رواية حارة القناص الجزء الأول للكاتبة شروق حسن الفصل الثامن والعشرون
صعد قاسم لشقته وهو يزفر بضيق حُزنًا على صديقه، فتح باب الشقة فوجد الصمت يعم المكان، يبدو بأن صهيب قد أخذ زوجته ثم ذهب مثلما قال له منذ قليل، دخل أولًا إلى المرحاض ليغسل يده ووجهه، نظر للمرآة فضحك ساخرًا على فِعلته تلك، فمنذ أن انتقلت أهلة للعيش معه باتت تلك هي عادته أيضًا.
انتهى من اغتساله ثم جفف يديه ووجهه في المنشفة القُطنية المُعلقة، وبعدها اتجه إلى غرفتها المُضاءة، دخل ليجد أهلة تُدندن مع كلمات الأغنية التي تصدح بصوتٍ منخفض أثناء طيّها للملابس: ياما عيون شغلوني.
ارتسمت ابتسامة طفيفة على ثغر قاسم أثناء اقترابه منها رويدًا حتى بات خلفها مُباشرةً، لينحني بظهره قليلًا أثناء سؤاله العابث لها: وعيون مين اللي شغلوكِ يا هولا؟
انتفضت أهلة في مضجعها بفزع لتنظر خلفها بأعيُن مُتسعة من الخوف، لكنها هدأت قليلًا عندما وجدت قاسم بإبتسامته الهادئة، زفرت براحة قبل أن تضع يدها على صدرها مُردفة بعتاب: حرام عليك يا قاسم قطعتلي الخَلف.
اقترب منها قاسم ضاحكًا، ثم أمسكها من كفها يسحبها خلفه لتجلس على الفِراش مُجددًا وهو جلس أمامها كذلك، لم يترك يدها أو يُبعدها، بل ألَّح على سؤاله بنفس العبث قائلًا: مقولتليش برضه. عيون مين اللي شغلوكِ؟
أرجعت خصلاتها للخلف بثبات، ثم أمسكت بقطعة أخيرة من الثياب وبدأت في طيّها أثناء إجابته: مش عيون حد، أنا بحب الأغنية مش أكتر.
غمزها مُشاكسًا إياها أثناء قوله الماكر: يا بختها.
هي مين؟
تسائلت بتعجب، ليُجيبها هو على الفور: الأغنية.
ابتسمت بإتساع وهي تُحاول تلاشي النظر إلى عينيه المُربكة، ثم هبّت من مكانها حاملة صف من الثياب لتقوم برَصُّه داخل خِزانة الملابس.
وما إن وقفت وأُتيحت له الفرصة لرؤيتها كاملةً؛ حتى فتح عيناه بصدمة وهو يُشير للثياب التي ترتديها مُتسائلًا بإندهاش: هو مش دا السويت شيرت بتاعي؟
وضعت أَهِلَّة الثياب داخل الخزانة ثم استدارت له بعد أن ابتسمت بإتساع، لتوميء له بالإيجاب أثناء فتحها لذراعيها لتُريه الملابس: أيوا، عجبني أوي فقررت ألبسه ولما عجبني مقلعتهوش.
وقف قاسم من مكانه مُتخصرًا أثناء قوله الحانق: والله؟ ومين سمحلك تلبسيه بقى إن شاء الله؟ وبعدين أنا ملبستش الطقم دا غير مرة واحدة.
عدَّلَت أَهِلَّة من وضع القُبعة المُلحقة بالتيشرت، ثم رفعته لتضعه فوق خصلاتها أثناء قولها المُتكبر: فدايا يا أخ قاسم، وبعدين بما إننا اتجوزنا فهدومك هي هدومي يا جدع.
رفع قاسم إحدى حاجبيه بإستنكار مُتشدقًا بحنق: ودا بحُكم مين دا إن شاء الله؟
رفعت أَهِلَّة وجهها بترفع مُجيبة إياه: حُكمي أنا.
فتح قاسم فاهه ليتحدث؛ لكن قاطعه أصوات الرعد التي صدحت عاليًا في الأرجاء، تلاها صوت الأمطار الغزير يسقط على بلاط الشُرفة مُصدرًا صوتًا قويًا بعض الشيء، نظر قاسم ل أهلة قائلًا بإبتسامة واسعة مُتناسيًا حنقه منها: ادعي دعوة بتتمنيها من قلبك، أبواب السما كلها مفتوحة دلوقتي.
نظرت له أهلة بتردد لاحظه، لتجده يقترب منها ثم سحبها خلفه حتى وقف أمام زُجاج الشُرفة التي تعكس مظهر السماء والقمر الذي يختفي بتدلل أسفل الغيوم الرمادية وكأنه يخشى الظهور خجلًا! ارتعش جسد أهلة عندما وجدت قاسم يهمس في أذنها ببحة رجولية جذابة:
متفكريش في أي حاجة دلوقتي وادعي بكل اللي نفسك فيه.
أومأت له أهلة بصمت، لينظر هو بدوره إلى السماء وشفتيه تتحرك بما لا يُسمع، أعطى دعواته للخالق عز وجل وهو سينتظر منه الإجابة بثقة عاجلًا أو آجلًا، وبعد أن أنهى قول ما في جبعته، همس بدعاءٍ أخير قائلًا:
واجعلها لي نعيمًا وجنةً أُشفى بها عِند حاجتي، وتقبَّل منها يا الله دعاؤها ولا تُخيّب ظنون عبدٍ أتاك ركوضًا.
فتح عيناه ليجدها تُغلق عيناها ويداها تستقر عِند موضع قلبها، ناهيك عن تلك الإبتسامة التي تُزين ثُغرها، بعد وقتٍ من الصمت؛ فتحت عيناها هي الاخرى لتجده مُستندًا على حافة الشُرفة بكتفه يُطالعها بحنان أثناء تربيعه لذراعيه أمام صدره، لم تعرف بما تتحدث لتجده يقول بمزاح: لأجل الجو الجميل دا هسامحك علشان أخدتي السويت شيرت بتاعي.
ردت عليه ساخرة: وهيهون عليك؟
كل حاجة تهون قُصاد عيونك.
قالها دون أن يعي لتلك الكلمات التي خرجت من فاهه، لكنه أراد قولها ولا يعلم لماذا! ابتلعت ريقها بتوتر عقب حديثه ثم أردفت بخجل: هروح أعمل لينا حاجة سُخنة علشان تدفينا.
هربت من أمامه مُسرعة تاركة إياه ينظر لأثرها بضحكات خفيفة، وعندما اختفى أثرها؛ عاد هو بأبصاره نحو الخارج ليشرد بقطرات المياه التي تشكلت بكثافة من الخارج، الحاضر مُبهم بالنسبةِ إليه، وهذا أكثر ما يؤرقه.
اتجه قاسم لأحد الأدراج الخاصة به، ثم انتشل من داخله جهازًا غريب الشكل يتوسطه زرًا أحمر اللون بشكل مُميز، لتتشكل ابتسامة خبيثة على ثُغر قاسم ثم ضغط عليه ببرود، تبعه همسه القائل بتشفي: بالهنا والشفا.
يُقال أن الشمس تصدح راقصة صباحًا في الأرجاء لتعم البهجة على سكان العالم، لكن ولوجها لغرفة تلك البائسة كانت بمثابة إنذارًا لألمٍ تشكل بقوة داخل عظامها، تأوهت مهرائيل بعنف أثناء إعتدالها من على الأرضية السيراميكية الباردة، نظرت حولها بتعجب؛ لتضرب ذكريات الليلة الماضية رأسها مُرغمة إياها على التذُكر، تشكلت الدموع بأعيُن مهرائيل ثم تحولت لشهقاتٍ عنيفة عقب تذكُرها، وبحسرة واضحة وضعت يدها على خُصلاتها فوجدتها مُشعثة للغاية، بل وقصيرة أيضًا!
حاولت الإعتدال في مكانها لكن آلام جسدها القوية منعتها من ذلك، لكنها لم تضعف أو تستسلم، بل حاولت عدة مرات حتى نجحت في الوقوف على قدميها مُجددًا، اتجهت نحو مرآة غُرفتها لتجد أن حالتها أصبحت بائسة للغاية، لتُغمض عيناها التي تُحاط بكدمة زرقاء كبيرة قبل أن تنفجر في بكاءٍ عنيف، هزت رأسها بيأس عندما ظنت مُجرد الظن بأن والدها سيُشفق عليها ويشتاق لوجودها هي وشقيقتها، لكن غيابهم لم يُزيده إلا قسوة وتوعد لكلتيهما.
تحاملت على ذاتها ثم اتجهت نحو خِزانتها لتنتقي ثيابًا غير تلك المليئة بالدماء التي ترتديها، وبالفعل اختارت ثيابًا سوداء تُلائم حالتها ومعيشتها المليئة بالخيبات، وبنفس البُطئ والثبات اتجهت نحو الكومود لتلتقط من عليه كوب الماء الكبير الذي يُوضع دائمًا بغرفتها هي وشقيقتها، ثم سكبت منه على كفها لتغسل به وجهها المليء بالكدمات، تأوهت بخفة عندما لامست المياه وجهها، وبألم مسدت بيدها على وجهها بخفة أشد حتى لا تلتهب جروحه.
وضعت المياه مكانها ثم أمسكت بعدة مناديل ورقية لتُجفف به وجهها بخفة شديدة، وبعدها اتجهت نحو المرأة مرة أخرى لترى إنعكاسها من جديد، ثيابها تغيرت لكن البؤس مازال مُرتسمًا ببراعة على محياها، ابتلعت ريقها بقهرة ثم أمسكت بفُرشاة شعرها لتُرتب خصلاتها الهوجاء التي باتت قصيرة كثيرًا، مما زاد من حسرتها وارتعاش شفتيها مُهددة إياها بهطول الدموع مُجددًا.
حاولت السيطرة على أنفاسها الهاربة، لتسحب نفسًا عميقًا ثم زفرته على مهل لتُهديء من روعها، وبعدها اتجهت نحو غرفة شُرفتها لتلمح الشوارع والطُرقات المليئة بالمياه، يبدو أن السماء بكت بؤسًا على حالتها ليلة أمس، ابتسمت ساخرة عندما لمحت والدها يخرج من باب المنزل، لتتجه مُسرعة نحو باب غرفتها لتفتحه بسرعة وتهرب قبل أن يأتي مُجددًا، لكن خابت أمالها عندما وجدته مُغلقًا بالمفتاح من الخارج.
ضربت على الباب بصراخ ثم صاحت بهستيريا: ربنا ينتقم منك، أنا بكرهك. بكرهك.
قالت الأخيرة بصراخ يتخلله الضعف الشديد، لتجلس على الأرض وتتكوم على نفسها في جلستها تبكي بخيبة على حالتها التي وصلت إليها بسبب ذلك المُتجبر المدعو بأبيها، لكن توقف بكاؤها فجأةً عندما تذكرت أمرًا هامًا للغاية، وقفت من مضجعها ثم هرولت إلى خزانة شقيقتها تفتحها بسرعة، وظلت تُبعثر بها حتى مرت عدة ثواني ليست بالكثيرة، وأخيرًا انفرجت شفتاها بسعادة عندما وصلت إلى مفتاح باب غرفتها.
التمعت عيناها بالدموع ثم اتجهت مُسرعة نحو الباب وقامت بفتحه، وجدت المكان مُبعثر بالخارج مما حدث بها ليلة أمس، لتبتلع تلك الغصة المؤلمة التي بحلقها قبل أن يأتي والدها وينهال عليها بالضربات الموجعة مرة أخرى، ثم هربت من المنزل بأكمله بعد أن جففت دموعها، هربت لمصيرها ومستقبلها الذي ستعيشه بعيدًا عن والدها المُستبد، كانت تتمنى أن تعيش معه مرحها وحبها ومُراهقتها، لكن دائمًا ما كان يُقابل كل هذا بالسخرية اللاذعة التي تُحبطها.
لذلك قررت البدء من جديد، هي تستحق حياة أفضل من تلك ومستقبل مليء بالشغف والحب، ستستكمل دراستها وتعمل، ستُواجه الجميع من أجلها هي، ستعمل على ذاتها حتى تُثبت للجميع بأنها الأفضل، وأن تلك هي نقطة البداية فقط ليس إلا!
ستظل عالق في تلك الغمامة التي حصرت ذاتك بداخلها، إن قُلت بأنك منبوذٍ غير محبوب؛ ستجد مئاتٍ من الألسنة ينفون حديثك، لكن لن تجد مَن يُساندك، المُساندة أفعالٌ لا أقوال، ذلك المُستنقع الذي تجمع به جميع أحزانك لن يُفيدك بشيء سوى إحزانك أكثر من اللازم، ذلك الخواء الذي يُسيطر على فؤادك ما هو إلا تدمير ذاتي بطيء، أتُحِب حالتك؟ أم تنتظر مَن ينتشلك من مقتلك؟
القلوب فارغة تحفر عن مشاعر، والمشاعر لم تزوره منذ عدة سنوات، منذ ذلك اليوم الذي شعر به باليُتم، عَلمَ بأنه أبله، أو ربما ساذج! فقدَ مشاعره وإحساسه، فقدَ الكثيرُ والكثير، تقدم ببطئ من مجلسها، لتتشكل ابتسامة شامتة على ثُغره عندما رآها بتلك الحالة التي أشعلت صدره سعادة، اقترب إيغور أكثر من مقعد إيلينا ثم تحدث بإبتسامة ساخرة:
مرحبًا بِكِ أيتها الخائنة! لم تسنح لي الفُرصة بمقابلتك ليلة أمس.
رفعت إيلينا أنظارها الغائمة إليه قبل أن تهمس بحقد: مرحبًا بك أيها ال.
انطلقت ضحكات إيغور العالية تصدح في الأرجاء عدة ثواني، قبل أن يتوقف فجأة عن الضحك وتتحول ملامحه للقسوة الشديدة، اقترب منها على بغتة مُسرعًا لتجده قد أمسك بخصلاتها يهزها بعنف وهو يهمس بفحيح: ذلك ال سيُريِك الآن يا حقيرة، أُقسِم بأن أرسُم الحسرة داخل عيناكِ.
ورغم الألم المُتملك منها أجابته بتبجح: لن تستطيع إيغور، أنا إيلينا ميشيل من الصعب كسري.
حقًا؟
تسائل بإستخفاف لتُبادله بأخرى مُتحدية، لذلك أخرج هاتفه من جيب بنطاله الرسمي ثم فتحه بتروٍ وظل يعبث به لدقائق، قبل أن تتوقف يداه عن التحرك، وبعدها أدار لها الهاتف ليُريها أحد المشاهد المجهولة، كانت السعادة تتسلل إلى حدقتاه عند رؤية معالم الصدمة مُرتسمة على محياها، ليسمعها بعدها تصرخ بإهتياج وهستيريا: أيها الحقير. أُقسِم بأن أقتلك أيها الوغد. انتظر فقط سأُدمر حياتك أيها ال.
قاطع وصلة سبابها وهو يُعاتبها بضيق زائف: تؤتؤتؤ إيلينا، لقد انحدرت أخلاقك يا امرأة! يبدو أن مُعاشرتك لحِفنة من الخنازير جعلتكِ مثلهم.
أنا سأُريك.
همست بها بنهيج وعلامات الصدمة مازالت مُرتسمة بوضوح على معالمها، ليُجيبها إيغور بإبتسامة جانبية مُتحدية: وأنا أريد أن أرى.
أنا هوديك في ستين داهية من اللي عملته في البنت دا.
أشاح بيده أمام وجهها بلامبالاة وهو يُجيبها بسخرية: وأنا عملت إيه يعني؟
ثارت ثورتها وأجابته بإهتياج وهي تُشير نحو الفتاة التي تجلس بإحدى زوايا الغرفة: بقى بتتشطر على بنت من جيل أولادك؟ عايز تعتدي عليها؟ قسمًا بالله لهجيب حق بنتي وأندمك على عملتك دي.
ضحكة ساخرة خرجت من بين شفتيه الغليظتين قبل أن يقول: لو عندك دليل اثبتي.
أجابته المرأة بدموع أثناء تحديقها بطفلتها الشاردة: أنا هرفع عليك قضية و أَهِلَّة هي اللي هتشهد ضدك.
من حق الكلام دا يا لولو؟
سألها بترقب، لتتجه إليه أنظار أهلة التي كانت في عمرها الثالث عشر حينها، ليتحول وجهها إلى الإرتعاد، ناهيك عن جسدها الذي ارتعش على بغتةٍ وهي تنفي حديثه بهلع نابع من قلب طفلة ذاقت المَرار على يديّ ذئب لم يعرف للرحمة طريق: لأ. لأ والله ما هقول حاجة لأ. لأ.
اتجهت والدتها إليها تنحني أمام جسدها ثم أردفت ببكاء: أهلة حبيبتي متخافيش منه أنا هحميكِ.
هزت أهلة رأسها برعب ثم انتفضت مُبتعدة عن يديها واتجهت تلتصق بباب الغُرفة التي شهدت مُعاناتها: لأ. لأ. أنت كدابة. أنا بكرهك. وبكرهه. انتوا. أنا.
ولم تكد أن تُكمِل حديثها حتى شعرت بعالم مُظلم يسحبها له، ارتفعت ضربات قلبها بخوف كذلك ازداد الإدرنالين بدمائها، تبعها توقف أنفاسها عن الصعود ثم صراخ والدتها بها التي هرولت بها إلى المشفى، استقبلوها الأطبِّاء مُسرعين وظلوا بالداخل حتى استمع الجميع إلى صوت صافرة توقف جهاز القلب عن العمل كُليًا!
انتفضت أهلة من نومتها تشهق بحدة ثم وضعت كفها على صدرهها تُقلل من ألامه، نظرت حولها برعب لتجد ذاتها جالسة بغرفة قاسم والذي يجلس جانبها مُحاولًا إيقاظها بشتى الطرق عندما استمع لهمهمتها أثناء نومها.
اقترب منها قاسم بقلق مُبعدًا خصلاتها عن جبينها المُتعرق، ثم تسائل بخوف: مالِك يا أهلة؟
لم تُجيبه، بل وضعت يدها على فاهها لتمنع تقيؤها، لكن محاولاتها بائت بالفشل عندما نهضت من مضجعها بسرعة ثم اتجهت نحو المرحاض راكضة لتُخرج ما في جوفها، أحلامها وذكرياتها باتوا يشكلون لها قلقًا وبلاء جديد لم يكن بالحُسبان، تلك اللمسات، والهمسات، والنظرات، التي كان يُوجهها رجل بالغ لطفلة مثلها لم تستطيع مواجهتها أو محوها من عقلها بتاتًا، بل دائمًا ما كانت العقبة الصعبة في طريقها.
شعرت بأصابع قاسم تُربت على ظهرها، وبعدها همسه القَلِق لها بأن تهدأ، وكالعادة عقب تقيؤها في كل مرةٍ تشعر بالدوار يُصيب رأسها، لتُحاول الجلوس على الأرض الصلبة بهدوء، لكن قبل أن يصل جسدها ويُلامس الارضية الباردة؛ كان قاسم قد أمسك بها جيدًا ثم حمل جسدها الصغير ليتجه به نحو الخارج.
لم تستطيع المقاومة والحديث، بل استسلمت واضعة رأسها على صدره موضع فؤاده لتستمع إلى نبضاته: قاسم!
نادته بصوتٍ مُنهك لكنه لم يسمعه، بل أكمل طريقه نحو الغرفة حتى وصل إليها ودلف لها ليضعها على الفراش برقة وكأنها ماسة يخشى كسرها، جلب من جانبه عدة مناديل ورقية ثم جفف به فمها المُلوث دون أن يشعر بالإشمئزاز منها أو يدَّعي ذلك، وبعدها ألقاه في سلة المُهملات واستدار لها، نادته مرة أخرى بضعف قليلًا ما تُظهره له: قاسم!
انتبه لها ولهمسها الذي آلم وجدانه، ليُعيد خصلاتها بحنان مُربتًا عليها أثناء رده على مُنادته: أنا معاكِ.
أنا أسفة.
تسائل بحنان: على إيه؟
لا تعلم على ماذا تعتذر، لكنها أرادت الإعتذار له عن تحمله لها وهو ليس مُرغم على ذلك، لذلك أجابته بإنهاك: على تعبك معايا وو.
قاطع حديثها وهو يجذبها لأحضانه مُقبلًا رأسها بحنان، ثم أجابها أثناء إحاطته لخصرها لتسنح له الفرصة لتقريبها منه:.
لو كل التعب زي تعبك فأنا هبقى مبسوط.
مريضة وسواس قهري كيف لها بالإبتعاد والإشمئزاز منه إن كان مُلملمًا لألامها! عطوفًا، حنونًا، ومُحبًا لمرضها! هل بعد ذلك تبتعد وتشمئز منه؟ وإجابةٌ على ذلك السؤال فلقد أحاطت به هي الأخرى لتستشعر وجوده ودفئه.
تشكلت ابتسامة لطيفة على ثُغر قاسم من فعلتها التي أشعرته بثقتها العمياء به، وبمداعبة؛ قام بقرص وجنتها قائلًا لها بضحك ومشاكسة: لأ إحنا اتطورنا خالص وبصراحة كدا أنا راجل وبتكسف.
رفعت أنظارها له ببلاهة ثم سألته بعدم فهم: بتتكسف من إيه مش فاهمة؟
وهُنا تاهَ في عينيها المُخدرة لأعصابه، ليُجيبها بهمس: عينيكِ. بتكسف من جمال عينيكِ.
اِحمرت وجنتيّ أهلة بخجل شديد، ثم أجابته هامسة: الله يباركلك.
وتلك المرة دفعها بحنق متشدقًا: ولسانك. لسانك بيجلطني من ردوده.
قهقهت عاليًا أثناء إعتدالها في جلستها، ثم أردفت بمشاكسة: مالك قموصة كدا يا قاسم؟
ياختي سُكر! قولي قاسم كدا تاني؟
أردف بها بعبث، لتهز رأسها بالنفي وهي ترفع رأسها بغرور: لأ طبعًا، أنا بقولها وقت ما بكون عايزة.
هز كتفه بلامبالاة أثناء قوله الخبيث والمُربك: ماشي يا ستي، بكرة الجميل يميل.
حمحمت بجدية لتُداري به خجلها، لتقول بعدها بهدوء: أنا هروح أعمل الفطار.
نفى برأسه أثناء إتجاهه إليه، حتى وقف قِبالتها مُمسكًا بكف يدها يضغط عليه بقوة ليحتويه، قبل أن يتشدق قائلًا: لأ مش دلوقتي، تعالي أوريكِ حاجة هتبسطك.
طالعته بإنتباه وهي تتسائل بفضول: حاجة إيه ها! ها! ها! ما تقول بقى.
قهقه ضاحكًا ثم سحبها معه حتى جلسوا على الأريكة أمام الطاولة الموضوع عليها الحاسوب الخاص ب قاسم، ليُجيبها أثناء فتحه له وتشغيله لأحد الفيديوهات: عايزك بقى تسمعي وتتمزجي كدا.
اتجهت أنظار أهلة نحو شاشة الحاسوب التي عرضت حريقًا هائلًا لأحد الأماكن التي لا تعلم هويتها حتى الآن، تبعه صوت المُذيعة التي يُحيطها الفوضى والأصوات المُتداخلة تتحدث بصوتٍ عملي وجاد للغاية:.
وتلك آخر الأخبار التي وصلتنا عن نشوب حريقٍ هائل ب شركة الأرماني للسياحة، يبدو أن تلك العائلة مُستهدفة من إحدى الجماعات الإرهابية التي لا تنفك عن تركهم وترك أموالهم، وخسارة عائلة الأرماني لتلك الشركة تعني خسارة طائلة في ثروتهم العريقة، والتي بدأت تنخفض تدريجيًا عقب الأزمات التي يمرون بها، فهذا ثالث حريق ينشأ في ممتلكاتهم، مما أدى إلى إصابة رجل الأعمال المشهور صفوت الأرماني بأزمة قلبية حادة أُنتُقِل على أثرها إلى المشفى الخاصة بعائلته.
أغلق قاسم حاسوبه بعدها ونظر إلى أهلة لينظر إلى ردة فعلها، ليجد ابتسامة واسعة ترتسم على محياها، ناهيك عن لمعة عينيها التي تظهر واضحة الدالة على سعادتها الشديدة، التفتت إليه أهلة تُطالعه بنظرات فَرِحة أثناء قولها: أنت. أنت اللي عملت كدا؟
انتقلت إليه سعادتها تدريجيًا ولم يتردد ثانية واحدة في الإيماء لها، وعلى بغتة وجدها تنطلق إلى أحضانه تُعانقه بقوة، وكأنها بذلك العناق اللطيف تستطيع التعبير عن سعادتها الشديدة بفضله، وتبع ذلك العناق قولها الهامس بإمتنان شديد وشُكر: شكرًا بجد، أنا مش عارفة أقولك إيه غير. غير ربنا يخليك ليا.
أغمض عيناه براحة مُتلذذًا من قُربها، ولا إراديًا أحاط بخصرها ليُقربها منه أكثر، تبعه قوله الهامس بتنهيدة أتت من أعمق نقطة موجودة بفؤاده: ويخليكِ ليا يارب.
ظلت على حالتها تلك عدة دقائق، تُعانقه ولا تُريد الإبتعاد، وكأنها وجدت ملاذًا بعد ضالتها، مأمنها بعد خوفها، طريقها بعد تيهتها، وشعورًا بعد جمادها، لكن هو كان يُمثل لحياتها أكثر من ذلك، هو مصدر بهجة لم تدخل لحياتها من قبل، أتى هو على هيئة إنتقام سخيف، وتدريجيًا بدأ يتحول لشيءٍ أكبر من ذلك، شيء لا يعلمون هويته سوى أنه شعور لذيذ يُدغدغ أفئدتهم التي أُنهِكت بفتاتٍ من الماضي.
ابتعدت عنه قليلًا حتى باتت عيناها قريبة من خاصته، ليرفع شفتاه مُقبلًا عيناها بشغف، تبعه صوته المُعاتب بقسوة: والله العظيم حرام اللي عينيكِ بتعمله فيا دا.
وهُنا ضرب إنذار الخطر بعقلها، أهلة يجب عليكِ الإبتعاد قبل الشعور بالإشمئزاز، إقترابه مُبالغ به ومشاعره كبيرة على تحمُلها، وهي لن تستطيع المُجازفة، وإن اقتربت إنشًا آخر ستتقيأ، لذلك ابتعدت مُسرعة قائلة بإرتباك: ال. الفطار. ه. قصدي هروح أجهز الفطار.
أومأ له ضاحكًا وفؤاده يسبها على ابتعادها المُفاجيء هذا، تابع اختفاؤها بإبتسامة طفيفة، وبعدها همس لذاته بسخرية: قال فترة مؤقتة قال، دا أنا شكلي وقعت على بُوزي ومحدش سمَّى عليا!
سحب نفسًا عميقًا من داخل صدره زافرًا إياه على مهل، ثم أردف مُتمتمًا بصوتٍ هامس: يخربيتك يا أَهِلَّة على بيت عينيكِ، هتوديني في داهية اللي يروح منها مبيرجعش.
يملأ القلب بالقسوة فيُصبح مُتحجرًا قاسي، القسوة لا تأتي مرةً واحدة، بل تأتي نتائج لأفعال صغيرة بدأت تزداد تدريجيًا، وهذا ما حدث معه تمامًا، بدأت قسوته وخداعه بحبه للمال، وبعدها سيطر عليه الجشع ليتحول من يحيى ذو القلب الليْن، إلى آخر إن وقف أمام مرآته؛ لن يعلم مَن هو.
جلس يحيى أمام مختار الأرماني الذي كان يحمل فوق كاهله هموم العالم بأكمله، وذلك عقب إنفجار المصدر الرئيسي لعمله السيء المُزخرف بأعمال شريفة ليُبعِد عنه الشُبهات، تحدث يحيى بصوتٍ جاد للغاية: متقلقش يا مختار بيه هنوصل للي عمل كدا في أقرب وقت، وصدقني وقتها أنا مش هرحمهم.
رفع مختار عيناه له بحدة قائلًا بغضب: لأ يا يحيى لأ، أنا عايز اللي عمل كدا حي، عايز أعذبه وأشرب من دمه قبل ما أنهيه من على وش الأرض.
أومأ له يحيى بخضوع قائلًا: أوامرك يا مختار بيه، وعلى بكرة بالكتير هكون وصلت للي عمل كدا.
أغمض يحيى عيناه بإنهاك، قبل أن ينظر إليه بتمعن ويتسائل بحذر: طيب وهعمل إيه في صوفيا؟
أشاح مختار بيده بلامبالاة وهو يُجيبه: خليها عندك يومين أنا مش طايق أشوف وِش حَد.
ارتسم الخبث على معالم يحيى ثم عاد بظهره للخلف وهو يهمس لذاته: شكلها هتحلو أوي معاك يا يحيى.
اعتدل في جلسته عندما استمع لصوت مختار الذي يتسائل بترقب: طيب و صادق؟ عِرفت أي معلومات عنه؟
ابتسم يحيى بغرور وهو يوميء له بالإيجاب، ثم أجابه بثقة: أيوا طبعًا وصلتله، والنهاردة هتسمع خبره.
ابتسم له مختار بإمتنان قبل أن يردف له بشكر: تسلم يا يحيى، مش عارف من غيرك كنت هعمل إيه!
وضع يحيى يده على صدره وهو يرد عليه بإحترام: ولا أي حاجة يا مختار بيه، دا أنا لحم كتافي من خيرك!
ودا العشم برضه.
قالها مختار أثناء إخراجه لرُزمة من الأموال الهائلة من درج مكتبه، ثم دفعها ل يحيى الذي نظر إليها بإنبهار، والذي بدوره إلتقطها مُسرعًا أثناء سؤالها المشدوه: دول كلهم ليا يا مختار بيه؟
أومأ له مختار بالإيجاب قائلًا: آه يا يحيى، وكل ما تثبت نفسك أكتر؛ كل ما هتلاقي قدهم مرتين تلاتة.
أمسك يحيى بالأموال ثم هبَّ من مكانه متشدقًا بإبتسامة سعيدة: تحت أمرك يا باشا، عن إذنك بقى أنفذ اللي حضرتك طلبته مني.
أشار له مختار بالذهاب، لينطلق يحيى مُتجهًا نحو الخارج بقلب يرقص من السعادة، رسم علامات الجدية ببراعة على وجهه أثناء إرتدائه لنظارته الشمسية السوداء، وصعد مُنطلقًا بسيارته نحو وجهته، وبالطبع قام بتجهيز سلاحه المليء بالطلقات ووجهه يتحول إلى القسوة مُجددًا، رغم أن رحلته لم تبدأ بعد!
بعد نصف ساعة وصل إلى وجهته، حيث مكان يُشبه الغابة إلى حدٍ كبير ومليء بالأشجار الكثيفة التي تُغطي مظهر السماء الغائم، نفثّ يحيى دخان سيجارته ببطئ يتلذذ بها، وبعيناه الحادتان دار بهما على أرجاء المكان، وبعدة مُدة قليلة رمى عُقب سيجاره بعد أن أطفأه هابطًا من سيارته بملامح حادة تُظهر سوء أعماله.
جهَّز سلاحه الموجود بجيب بنطاله الخلفي، وكذلك سكينهُ الموضوعة بحزام بنطاله الأسود، وبشر سار نحو ذلك المنزل المُتهالك الذي وصل إليه بعد خمسة عشر دقيقة من السير، وجد ثلاثة رجال يقفون على أعتاب المنزل أقوياء البنية، لذلك فكَّر في حيلة لإبعادهم، وبالفعل توصل إلى فكرة خبيثة ستتمكن من إدخاله بسهولة، أخرج من جيب بنطاله عود ثِقاب ثم أشعله في بعض أوراق الشجر المُتجمعة على الأرض، وانتظر قليلًا حتى انتبه أحدهم إلى الحريق، ليتجه إثنان منهم نحو مصدر الإشعال ووقف واحدًا منهم ليحرس المنزل، مما سهَّل عليه مُهمته ولو قليلًا.
دار يحيى من خلف الرجل الذي كان ينظر لأثر أصدقائه بقلق، وبحركة مُباغتة قام بتسديد ضربة من ظهر مسدسه على رأسه ليسقط فاقدًا لوعيه على الفور، سحبه بعيدًا ثم وضعه بأحد الأركان المُظلمة حتى لا يتم كشفه، ثم وبسلاسة قام بالولوج لداخل المنزل بسهولة وخفة، ليجد صادق مُكبلًا بالأحبال الغليظة وعلى وجهه يظهر معالم العنف والقسوة من خلال العلامات المتروكة عليه.
شعر صادق بصوت أقدام ليعتقد أنه قاسم أو آلبرت اللذان لا ينقطعان عن زيارته، وبالطبع تكون زيارة ودية لا يوجد بها أي أنواع من العنف أو الضرب، وهذا ما يظهر جليًا على وجهه!
تشكلت إبتسامة ساخرة على ثُغر يحيى الذي تحدث بصوتٍ خافت مُتهكم: وأنا اللي كنت جاي وناوي أضرب؟ أتاريك يا عين أمك خلصان ومفيش فيك حِتة سليمة.
قطب صادق جبينه بتعجب والإنهاك يرتسم بوضوح على عيناه، وقبل أن يُدرِك الوضع؛ وجد يحيى يُخرِج سلاحه من جيب بنطاله وابتسامة خبيثة ترتسم على ثُغره، قبل أن يردف بحسرة مُزيفة: مختار بيه حبيبك بيبعتلك السلامات وبيقولك مع السلامة يا صادق بيه.
أنهى حديثه تزامنًا مع إطلاقه على رأسه مُباشرة، ليميل رأس صادق على جسده فاقدًا الحياة، نفخ يحيى على فوهة مسدسه قبل أن يهمس مُتشفيًا بحقد: كلب وراح!
انتهى قاسم وأهلة من طعام الإفطار، ليقف قاسم أولًا من أمام الطاولة قائلًا وهو يمسح فمه بالمناديل الموضوعة عليها: أنا هقوم ألبس بقى علشان منتأخرش على رائد في محنته.
ضحكت أهلة بخفة ثم أومأت له وهي تُكمِل تناول طعامها: وأنا هخلص أكل وهقوم ألبس أنا كمان.
أومأ لها قاسم بإبتسامة طفيفة قبل أن يذهب من أمام ناظريها ليبدأ بإرتداء ثيابه، لكن وقبل أي شيء اتجه نحو غُرفة والدته ليراها، دلف إلى الغرفة ثم أغلقها خلفه بهدوء، وبعدها اتجه نحو فراش والدته الذي جلس بجانبها مُمسكًا بيدها، قبل أن ينحني على كفها ليُقبله بحنان، وبعدها همس لها قائلًا بشوق: كلها ساعات يا روح قلبي وهتعملي العملية، وأنا واثق إنك هترجعي أحسن من الأول.
لم يجد ردًا منها، ليتنهد بثقل قبل أن ينحني على جبينها ويُقبله بشجن، وبعدها خرج من الغرفة مُتوجهًا نحو خاصته ليبدأ في تبديل ثيابه.
وبعد ربع ساعة تقريبًا؛ كان قاسم قد انتهى من إرتداء ثيابه والتي كانت عبارة عن بنطال من اللون الأبيض ويعلوه قميصًا من اللون الأسود ذو الماركة العالية، صفف خصلاته بعناية وكاد أن يضع عطره المُفضل؛ لكنه توقف على آخر لحظة ولم يضعه عند تذكره لإشمئزاز أهلة من تلك العطور التي تُسبب لها التقيؤ.
خرج من الغرفة ليجد أهلة هي الأخرى قد خرجت من المرحاض وهي مُرتدية ثيابها كاملة، لكن لحظة! ذراعيها مكشوفان، رُكبتيها تظهران، وشعرها يتطاير خلف ظهرها بحرية هكذا؟ اللعنة.
وقفت أهلة مكانها بتعجب وابتلعت حديثها الذي كادت أن تُخرجه من فاهها عند رؤيته لنظراته المُثبتة عليها، قطبت جبينها دون الحراك، لتجده قد اقترب منها مُطالعًا ثيابها بنظرة شاملة وكأنه يُقيمها! شبَّك ذراعيه خلف ظهره، ثم دار حولها بخطوات ثابتة وهو يمط شفتيه بتقييم، وأخيرًا خرج صوته القائل بتفكير: امممم. هايل.
لم تفقه ما يتحدث عنه فكادت أن تتكلم حتى وجدته يدور حولها من الجهة المُعاكسة وبعدها تشدق بنفس النبرة: امممم. لأ فظيع.
وللمرة الثالثة على التوالي يقف مكانه على بغتة، ثم يدور على الجهة المُعاكسة وبعدها قال: رائع. رائع جدًا.
نفذ صبرها من تصرفاته البلهاء تلك من وجهة نظرها، ثم صاحت به بعصبية: فيه إيه يا قاسم ما تقف وتكلمني زي الناس!
توقف قاسم أمامها مباشرةً ثم تحدث بسخرية: يعني غلطانة وبجحة كمان! أنا مشوفتش في بجاحتك.
تأففت متسائلة بنفاذ صبر: غلطانة! يا جدع أنت بتتخانق مع دبان وشك؟
جعد قاسم وجهه بتشنج ثم دفعها من كتفها عدة دفعات خفيفة: يلا يا بت روحي غيّري البتاع اللي أنتِ لابساه دا واستري نفسك.
نظرت أهلة لثيابها بفمٍ مفتوح، ثم تسائلت بسخط: ومالها هدومي إن شاء الله؟
أشار قاسم لقدماها الظاهرة من أسفل الفُستان قائلًا بسخط: يعني مش شايفة كوارعك اللي باينة دي؟
لم تكد أهلة أن تُجيبه بعصبية من وقاحته المُفرطة معها؛ حتى أكمل حديثه وهو يُشير بيده بذراعيها الظاهران: ولا دراعاتك اللي فرحانة بيهم دول، إيه ناوية تطيري بيهم؟ وبعدين يا قادرة لو مش خايفة على منظرك خافي من السقعة، مش بتسقعي زي البني آدمين!
شددت أهلة على خصلاتها ثم قاطعته بصراخ عندما أوشك على بدأ حديث آخر: يا بني ارحم اللي خلفوني، أنا طبعًا مش هخرج كدا، أنا لسه هلبس بالطو طويل بطولي كله علشان الجو برد.
جعد قاسم جبينه بضيق ثم عاتبها برقة قائلًا: إخص عليكِ ومقولتليش ليه!
تشنج وجه أهلة بسخط ولم تجد داعي لإجابته، بل اتجهت نحو الأريكة تنتشل من عليها معطفها الطويل ذو اللون الأسود لترتديه فوق ثيابها بغضب ظهر على محياها، ذهب إليها قاسم ليُثبتها في مكانها، وهي قاومته والحِدة ترتسم بوضوح فوق حدقتاها، أكمل تعديل ثيابها وأخرج خصلاتها العالقة بالمعطف وبعدها وضع فوق رأسها القُبعة الخاصة بالمعطف ليتم تدفئتها بالكام.
قرصها من وجنتها بلُطف قبل أن يُشاكسها قائلًا: هولا زعلانة مني؟ وبما إن الإجابة آه فهاتي حُضن أخوي بريء أصالحك بيه.
ابتعدت خطوة للخلف لكنه لم يجعلها تبتعد أخرى عندما جذبها لأحضانها قائلًا بعبث: حُضن المُصالحة دا لذيذ أوي، دا غير إنك عاملة زي الدبدوب فالإحساس سُكر يا سُكر.
ابتسمت بإتساع؛ لكنها محت ابتسامتها بسرعة لتدَّعي الضيق والغضب، أخرجها من أحضانه ثم أحاط بذراعيها مُتحدثًا بلُطف: على فكرة أنا مش قصدي أضايقك، وأخدت بالي من الچاكيت اللي كان موجود على الرُكنة، بس أنا حبيت ألفِت نظرك لحاجة.
ابتلعت ريقها بتروٍ ثم تسائلت مُتعجبة: حاجة إيه؟
أجابها بإحباط زائف: يعني أنتِ مثلًا عمرك ما لبستي فستان زي دا وأنتِ قاعدة معايا، دايمًا محسساني إني عايش في الحقول بسبب الضفدع اللي أنتِ لابساهولي على طول دا.
فتحت أهلة عيناها بصدمة أثناء سؤالها الأبله: وأنت عايزني ألبس فستان زي دا وأنا قاعدة معاك ليه؟
تحول وجهه للسخط وهو يُجيبها مُستنكرًا: عشان نلعب صلَّح ياختي.
ابتعد عنها ثم اتجه نحو باب المنزل آمرًا إياها بسخط: يلا يا عنيا علشان منتأخرش، قال مش فاضل غير لواحظ اللي نحضرلها خطوبة.
كتمت أهلة ضحكاتها بصعوبة بالغة، ثم تبعته وخرجت من الشقة وهو معها، ومن الحين للآخر كان يُطالعها بنظرات ساخطة تُقابلها هي بعدم فهم زائف، ذلك الماكر يُريدها أن ترتدي له فساتين قصيرة؟ تبًا له ولنيته الخبيثة التي تُشبه تمامًا نظراته المُبعثِرة لكيانها.
ياللي عالترعة حوِّد عالمالح، وسطي بيوجعني من ليلة إمبارح...
وسطي بيوجعني من ليلة إمبارح.
كان هذا غناء رائد والذي يجلس وسط حِفنة من العجائز يُصفق بكِلتا يديه، وهم يُرددون خلفه بكل حماس غافلين عن علامات الحسرة المُتشكلة على وجهه بسبب إجبارهم له بالرقص والغناء معهم.
وسطي بيوجعني.
قالها بصدمة مُصطنعة، ليتسائلوا هُم بنفس الدهشة: من إيه!
فأكمل هو غنائه لاطمًا على وجهه: وسطي بيوجعني من رقص إمبارح.
ياللي عالترعة حوِّد عالمالح.
حاول رائد الهرب من بين أيديهم، لكن جدته كانت تجلس على الأريكة تُصفف خصلاتها بعناية وكأنها بالفعل عروس لم يسبق لها الزواج، بينما الكثير والكثير من العجائز يُحاوطونه من كل جانب حتى لا يتمكن من الهرب مُجددًا، لتتشكل معالم الحسرة والإحباط على محياه وهو يُردد باكيًا:
وياللي عالترعة ألطم يا غالي. شرفي بيتباع وسط العجايز.
تأوه بعنف عندما نال ضربة من عُكاز إحداهن وهي تَصرخ به لتُعنفه: إيه يا واد اللي أنت بتقوله دا؟ الأغنية مش كدا يا بأف أنت.
نفذ صبر رائد فانتفض من مكانه يصرخ به غاضبًا: بقولك إيه يا ولية أنتِ وهي! يمين بالله دا أنا أروح فيكم في ستين داهية.
ولم يكد يستوعب ما حدث؛ حتى وجد عكاز آخر يهبط فوق رأسه وأخرى تُعنفه بصوتٍ مُرتعش مُهتز: أنت قليل الأدب ومش متربي يا واد أنت، ما تشوفي الخدام بتاعكم يا لواحظ؟
استدار لها رائد بعنف فوجدها عجوز يحتل الشيب كل خصلاتها التي تظهر من أسفل حجابها الشفاف قليلًا، والتجاعيد تملأ كل جسدها، حتى أنه اعتقد بأنها قد هربت من إحدى المقابر كي تأتي لحضور خِطبة جدته فقط، تشنج وجه رائد بإستنكار فتخصر في مكانه وهو يشهق بردح ليرد على حديثها الأخير:
نعم نعم يا دلعاي؟ هو مين دا اللي خدام يا ولية أنتِ وهي، يا عواجيز يا قُرع، دا انتوا ناقص تتحنطوا في المتحف المصري يا شوية عجايز.
انتهى من حديثه وهو يتنفس بغضب، لكن غضبه تحول للقلق عندما لاحظ نظراتهم النارية التي يُطالعونه بها، ابتلع ريقه بصعوبة عندما وجدهم يُجهزون عكازهم الخشبية، ثم أردف ضاحكًا بتوتر: انتوا زعلتوا ولا إيه يا نسوان دا أنا بهزر معاكم!
هجوم.
كلمة خرجت من فاه لواحظ لتأمرهم بالهجوم عليه بسبب وقاحته وتطاوله في الحديث معهم، ليصرخ رائد بعلو صوته أثناء هربه الصعب منهم: يالهوي. إلحقني يابا بيعتدوا عليا. إلحق شرف ابنك يا حاج.
ووسط كل هذا كانت تَطاله الضربات من كل جانب حتى إستطاع أخيرًا دفعهم للخلف والنجاح في الهروب من براثنهم.
خرج من معركته بثياب مُشعثة بقوة، وخصلات شعر غير مُرتبة، ناهيك عن سرقة إحداهن لحذائه العزيز الذي ابتاعه مؤخرًا، ليردف بحسرة أثناء نظره لجوربيه المُختلفين واللذان كان يختفيا أسفل الحذاء:
يا فضيحتك يا رائد وسط الخلق! منك لله يا ستي، حسبي الله فيك يا عبدالقادر أنت وعيلتك كلها.
كل هذا كان أمام أعيُن أصدقائه اللذين وصلوا منذ عدة دقائق، حينها كانوا يُحاولون كتم ضحكاتهم بصعوبة، لكن عندما رفع أنظاره لهم وحدجهم بمعالم مُقتضبة؛ انفجروا ضاحكين أخيرًا، ضرب قاسم بيد أخيه صهيب الذي لم يتمالك ذاته أيضًا، وبجوارهم كان يقف أهلة، حبيبة، ملك، يمنى، لوسيندا، سهيلة، الجميع يضحك بلا إستنثناء، وما أثار ضحكاتهم أكثر هو صراخ رائد المُغتاظ بهم:.
مالك ياختي أنتِ وهو! اتعدلوا أحسنلكلوا بدل ما يمين بالله ألِم هدومي وأطفش من وشكم.
تمالك قاسم ضحكاته بصعوبة ثم اقترب منه مُحيطًا بكتفه وهو يردف بقهقهات عالية: مالك بس يا رائد يا حبيبي؟ مش بدل ما تفرح إنك قريب هيكون عندك عَم جديد؟
كان رائد ينتظر كلماته الداعمة، لكن عندما استمع لحديثه تشنج وجهه من الغيظ فدفعه بعيدًا أثناء صياحه الصارخ بهم: انتوا إيه اللي جابكم أصلًا؟ أنا معزمتش حد.
أجابه چون بإبتسامة واسعة بدت بلهاء بشكلٍ ما: نحن أتينا من أنفسنا، لا نحتاج لأن تُخبرنا عزيزي.
نفخ رائد بنفاذ صبر وهو يُطالع جميع الأوجه التي تكتم ضحكاتها بصعوبة، حتى رفع إصبع سبابته أثناء تحذيره الصارم لهم: لو شُوفت حد فيكم بيضحك هرميه ل لواحظ وأصحابها وهما يتصرفوا معاها.
تلك المرة تحدثت ملك وهي تُصفق بيديها بحماس: طيب أنا عايزة أغني معاهم وأرقص.
طالعها رائد بنظرات مُشمئزة أثناء ترديده لكلماتها الأخيرة: ترقصي معاهم؟ دول لو عضمة زيادة اتحركت من مكانها قولي عليهم يا رحمان يا رحيم.
اقترب منه صهيب ماددًا يداه بعُلبة من الحلوى أثناء كتمه لضحكاته: اتفضل يا صحبي، دي نُقطة ستك لزوم الخطوبة.
سدد له رائد نظرات حارقة، لتضع حبيبة يدها على ثغرها حتى لا تصعد ضحكاتها على الموقف بأكمله، حمحمت بجدية لتجد أهلة قد مالت عليها وهي تسألها بصوت خافت: عملتي اللي قولتلك عليه إمبارح؟
طالعتها حبيبة بتوتر قبل أن تنفي برأسها قائلة: بصراحة لأ.
جزت أهلة على أسنانها وهي تسألها بغيظ: ليه؟
حمحمت حبيبة بخجل قبل أن تُجيبها بتلعثم: اتكسفت.
تشنج وجه أهلة بسخط أثناء قولها الحانق: ياربي هتشليني! اتكسفتي من إيه يا بنتي! أنتِ عارفة أنا لو قُولت كدا ل ملك أو يمنى؟ كان زمانهم نفذوا اللي طلبته منهم وأكتر كمان.
ابتلعت حبيبة ريقها بخجل وهي تُفكر فيما عليها فعله، فأجابتها برقة وهي تعض على أظافرها بتوتر: طيب هحاول أعمل دا النهاردة، بس أنا مكسوفة أوي.
نكزتها أهلة من جانبها مُحاولة تخفيف خجلها: مكسوفة من إيه يا بنتي دا جوزك، وبعدين عادي يعني لو الدنيا اتأزمت أوي اعملي نفسك مُغمى عليكِ.
أومأت لها حبيبة بتفكير قائلة: حاضر. ربنا يستر.
بتتوشوشوا في إيه؟
قالتها لوسيندا على بغتة، لتنتفض الفتاتين بخضة من ظهورها المُفاجيء، ضربتها يمنى على معصمها بغيظ وهي تُعنفها قائلة: قاطعتيهم ليه يا باردة كنا عايزين نعرف بيتكلموا قي إيه؟
تشنج وجه أهلة بإستنكار وهي تُجيب كلتيهما: هنتكلم عن إيه ياختي أنتِ وهي يعني؟ الموكوسة منفذتش اللي إحنا اتفقنا عليه إمبارح.
جائت ملك مُسرعة من بعيد وهي تتسائل بفضول: مين الموكوسة؟ هو فيه هنا حد موكوس غيري؟
أجابتها لوسيندا وهي تلوي شفتيها بسخط: آه ياختي كلنا مواكيس أساسًا، فينك يا مهرائيل يا أختي! كانت علمتنا أصول الوكسة والخيبة من كُتر ما هي متخزوقة من اللي حواليها.
أجابتها أهلة ضاحكة: كلنا مهرائيل.
تدخلت حبيبة في الحوار مُقاطعة إياهم برقة: ما بلاش نتكلم عليها في غيابها يا بنات علشان متزعلش لما تعرف.
أحاطت يمنى بكتف حبيبة ثم تمتمت بحسرة: عيني عليكِ وعلى قلبك الأبيض ياختي.
أشارت ملك تجاه حبيبة قائلة: يا جماعة خسارة وجود البسكوتة دي معانا، دي ممكن تبوظ مننا وتنحرف.
وعلى ذِكر سيرة البسكوتة، أتى صهيب في تلك الأثناء ساحبًا زوجته لأحضانه أثناء نظراته المُتهمة المُوجهة حيث الفتيات: انتوا ملمومين حوالين مراتي كدا ليه؟ عايزين منها إيه يا شوية أوباش!
مصمصت ملك على شفتيها وهي تُجيبه مُستنكرة: مراتك عندك أهي ياخويا، لا فيها خدش ولا خُرم ولا حتى متلوثة، يعني بالصلاة على النبي أنت مستلم مراتك صاغ سليم.
أتى قاسم ليقف جوار أخيه من الناحية الأخرى، وبعدها تحدث قائلًا وهو يُشير إليهم بالهدوء: بالراحة عليها يا بنات لتفطس منكم.
أرجعت أهلة خصلاتها للخلف وهي تُجيبه بعتاب زائف: الحق علينا عايزين نعلمها حاجة للزمن!
ضرب صهيب على صدره أثناء شهقته المُنصدمة، ثم صاح متشدقًا بحسرة وهو يُمسك بوجه حبيبة الضاجرة: يا مصيبتي؟ تعلموها حاجة للزمن؟ شربوكِ سجاير ولا لسه يا بسكوتة؟
أجابته حبيبة مُبتسمة بإتساع: لأ لسه، بس ملك قالتلي...
قاطعها سُعال ملك وجميع الفتيات، مما زاد الشك بقلب صهيب الذي صاح مُستنكرًا: يالهوي يالهوي يالهوي، قولي حاحا كدا؟
تعالت ضحكات قاسم عاليًا وبجانبه چون والذي اقترب من لوسيندا أمام الجميع ليُقبلها من وجنتها دون خجل، ثم تحدث لها بلين: رفقًا بها لوسي، وابتعدي عن هؤلاء الحمقى حتى لا يُصيبنكِ بالإنحراف.
أومأت له لوسيندا بالإيجاب أثناء قولها الهامس: حاضر يا حبيبي، ولو عايزني أقطع علاقتي بيهم كلهم كمان قولي.
بصقت يمنى بزيف قبل أن تردف بوجه مُتجعد: صُحبة غدارة إسفوخس.
استدار لها چون مُطالعًا إياها بضيق أثناء قوله الساخط: ما بكِ يا فتاة تُحدثين زوجتي الرقيقة هكذا؟
أنزلت لوسيندا رأسها للأسفل وهي تتصنع الأسى: قولها يا حبيبي قولها، الناس بقت وحشة أوي.
طالعها چون بنظرات حنونة عاشقة، ثم ربت على كفها القابع بين يده قائلًا: لا تلتفتي لهم عزيزتي، فأنتِ الأجمل على الإطلاق من بينهم جميعًا.
نفخت سهيلة بغيظ مُصفقة بأيديها لتُفرق ذلك الجمع الهائل: يلا يا إخوانا من هنا علشان دي قاعدة ستات بس.
أمسك صهيب بيد حبيبة قائلًا برفض: لأ حبيبة مش هتقعد معاكم لوحدها أبدًا.
أمسكتها أهلة من اليد الأخرى وهي تقول بسخط: لأ طبعًا حبيبة هتفضل معانا وأنت اللي هتتكل على الله.
اغتاظ منها صهيب فجذبها له مرة أخرى أثناء تحذيره ل أهلة الغاضبة: أنتِ بالذات متتكلميش وإبعدي عن مراتي أحسنلك، أنا عارف إنك مش هتتهدي غير لما تبوظيها.
غضبت أهلة منه بقوة فجذبت حبيبة عنوة ودفعت بها نحو الفتيات اللواتي كانوا على أشد الإستعداد للهجوم على صهيب: بقولك إيه! اصطبح وقول يا صبح بدل ما أخلي اللي ما يشتري يتفرج عليك، مراتك هتفضل معانا سواء كان برضاك أو غصب عنك.
احتدت عينيّ صهيب بغضب حارق، فإستدار نحو قاسم يصرخ بغضب: ما تشوف مراتك يا قاسم وخليها تسيب مراتي في حالها!
طالع قاسم زوجته الغاضبة بعبث، ثم غمزها مُحييًا إياها على قوتها وثباتها: كفاءة.
تحول وجه أهلة من الوجوم إلى الضحك، ثم طالعت صهيب المُنصدم بإبتسامة شامتة أشعلت من غضبه، وبعدها أخذت حبيبة واتجهت هي والفتيات نحو الغُرفة الخاصة ب سهيلة للتجمع بها.
بعد ذهابهم، استدار صهيب ل قاسم الذي يُطالع أثر أهلة بإبتسامة طفيفة، ثم صاح به بحنق: وحياة خالتك يلا؟ بتفضّل مراتك عليا يا حيوان؟
اقترب منه قاسم حتى أمسكه من تلابيبه يهزه بقوة: أنا أخوك الكبير يا بغل أنت، يعني لما تيجي تتكلم معايا اتكلم بإحترام يا ديرتي.
تأفف صهيب بضيق ثم أشار نحو الغرفة التي دخل إليها الفتيات منذ قليل قائلًا: أنت عارف الباب دا؟ مخبي وراه بلاوي سودة، ومراتك هتكون هي السبب في كل البلاوي دي، ومش بعيد تعلم البسكوتة اللي حيلتي كيفية صُنع قُنبلة نووية في خمس دقايق.
قهقه قاسم عاليًا وسط إغتياظ صهيب منه ومن زوجته، ليُجيبه قاسم ببراءة: حرام سوء الظن دا يا صهيب ياخويا، دي أهلة دي ملاك ونازل الأرض بالغلط.
تشنج وجه صهيب بإستنكار وكاد أن يُجيبه؛ لكن قاطعهم صوت چون الذي أتى من خلفهم وأردف بضحك: يا شباب، رائد يُولول كالنساء في الخارج.
ضحك قاسم عاليًا أثناء قوله المُمازح: خطوبة سِتُه أثرت على عقله باين، تعالوا نشوف ماله بدل ما نلاقيه انتحر بعد شوية.
رمتني الرياح بشوقٍ مرير، أُصِبتُ حينها بعشقٍ فريد.
نظر آلبرت في ساعة مِعصمه بتأفف ينتظر مرور الثواني حتى تتحول الإشارة إلى اللون الأخضر، لتمر دقيقة كاملة وهو بنفس تلك الحالة من الإنتظار، وعند الإنتهاء انطلق مُسرعًا بسرعة عالية، لكنه توقف بغتةً عندما ظهرت من أمامه فتاة ذات خصلات قصيرة تُغطي وجهها خوفًا من دعسها، ليضغط آلبرت على أسنانه هامسًا بسخط: اللعنة.
قالها ثم هبط متوجهًا إليها وهو يسألها بترقب: هل أصابكِ أذى يا آنسة؟
أبعدت مهرائيل يدها عن وجهها بسرعة عندما استمعت لصوته الذي يُثير حنقها دائمًا، ليهمس آلبرت بتعجب من هيئتها المُختلفة كُليًا عليه: أنتِ أيها الجرو الصغير؟
وما إن اطمئنت مهرائيل على صحتها، حتى انفجرت باكية وهي تُصيح به ببكاءٍ غاضب: يا حيوان يا حقير روح ربنا ينتقم منك.
فتح آلبرت فاهه بصدمة، وازدات صدمته أكثر عندما تركته تلك القِزمة واتجهت نحو سيارته لتفتح بابها، ثم صعدت بها لتجلس على المقعد المُجاور له!
أغمض آلبرت عيناه بقوة حتى يتحكم في أعصابه الثائرة، ثم همس لذاته يضغط عليها: حسنًا آلبرت اهدأ قليلًا، ستضعها في أقرب مكب للقمامة لكن ليس الآن.
ردد تلك الكلمات على مسامعه ثم فتح عيناه مُجددًا واتجه نحو سيارته ليصعد إلى مقعده، وما إن جلس وأغلق الباب؛ حتى وجد صوت مهرائيل الباكي يصعد أثناء تنظيفها لأنفها بالمناديل الورقية، ورميها لقمامتها داخل السيارة! صرخ بها آلبرت بغضب حارق لم يستطيع التحكم به: أيها الجرو العَفِن اللعنة عليكِ وعلى معرفتكِ السوداء.
جففت مهرائيل عيناها الحمراء من البكاء، وبعدها أجابته بصوتٍ غاضب مُتحشرج: أنت بني آدم معندكش دم، دا بدل ما تخفف عني ولا تحضني علشان تهديني؟ فين الرجولة؟ فين المروءة؟ فين ال اااه.
صمتت عن الحديث عندما قاطعها بإنطلاقه بالسيارة بسرعة عالية للغاية أثناء صُراخها به: الله يخربيت أهلك هنموت؟ رجعوني لأبويا آخد العلقة التمام وأنام، أنا أسفة يابا.
لم يهتم آلبرت لها ولا لصرخاتها، بل بمجرد ما تأتي عيناه على كومة القمامة تلك يزداد غضبه ومعها تزداد سرعته وصرخاتها: يالهوي هموت، يابني يخربيت معرفتك يا بغل أنت.
قالت كلماتها بنهيج ودوار، خاصةً وأنها لم تأكل شيء منذ ليلة أمس، وضعت يدها على رأسها فأنتبه لها آلبرت الذي توقف بجانب الطريق وهو يسألها بترقب: ما بكِ يا فتاة؟ هل ستموتين؟
ابتلعت مهرائيل ريقها بتعب وهي تُطالعه بدوار، ثم أرجعت رأسها للخلف تستند على المقعد أثناء قولها: إلحقني بنص فرخة مشوية واتنين كيلو كباب وكُفتة بسرعة، هفطس منك.
لحظة صمت أتت من جهة آلبرت الذي طالعها بتشنج أثناء قوله الحانق: أنتِ فتاة حمقاء، ستأكلين عندما نصل للفتيات، لا أعلم كيف يتحملون غبية مثلك.
سددت له مهرائيل نظرة نارية من طرف عينها، ثم أغمضت عيناها مرة أخرى عن انطلاقه بالسيارة مُجددًا نحو منزل محروس، لتهمس في سرها بغيظ: روح يا بعيد منك لله، قليل الذوق والنظر.
خرجت يمنى من غرفة الفتيات وهي تضحك بخفة، لم تستطيع مشاركتهم المرح بسبب غياب يحيى عنهم منذ ليلة البارحة، أثار الأمر تعجبها وفضولها خاصةً وأنه لا يُجيب على اتصالاتها الحوحة عليه، لذلك قررت الذهاب نحو قاسم وسؤاله عليه حتى يطمئن قلبها.
اتجهت نحو الصالون فلم تجدهم، لكنها لمحت فور يهبط من الأعلى وهو يُدندن بكلمات أغنية من لغة غريبة على مسامعها، لكنها تجاهلت كل هذا واتجهت نحوه مُسرعة لتسأله: فور متعرفش قاسم فين؟
أجابها فور بإبتسامة هادئة أثناء إشارته بإصبعه نحو الأعلى: يجلس بالأعلى مع الشباب، أتريدين شيئًا؟
هزت رأسها بالنفي قائلة بإمتنان: لأ تسلم ربنا يخليك، أنا هسأله على حاجة بس.
أومأ بهدوء ثم تركها وأكمل هبوطه نحو الأسفل وهي صعدت للأعلى، وجدت الشباب جميعًا يتجمعون وكانوا (قاسم، صهيب، رائد، جون، ستيفن، ليونيد، آندريه، إيغور)، وما كادت أن تُنادي قاسم حتى استمعت إلى سؤال آندريه الهاديء: ماذا قررت أن تفعل بالمدعو يحيى؟
توقفت أنفاس يمنى عن الصعود وانتظرت لإستماع الحديث الدائر حول يحيى، زفر قاسم بضيق قبل أن يُجيبه قائلًا: مش عارف لسه، يحيى خدعنا كُلنا وطِلع أوسخ مما توقعنا كلنا، عِرف يضحك علينا وفهمنا إنه معانا وهو بينقل أخبارنا كلها ل مختار الأرماني، بس صبره عليا، ليه فوقة.
شهقت يمنى بعدم تصديق ثم اختبأت خلف الحائط حتى لا يُلاحظها أحد، وبدون إرادة ووعي منها هبطت دموعها بكثافة، هبطت للأسفل مرة أخرى بأقدام مُرتعشة، ثم دلفت نحو المطبخ حتى لا يراها أحد، استمعت إلى صوت صفير بأُذنيها وحديث قاسم يتردد بقسوة داخل ذكرياتها ليجلدها بعنف على ثقتها ب يحيى.
يحيى؟ يحيى خائن؟ ظلت تتسائل بعدم تصديق بينها وبين ذاتها وهي تُحاول أن تُكذِّب الحديث الذي استمعت إليه للتو، لكن. لِمَ سيكذب قاسم في أمرٍ كهذا؟
أمسكت هاتفها وأعدلته ثم طلبت رقم يحيى، مرة واثنان وثلاثة لم تمل من مهاتفته والإتصال به، وأخيرًا جاءها صوت يحيى الهاديء: ألو يا يمنى؟
حاولت يمنى بقدر الإمكان أن تجعل صوتها هادئًا وهي تسأله: أنت. أنت فين يا يحيى بتصل عليك من إمبارح؟
نظر يحيى ل صوفيا المُستلقية على الفِراش بجانبه، ثم أردف بزيف: كان ورايا شغل ضروري يا يمنى ومكنتش فاضي، فيه حاجة ولا إيه؟
ابتلعت يمنى ريقها بصعوبة شاعرة برغبة عارمة في البكاء، ثم أجابته بصوتٍ خرج مُتحشرجًا باكٍ رغمًا عنها: أنا عايزة أشوفك دلوقتي يا يحيى.
اعتدل يحيى في جلسته ثم هبط من على الفراش ليتجه مُسرعًا نحو الخارج، ثم أجابها بقلق: مالك يا يمنى في حاجة حصلت؟
هزت يمنى رأسها بالنفي وكأنه يراها، وبعدها قالت بخفوت: متضايقة وعايزة أشوفك يا يحيى، ينفع ولا مش فاضي؟
زفر يحيى بتفكير، وبعد ثوانٍ من الصمت أردف موافقًا: تمام يا يمنى نتقابل فين؟
أخبرته يمنى بالمكان المُتفق عليه، ثم أغلقت معه بمعالم وجه لا تنم على الخير أبدًا، مسحت دموعها بظهر يدها هامسة بصوتٍ مبحوح باكي: أنت حيوان يا يحيى. حيوان.
رددتها مع ذاتها عدة مرات بقهر، وبعدها استدارت نحو أحد الادراج حتى التقطت سكينًا تأكدت من كونه حادًا ثم وضعته داخل ثيابها حتى لا يلفت الإنتباه.
خرجت من المنزل ثم هبطت الدرج مُسرعة وقلبها يُنهيها عن فعلتها التي تُفكر بها، لكن عقلها يأبى الرضوخ والإنسياق خلف عاطفتها مُذكرًا إياها بأنه خدعها وأوهمها بالحب ليحصل على مُراده، أخبرته مِرارًا وتكرارًا بأنها تخشى الخذلان وتخافه، وهو جاء ليُخذلها ذابحًا إياها بسكينٍ تالم نحر عُنقها بلا رحمة بعد أن رفعها عاليًا في السحاب جاعلًا إياها تُحلِّق كطائر حصل على حُريته.
وأخيرًا وصلت إلى المكان المُتفق عليه، مكان يُشبه التل في ارتفاعه يمكن من خلاله رؤية مناظر المدينة الخلابة خالٍ من المارة والزائرين، هبطت من سيارتها لتجده يقف موليًا إياها ظهره، لتبتلع تلك الغصة التي بحلقها وتركت خصلاتها تطير بحرية بفعل الهواء البارد، اقتربت منه حتى أصبحت خلفه مُباشرةً ليستدير لها مُسددًا إليها ابتسامة حنونة عادةً ما كانت تجعل فؤادها ينبض سعيدًا، لكن الآن فؤادها ينبض فزعًا وخوفًا من القادم!
تحدث يحيى مُتعجبًا من حالة الصمت التي تلبستها فجأة قائلًا: مالِك يا يمنى بقالي ساعة بكلمك مبترديش ليه؟
خرجت يمنى من شرودها وهي تسأله فجأة: قولي يا يحيى! أنت فعلًا بتحبني؟
ورغم تعجب يحيى من سؤالها؛ إلا أنه أومأ دون تردد: مبحبش في الدنيا قدك يا يمنى، صدقيني أنت الشيء الحِلو الموجود في حياتي.
يا الله! كيف لبشرٍ أن يكذب بكل تلك البراعة؟ سقطت دموعها رغمًا عنها وهي ترد عليه بيأس: وأنا كمان بحبك. بحبك أوي للأسف.
اقترب منها يحيى بقلق مُحيطًا بوجهها بكلتا يديه، ثم سألها بقلق يخفق فزعًا: يمنى احكيلي متقلقنيش عليكِ؟
لم تُعطي لسؤاله أي إهتمام؛ بل أكملت هذيانها مُكملة بدموع لم تتوقف: بس. بس مهما كانت درجة حُبي ليك فأنا عندي استعداد أدوس على قلبي لو فكرت مُجرد التفكير إنك تخوني أو تضحك عليا.
وعقب انتهائها شعرت بسيلٍ من الدماء الدافئة تُلطخ كف يدها المُمسكة بالسكين الموجود داخل معدته!
أخرجت السكين ثم أدخلته مرة، واثنان، وثلاثة، وبعدها ابتعدت عنه مُطلِقة العنان لشهقاتها الحادة بالصعود، وهو وضع يده على معدته أثناء فتحه لعيناه بصدمة، ثم سقط على رُكبتيه ومعها سقطت هي لتسقط على الأرض الرملية تبكي بقهرة، سدد لها نظرة مُعاتبة أو هكذا ظنت قبل أن يقع على جانبه الأيسر فاقدًا لكل معاني الحياة.