة أثناء قوله الداعم له: تُصبِح على خير أخي، إن أردت شيئًا ناديني فقط.
أومأ له فور بإمتنان، ثم ذهب تاركًا أخواته ينظرون له بشفقة، تنهد ستيفن بتعب أثناء قوله الحزين: فور لم ينسى ولن ينسى، هو أكثر المُتضررين بيننا.
نفخ ليونيد بضيق أثناء قوله المُختنق: كان قريبًا من إيلينا للحد الذي يجعله حزينًا العمر بأكمله.

ابتلع الشباب تلك الغصة التي تشكلت بحلقهم مُتنهدين بضيق، يبدو بأن تلك الليلة ستكون الأصعب على سبعتهم، الجميع يُعاني ويُخفون مُعاناتهم خلف قناع البرود والقسوة.

وبالداخل. بمجرد أن أغلق فور الباب خلفه حتى شعر بعبراته الساخنة تهطل بغزارة على وجهه، خلع معطفه وبعدها حذائه ثم تمدد على الفِراش علَّه يستريح قليلًا وينسى ما مرَّ به، لكن ما حدث منذ عدة سويعات قليلة يمر أمام ناظريه بلا شفقة، والدته التي أنجبته كادت أن تقتله! كادت أن تُنهي جميع الذكريات القديمة مع إطلاقها لرصاصة واحدة لتستقر في صدره، وبتلك اللحظة تحديدًا تمنى لو أنها أصابته حتى لا يشعر بكل ذلك الحُزن الذي يشعر به الآن.

أنفاسه كادت أن تُزهق، وروحه تنخلع من الألم، ومن بين موجة ذكرياته الحزينة أمسك بالوسادة ليضعها على وجهه حتى لا يستمع له أحد، وبعدها انفجر في البُكاء المرير، آلام قلبه كادت أن تقتله، وماضيه يُعذبه، وحاضره يكاد أن يقضي عليه، حتى شعر بأن تلك الليلة ستكون الأخيرة له من شدة حُزنه.

فُتِح الباب فجأة ليطل من خلفه قاسم الذي دخل ليُبلغه بالأخبار السعيدة، لكن رؤيته له بكل ذلك الإنهيار جعل فؤاده ينبض برعب قبل أن يركض إليه وهو يسأله بفزع: فور مالك إيه اللي حصل؟
جلس قاسم جانبه، ليرتمي فور داخل أحضانه أثناء مُحاولته بقدر الإمكان للسيطرة على شهقاته التي تخرج عالية رغمًا عنه، وبصوتٍ مُتقطع تحدث بصعوبة: لقد رأيتها، أمي. كادت أن تقتلني. أنا أكرهها قاسم. أنا أكرهها حقًا. ل.

منعه قاسم من استرسال حديثه الذي يُقَطِّع نياط القلب قائلًا: ششش. خلاص. انسى. انسى يا فور علشان تعرف تعيش.
هز فور رأسه بالنفي وبكاؤه يَتزايد بشكل مُخيف، حتى أيقن قاسم بأنه سيُصاب بذبحة صدرية لا محالة من شدة الحزن إن لم يتوقف عن البكاء!

وبتيهة شديدة ابتعد قاسم عنه ليرتمي فور على الفراش من خلفه، ولم يصمت أو يقل بكائه أيضًا، ورغم أن الحل الذي وجده قاسم سيُصيب استنكار مَن يراه؛ إلا أن هذا هو الحل الوحيد الذي يلجأ إليه حين تضيق به الطُرق وتقسو عليه الحياة، ألا وهو القرآن الكريم.

أمسك قاسم بجهاز الراديو الصغير، ثم قام بتوصيله ليبدأ القاريء بتلاوة سورة البقرة بصوتٍ عذب مُريح للأنفس، ثم جذبه قليلًا وبعدها جذب فور لأحضانه يُربت على ظهره ليُهديء من روعه، وبالفعل بعد مرور عشر دقائق تقريبًا كانت شهقات فور قد هدأت تدريجيًا، لكن أحيانًا جسده كان يشنج تشنجات خفيفة أثر طول فترة بكاؤه، حينها كان قاسم يرفع من صوت جهاز الراديو لتتغلغل الآيات بين ثنايا قلبه لتُربت على فؤاده المُنهك والباكي.

بعد مرور نصف ساعة أخرى. كان فور قد ذهب في ثباتٍ عميق، ليبتسم له قاسم بحنوٍ بالغ ثم مدده على الفراش من خلفه وبعدها سحب عليه الغطاء الثقيل ليُغطي جسده من برودة الأجواء، وقف مُعتدلًا جانبه لكنه انحنى قليلًا مُقبلًا جبينه بحزنٍ على حالته وبعدها ذهب، ذهب وترك صوت القرآن بجانب أذنه ليُصاب بالراحة والسكينة.

عادت سهيلة إلى المنزل ثم أبدلت ثيابها وهزت رأسها بملل، نظرت للساعة فوجدتها الرابعة والنصف عصرًا، وهي حتى الآن لم تُؤدي فريضتها! نفخت بتعب ثم همست لذاتها بإنهاك: ياربي المغرب قرَّب يأذن وأنا مكسلة أصلي أوي.
شعرت بعيناها تنغلق تدريجيًا فقررت أن ترتاح قليلًا على الفِراش وبعدها ستُصلي، ظلت خمس دقائق على وضعيتها تلك تعبث بهاتفها دون فعل أي شيء، لكن قاطعها رنين هاتفها وظهور اسم عائشة يُزين شاشته.

ابتسمت سهيلة بسعادة ثم اعتدلت وهي تُجيبها: عائشة وحشاني أوي.
أجابتها عائشة من الناحية الأخرى وهي تُجيبها بود: وأنتِ كمان وحشتيني يا قلبي، أخبارك إيه طمنيني عنك؟
ردت عليها سهيلة بنبرة عادية: الحمد لله أنا كويسة، وأنتِ أخبارك إيه؟
جائها رد عائشة بقولها: بخير الحمد لله في فضل ونعمة.
الحمد لله.

رددتها سهيلة بخفوت، قبل أن تُحمحم بتوتر وقد قررت الإفصاح عما يُؤرقها ويؤرق تفكيرها، لذلك تحدثت بتلعثم: عائشة أنا كنت عايزة أقولك حاجة.
استمعت إليها عائشة بإنتباه قائلة: اسألي اللي أنتِ عايزاه أنا معاكِ.

بدأت سهيلة الحديث وهي تشكو لها عن حالتها بصوتٍ بائس: بُصي أنتِ عارفة إني بحاول أجاهد نفسي بصعوبة، وإني بحاول على قدر الإمكان إني أحافظ على صلاتي، بس بيجي عليا أوقات بكسل أوي، بكسل بطريقة غريبة فللأسف بضطر إني مصليش.

كانت عائشة تستمع إليها حتى تحدثت هي مُعاتبة إياها: طيب ليه تأثري في صلاتك وأنتِ معاكِ حِصن منيع يحميكِ في يومك، هقولك على حاجة، دايمًا افتكري إن ممكن صلاتك تكون هي آخر حاجة صالحة في الدنيا أنتِ ممكن تعمليها، يعني مثلًا متخرجيش مع صحابك وتأجلي صلاتك، متقعديش مع قرايبك وتأجلي صلاتك، متجهزيش الأكل وتأجلي صلاتك، هل أنتِ عارفة قدرك ونصيبك فين؟ عارفة هتموتي إمتى؟ مش يمكن لقدر الله لو خرجتي مع صحابك وأجلتي صلاتك لحين العودة ممكن مترجعيش البيت وأنتِ صاحية؟ ممكن بسهولة تفقدي حياتك وتفقدي روحك وأنتِ مش مأدية فرض ربنا، وقتها هتقولي لربنا إيه؟ يارب أصل صحابي كانوا مستعجلين؟ يارب قرايبي كانوا عندنا في البيت ومعرفتش أسيبهم خمس دقايق أصلي فيهم؟

سقطت دموع سهيلة بندم، فأكملت عائشة بقولها: ما بلاش دا كله، أنتِ هتكوني مُستعدة لسؤال القبر؟ هتقولي إيه للملكين اللي هيسألوكِ عن فرض الصلاة؟ هتتحملي وجوههم البشعة اللي هيظهرولك بيها لو عملك سيء؟ هتتحملي لفة التعبان حول جسمك وضغطه بسبب نسيانك لصلاتك؟ هتتحملي تشوفي نار الآخرة؟ ولو الإجابة على كل الأسئلة دي لأ؛ فأنتِ محتاجة تراجعي حساباتك، محتاجة تفوقي علشان يوم القيامة لما نتوه من بعض وأسأل ربنا عنك ألاقيكِ في الجنة ونتجمع سوا.

ارتعشت شفتيّ سهيلة وعيناها تُنزِل دموعًا كثيفة، ثم أردفت بصوتٍ باكٍ مُتأثر: أنا بحبك أوي يا عائشة، بحبك أوي بجد.
ابتسمت عائشة بدموع وهي تُجيبها: وأنا كمان بحبك أوي يا سهيلة، ويشهد ربنا إني من وقت ما شوفتك وأنا معتبراكِ أختي.
مسحت سهيلة دموعها وهي تبتسم بسعادة، ثم أردفت بصوتٍ مازح مُتحشرج: ربنا يديمك ليا، كفاية لَك بقى أنا راحة أصلي.

ضحكت عائشة بسرور، ثم أردفت قبل أن تُغلِق الهاتف معها: اذكريني في دعائك اوعي تنسي.
أجابتها سهيلة بحب: من غير ما تقولي والله، سلام.

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة