قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية حارة القناص الجزء الأول للكاتبة شروق حسن الفصل التاسع والعشرون

رواية حارة القناص الجزء الأول للكاتبة شروق حسن الفصل التاسع والعشرون

رواية حارة القناص الجزء الأول للكاتبة شروق حسن الفصل التاسع والعشرون

إذا أتتك الفرصة للفِرار عليك التمسك بها بكل قوتك، الفِرار من ماضيك، حاضرك، ومستقبلك، وإن استطعت الفرار من البشر فافعلها.
اقتربت يمنى تدريجيًا من يحيى المُنقطع الأنفاس، وكلما اقتربت؛ يزداد صوت بكاؤها أكثر، مسددت على وجهه بخفة ثم أردف بصوتٍ مبحوحٍ باكٍ: بحبك. بحبك بس أنت متستاهلش حُبي. أنا بكرهك يا يحيى. بكرهك سامعني! بكرهك يا حيوان.

قالت الأخيرة بصراخ هستيري وهي تضربه على صدره بعنف، هو مَن اضطرها لفعل ذلك، هو السبب في كل ما حدث، وضعت يدها على صدرها تُدلك موضع قلبها لتُقلل من آلمه، وبعدها أطلقت صرخة عالية تُعبر عن مكنونات فؤادها، صرخة حملت كل معاني الألم والبؤس الموجودان في دواخلها، وبعدها تسائلت بإهتياج: ليه يا يحيى ليه؟ ليه تعمل فيا كدا حرام عليك؟ ليه تعذبني وتوجع قلبي وأنت أكتر واحد عارف اللي مريت بيه؟ آاااه يا رب. يارب خفف الوجع من قلبي يا رب.

قالت جُملتها الأخيرة وهي تنظر إلى السماء تُناجي المولى، وبعدها عادت تنظر لجثته بنظرات شاردة، وبعد عدة ثواني من الصمت؛ أردفت بضعف: أنت كسرتني وكسرت قلبي وأنا مش مسمحاك، دا أقل عقاب ممكن أقدمه ليك، حُبك كان لعنة صابتني وصابتك قبلي.
تنفست بنهيج وثوانٍ كانت تشهق برعب عندما شعرت بمن يُمسك بيدها من الخلف ويوقفها من جلستها، ثم صاح بعصبية: اللعنة! ماذا فعلتي بحق الله؟

طالعت يمنى ليونيد والذي جاء خلفها بأمرٍ من آلبرت الذي رآها تُهرول نحو سيارتها بسرعة، ليأمر أخاه على الفور بملاحقتها، أشارت إليه يمنى بتيهة والذي تشدقت بصدمة وكأنها لا تعي ما فعلته: أنا قتلته. قتلته.
جز ليونيد على أسنانه بغضب ثم ابتعد عنها مُسرعًا ليتجه نحو يحيى ليقيس نبضات عرقه النابض في رقبته، ارتسمت معالم الإحباط على وجه ليونيد والذي بدوره رفع أنظاره لها قائلًا: لقد مات.

كلمتان فقط كانت بمثابة خنجر سام أصاب قلبها الهاتف بعشقه رغم خيانته، هبطت الدموع بكثرة من عيناها، وبعدها غام الكون من حولها لتلتقطها سحابة سوداء ابتلعتها بداخلها، لحقها ليونيد قبل أن يحتضن جسدها الرمال ثم حملها على ذراعيه مُتوجهًا بها نحو سيارته التي جاء بها.
مرت دقيقتان قبل أن يعود لجسد يحيى يُطالعه بجمود، ثم أخرج هاتفه طالبًا أحد الأرقام وانتظر قليلًا حتى أتاه الرد، ليردف بعدها ببرود: تعالوْا.

قالها ثم أغلق الهاتف دون أن يستمع للطرف الآخر، لم تمر فترة كبيرة حتى ظهرت له سيارة الحرس الخاصة به وبأشقائه، ليهبط رئيس الحرس مُسرعًا مُخفضًا رأسه قليلًا أثناء قوله: أوامرك سيد ليونيد؟
أشار ليونيد لجثة يحيى آمرًا إياه بجمود: أريد أن تختفي جثته تمامًا، لا أريد لأحد أن يعثر عليها، أفهِمت؟
أوما له رئيس الحرس بالإيجاب مؤكدًا على حديثه: حسنًا سيدي لا تقلق.

اقترب منه ليونيد أكثر حتى بات على مقربة من أُذنه، ليهمس له بفحيح: ليس أنا مَن عليه القلق؛ بل أنت.
ابتلع الآخر ريقه بتوتر ثم أومأ له دون حتى أن يرفع أنظاره إليه، ليذهب بعدها ليونيد مُتوجهًا نحو سيارته التي بها يمنى وصعد بها، نظر لها؛ ليجد دموعها تهبط حتى في غفوتها، ليهمس بيأس: بربك! ما الذي فعلتيه بذاتك يمنى؟

هز رأسه بقلة حيلة أثناء إدارته لمُحرِك السيارة، تبعه انطلاقه السريع بها، وبالطبع غفل الجميع عن ذلك الذي أخرج هاتفه من جيب بنطاله بفزع، ثم أتى بأحد الأرقام وانتظر قليلًا حتى هتف جازعًا: إلحق يا مختار بيه! يحيى اتقتل.

منذ يومان وهو مُتسطح على فِراشه هكذا، وجهه مليء بالكدمات وذراعه قد كُسِر بسبب ضرب صهيب العنيف له، جلست ريمانا بجانبه بعد أن وضعت قطعة من الثلج على كدماته ثم أردفت ساخرة: فضلت تقول أنا مخطط ومرتب لكل حاجة أديك طِلعت من المولد بلا حُمص، لأ ومتكسر كمان.

طالعها أنس بغضب ثم دفع يدها الموضوعة على وجهه قائلًا بحدة: قسمًا بالله لهندمه طول عمره، يصبر عليا بس وأنا هخططله حيلة تطلع من نافوخه، وفي الآخر حبيبة هتبقى ليا برضه.
تشنج وجه ريمانا غيظًا أثناء قولها الساخط: أنا مش عارفة البت دي شغلالك دماغك أوي كدا ليه؟ مع إنها مش حلوة أوي يعني.
التوى ثُغر أنس بإبتسامة ماكرة قبل أن يُجيبها بخبث: علشان عاجباني، ولما حاجة تعجبني بحب أجربها.

طالعته ريمانا ساخرة ثم ابتعدت عنه وعن إلتصاقها به عقب استماعها لطرق باب الغرفة، سمح أنس للطارق بالولوج؛ فولجت بعدها ريماس التي طالعت أنس بنظرات خجولة عقب قولها: عامل إيه دلوقتي يا أنس؟
قالت جُملتها بحياء أثناء إقترابها أكثر حتى باتت على مقرُبة شديدة منهم، طالعاها كُلًا من أنس وريمانا بصمت، وبعدها انفجر ثلاثتهم في الضحك!

الخبث يتشكل على محياهم، ضحكاتهم وكأنها قادمة من الجحيم، وعقولهم تُشبه عقل إبليس في خططه، أرجعت ريمانا خصلاتها للخلف قبل أن تتشدق بمكر: لأ برا و يا ريماس، عرفتي ترسمي وتحبكي الدور صح ودخل عليهم موضوع إنك طيبة والكلام دا.
إلتمعت عينيّ ريماس بالمكر عقب قولها، ثم أجابت شقيقتها بخبث: عيب عليكِ يا ريما دا أنا ريماس الأرماني، وواحدة واحدة و حبيبة دي هتبقى زي الخاتم في صباعي.

أضافت ريمانا قائلة بضحك: مش عارفة إزاي واحدة زي حبيبة بالسذاجة والغباء دا! مُجرد ما اتكلمتي معاها وقولتيلها كلمتين حلوين أمنت ليكِ وبقت بتحبك!
لوت ريماس شفتيه المطلية بالأحمر ثم أجابتها قائلة: صبرها عليا بس، هخليها تثق فيا أكتر وبعد كدا أنفذ خطتنا.
رفع أنس سبابته يُحذرها بصرامة: من غير ما تأذيها يا ريماس ها؟ من غير ما تأذيها علشان متزعليش مني.

اشتعل الحقد في قلب ريماس أكثر عقب تحذير أنس الصارم لها، وعلى عكس العاصفة الهوجاء التي حدثت داخل صدرها؛ إلا أنها أجابته ببرود ظاهري: ميفرقش معايا أذيتها قد ما يفرق معايا ورثها.
رد عليها أنس بشرود خبيث: كدا كدا الورث هيبقى في إيدينا متقلقيش.
استأذنت ريمانا للخروج أثناء لملمتها لأشيائها قائلة: طيب همشي أنا بقى علشان هروح أسهر مع صحابي، تشاو.
تشاو يا بيبي.

قالتها ريماس بهدوء مودعة شقيقتها، وعقب خروجها مُباشرةً؛ اتجهت ريماس نحو فِراش أنس ثم جلست على مَقربة منه حد الإلتصاق، لاحظ أنس اقترابها المُبالغ به فسألها بخبثٍ ماكر: في إيه يا ريماس؟
اقتربت ريماس أكثر دون خجل، ثم وضعت كفها على وجهه مُتحدثة بعشق: في إني بحبك يا أنس وأنت مش حاسس بيا.
تصنع أنس الإحباط وهو يُجيبها بيأس مصطنع: ما أنتِ عارفة يا ريماس إن عمي صفوت مش بيطيقني!

لم يكن خبر دخول صفوت للمشفى قد وصل لأحدٍ منهم لإنعزالهم بمنزل منفصل عن القصر الذي يعيشون فيه، حتى لا ينتبه أحد لتلك الجروح التي تُزين وجه أنس المشوه، وبلهفة شديدة ردت عليه ريماس قائلة: سيب بابا عليا خالص وأنا هقنعه، المهم إني بحبك وأنت تكون بتحبني.
حاول أنس إخفاء نظرات المكر من عيناه بقدر الإمكان، فأجابها حين إقترابه المُبالغ به: أنا بموت فيكِ يا ريماس.

وعقب حديثه استباح حُرمة منزله وعرض عمه، ليبدأ الشيطان بنسج طريق مليء بالأشواك والحُفرات التي ستُعيق طريقهما فيما بعد، أُعميت بصيرتهم وغاب عقلهم وتركوا مشاعرهم تجرفهم نحو طريق الذهاب بلا عودة!

بالعودة إلى منزل محروس
كان الشباب مُتجمعون حول محروس الذي يُراقب هذا العبث بعيون مُتحسرة حانقة، ربت قاسم على كتفه قائلًا بضحكة مكتومة: خلاص يا عم محروس بقى متنكدش على نفسك أكتر من كدا، وبعدين مش يمكن يجيلك أخ تاني!
طالعه محروس بأعيُن غاضبة، ليؤكد صهيب على حديث شقيقه قائلًا: قاسم معاه حق يا عم محروس، ويا خوفي بقى لو طِلع ولد، هتضطر تقدم في الخدمة تاني.

لم يستطيع قاسم كتم ضحكاته أكثر من ذلك؛ لينفجر ضاحكًا عقب حديث صهيب الذي صعد جديًا بعض الشيء، وما زاد من غضب محروس ؛ هو حديث فور الساذج الذي طلب منه بإبتسامة واسعة: إن كان صبي فأسميه فور رجاءً عمي محروس.

وضع قاسم يده على فاهه ليمنع صعود ضحكاته، بينما صهيب يختبيء خلفه ليُخفي بسمته عن محروس الذي كاد أن ينفجر في وجه الجميع غضبًا وسخطًا مما يحدث، تدَّخل چون ينهر أخيه بعنف: ما بِك فور؟ بِمَ تهذي يا هذا؟ بالطبع سيُسميه على اسمي أنا.
وصل محروس إلى ذروته من الغضب، ليصرخ بهم بنفاذ صبر طاردًا إياهم: اطلع برا يا حيوان أنت وهو من هنا، يلا ياض اخرج برا بيتي.

كان محروس يردف بجملته أثناعه دفعه للجميع، وهُنا تركوا العنان لضحكاتهم بالصعود، انفجر الجميع في الضحك حتى أنهم دخلوا في حالة هستيريا غريبة عليهم، وقبل أن يدفع محروس قاسم للخارج مع الشباب؛ نادى بصوتٍ عالٍ على لواحظ التي كانت مُنهمكة في الرقص مع أصدقائها:
يا لولو. ألف مبروك يا قمر وعقبال البكاري إن شاء الله.
أشارت له لواحظ بيدها وهي تُصيح بصوتٍ عالي: واد يا قاسم تعالى ارقص معايا يا ولا.

وبصعوبة بالغة استطاع قاسم الهروب من يد محروس الذي يُجبره على الخروج ثم دلف للداخل مُسرعًا، ليهبط إلى ساحة الرقص مُحيطًا بكتفي لواحظ بذراعٍ واحدة، ثم بدأ بالغناء مع كلمات الأغنية بسعادة:
حَط إيده يا. على إيدي يا. قالي بتحبيني رُحت صارخة وقايلة آه. بيقولي هاتي بوسة، يا مصيبته ويادي الحوسة، الواد فاكرها كوسة، أديله ولا إيه؟ أديله ولا إيه؟

وصل الجميع له بعدما استغلوا ضعف قوة محروس الواهية مُنضمين إلى قاسم الذي يرقص ويُغني بسعادة مع لواحظ، لتتحول الخِطبة من خِطبة مليئة بالعجائز، إلى خِطبة مليئة بالشباب الوسيمين.
وقبل قليل بالداخل
أحاطت لوسيندا الداعمة بكتفي شقيقتها المُنهمرة في البكاء تحتضنها بقوة، ومن حولها تتجمع الفتيات بمعالم حزينة لما قد وصلت إليه مهرائيل فجأةً بين ليلة وضحاها.

ربتت أهلة على كتفي مهرائيل قائلة بكلماتٍ داعمة: خلاص اهدي يا مهرائيل وأكيد حقك هيجي.
أكدت ملك على حديث شقيقتها وهي تُردف بحزن: أهلة معاها حق، روحي اعملي بلاغ في القسم وخُدي حقك، يا إما قولي للرجالة وهما يقوموا بالواجب.

خرجت مهرائيل من أحضان لوسيندا مُتشدقة بشهقات حادة وهي تبكي بعنف: انتوا ليه مش عايزين تفهموني! أنا مينفعش أعمل حاجة فيه، هو في الأول وفي الآخر أبويا ومش هيرضيني أبهدله في المحاكم والأقسام مهما عمل فيا.
تدخلت سهيلة قائلة بتردد: أنا مقدرة دا والله وعارفة اللي أنتِ حاسة بيه، بس على الأقل عرفيه لو حتى بالتهديد إن وراكِ رجالة وحد يدافع عنك لو فكر يقرب منك تاني.

مسحت مهرائيل دموعها المُنهمرة بكثافة بظهر يدها، ثم سألتها بصوتٍ مبحوح ضعيف: يعني أعمل إيه يعني؟
يعني اعملي زي ما ملك قالتلك وخلّي الشباب يروحوا ليه ويتكلموا معاه، هما أكيد مش هيأذوه بس على الأقل هيهددوه ميقربش منك تاني.

كان التردد مرسومًا بوضوح على وجه مهرائيل، لتدعمها أهلة بقولها: هما معاهم حق يا مهرائيل، بصراحة أبوكِ راجل مفتري وبهدلك خالص، ولازم حد يوقفه عند حَده علشان ميتطاولش عليكِ تاني أكتر من كدا.
هبطت دموع مهرائيل بأسى أثناء قولها الباكي: كان نفسي يكون عندي أب بيحبني وبيخاف عليا زي ما كل الأبهات بتعمل مع ولادها.

ابتلعت لوسيندا تلك الغصة المؤلمة التي تشكلت في حلقها وظلت تُتابع حديثهم بصمت دون التدخل، فهي مُتأكدة إن فتحت فاهها للتحدث؛ ستنفجر باكية لا محالة، بالأساس هذا الأمر يؤرقها بشيءٍ أو بآخر، لذلك فضَّلت الصمت حتى لا تفتح جُرحًا جديدًا بداخلها لن يلتئم إلا بصعوبة.

وجدت لوسيندا أحضانٌ دافئة تضم جسدها بحنان، رفعت أنظارها لتجدها بأنها حبيبة التي أردفت بحزن، ناهيك عن كُتلة الدموع تلك المُتجمعة داخل مقلتاها: متزعليش يا لوسيندا، أنا والبنات بنحبك أنتِ و مهرائيل وأكيد ربنا هيعوضكوا.

انتبه الفتيات لفعلة حبيبة الحنونة لتتشكل ابتسامة صغيرة دافئة على ثُغرهم جميعًا، بينما أحاطت لوسيندا بخصر حبيبة لتُبادلها العناق، وخلال ثواني كانت تُخرِج ما جبعتها من دموع، وبالطبع لم تتركها حبيبة وحدها؛ بل بكت معها لشعورها بالحزن الشديد تجاهها، وانضمت معهم مهرائيل التي آلمها حُزن شقيقتها لتحتضنها ملك بدورها والتي طالعت ثلاثتهم بحزنٍ بالغ.

بعد فترة من الصمت والكآبة التي عمت الأجواء، نظرت أهلة لكف يدها بإشمئزاز لا داعيَ له، اليوم كان الثالث للإستماع إلى حديث طبيبها النفسي السابق الذي كان يُخبرها بمحاولاتها لتجنب مصدر الإشمئزاز والتقيؤ وانتظارها المزيد من الوقت دون غسل يدها، وبدلًا من كَوْنها كانت تغسل يديها مئة مرة في اليوم؛ قلّ الأمر وأصبح سبعون! قد يظهر بأنه مازال عددًا كبير؛ لكن بالنسبة إليها هي في تحسن ملحوظ ورائع.

وقفت أهلة من مضجعها ثم طالعت جميع الفتيات بنظرة شمولية قبل أن تردف بهدوء مُتسائلة: أومال فين يمنى؟
أجابتها سهيلة وهي تهز كتفيها بجهل: مش عارفة، هي قالت هتعمل مكالمة بس مش عارفة اتأخرت أوي كدا ليه!
أومأت لها أهلة بشرود قبل أن تقول: طيب أنا هروح الحمام وهاجيلكم تاني.

أومأ إليها الفتيات، لتتركهم هي ثم فتحت الباب وخرجت من الغرفة لتتفاجأ من صوت الأغاني والصخب الموجود بالخارج، فلأسفهم الشديد كانت غرفة سهيلة تبتعد عن الصالون بمسافة كبيرة بعض الشيء، لذلك الصوت لم يصلهم جيدًا.

ابتسمت أهلة بخفة ثم اتجهت نحو المرحاض أولًا، وقف أمام المرآة الموجودة بها فوجدت ذاتها قد تحسنت كثيرًا، ليش شكلًا؛ وإنما جوهرًا، والفضل يكون بالتأكيد ل قاسم الذي لم يتهاون في جعلها سعيدة، وهُنا صدح صوت يُخبرها بأنها محظوظة لحصولها على رجلٍ مثل هذا.

بدأت في غسل يديها بقوة بصابون الإستحمام وهي تتذكر جميع لمساتها مع الفتيات، لم تكن بالكثيرة لكن مازال هناك بصيصًا من الأمل في شفائها، لن تُنكر بأن تلك هي المرة الخامسة التي غسلت بها يدها منذ أن أتت؛ لكن هي تشعر بتحسنها وثقتها في العلاج، نعم! تريد العلاج.

انتهت ثم جففت يدها بالمناديل الورقية بدلًا من المنشفة، والأمر واضحًا بالطبع، خرجت لتجد أن الصخب مازال موجودًا، لتتقدم منهم ببطئ وعلى شفتيها ترتسم ابتسامة صغيرة بدأت بالتزايُد تدريجيًا عن لمحت قاسم يرقص هو و لواحظ في المنتصف والشباب يدورون من حوله يُهللون بصخبٍ أعلى.

كانت الضحكات تملأ أجواء المرح التي تُدخِل البهجة للقلوب رغم العبث المُحيط من حولهم، لمحها قاسم بناظريه فغمزها بمشاكسة؛ مما زاد من ابتسامتها وشغفها أكثر.
جاء ببال أهلة فكرة سريعة لإخراج الفتيات من حزنهم، لتعود إليهم سريعًا ثم فتحت الباب على بغتةٍ قائلة بصوتٍ عالٍ أثار فزعهم: انتوا قاعدين هنا ومش عارفين إيه اللي بيحصل برا؟ يلا معايا يا هانم أنتِ وهي بدل ما انتوا قاعدين زي المُطلقين كدا.

قطبت ملك جبينها بتعجب وهي تسألها: في إيه يا أهلة؟
أجابتها أهلة أثناء انطلاقها مُسرعة نحو الخارج: تعالي ورايا وأنتِ تعرفي.
نظر الفتيات لبعضهم البعض بتعجب، وبعدها قاموا من مضجعهم ولحقوها كما طلبت بالفعل، وما إن خرجوا من الغرفة؛ حتى استمعوا إلى صوت الأغاني والتهليل يصدح عاليًا، اقتربوا أكثر من مصدر الصوت فوجدوا الشباب يغنون هاتفين:.

وداع يا دنيا وداع أنا اللي باع ومكملشي، الحياة لو بيك أو من غيرك دي هتمشي. سلام يا حبي سلام معدش غرام مفيش راحة. لو عايزين تشوفوني اتفضلوا في استراحة. لو عايزين تشوفوني اتفضلوا في استراحة.

ذهب قاسم إلى أهلة يسحبها نحو ساحة الرقص، رفضت في البداية لكنه أصَّر عليها وسحبها رغمًا عنها إلى المنتصف مبتعدًا عن مُحيط الشباب بأكمله واتجه بها نحو محيط السيدات أو العجائز إن صحّ القول، وبعدها فعل الجميع المثل مع الثنائي الخاص به مُقررين ترك الأحزان قليلًا والإستمتاع بتلك اللحظات التي تحفر ذكريات أخرى داخل عقولهم.

أدار قاسم تلك التي ترفض الرقص حول نفسها عِدة مرات ثم أكمل مُغنيًا: بُص بُص بُص. بص بص بص، بص بص بص.
الفرعة. والعة، الفرعة الوالعة
فرعة جامدة طحن انا فاصل منها شحن
حلاوتك زايدة حتة أكلك منين يا بطة
عليكي خدود لُذاذ خلتني جبت جاز
لو تسمحيلي أطلب. إيديكِ للجواز!

ومع جنونه وعبثه اندمجت أهلة مع رقصه وهي تهز جسدها بحركات عشوائية غير منتظمة، وهو لم ينظر لكل هذا؛ بل نظر لتلك الإبتسامة الواسعة التي تُزين ثغرها وضحكاتها التي تعلو بصخب عقب إدارته لها حول ذاتها، لفَّ يده حول كتفها عندما تكررت الأغنية الأقرب مكرًا لفؤاده وهو يُرددها بخبث:
حَط إيده يا. على إيدي يا. قالي بتحبيني رُحت صارخة وقايلة آه. حَط إيده يا. على شعر يا.

بيقولي هاتي بوسة، يا مصيبتي ويادي الحوسة، الواد فاكرها كوسة، أديله ولا إيه؟ أديله ولا إيه؟
أنهى غناؤه غامزًا بمكر لم يُزيدها إلا خجلًا، مما زاد من ضحكاته المرحة فاقترب منها هامسًا في أُذنيها ببراءة: على فكرة دا مش كلامي دا كلام الأغنية.
أومأت له أهلة ساخرة وهي تضحك: آه طبعًا أنا عارفة متحلفش بس.

وعلى الجانب الآخر. فعل صهيب هذا مع زوجته حبيبة التي كادت أن تطير فرحًا وسعادةً بتلك الأجواء العائلية الدافئة التي كانت تفتقدها طوال حياتها، كانت ترقص بلامبالاة وعشوائية لتُجاريه، وهو يضحك بصخب على جنونها الذي يظهر ولأول مرة، انكشف السِتار عن شخصية حبيبة الطفلة في بضعة دقائق قليلة، فأقسم من داخله بأن يجعل حياتها نعيمًا من بعد الآن ليرى ضحكتها السعيدة تلك.

أمسك بخصرها بعيدًا عن تجمهر الرجال ثم غنَّى مع كلمات الأغنية التي صدحت بصوتٍ عالٍ: طيب وسطك وسطك وسط بلاستيك. لما يشد الحبل يأستك. اللي شافك لو ما سمَّى.
نظر صهيب حوله بعد أن توقف عن الرقص لترتاح حبيبة قليلًا، ثم أردف بغيظ: الله يخربيتك يا رائد على بيت زوقك المعفن في الأغاني.
ارتمى قاسم على الأريكة بجانبه وهو يُجفف عرقه الغزير، ثم تشدق ضاحكًا: ومالها الأغاني ياض يا فصيل، هذا هو زوقي.

طالعه صهيب من طرف عينه بإشمئزاز، قبل أن يهتف قائلًا: بيئة.
التوى ثُغر قاسم بإبتسامة جانبية ساخرة مُطالعًا إياه بسخط، قبل أن يردف هامسًا: الله يرحم. ولا بلاش.
كانت أهلة في ذلك الوقت تُحاول دفع ذراع قاسم من حول كتفها لكنه لم يكن ليتركها حتى يأست وصاحت ساخطة: يا قاسم وسَّع إيدك بقى مينفعش كدا.
أجابها قائلًا: وإيه اللي منفعوش يا هولا؟ يا بت دا أنتِ مراتي يا بت!
ردت عليه مُعاندة: ولو برضه. هذا لا يجوز.

رد عليها ضاحكًا: معلش خليه ينفع المرادي علشان خاطري.
ضحكت بخفة ثم هزت رأسها بيأس من إصراره وعناده، وبعدها حاولت معه مرة أخرى هاتفة وهي تنظر حولها خِشية من أن يراهما أحد: يا قاسم بجد مش هينفع، افرض اتقفشنا؟
احتل السخط تعابير وجه قاسم ثم أجابها بتشنج: اتقفشنا؟ هو أنا واخدك من تحت الكوبري؟ بقولك إيه يا أهلة اسكتي الله يكرمك.

وعلى الجانب الآخر. كانت سهيلة ترقص مع جدتها بمرح أثناء غنائها مع كلمات الأغنية التي تصدح عاليًا، لكنها وبعد فترة طويلة من الرقص شعرت بالتعب والعطش معًا، لذلك قررت الذهاب نحو المطبخ لإرتشاف القليل من الماء، دلفت للداخل ثم أمسكت كوبًا من المياه وارتشفته بعطش شديد، يبدو أن رقصها مع جدتها أتى معها بنتيجة عكسية.

استدارت للخروج؛ لكنها توقفت فجأة عندما وجدت فور يقف خلفها مُباشرةً بإبتسامة متوترة، قطبت جبينها بتعجب من وجوده ثم تسائلت: مالك يا فور واقف كدا ليه؟
دلكَّ فور رقبته بتوتر ثم سألها سؤال أبله لا يُلائم الوضع: كيف حالك يا فتاة؟
نظرت سهيلة حولها بضحك ثم أجابته مُستغربة: داخل ورايا المطبخ علشان تسألني عاملة إيه؟
توترت ملامح فور أثناء إجابته المُتلعثمة: ها؟ لا. أقصد أنه. أريد أن أعطيكِ شيئًا ما.

أخفت سهيلة بسمتها على ملامح وجهه اللطيفة أثناء تلعثمه، وبعدها سألته بفضول: عايز تديني إيه؟
أخرج فور يده التي كان يُخفيها خلف ظهره؛ ليُخرِج زهرة بيضاء خلابة قابضة للأنفاس ماسكًا إياها بين كفه الذي يمده لها، ثم ختم المشهد بقوله:
رأيتُكِ بين الورود كنجمةٍ، فحسبتكِ من جمالها لؤلؤٍ منثور.

طالعته سهيلة بعدم تصديق أثناء ابتلاعها لريقها بصعوبة شديدة، إلتمعت الدموع داخل حدقتيها من الصدمة والدهشة، وبات سؤالًا يؤرق تفكيرها؛ هل فور يُبادلها نفس المشاعر بالفعل كما يظهر بعيناه المُلتمعة كخاصتها، أم أنها تتوهم حبه فقط؟
ووسط كل ذلك التفكير استمعته يُكمل حديثه بابتسامة واسعة وهو يحثها على أخذ الزهرة: شعرت بها وكأنها تُشبهك؛ لذلك اشتريتها لكِ على الفور، تفضلي هايلة.

مدت سهيلة يدها بتوتر لتلتقط الزهرة من بين يديه، تزامنًا مع ازدياد تلك الطبول التي تقرع داخل فؤادها فرحًا وسعادةً، رفعت أنظارها تُطالعه بعشق ثم أردفت بصوتٍ حاني: شكرًا يا فور، تسلم إيدك بجد.
رسم ابتسامة عريضة على شفتيه أثناء سؤاله المُترقب: هل أعجبتكِ؟
شددت سهيلة من ضمها للزهرة وهي تُجيبه سعيدة: عجبتني أوي أوي بجد.
حسنًا. توقفي عن التحديق بي هكذا، أنا أخجل.

قال جُملته الأخيرة بحرج حقيقي عندما لاحظ نظرات الإمتنان التي تحوم داخل عيناها، لتُحمحم هي بتوتر وضيق من ذاتها لأنها انساقت مُجددًا خلف مشاعرها، لذلك قررت الذهاب من أمامه فأردفت: ا. ط. طيب عن إذنك بقى هخرج ليهم.
أفسح لها الطريق جاعلًا إياها تمر مُهرولة من أمامه وهو لاحقها بنظراته، وعقب رحيلها؛ زفر بضيق أثناء همسه لذاته بيأس: ما الذي فعلته بذاتك فور؟ ألا يكفيك ألمًا!

أردف بحديثه ثم اتجه نحو الخارج مُنضمًا للشباب ليرقص معهم، كان ينظر لهم بإنتباه لعدة دقائق حتى تعلم بعض من حركاتهم المُبهرة بالنسبة له وبدأ في تقليدهم.
بينما مهرائيل تركت ذلك الجمع بعد أن حاولت إلهاء نفسها بالرقص والمرح لكن كل هذا لم يُساعدها في نسيان ما مرت به، انسحبت من بينهم بهدوء ثم اتجهت نحو سَطح المنزل لتتمتع بجلسة هادئة تُعيد بها تصفية ذهنها.

ضرب الهواء البارد وجهها مما جعلها تُغمض عيناها بإستمتاع، وبدون إرادة منها؛ وجدت دموعها تنهمر تلقائيًا من مقلتاها ألمٍ وحسرةٍ على ما مرت به من أحداث بشعة ومواقف سيئة من أبيها أُضيفت مُجددًا نحو القائمة السوداء في ملفه، جلست على المقعد الموضوع بجانب السور ثم شردت في السماء الغائمة، غائمة كحال قلبها الذي يُزهر أشواكًا بدلًا من الورود، هي كحال كثير من الأبناء كانت تنتظر أمًا حنونة وأب عطوف، لكن والدتها قد توفت وظلت تُعاني مرارة قسوة والدها، وهُنا تيقنت بأنها حُرِمت من حقها الطبيعي، لذلك وبدون تفكير انفجرت في البكاء.

كانت شهقاتها حادة تُعكس مدى قوة آلامها الداخلية، لقد انطفأت من الخارج وتُحاول إضاءة الجميع بمرحها المُحبب للقلوب، لكن هي أيضًا تحتاج لمن يُضيئها، تحتاج لشخصٍ حنون يحتويها بكل ما بها، شخصٌ يتقبل مُميزاتها وإن كانت عيوبًا، وعلى الأغلب لن تجد ذلك الشخص بسهولة.

شعرت بمن يجلس على المقعد الذي جوارها بصمتٍ وهدوءٍ تام، نظر جانبها لتجد بأنه آلبرت الذي يشرد في السماء الغائمة مثلما كانت تفعل هي منذ قليل، لذلك سارعت بمسح دموعها حتى لا يراها، طالعها بطرف عينيه بسخرية ثم حوَّل أنظاره للأعلى مُجددًا، لكن تلك المرة لم يصمت؛ بل تحدث قائلًا بابتسامة هادئة:
بالمناسبة خصلاتك القصيرة جميلة للغاية.

انتبهت له بكل حواسها، وبتلقائية شديدة قامت بوضع يدها على خُصلاتها التي تكاد أن تتلمس كتفها، ثم تسائلت بحزن: بجد ولا بتقولي كدا مُجاملة؟
أتاها رد آلبرت الهاديء متشدقًا: لستُ مُجبرًا على مجاملتك.
أومأت له بهدوء أثناء اعتدالها في جلستها وعادت كما كانت مرةً أخرى، مرت حوالي خمس دقائق قبل أن يتسائل آلبرت بهدوء: مَن فعل بكِ هكذا؟

ابتلعت مهرائيل تلك الغصة التي تشكلت في حلقها عقب سؤاله، لترد عليه بحشرجة وصوتٍ ظهر به الكذب: م. مفيش حد. أنا كنت زهقانة فقصيت شعري.
التوى ثُغر آلبرت بسخرية وهو يُجيبها: وهل الملل يجعلكِ تسددين اللكمات أيضًا لوجهك؟ هل تظنينني أبلهًا أم ماذا؟

لم تستطيع السيطرة على ذاتها، وكأنه بحديثه قام بالضغط على جُرحها الذي لم يمر عليه سوى بضعة سويعات قليلة، هبطت دموعها بكثافة على وجهها الذي تحول إلى كُتلة حمراء، لتتحول هذه الدموع الصامتة إلى شهقات ضعيفة، غطت وجهها بكف يدها ثم بدأت في البكاء تنعي حظها الذي رزقها أبًا كهذا، فأجابته بأسى دون التوقف عن البكاء:
كان نفسي يبقى ليا أب بيحبي.

طالعها آلبرت ببعضٍ من اللين والشفقة، لذلك مدَّ يده بتردد ثم وضعها على كتفها ليُربت عليها، وبعدها تشدق بشرود: أنا أيضًا كنت أتمنى أن تَحُبُني والدتي.
توقفت مهرائيل عن البكاء أثناء إبعادها لكفها عن وجهها، وبعدها طالعته بنظرات حزينة قبل أن تردف بمواساة: متزعلش، أكيد الخير مستخبي لينا، أوقات الخير بيجي على هيئة أشخاص بيعوضونا عن كل الوِحِش اللي مرينا بيه.

ابتسم آلبرت بخفة عِند سؤاله لها: إذًا لِمَ كنتِ تبكين؟
زفرت مهرائيل الهواء الذي سحبته ثم أجابته بإحباط: علشان أنا نفسيتي تعبت من كُتر التفكير، ولو مكنتش عيطت مكنتش هرتاح، أوقات بنكون عايزين نخرَّج اللي جوانا، واللي جوانا دا مش بيخرج غير بالعياط، علشان كدا متتكسفش إنك تعيّط أو تعبّر عن وجعك قُدام حد.

شرد آلبرت في حديثها ولم ينفي أي كلمة مما قالتها، البُكاء يُريح القلب بالفعل، لكن إظهاره ضعف، وهُنا حاول التذكر في آخر مرة بكى بها! وللسخرية لم يجد إجابة، فلقد أقسم على جعل نفسه فولاذًا قويًا لا ينكسر لحماية أخواته، كان هو كبيرهم وهُم صغاره، بعد هرب والدته ومقتل والده لم يكن لديهم أحد سواه، لذلك أصرَّ على التحمل.

زفر بضيق لتذكره لمثل تلك الأشياء الآن، فصاح بها مُستنكرًا: يا فتاة أنتِ مُزعجة حقًا لذلك توقفي عن الحديث.
طالعته مهرائيل بأعيُن مُغتاظة وهي تُجيبه: مش أنت اللي جاي ورايا ولا هو رمي جِتت وخلاص؟
هبَّ آلبرت من مجلسه أثناء هتافه الحانق: ها أنا سأذهب الآن قبل أن تبتلعني موجة أحزانك الغبية تلك.

أدرف بحديثه؛ ثم ولَّاها ظهره وغادر تاركًا إياها تنظر لأثره بغيظ، قبل أن تردف بإشمئزاز: إنسان قليل الذوق ومعندوش دم.

انتهى الحفل أخيرًا وعاد الجميع لمنازله، أنزل قاسم زوجته أمام باب المنزل ثم أردف بوجوم: معلش يا أهلة اطلعي أنتِ وأنا ورايا شُغل وجايلك.
قطبت أهلة جبينها بتعجب وهي تسأله: شغل إيه في الوقت دا يا قاسم؟
رد عليها بهدوء عكس العاصفة التي تدور داخله: شغل في المستشفى، انزلي أنتِ واطلعي علشان متاخديش برد.

لم تريد الضغط عليه أكثر رغم أن الكذب يظهر بوضوح على محياه، فتركته على راحته خاصةً وأن الوجوم يُسيطر على حالته، لذلك هبطت من السيارة ثم صعدت للأعلى كما طلبها، ورغم أنها صعد للطابق الثاني؛ إلا أنها استمعت إلى صوت احتكاك عجلات سيارته بالطريق، وبعدها انطلق بسرعة البرق إلى وجهته المقصودة.

وبعد عشرون دقيقة تقريبًا. كان قد وصل إلى المكان الذي يُريده، والذي كان عبارة عن منزل صغير بطابق واحد لكنه مُجهز بأساس عالي، دلف إلى الداخل ليجد أن جميع الشباب ينتظرونه بالداخل بما فيهم آلبرت وأخواته، وعلى الأريكة العريضة تجلس يمنى التي كانت نظراتها تائهة كالغريق.

وما إن أبصرها قاسم حتى هرول إليها مُمسكًا إياها من تلابيبها يصرخ بها بشر وقد أعمى الغضب بصيرته: أنتِ بني آدمة غبية ومبتفهميش، فهميني إزاي تعملي كدا؟ إزاي تتصرفي من دماغك كدا وتروحي بكل برود وتقتليه؟ أنتِ عارفة بعملتك دي عملتي فينا إيه؟ أنتِ بوظتيلنا كل حاجة إحنا كنا مخططين ليها.

رفعت يمنى أنظارها التائهة إليها ثم تمتمت بعدم تصديق وصدمة مازالت تؤثر على عقلها: كان مفهمني إنه بيحبني وهو كان بيستغلني. أنا. أنا مستاهلتش منه كدا يا قاسم. مستاهلش كدا لا منه ولا من غيره، هو. هو ضحك عليا واستغفلني.
تقومي تقتليه؟

صرخ بها بإهتياج، لتُجيبه بنفس الشدة والغضب والهستيربا: وأشرب من دمه، أنت مش عارف أنا اتأذيت أزاي. مش عارف أنا مريت بإيه علشان تتكلم كدا، يحيى كان أول واحدة أظهرله ضعفي، ورغم كدا استغلني. بس أنا مسكتش. أنا مش ندمانة. سامعنى! مش ندمانة.

ذهب صهيب مُسرعًا نحو قاسم ليُبعده عن يمنى قبل أن يفقد زِمام الأمور ويُقدم على فعل مُتهور يندم عليه لبقية حياته، لذلك سحبه خلفه بصعوبة أثناء قوله الحازم: خلاص تعالى معايا يا قاسم وهَدي نفسك.
ابتعد قاسم عنها بعد أن دفعها، ليُمسك بشيءٍ مُزخرف ويقذفه بقوة على الحائط ليُنفث عن غضبه بدلًا من أن يقذفها في رأسها هي ويُنهي على حياتها بسبب تهورها وغباؤها الغير مسبوق.

عمَّ الصمت في المكان لدقائق، قبل أن يقطعه آلبرت بقوله الهاديء: حدث ما حدث قاسم، علينا الآن أخذ الخطوة التالتة.
استدار له قاسم بملامح وجه مُقتضبة، ثم أردف بوجوم: مش فايق دلوقتي أفكر في أي حاجة.
أنهى كلماته ثم إلتف نحو يمنى آمرًا إياها بحدة: وأنتِ قومي فِزي معايا.

طالعته يمنى بمعالم خاوية قبل أن تقف من مكانها وتذهب خلفه للحاق بخطواته السريعة، وطيلة الطريق لم يتحدث أي منهم بأي كلمة، بل كان الجو السائد هو الصمت.

مر الليل الطويل الحزين الكئيب على الجميع، وصدحت الشمس التي غطاها السحاب وكأنها تنعي أصحاب القلوب الحزينة عن رسم بهجتها اليوم تعازيًا لأفئدتهم المُنكسرة.
تقلبت أهلة في نومتها بأرق وبعدها فتحت عيناها بنعاث واضح، لم تجد قاسم بجانبها رغم أن الساعة لم تتعدى حتى الآن الثامنة صباحًا، لذلك وقفت من مضجعها بتكاسل ثم خرجت من الغرفة للبحث عنه في جميع الغُرف، وللعجب لم تجد له أي أثر.

تعجبت في البداية من ذهابه دون أن يُخبرها لكنها هزت كتفها بلامبالاة ثم دلفت إلى المرحاض لتغتسل، وبعدها عادت لغرفتها مُجددًا لتبدأ في تبديل ثيابها من ملابس بيتية إلى ملابس أخرى تليق بخروجها.
تجهزت أهلة على أتم الاستعداد ثم هبطت للأسفل بعد أن أرسلت رسالة ل قاسم تُعلِمه فيها بخروجها، وبعدها اتجهت بسيارتها نحو وجهتها، والوِجهة المقصودة هي الجريدة.

هبطت من سيارتها ببطئ وهدوء خاص بها، لم يستطيع أحد حتى الآن بمواكبة غرورها أو تكبرها، وهي لم تنفك عن إظهار هذا للجميع، وضعت نظارتها الشمسية على عيناها ثم دلفت إلى البهو أثناء طرقها بكعب حذائها على الأرض السيراميكية اللامعة، وبعدها صعدت للأعلى حيث الطابق الذي تريد.

وصلت أهلة إلى الطابق الموجود به مكتبها أولًا ثم اتجهت نحو رضا والمسؤول عن طبع ونشر الأخبار، دلفت إلى مكتبها ولم تدعه يُرحب بوصولها؛ حتى أخرجت الخبر المكتوب من حقيبتها ثم أعطته له قائلة ببرود: الخبر يتطبع ويتنشر على بكرة الصبح ومش عايزة غلطة.

أنهت حديثها ثم خرجت تاركة الآخر يبتلع ريقه ببرعب مما هو قادم، والآن ستتجه نحو جهتها الأخرى، وهي مكتب ضياء! سارت بممر مكتبه حتى وصلت إليه وكالعادة لم تُتعب ذاتها بطرق باب المكتب قبل الولوج، لذلك دلفت دون الإستئذان.
انتفض ضياء من مضجعه عقب فعلتها تلك، لتتحدث هي بعدها بسخرية: تؤتؤتؤ مالك بس يا ضياء بيه؟

ارتسم الإنفعال على وجه ضياء الذي صاح غاضبًا وهو يلتف حول مكتبه للوقوف أمامها: أنتِ اتجننتي؟ إزاي تدخلي بالطريقة دي؟
لم تعير لحديثه أي إهتمام، بل استرسلت حديثها قائلة بمكر: كنت جاية بس أعزيك في أروى السكرتيرة بتاعتك، إلا قولي يا ضياء؟ هما لسه موصلوش للحيوان اللي عمل كدا؟

احتدت عينيّ ضياء بغضب هائل من النادر ظهوره، ورغم ذلك لم يُحرِك ب أهلة أي ذرّة من الخوف أوي القلق، أرجعت خصلاتها للخلف ثم تشدقت بنبرة ساخرة بعدما استطاعت تنفيذ ما تُريد وإشعال غضبه: استأذن أنا بقى أصل ورايا حاجات أهم منك.

وبالفعل استدارت وسارت عدة خطوات نحو الخارج، لكنها توقفت صارخة بفزع عندما هجم عليها من الخلف بمفاجأة ماسكًا إياها من خصلات شعرها من الخلف، ثم اقترب من أذنها هامسًا بفحيح: أنتِ راحة فين يا حلوة؟ وأنتِ مفكرة دخول الحمام زي خروجه؟

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة